وظائف مواقع التواصل الاجتماعي في الخطاب الإرهابي: الاستمالة والتجنيد والتنسيق... توظيفاً لآليات الخطاب الشفهي
لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورا مهما ومحوريا في تحريك مسارات أيديولوجية أدت إلى تغيرات اجتماعية وسياسية معاصرة، بدت من خلال ما أطلق عليه "ثورات الربيع العربي"؛ حيث كان الأساس لهذا الحراك الاجتماعي هو تنظيم الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي دفع العديد من الباحثين والدارسين إلى التنقيب؛ سعيا وراء كشف النقاب عن دوافع انضمام الشباب إلى التنظيمات الإرهابية، والتي خلصت في مجملها:
السياسة العدائية للولايات المتحدة الأمريكية، وسياسة المخاصمة الطائفية والصراع المذهبي، كلها أمور تغذي صناعة الكراهية والعداء ضمن النسيج الاجتماعي
- على الصعيد العربي:
توافق الفرضيات البحثية على أن الظروف السياسية والاقتصادية جاءت في مقدمة المبررات لانجذاب الشباب العربي للتنظيمات الإرهابية، حيث إن السياسة العدائية للولايات المتحدة الأمريكية، وسياسة المخاصمة الطائفية والصراع المذهبي، كلها أمور تغذي صناعة الكراهية والعداء ضمن النسيج الاجتماعي، إضافة إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية كالفقر، والبطالة، والجهل التي دفعت بعض الشباب الساقط في هوتها إلى الانقياد لحالة من تلاشي الأمل عن مخيالهم.
- على الصعيد الأوروبي والأجنبي:
كشفت العديد من الدراسات علة انضمام الشباب الغربي إلى التنظيمات الإرهابية نتاج حالة التهميش والاغتراب، حيث تتمتع الغالبية العظمى منهم بمستويات معيشية متوسطة ومرتفعة في مجتمعات توصف بالديمقراطية والاستقرار السياسي. وبالتنقيب عن أسباب الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية تبين أن الملل، والبحث عن الإثارة والمغامرات، والسعي وراء الشهرة، والبحث عن أدوار البطولة لتحقيق "الأنا"، من أبرز الأسباب الحقيقية جذبا للشباب إلى تلك التنظيمات.
ووفق فرضيات كل من كولسيت وأوليفيه روا المؤكدتين أن الجهادية المعاصرة تتجذر في الثقافات الفرعية الشبابية الـ "بلا مستقبل"، وليس على الدين بحد ذاته. فمن منظور روا: (نحن لا نشهد "تحول الإسلام إلى التطرف" بقدر ما نشهد "أسلمة للتطرف"، وإرهابيو اليوم لا يعبرون عن تحول الشعوب المسلمة إلى التطرف، بل تعكس ثورة جيلية على فئة الشباب تحديدا).([2])
وفي ظلال تلك الفرضيات التجأت التنظيمات الإرهابية، وبخاصة تنظيم (داعش) وما يمتلكه من إمكانيات مالية، إلى ضخ جزء كبير منه في إنماء ما يسمونه (الجهاد الإعلامي)، وظهر ذلك بوضوح، عندما خصص أبو بكر البغدادي نحو ما يقرب من مليون دولار كميزانية مبدئية لتأسيس تلك الوزارة الافتراضية (وزارة إعلام داعش)، بالإضافة إلى امتلاك الخبرات الفنية المسيرة لها([3])؛ بهدف تحقيق أهداف استراتيجية:
أولها: تبرير أفعالهم الإجرامية المتداولة عبر الأقنية الإعلامية المضادة؛ والآذنة بصراع إعلامي جديد قوامه الأدلة الشرعية والحجاجية معا.
ثانيها: تجنيد العديد من المنجذبين مراودا في ذلك الميول والرغبات المحركة لهم، من خلال حزمة من الآليات الجاذبة، حيث تختص الدراسة بالتنقيب في جاذبية الخطاب الشفهي المتسمة بالقدرة على مخاطبة المكنون الثقافي للفرد بعد تجريدها من كل مكتسب ثقافي غير رصين، لتجعلها اللغة المعتمدة بين العاطلين والمهمشين ومن تسودوا في قطاعات الجماعات الإرهاب.
وقد اعتمدت التنظيمات الإرهابية تلك المنهجية من خلال وضع المجذوب تحت وطأة عمليتين استقطابيتين ممنهجتين:
عملية (الاستمالة) عبر مواقع التواصل الاجتماعي
نتيجة للمشاهدة العالية التي يتمتع بها موقع "اليوتيوب"([4])، والحالة الافتراضية التي يخلقها لمتابعيه في الضمير بين ما هو واقع ومأمول؛ اعتمدته التنظيمات الإرهابية آلية استقطابية بعمل العديد من الفيديوهات ورفعها عليه؛ معلنة عن توجهاتها وأهدافها، مما أثار جدل العديد من الأفراد والمنظمات حول العالم نتيجة بشاعة هذه الفيديوهات التي تنشر القتل والذبح والحرق المبرر، فضلا عن التسجيلات الصوتية الناشرة للأناشيد الحماسية والحزينة، والتي لقت قبولا عند الشباب المتابع لها؛ نتيجة لسد النقص الممثل في حالة التهميش المعيشة؛ لتقيم هذه الفيديوهات حالة من التوافق النفسي بين الشباب الرافض للمجتمع بكل مفرداته، والمحيط الافتراضي الذي يحقق لها (الأنا) المتلاشية، ويمكن رصد ذلك من خلال ما هو آت:
أ - التسجيلات المرئية (الفيديو):
لاشك أن الفيديوهات المبثوثة على موقع اليوتيوب اتسمت بقدرتها على سلب العقل من الظرفية المكانية إلى الأخرى، بحسب ما يريد المتكلم، وبحسب إمكاناته الشخصية التي تؤهله لذلك، وقد اتخذت الخطب التثويرية أنماطا مختلفة بحسب التيارات الممثلة لها؛ فالتيار الداعشي يمثل للمجذوب وكأنه المالك لمفاتيح الجنة، وقد بدا ذلك من خلال الخطاب الدعوي الممثل لهم، فهذا أبو بكر البغدادي([5]) الذي أطل على الساحة الإعلامية من خلال خطبة الجمعة([6])، واتخذ من موضوعها "شهر رمضان" مدخلا لتثبيت معتقدات تنظيمه، من خلال محاكاة زي الرسول - صلى الله عليه وسلم - متخذا من الهيئة المطلة على المتلقي مدخلا مرغبا إليه وأفكاره، فكثير من الناس يبنون انطباعاتهم وأحكامهم عن الآخر من خلال أول لقاء بينهم([7])، وتتحدد الصلة بين الخطيب ومستمعيه على أساس ما تنقله الحواس من صور؛ فالمستمع يرى الخطيب بعينيه... قبل أن يسمعه بأذنيه، ليمتد خطابه الشفهي الفصيح اعتمادا على المحاكاة والاستدعاء التاريخي؛ امتدادا ييسر التواصل مع المجذوب إقناعا بكل ما يأتي من نتائج حجاجية في خطابه، مرتكزا على الآليات الشفهية وإحالاتها اللفظية ذات المرجعية التاريخية المستدعاة؛ مخاطبا اللاشعور الكامن في الشخصية الإسلامية بعامة، على النحو التالي:
أولاها: محاكاة خطب الصحابة، وبخاصة خطبة أبي بكر الصديق عند توليه الخلافة (11هجرية)؛ لما بويع بعد بيعة السقيفة، والذي اتخذها البغدادي مرجعية شفهية يرسخ في وجدان المجذوب المكانة التي أوكلت إليه من قيادة وخلافة للدولة الإسلامية، حيث قال: (فوليت عليكم ولست بخيركم ولا أفضل منكم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فانصحوني وسددوني، وأطيعوني فيما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ...) جاءت الخطبة متشابهة لفظا مع خطبة أمير المؤمنين، متباينة مضمونا؛ حيث كشف "التناسق اللفظي" في عبارة البغدادي إلى الميل للتنصيب والإمامة حتى في حالة الإخفاق؛ والدليل مستمد من العطف الكائن بين لفظتي: (فانصحوني) و(سددوني)، مخالفا لرسالة الصديق الذي ضمن جواب شرطه لفظة: (قوموني) التي تحمل دلالة التصويب والمقاومة والمجابهة إذا تطلب الأمر ذلك([8]).
ثانيها: من خلال قوله: (...سوق الجهاد....) عبارة محورية في الخطبة، تعد في الخطاب الشفهي "نواة الخطاب" التي تدور في فلكها الدلالي العديد من التوجيهات التي تعضدها لفظيا ودلاليا؛ لما تحمله هذه العبارة من إحالات تاريخية تعيد في وجدان أصحاب الثقافة الفصيحة ذكريات (سوق عكاظ وذي المجاز) تلك الأسواق التي تبارى فيها الشعراء للفوز بالإعجاب والعطايا، كما تحمل العبارة السابقة دلالات تخاطب أصحاب الثقافة العامية لما هو راسخ في الضمير من كون الأسواق مكان للتنافس وراء الرزق؛ فيقوم التناسق اللفظي للعبارة المستشهد بها مقام المستدعي لمفاهيم التنافس القائم على تحقيق (الأنا) الفائزة بالجنة، والسبيل إلى ذلك الجهاد الذي يحقق النصر أو الشهادة.
ثالثها: الاستعانة بالتسلسل الحجاجي من خلال القرآن والسنة النبوية المطهرة مصدري التشريع الإسلامي؛ دليلا مبررا لمجابهة الأنظمة الفاسدة – على حد زعمه – المتفشية في أحشاء الدولة الإسلامية([9]) لإزالة وثنية الظلم إلى أن يصل إلى قوله: (فهذا قوام الدين: كتاب يهدي وسيف ينصر) لافتا مريديه إلى أن الدين الإسلامي قد حصر بين دفتي الهداية وقوة السيف وفق أدبيات التنظيم الإرهابي.
وقد أكد أبو بكر البغدادي هذا المضمون الجهادي في نهاية سلمه الحجاجي، حينما قال: (فهي التجارة التي دل الله عليها، وأنجى بها من الخزي، أنجى بها الكرامة في الدارين) من خلال العطف بين حياتي الإنسان (الدنيا – الآخرة) وآليته الشفهية (الصمت)، كي تسير العبارة في سهولة ويسر دون إشعار المتلقي بالملل.
فهذه هي الآلية الشفهية المعتمدة في خطبة البغدادي، والتي ارتكزت على السلم الحجاجي المعتمد على الإحالات اللفظية التي تستدعي في الضمير - المجذوب - مشاهد تاريخية مسجلة لأمجاد المسلمين عبر الاستعانة بالنص المبارك والسيرة الطاهرة الممهورة بالهيئة المتسربل بها؛ حجة وبرهانا على كون الجهاد في مجابهة الدول الإسلامية ونظمها هي مطية الوصول إلى الجنة.
ب – التسجيلات الصوتية:
اعتمدت التنظيمات الإرهابية على الأناشيد كآلية استقطابية، مخاطبة حالة الانعزال والحماسة المتوافقة مع المرحلة العمرية المسيرة للشباب المستهدف، والتي سعت في إنمائها، لتكون الملجأ والحاضن لحالة التهميش المعيشة، من خلال مغازلة حالتين سوسيولوجيتين للشباب:
- حالة الانعزال:
واستخدمت في ذلك الأناشيد الحاملة لدلالة الانعزال، كما في القصيدة المتصدرة بالبيت الشعري:
غرباء ولغير الله لا نحني الجباه
غرباء وارتضيناها شعارا في الحياه
حيث عنيت العديد من التنظيمات الإرهابية ببث النشيد السالف عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أخالها تنمي في الضمير حالة الانعزال ورفض الواقع؛ اعتمادا على التناسق اللفظي، والإيقاع الموسيقي الصادر عن البحر الشعري (بحر الرمل المجزوء).
تبدأ مرحلة التجنيد بمحاولة جذب الهدف بعد معرفة حالته النفسية، وطبيعة المرحلة العمرية، لتحديد الميول والرغبات المحركة لأيديولوجيته الفكرية
- حالة الحماسة:
لبيك لواء البطولة كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما
بيت شعري من قصيدة تحيل الحالة الجهادية في الضمير مقصدا مأمولا، من خلال تصيِّر الجماجم – باعتبار ما سيكون – سلما لارتقاء الجنة، مغذيا لهذا الشعور في الضمير من خلال الحالة الحماسية الموظفة إيقاعيا؛ اعتمادا على البحر الشعري (بحر الكامل المجزوء).
وإذا ما دقق الرائي في البيتين – محل الاستشهاد – يتبين اعتمادهما إيقاعا على بحور شعرية اتسمت بالمقاطع القصيرة التي يسهل حفظها وترديدها، متفقة والأيديولوجية الجهادية التي تبنتها التنظيمات الإرهابية، ومتوافقة مع الحالة السوسيولوجية المسيرة لاحتياجات الشباب المستهدف انجذابها.
عملية (التجنيد) عبر وسائل التواصل الاجتماعي
عني الإعلام الإرهابي الإلكتروني ببث معتقداته وأفكاره وتوثيق العمليات الإرهابية ومجيد مرتكبيها، من خلال إنشاء مواقع إلكترونية لرموز التطرف، يحقق من خلالها حربا نفسية ويجني من ورائها مآرب عدة مبتغاة، منها تجنيد شباب يساعدهم على تنفيذ عمليات إرهابية، وهم في ذلك يعتمدون على فئة الشباب خصوصا ضعاف العقول والفكر، حيث تتم دعوتهم إلى الجهاد، وحثهم على الاستشهاد في سبيل الله، وكأنه يدشن إعلانا لوظائف مجزية إيذانا للشباب بالفناء والضياع.([10])
تبدأ مرحلة التجنيد بمحاولة جذب الهدف بعد معرفة حالته النفسية، وطبيعة المرحلة العمرية، لتحديد الميول والرغبات المحركة لأيديولوجيته الفكرية، ويتم في هذه المرحلة التركيز على مسائل التوحيد والحاكمية والولاء والبراء وأهمية الحكم بالقرآن والتأكيد أن الجهاد هو الحل، ويلي ذلك زرع الأفكار التكفيرية والمتطرفة في عقل الشباب المستهدف.([11])
وبالاستطراد فإن العناصر الشبابية التي تم استقطابها من خلال التيارات الإرهابية، بعد أن تخطت التأهيل النفسي والفكري المتزامن مع المصلحة المرجوة، لم يك لديها تراكم ثقافي ديني يدفعها إلى التضحية بأجسادها وأرواحها حيال الحالة التكفيرية التي أحاطت بهم – على حدّ زعمهم – أو معرفة دينية تولد لديها الحمية التي لأجلها يأتون من كل فج عميق لإنجاز ما يحقق الجنة والفوز بالحور العين.
لاشك أن الإشكالية الإقناعية التواصلية لعب على أوتارها العديد من الروافد الفكرية، أهمها ما هو كائن في الآلية الدعوية التواصلية، وخير شاهد ودليل عندما يتحدث هؤلاء الشباب عن "الحقيقة"، فإن الأمر لا يتعلق هنا بالمعرفة المبنية على الجدل الفقهي والتحقيق العقدي، بل هم يقصدون بذلك قناعتهم الذاتية التي تنبني في بعض الأحيان على كلام مشايخ سمعوا عنهم ولم يقرؤوا لهم أي كتب.
فعلى سبيل المثال، فإن الشاب "سيدرك " الفرنسي الذي اعتنق الإسلام، قال أثناء محاكمته: "أنا لست متطرفا من خلف شاشة الحاسوب، لم أعتنق الإسلام بسبب اليوتيوب، أنا أقرأ للعلماء الحقيقيين".
وقد ادعى هذه الأشياء، رغم ثبوت عدم قدرته على قراءة اللغة العربية، وأنه تعرف على أعضاء الخلية التي انتمى إليها عبر شبكة الإنترنت.([12])
ومن خلال متابعة بعض الصفحات الإلكترونية لتنظيم داعش، تبين اعتمادها النمط الشفهي التوقيفي الملائم مع ما هو آني لا تجريدي ناقل للنص جسدا بلا روح، وخير شاهد على ذلك، صفحة ولاية الرقة، وصفحة أبو يزن اللاذقاني، وصفحة عائشة على، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام...، والتي جاءت على النحو التالي:
أولا: اللغة
اتسمت بالمصادمة الفكرية والعسكرية مع مجتمعاتهم، وإنتاج بعض المدافعين المتسمين بخطابهم الرافض للواقع بلهجة حماسية تثير العاطفة وتبعث الحماس والغيرة لدى شباب هذه الجماعات([13])، وتحرك في اللاشعور الجمعي للشاب المجذوب حالة من المغامرة والإثارة، تتوافق مع مرحلتهم العمرية([14])، فتصير الحالة التواصلية بين الجاذب والمجذوب أشبه بالحوار الملهم الغرامي، وهذا ما يجده الباحث من خلال صفحة أحد أعضاء التنظيم (أبو يزن اللاذقاني) وهو مجاهد في ولاية الرقة، استخدم النبرة الحماسية التثويرية، دفاعا عن الإسلام ضد الأنظمة العلمانية الحاكمة بلغات أخرى غير العربية (الإنجليزية، الفرنسية وغيرها من اللغات)؛ بغية استقطاب مزيد من الشباب من مختلف أنحاء العالم.([15])
ثانيا: النصوص
جاءت معظم النصوص المستخدمة على صفحات التنظيمات الإرهابية داعية في شكلها إلى رفعة الإسلام وتخليص البلاد من النظم الكافرة، متضمنة (دلالة هامشية) تنتجها عبارات مبتورة من مشهور نصوص المأثور للصحابة، تثير في ضمير المتلقي حالة من التصديق، باعتبارها حجة إقناعية؛ فعلى صفحة أحد أعضاء التنظيم يدعى (محمد الحسين) يستعين بعبارة لسيدنا علي بن أبي طالب في نصوصه الترويجية: (إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا = لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي).
نص سلفي تمت إحالته من مراده الإصلاحي إلى مرمى إرهابي يدعو إلى التحرر من المحيط الأسري إلى الانفراد والعزلة في محيط المجتمع الإرهابي للارتماء في أحضان خليفة - على حد زعمهم - يكون ملهما لاستعادة أمجاد السلف الصالح - في مخيال المجذوب - من فتوحات لمدن جديدة، وتحرك في اللاشعور ثورة على حالة التهميش أو الرفض المجتمعي لتسجيل أمجاد شخصية لطالما عمل التنظيم على إنمائها في الضمير منذ المراحل الأولى لعملية التجنيد.
ثالثا: المنهجية التواصلية الحجاجية
اعتمدت التنظيمات الإرهابية وبخاصة (داعش) في دعايتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي على التسلسل الحجاجي المنطقي المعتمد على الأصول الشرعية، متخذة من تأويلاتها وتفسيرها لنصوص الدين مبررا لأفعالها يحيل ما هو واضح وبيِّن إلى سبل تأويلية بطائنها الغموض، ففي حادث حرق الطيار الأردني المأسور (معاذ الكساسبة)؛ عالجت الآلة الإعلامية لتنظيم داعش الحادث بحالة من التدليس والتلبيس، متخذة من التسلسل الحجاجي لنصوص الدين آلية جاذبة لأيديولوجية الشباب، مستعينين بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)([16])، وقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...)([17])، لتبرير الحادث تحت ظلال إعلاء حكم شرعي ممثل في القصاص، ليصير التحريق بالنار جزاءً لمن تسبب في تحريق المجاهدين – على حد زعمهم - فضلا عن الاستعانة بما هو مأثور من قيام أحد الصحابة بهذا الحدث سلفا، لتأتي دعايتهم الإعلامية مستندة على المخاصمة الحجاجية المخاطبة لعقل المجذوب، فتبدو أفعالهم الإرهابية في المخيال متفقة شرعا مع أصول الدين لا لهوى أو تطرف.
تلك المنهجية الاستقطابية لم يختص بها تميز الجندر الذكوري على حساب الجانب الأنثوي، فقد أولت التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها صفحات "داعش" عناية بجذب النساء، منها صفحة (عائشة على) التي تعتمد نصوصا تخاطب اللاشعور الجمعي لدى قطاع لا يستهان به من النساء مداعبة لرغباتهن واحتياجاتهن، من خلال الدعوة إلى تحطيم القيود الاجتماعية والاقتصادية التي رمت بهن في هوة العنوسة، ودعوتهن إلى التمثل بنساء المسلمين الأوائل؛ لأعداد جيل من النشء قادر على الجهاد الذي يحقق، إما النصر وإما الشهادة، الأمر الذي يفرض على مرسل الرسالة الدعوية أن تكون لديه طاقة فكرية قادرة على استدعاء ما هو سالف في ضمير المجذوب بمنهجية معتدلة قوامها عدم الإفراط أو التفريط في النص المستخدم؛ يحيل من خلالها رسالة دعوية تدفع إلى الانجذاب؛ يمكن توصيفها بـ "التنويم المغناطيسي"([18]) - إذا صح التعبير - استنادا على الجاذبية الشفهية الموظفة استقطابا وتجنيدا.
التنسيق التواصلي عبر مواقع التواصل الاجتماعي
انتهجت التنظيمات الإرهابية تنسيقا بين مواقع الشبكة العنكبوتية لنشر البيانات والخطب والمواد الجديدة التي تقدمها لأحد قادة التنظيمات أو مفكريها، والحكاية عن مذكرات للذين شاركوا في الجهاد في مناطق العالم الإسلامي مثل أفغانستان والعراق لإلهام الشباب وتحفيزهم للاقتداء بهؤلاء (الشجعان)([19]) بعد أن خلقت في مخيال المجذوب حالة أسطورية لتلك الأشخاص المروج لهم.
وقد اقتضت الضرورة تقديم المعونة الفنية لمساعدة المتصفحين بغية إخفاء الأثر من خلال مواقع وسيطة أو برامج معينة وتوزيع الأدوار في إدارة الموقع لأشخاص ذوي مقدرة متميزة، وينتمون إلى بلدان مختلفة([20]) بمنهجية يتساوى أفراده في الحقوق والواجبات، فلا يملك أحدهم السلطة على الآخر فهو مجتمع بلا قوانين ملزمة لسلوك الأفراد، يستطيعون الدخول والخروج من هذه الشبكة متى يشاءون بمرونة وتنسيق يسهم في دعم التخطيط الاستراتيجي والفكري؛ منحازا إلى العديد من البرامج المتطورة لتغيير "أي بي" بغية الانفلات من الرصد والمراقبة، وتجنب الضربات الأمنية)[21](، وقد انتهجت التنظيمات الإرهابية وخاصة داعش - في ذلك - استعارة أسماء مزيفة طوال الوقت من أسماء مشهور الصحابة والتابعين؛ يستمدون من خلالها استهلاله تعاطفية تيسر السبيل لهم بترويج بضاعتهم الفكرية لدى اللاشعور الجمعي المسلم الذي لديه وازع ديني تمَلَكه على أقل تقدير في مستهل ثقافته الأولية، باعتبار تميزه الديني؛ ليحل الخطاب الشفهي آلية تواصلية تمكن المخاطب من التواصل مع الثقافة الأولية للمنجذب - على أقل تقدير - المهمش اجتماعيا لكونها الأقدر على الإقناع والإمتاع لديهم، ولعل ذلك ما فطنت إليه التنظيمات الإرهابية بعامة في العصر الحديث آلية استقطابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتنظيم داعش بخاصة في آن، الأمر الذي يستلزم حتمية تجديد الخطاب الدعوي المؤسساتي اعتمادا على رد القوة الجاذبة الشفهية قِبل التنظيمات الإرهابية بما يناسبها من قوة مضادة بمنهجية منضبطة ومتوافقة مع الظرفية المكانية وملابساتها في آن.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 46
[2] -Olivier roy , “Al Qaeda in the West as a youth Movement: the power of a Narrative,” Centre for European policy studies, policy Bief 2008 . p26
[3]- شريف درويش اللبان، "الاستراتيجية الإعلامية والثقافية لمواجهة داعش"، تحرير: يسري العزباوي، داعش: دراسة في بنية التنظيم، (القاهرة: المركز العربي للبحوث والدراسات)، 2015، ص 35، 45
[4]- حسن المنياوي، تويتر أكثر موقع تواصل اجتماعي للإرهاب الإلكتروني، موقع بوابة الوفد، متاح: https://goo.gl/1CvUXc
[5]- إبراهيم عوض إبراهيم البدري السمرائي، شهدت الوثائق التسجيلية أنه لم يك طالبا متميزا في دراسته، وعلى الرغم من ذلك سجل أطروحة الدكتوراه في كلية الشريعة الإسلامية ببغداد، كان مولعا بالزعامة والقيادة منذ صغره لكنها فشل في تحقيقها طيلة فترة شبابه التي امتازت بالتقلبات الممهورة بتحطم الطموح والآمال. انظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=ueDJuDgHGes
آمن البغدادي بأهمية الاعتماد على الخطاب الشفهي آلية تواصلية إقناعية مع المتلقين، وقد عضد (الدلالة الهامشية) في أغلب تقاطعاته الأيديولوجية بداية من المسمى الرمزي لتياره الجهادي " داعش " نهاية بلقبه "أبو بكر البغدادي " المحيلة إلى خليفة المؤمنين "أبو بكر الصديق "، والبغدادي نسبة إلى مدينة بغداد؛ الأمر الذي قد يخطو خطوات إقناعية نحو المتلقي استمالة واستقطابا.
[6]- انظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=dIRf0EJuPak
[7]- انظر: علم نفس الدعوة، محمد زين الهادي، ط1، 1415هـ، 1995م، الدار المصرية اللبنانية، ص 270
[8]- انظر: الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بسيوني، محمود شريف، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003. هذه الوثيقة بتصريح المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة دي بول شيكاغو.
[9]- الحجاج في الإقناع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، رسالة دكتوراه، للباحث: حسين بو بلوطة، جامعة الحاج لخضر – باتنة – الجزائر، 2009- 2010م، ص 54
[10]- هشام بشير، الإرهاب في ظل الثورة الإلكترونية وتطبيقاتها في العالم العربي، آفاق سياسية، العدد السادس، يونيو/ حزيران 2014، ص76
[11]- انظر حسن المنياوي، تويتر أكثر موقع تواصل اجتماعي للإرهاب الإلكتروني: https://goo.gl/9N6kwH
[12]- انظر مقالات: من هم المجاهدون الجدد؟-مقتطفات من كتاب "الجهاد والموت: الجاذبية العالمية للدولة الإسلامية – للكاتب أوليفييه روا- ترجمة وتحرير نون بوست – 17 أبريل/ نيسان 2017
[13]- الدكتور أيمن حسان- دور مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الفكر المتطرف – المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ص 7
[14]- حتمية النظر إلى طبيعة المرحلة السنية المستقطبة باعتبارها حجر الزاوية التي تقوم عليها العملية الاستقطابية قبل الجماعات الإرهابية
[15]- دور وسائل التواصل الاجتماعي في تجنيد أعضاء التنظيمات الإرهابية دراسة حالة "داعش" المركز الديمقراطي العربي، ص 16
[16]- البقرة، الآية 179
[17]- النحل، الآية 126
[18]- ماهر فرغلي، قصة تجنيد "داعش" لـ "شيكو" على "فيسبوك" موقع جريدة البوابة نيوز: https://goo.gl/eMTXhi
[19]- نجلاء عبد الفتاح طه، دور الإعلام في حل القضايا المعاصرة (الإرهاب – جرائم الانترنت – قضايا العولمة) الإسكندرية: دار التعليم الجامع 2015، ص 24
[20]- انظر: الدكتور أيمن حسان- دور مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الفكر المتطرف، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ص 7
[21]- يوسف بن أحمد الرميح: الإرهاب والإعلام الجديد " الإرهاب الرقمي "، موقع الجزيرة للصحافة، https://goo.gl/tR2zod