مقدمات نظرية لدراسة الدين في الأزمنة الحديثة*

مقدمات نظرية لدراسة الدين في الأزمنة الحديثة*

غريس ديفي وهاينرش شيفر

تحتاج الظواهر الدّينية في عالم اليوم إلى أدوات نظرية تساعدنا على فهم الأشكال المتعددة التي تتلبس بلبوسها في زمان ما بعد الحداثة. وهذه الأدوات والوسائل ينبغي ألاّ تتلاءمَ والأديانَ ذاتهَا، بل يجب أن يشمل التلاؤم الطرائق المختلفة التي يسلكها الدين في السياقات الاجتماعية والسياسية(في المجال العالمي)، خاصة في ظروف المتغيرات الاقتصادية الكبيرة. والواقع أن الدين هو جزءٌ وعامل فاعل في عمليات العولمة، كما أنه جزء وعامل فاعل كذلك في الحركات الاجتماعية والسياسية التي استجدت في ظل المواقف المعاصرة، ومن بين تلك الحركات والتحركات الهجراتُ الكثيفة والواسعة والحركات الاجتماعية الجديدة، والجمعيات التطوعية في المدى الشامل، وللأَرؤى الجديدة لمسائل الجندر، والصراعات من أجل العدالة الإقتصادية بعد حقبة الاستعمار. لكنّ الدين يمكن أن يشكل حاجزاً أيضاً في وجه العولمة جالباً إلى حيّز الوعي وجوه فهم جديدة للهوية والإنتماء، وخاصة لدى أولئك الذين يشعرون بالتهديد من عواصف التغيير الشامل.

لذلك، فليس من المستغرب أن تتشكل اتجاهات جديدة في الأديان في سائر الأوقات؛ ومن ضمن البنى التقليدية والأخرى الواقعة خارجها، وبعض هذه الأشكال عابرة للحدود والقوميات(من مثل اليد الطويلة للكاثوليكية عبر العالَم، ومن مثل الاتجاهات الإنجيلية الجديدة)، بينما هناك أشكالٌ أخرى محلية ومتقوقعة ومتجهة للداخل(مثل الصِيَغ المختلفة للأصولية). وكلا التوجهين يجد تعبيرات في المجال السياسي، كما في مجال الحياة الدينية. ومن هنا تأتي التعقيدات الإحصائية التي تعرض أرقاماً عن تقدم العلمانية، وتعرض من ناحية أخرى إحصائيات عن الصعود الديني. وهناك صِيَغ وأشكال من التوليفات مثل الميل الجارف إلى الفردية وفي الوقت نفسه تزايد التأكيد على تضامن الجماعة. وبذلك فالموقف شديد التغيير والتقلب: الإيمان والتطبيق أو العمل يتقدمان، كما يتسع مكانهما في الحياة الاجتماعية.

على أن هذه النقطة يمكن أن تصاغ بطريقة مختلفة. إن الأمر الذي يزداد وضوحاً هو أن النموذج الأوروبي العلماني للتعامل مع الدّين لا يمكن اعتباره نموذجاً عالمياًّ: فالحقيقة أن أوروبا(من حيث حياتها الدينية) تبدو بشكل متزايد بوصفها حالة استثنائية وإن صعبت الموافقة على ذلك، فالمرجو النظر إلى السوق الدينية المزدهرة بالولايات المتحدة، بخلاف ما هو سائدٌ في أوروبا حتى الآن، وقد تكون الظاهرة الأكثر دلالة تلك الوجوه الدينية المتغيرة لأمريكا اللاتينية، ولأفريقيا فيما وراء الصحراء، وهما الناحيتان اللتان تشكلان المركز الديموغرافي المتنامي للمسيحية، ففي أمريكا اللاتينية وإفريقيا ما وراء الصحراء هناك نمو هائل في المسيحية والتبشير في العقود الأخيرة وبخاصة الإنجيليون الجدد(Pentecastalism). وإذا مضينا شرقاً نجد أن الفلبين ما تزال مسيحية كاثوليكية في المجال العام(السياسي) كما في الحياة الاجتماعية والخاصة. كما نجد أن كوريا الجنوبية تمسّحت في الوقت الذي حققت فيه ثورتها الصناعية صانعةً بذلك نموذجاً مناقضاً للحالة الأوروبية. وتضاف إلى ذلك هذه المؤشرات في العالم الإسلامي أي مؤشرات الصعود الديني على اختلاف المظاهر والبيئات، والإحياء الديني في شبه القارة الهندية(حتى لا نقول الصعود الأيديولوجي أيضاً)، والموقف الخطير والمتوتر الذي يتكشف عنه الشرق الأوسط، واستنتاج بيتر برغر (1992م) أنّ العالم ينقلب دينياًّ إلى حدٍّ لم يبلغه من قبلُ أبدا – كلُّ تلك الظواهر والإدراكات تحيلنا على جديدٍ كثيرٍ من الناحية الدينية، ما عاد إنكاره ممكناً. إن "العالم الذي يتحول دينياًّ إلى حدٍّ لم يبلَغه من قبل" يحتاج على أي حال إلى أشكال جديدة من الفَهْم، ومرجعيات مختلفة إذا كنا نريد أن نستوعب ما يحدث ونريد التقدم هنا ببعض المرشِدات أو التمهيدات النظرية التي يمكن أن تعين على المضيِّ في الاتجاه الجديد.

الأدوات النظرية (1): النظرية العلمانية: سادت هذه الرؤية الدراسات (السوسيولوجية والعامة) عن الدين في العالم الحديث، أو على الأقل سادت تلك الدراسات في العالم الغربي، وقد عرفت بالأطروحة العلمانية(1). وبعبارة أخرى فإن هذه الأطروحة تقولُ: إنّ الانفكاك عن الدين لصالح العلمنة الذي أحدثته العصرانية الأوروبية سوف يتحول إلى ظاهرة عالمية مع تقدم الحداثة في سائر أنحاء المعمورة. ومن بين الحجج على الصحة ذلك أن الظواهر الأخرى المرتبطة بالحداثة ظهرت خارج أوروبا كما ظهرت فيها. وهذه العبارة الأخيرة بالغة الأهمية؛ لأن المؤرخين والسوسيولوجينن الأكثر حماساً للعلمنة الأوروبية وضعوا حدوداً وضوابط لتطبيق نظرية العلمنة من بينها أن تلك الحالة خاصة بالمجتمعات المتقدمة التي تسودها ديمقراطيات مسيحية. بيد أن هذه الفكرة جرى تناسيها في أكثر الأحيان(2).

النقطة الأولى التي نريد الالتفات إليها، أن هذه المقولة تتلاءم بشكل واضح مع الوضع الأوروبي، والتلاؤم الذي نقصدُه يتناول عدة جوانب بعضها تجريبي أو ميداني وبعضها نظري، إذ من الواضح على سبيل المثال أنّ الأوروبية التاريخية ضعفت ضعفاً شديداً مع صعود موجات التحديث وخاصة مع اقتران التصنيع بالتحضر المدنـي. وهكذا فإن النماذج الأوروبية التقليدية للحياة الاجتماعية التي سيطرت عليها الكنيسة لعصور متطاولة بدأت تتقلَّص وتختفي بدرجاتٍ متفاوتة، لكنْ على مدى القارة في المديين المتوسط والطويل(3). وبذلك فإنّ البِنَى الكنسية المتجذرة في مجتمعات ريفية في المرحلة قبل الصناعية بدأت تحس بالغربة ويستعصي عليها التلاؤم مع تقدم التغيير الراديكالي. لقد اختفى المحلِّي الذي تدور في إطاره الحياة الاجتماعية، وتتنظم على أساسه رعية الكنيسة(4). وكما تصدَّعت البنى كذلك تصدَّعت هذه حدود المجالات(الاجتماعية والأخلاقية والدينية) التي كانت جزءًا من تلك البنية وذلك الانتظام.

وفي الوقت نفسه ظهرت صِيَغ تفكيريةٌ مختلفة تتحدى النظام القديم السائد. فالتنوير الأوروبي وخاصة الفرنسي قدم للإنسان نموذجاً علمانيًّا غير ديني يتلاءم والمفهوم الجديد للإنسانية والمواطنة؛ حيث كان يجري فهم الحياة والرؤية بطرائق جديدة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. إن المفهوم الفرنسي للأئيكية يعرض نموذجاً واضحاً وبديلاً: ففي فرنسا تحل الدولة وتحل المدرسة، وبوعي، محل الكنيسة، وهذا معنى الفلسفة الجديدة. ولذلك فإن الكنيسة إختفت بوصفها غريبة عن المؤسسات التي تمثل الحياة الحديثة. ولأنّ هذا الصراع بين الدولة والكنيسة ساد المشهد الفرنسي في هذا الجزء من القارة منذ الثورة الفرنسية وحتى أواسط القرن العشرين، فإن تأثيراته تزال جارية وحاضرة. والنموذج الأقرب لها تلك المشكلة غير المفهومة إلا في السياق التاريخي الفرنسي التي يثيرها الفرنسيون حول حجاب الفتيات المسلمات في المدارس الرسمية.

بالنّظر إلى المسائل التي نطوِّرُها في هذا الفصل، يمكن أن تترتب على هذا النقاش عدة نتائج. فمن المعروف أن علم الاجتماع إنما نشأ في سياق أوروبي وقد كان في رأس أولويات التخصص الجديد إدخال عقلانيات التنوير وقيمه في النظامين الاجتماعي والمادي للحياة الإنسانية. وإنطلاقاً من هذا فقد اندفع علماء الاجتماع لفهم شروط الحياة البشرية منجذبين بالمتغيرات الكبيرة في المجالين الإقتصادي والاجتماعي التي كانوا هم أنفسهم جزءاً منها. واستناداً إلى هذا كله فقد انشغل السوسيولوجيون الأوائل بطبائع التحديث وما اعتبروه علائق ضرورية. ومن بين ذلك العلمانية، وهي مقولة أدت دوراً بارزاً في السياق الأوروبي. والمشكلة هنا تكمن في القياس على الوضع الأوروبي وتعميمه على أجزاء أخرى من العالَم. وببساطة فإنَّ العالم الحديث ما تعلم مثلما توقع السوسيولوجيون وليس هناك ما يمكن من طريقه التوقع بأن سيحدث ذلك في المستقبل المنظو.

بيد أن مقولة العلمانية شديدة الصلابة والمقاومة، فهي تسيطر على العقلية الشعبية والأخرى الثقافية بشأن الدين في العالَم الحديث. وقد اتضح من نقاش جرى بيننا نحن المختصين في سوسيولوجيا الدين وتاريخه، أن اثنين من الزملاء من غير الأوروبيين يتذكران أنهما تعلما مقولة العلمانية وارتباطها بالحداثة في الستينات والسبعينات: ويتابعان أنَّ ذلك لم يعنِ فقط تزويدهما بعدة نظريات غير ملائمة وغير صحيحة، بل إرغامهما أيضاً، وكخبراء من العلم السوسيولوجي والتاريخي على تعليم تلك المقولة للطلاب بعد أن أصبحا من الأساتذة. وقد كان ذلك الفصل بين الدين والحياة سبباً في إبعاد الدين عن مجال الفهم والإفهام والتفاوض في العلاقات الوطنية الداخلية وفي العلاقات الدولية بعد أن استُبعد من الحياة الأكاديمية والثقافية. وصحيح أن الدّين أستُغِلَّ لِفَهم بعض الظواهر في حالات استثنائية لكن السائد كان اللجوء إلى القومية أو الإثنية في فهم الظواهر. وظلَّ الامر على هذا النحو حتى وقت قريب؛ حيث بدأ الدّين يُستخدم في التحليل في العقود الثلاثة الأخيرة وفي المجال العام كما في المجالات الخاصة، ومن جانب الأكاديميين وصنَّاع القرار السياسي.

إننا لا نقصد هنا إلغاء اعتبارا العلمانية من التحليل السوسيولوجي والسياسي، فمقولة العلمنة واللائيكية مفيدةٌ في مجال الفصل العملي أو الوظيفي. بيد أنَّ الكثير من متعلقات تلك المقولة لم يعد صحيحاً.

الأدوات النظرية (2): نظرية الخيار العقلاني: هناك من يرى إمكان استبدال خيار نظري معيَّن بخيار نظري آخر، فإذا كانت المقولة العلمانية صالحة لتفسير ظاهرة الحداثة وعلاقتها السلبية بالدين في الإطار الأوروبي فإن الصالح للتفسير المناقض في الإطار الأمريكي أي ازدهار الدين في قلب الحداثة أو إلى جانبها، إنما يرجع إلى كثرة العرض وليس إلى توافر الحاجة والطلب! هناك النظرية المُرْتبطة باسمَي "رودني ستارك R.Stark ووليام باينبردج W. Bainbridge" والتي تذهب إلى أنَّ الطلب على الدين والحاجة إليه إنما هو جزء من إنسانية الإنسان(5). بيد أن طرائق الطلب واحتياجاته مختلفة عما يتلاءم مع عروض متنوعة ومختلفة أيضاً. وهكذا فإن التعددية الدينية تدفع إلى تحديد العروض وتنويعها وإثرائها، وليس إلى خفض الاهتمام بها كما يقول منظِّرو العلمانية. وهذا، بحسب هذه النظرية، قد بَيَّنَ أسباب النهوض الديني الكبير في الولايات المتحدة. أي أن الحاجة الإنسانية إلى التدين تدفع لعروض دينية، والتعددية الدينية تتبع تعدد أشكال الاحتياج، فتقوم السوق الدينية الغنية التي تغذِّي عناصرها بعضها بعضاً مستخدمة وسائل الحداثة أيضاً. وبذلك فإنَّ مقولة الخيار العقلاني بالنسبة للأمريكيين تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها مقولة العلمانية الفاصلة لدى الأوروبيين(6). وبعبارة أخرى فإن التاريخ الأمريكي ما آثر ديناً معيناً أو مذهباً معيناً بالاحتضان والنُّصْرة؛ وقد شجَّع ذلك تعددية الخيارات ودعاياتها، كما شجَّع المبشِّرين بتلك الأديان والمذاهب على التلاؤم مع الحداثة لكي يكونوا مقبولين وناجحين. لقد بدأت الحداثة في أمريكا بسرعة فما كان هناك وقت لدى الكنائس لكي تضع نفسها في المحيط ما قبل الصناعي، بل إنها سارعت إلى التجاوب مع الحداثة المطلقة لكي لا يفوتها القطار، وبذلك صارت الكنائس جزءًا من العملية، وجَرَى تقبُّلٌ إيجابيٌّ لها. وهكذا اجتمع أمران: إيجابية القيم والممارسات الدينية، والتأكيد على حرية الاعتقاد، وبذلك ما حدث هذا التناقُض الذي حدث في أوروبا على مشارف الأزمنة الحديثة.

إنّ المذكور سابقاً يوشك أن يكون تعليلاً لظهور مقولة العلمنة في السياق الأوروبي، وتعددية الخيار الديني في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد جرى صدام بين الدين(أو الكنيسة) والدولة في أوروبا لتنافسهما على المجال نفسه، ولذلك حدث الفصل بشكل متأخر بينما كان الفصل قوياًّ منذ بداية التاريخ الأمريكي، فما حدث الصدام، ولا كانت هناك حاجةٌ للمطالبة بالفصل أو تحقيقه. وبالنظر إلى هذا الاختلاف في السياق التاريخي والذي يتضمن أيضاً فهماً مختلفاً للديني والمدني والسياسي والعلائق بينها -سادت الرؤية العلمانية في المجال الأوروبي، كما سادت مقولة الخيار العقلاني الحرّ في المجال الأمريكي. وليس من المفيد استخدام إحداهما محل الأخرى في المجال الآخر لكنه ليس مفيداً كثيراً أيضاً استخدام الرؤية الأمريكية في النواحي الآسيوية والإفريقية التي يزدهر فيها انبعاث ديني قوي لاختلاف الظروف والسياقات.

الأدوات النظرية (3): حداثات متعددة: كيف نستطيع إذن أن نفهم هذا الانبعاث أو هذه الإحيائيات الدينية المختلفة الأشكال في سائر أنحاء العالم؟ يمكن أن نستخدم النمذوج النظري الذي تحدث عنه صامويل ايزنشتــات S.Eisenstadt تحت اسم "الحداثات المتعددة"(7). فلنتوقف قليلاً لتأمل وفهم هذا النموذج الإبداعي أو المتجدد والذي يمكن وصفه أو تحديده بألفاظ أيزنشتادت نفسه:

يعني مصطلح "الحداثات المتعددة" أو الطرق المتعددة للحداثة أن العالم المعاصر يملك خصائص وخصوصيات مختلفة عما هو سائد في الأفكار والرؤى والخطابات والمقولات السائدة. يتجه هذا المصطلح ضد النظريات الكلاسيكية للحداثة، وضد الرؤى التي جرى الإجماع عليها قبل الخمسينات من القرن العشرين حول الطبائع العالمية أو الكونية للمجتمعات والمجتمعات الصناعية على وجه الخصوص. نعم تتجه الرؤية الجديدة ضد التحليلات السوسيولوجية الكلاسيكية لماركس ودوركهايم وحتى لماكس فيبر(في إحدى القراءات له) والتي قالت -وإن بأشكالٍ غير واضحة-: إنَّ الشروط التي سادت في الحداثة الصناعية الأوروبية ستسود في سائر أنحاء العالم مع الانتشار من طريقتي الاستعمار والسوق(8).

ولذلك فإن أيزنشتادت ينكر منذ البداية أنّ المجتمعات الصناعية متشابهة أو أنه من الضروري أن تصبح المجتمعات صناعية لكي تصبح حديثة. كما ينكر أن تكون تطورات المجتمع الأوروبي هي الشروط الضرورية للتقدم العالمي أو الإنساني. وإذا كان النمط الأوروبي للحداثة غير ضروري أو أنه غير كوني أو عالمي- فكيف يمكن فهم تطورات العالم؟ بحسـب أيزنشتادت(9) فإنه لكي نفهم العالم المعاصر لابد أن ننظر إلى تطوراته بوصفها تكوينات مستمرة لبرامج ثقافية ضخمة ومتنوعة. والفكرة الثانية التي تنجم عن الفكرة الأولى أن التكوين وإعادة التكوين المستمرين، هما نتاج عمليات معقدة من المقابلات بين الأفراد والجماعات، وهؤلاء جميعاً يتشاركون في إيجاد وإعادة تكوين البِنَى المتغيرة، لكن في سياقات اقتصادية وثقافية مختلفة وهذه هي الإشكالية الحقيقية في كتابات أيزنشتادت ومقولاته: إنَّ رفض الفهم الأَوْحَدِيِّ للحداثة لصالح فهم تعددي ومعقد هو بحد ذاته ظاهرة من ظواهر العصرنة ومقتضياتها.

وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الحداثة؟ الاجابة على السؤال تصبح صعبة جدًّا ذلك لأن الحداثة بهذا المعنى هي ذهنية أو موقف، وليست مجموعة متضافرة من الخصائص والصفات. إنها في أشكالها الاولى عبارة عن مفهوم أو مصطلح للمستقبل تهدف إلى تحقيقه مجموعة بشرية معينة أو فردٌ معين. لكنْ ما أن تنطلق العملية حتى تتداخل فيها عوامل وتناقضات كثيرة فهل تكون المجتمعات المتجهة نحو المستقبل -وهذا تعبير غامض– كوربوراتية أو تعددية؟ أو ما هي درجة الضبط والربط التي ينبغي على النخب السياسية والثقافية أن تعملَ عليها أو ضدَّها؟ ولكي يكونَ واضحاً ما نقصِدُهُ لنضرب مثالاً هو الدولة/ الأمة أو الدولة القومية التي اعتُبرت إحدى دعامات الحداثة في أوروبا والعالَم. ففي حين كانت مركزيةً في فرنسا ودول الشمال، ظلّت تعدديةً إلى حدٍّ ما في بريطانيا وهولندا. وإذا كان الأمر مختلفاً في الصِّيَغ والأشكال حتى في المواطن(الأصلية) للحداثة؛ فهل يكونُ من المستغرب أن يختلف الأمرُ في العالَم الجديد؟ لقد بدت أميركا مترددةً بين النماذج الأوروبية لفترةٍ ما، ثم خرجت عليها جميعاً وأنشأت حداثتها الخاصة بها. وهكذا فالذي يقوله "أيزنشتادت" أنّ الاختلاف والتعدد هو من بين عمليات الحداثة، بل إنه صار هو الحداثة ذاتها. وبحسب أيزنشتادت(10) أيضاً، فإنّ المرونة والحركية في فهم الحداثة لا تعني الوعي بالتفسيرات المختلفة للقيم الأساسية والمفاهيم الوجودية فقط؛ بل تعني أيضاً أن توضع موضع التساؤل والشكّ في كل المعطيات والرؤى النظرية. وهذا الفهم المَرِن والحركي للحداثة يجعلُ من الحقلين الديني والسياسي مجاليْن نسْبيَّين...وهكذا فإنّ مصطلح "الحداثات المتعددة" يمثِّل في الوقت نفسِه أو يعرضُ جوهر تلك العمليات وردود الأفعال عليها(مثلاً مقاومة الاستعمار أو السوق) في الوقت نفسِه. ونبقى مع أيزنشتادت في فهمه لمتغيرات الحداثة أو الحداثات في شأن الدولة. فالعولمةُ -من وجهة نظره، وبكل أشكالها- غيرَّت من الدولة الوطنية أو القومية أو العصرية من كل النواحي: المؤسساتية والرمزية والأيديولوجية والثورية(11). فرغم الوسائل التكنولوجية المعاصرة والتي تُساعدُ على الضبط والسيطرة، ما عاد ذلك ممكناً على مستوى الأفراد أو الجماعات، وفي حيواتهم المادية أو الشعورية أو الفكرية والروحية. والدليلُ على ذلك ظهور حركاتٍ وفعالياتٍ وفاعلين في سائر المجتمعات "الحديثة" من مثل الحركات النشوية وحركات البيئة وجهات المجتمع المدني، والتي تتخطى الحدود والمحليات في الكثير من الأحيان، رغم معارضة الدول القوية لها. ومن بين الحركات الحديثة والعصرية الحركات الدينية التي تُسمَّى أصولية، كأنما لاتهامها بأنها تنتمي إلى العالم ما قبل الصناعي. إنها في الواقع مثل حركات البيئة والمرأة حركاتٌ وابتعاثاتٌ حديثةٌ أو معاصرة، وهي تسلُكُ مسلكَ الآخرين سواء من حيث الأهداف، أو من حيث استعمال التكنولوجيا في بلوغ أهدافها. إنهم يعملون على إعادة تكوين الحداثة أو إعادة تعريفها، لكنْ بحسب مفاهيمهم الخاصة. إن الذي ينبثقُ من عمل أيزنشتادت أنه ما يزال هناك مكانٌ للديني وللحركات الدينية في التفسيرات الجديدة والمختلفة للحداثة. بل إنّ الدين يمكن أن تكونَ له تعريفاتٌ متعددةٌ تعدُّدَ تعريفات وتحديدات الحداثة. لقد ذكرت "نيلوفرغول N.Gole" إنّ الحركات الدينية (يقصدُ بها الحركات الإسلامية المعاصرة) تتخذ لنفسها وظيفة التصحيح وإعادة التصحيح، وهذه العمليات من بين مفاهيم الحداثة وعملياتها. وبذلك فإنّ الحداثة لا تُصبح مقبولةً أو مرفوضةً؛ بل إنه تجري مُلاءَمتُها بطرائق إبداعية وخلاّقة وإنْ بدت رفضاً جذريًّا للوهلة الأولى(12).

الأدوات النظرية(4) النظريات المتركّزة حول الفاعلين: إنّ نظرية أيزنشتادت حول "الحداثات المتعددة" تعني التركيز على المختلف والمتعدد والخصوصيات. لكنّ ذلك لا يعني الاقتصارُ عليها. إذ يمكن أن يكونَ مفيداً أيضاً التركيزُ على الفاعلين أنفسهم في عمليات التغيير، وهذا أمرٌ أشار إليه أيزنشتادت أيضاً. ونعني بذلك أنه قد يكونُ مفيداً من الناحية المنهجية والمفهومة دراسةُ الظواهر المسيحية الجديدة في سياق الغرب المعاصر، والكونفوشيوسية والبوذية في السياق الشرق آسيوي أو الحداثات الشرق آسيوية. والهندوسية في السياق الحداثي الهندي... إلخ. ولا نقصدُ بذلك طبعاً وحُكْماً ارتباط الدين بالحضارة أو الثقافة المعينة. لكنْ وعلى سبيل المثال، كيف نفهم الإسلام المعاصر وظواهره في إندونيسيا؟ هل نفهمُهُ فيه (!) لكنْ نستطيع السؤال أيضاً: هل هو ضروري لكي يكون الإسلام إسلاماً أن تكون العناصر العربية قويةً فيه؟! الأمر معقَّد. لكنّ الظاهر لأول وهلة أنَّ الإسلام الإندونيسي هو إسلام وإندونيسيٌّ(أو آسيوي؟) في الوقت نفسِه. فما نعنيه أنّ الاعتراف بالدين بوصفه وحدةً أو هويةً لا يعني أنها بنيةٌ مقفلةٌ. فهناك عوامل تكوينية أو فاعلة في تلك الوحدات والبِنَى مثل الدول والجماعات والأفراد؛ بل بشكلٍ مثيرٍ أحياناً المجالات الحضارية، والتي قد تتآلف أو تتناقض أو تختلف وتتعدد(13).

إنّ التركيز على الفاعلين في المجالات الدينية والثقافية والسياسية يقودُنا في المجال الديني إلى خارج البِنى التقليدية للكنائس والمؤسسات المعروفة. فالثوران الديني المعاصر يتمُّ منذ عقود خارج الكنائس والمؤسسات القُدسية أو التقليدية، التي بدأت تضعُف وتفقدُ أهميتَها؛ تماماً مثلما يحدثُ في الحركات السياسية والاجتماعية التي تجاوزت الدولَ الوطنية والقومية، سواءٌ بالفعل الداخلي أو الفعل الخارجي، وسواءٌ أكان الفاعلون مرجعيات عالمية معترف بها (مثل الأُمم المتحدة أو غرين بيس) أم جهات في المجتمع المدني العالمي. لم تعد الدولةُ الوطنيةُ هي المنفردةُ بالسلطة في المجال الديني. كما أنّ الحركية الدينية لا يمكنُ فهمُها في السياقات السابقة، أي سياقات علاقة الدين بالدولة.

لقد كانت الجماعات الدينيةُ دائماً فعّالةً بما يتجاوز حدود الدول والمجتمعات الوطنية أو الخاصة. والدياسبور اليهودية الكلاسيكية دليلٌ واضحٌ على ذلك. أما في الأزمنة الحديثة فالدياسبورات كثيرة، ولا تحتاج إلى تعديد وتنويه. إن الأديان ممارساتٌ اجتماعيةٌ تتخذ مما فوق الإنساني مرجعيةً لها لكي يفهم المتدينون بها أنفسهم ومصائرهم بطرائق أفضل. وهكذا فهي تقدّم معرفةً ودوافع عاطفية، وتستطيع دائماً صنع الدافع المحلي أو الشامل والعالمي للأفكار والممارسات.

وأيَّاً يكن الرأي فيها فإنها مُنتجةٌ لهويات، وصانعةٌ لجماعاتٍ ومجالات ونشاطات. وفي الوقت الذي تتخلى فيه الدولة الوطنية عن بعض المجالات؛ فإنّ الفاعلين الاجتماعيين الآخرين، ومن بينهم المندفعون دينياًّ، يستطيعون الحلولَ محلَّها أو استكمال ما صارت تعجزُ عن القيام به في المجالين الرمزي والاجتماعي. ومع سواد قضية "الرأي العام" في الديمقراطيات الغربية وخارجها؛ فإنّ الحركات الدينية تجدُ منفذاً جديداً للتأثير في المجالين الرمزي والسياسي بسبب حضورها القويّ في أجزاء من "الرأي العامّ"، وقدرة قادتها على الحشْد في الانتخابات. وليست هناك شواهد واضحة على هذا التأثير المتجدد للدين في المجال العامّ في أوروبا؛ لكنه واضحٌ في الولايات المتحدة وبلدان آسيا وإفريقيا. وهكذا، مع ازدياد تأثير الحركات الدينية في المجالين الاجتماعي والسياسي، نحن مضطرون لإعادة النظر أيضاً في تلك العلاقة التي استقرت بين المذبح والعرش قروناً متطاولـةً في أوروبا أيضاً. وليس هذا فقط، فالتوجهات الدينية التقليدية في سائر الأديان، تعترف عملياً بالتعدد، أي بممارسات الآخرين الدينية أو تُسلّم بها على الأقلّ. بينما تميل بعض الحركات الأصولية إلى القول بامتلاك الحقيقة امتلاكاً مطلقاً. والأصوليتان الإسلامية والإنجيلية نموذجان متعاكسان لهذه الناحية. وهذا يستحق التأمُّل لجهة "رؤية العالم" لدى التقليديين الدينيين والمتجددين الدينيين.

خاتمةٌ واستنتاجات: نودُّ الإشارة في الختام إلى ثلاث نقاط. النقطة الأولى أنَّ النموذج الأوروبي لعلاقة الدين بالدولة والدين بالحداثة هو استثناءٌ وليس قاعدة. لكنه ثانياً أحدُ نماذج الحداثة، التي تتعددُ في القرنين العشرين والواحد والعشرين. وفي النقطة الثالثة نعُودُ إلى النموذج الحداثي الأوروبي والذي يربط بين الحداثة والعلمنة: فإذا لم يعد ممكناً ربط الحداثة بالعلمنة فكيف يمكنُ فهمُ الطبيعة العلمانية لأوروبا؟ لا شكَّ أنّ هذه الخصوصية تكمن في أوروبا نفسها وليس في الدين. إذ ليس هناك بالتأكيد تنافُرٌ بين الدين والحداثة بأي معنًى من المعاني.

والاستنتاج الذي يترتب على ذلك أنه يمكن لك أن تكونَ حداثياً وعصرياً وأنت تنقد الحداثة باسم الدين، كما يمكن لك أن تكون حديثاً وعصرياً وأنت تنقد الدين باسم الحداثة.

أمّا الاستنتاج الآخر فهو أنّ الدين يستمر فاعلاً ومؤثراً، أو أن تأثيره يزداد في القرن الحادي والعشرين. وأنّ هذا التحدي ينبغي التصدّي له بأفهامٍ ومناهج جديدة بعيداً عن المفاهيم التقليدية للدين وللعلمانية معاً. وقد أوضحنا في هذه المقالة الموجزة بعض السبل التي نراها مفيدةً في ذلك.

*************************

الهوامش:

*) مقالة منشورة في كتاب: الأديان اليوم 2006م. وتنشر مترجمة في التسامح.

1- هناك أدبياتٌ هائلةٌ الاتساع عن العلمنة، وأولاها بالاعتبار دراسات S.Bruce وP.Bergerو B.Wilson وD. Martin

2- قارن بدراسة S. Bruce عن الله والإنسان في الغرب 2002م.

3- بولندا وأيرلندا تشكلان استثناءً في أوروبا في هذا المجال؛ قارن عنهما: G.Davie في كتابه: الدين في أوروبا المعاصرة 2000م.

4- ظهرت أشكال جديدة من التدين للحلول في هذه الفجوة من مثل الميثودية في بريطانيا.

5- درس L.Young مسألة الخيار العقلاني، والدين المدني أو العام في: نظرية الدين 1997م.

6- قارن بدراسات S.Warner عن الدين في الولايات المتحدة.

7- دراسات أينرنشتادت في Daedalus, 1998, 2000.

8- المرجع السابق.

9- المرجع السابق.

10- المرجع السابق، ص4.

11- المرجع السابق، ص16.

12- دراسة N.Gole. في Daedalus, 129 (2000)

13- هذا هو الرأي الإشكالي الذي صار إليه صامويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات" 1995م.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=294

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك