الهوية الثقافية بين الثوابت والمتغيرات

الهوية الثقافية بين الثوابت والمتغيرات

رضوان السيد*

I

يشغل موضوع الهويات الخاصة والخصوصيات عالَم الدول والأفكار والسياسات والجهات الأمنية منذ الخمسينات من القرن العشرين. وقتَها كانت الأمورُ قد استقرَّتْ على مقولة التفوق والسوَّاد للحضارة الغربية، وانحسم تدريجياً التجاذُبُ حول القيادة في صَون الحضارة الزاهرة تلك لصالح الولايات المتحدة بعد أوروبا بسبب القدرة والنجاح اللذين أظهرتْهما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور الأرجحية الأميركية في الطابع الغَيري والرسالي الذي أظهرتْهُ بلادُ العمّ سام تجاه أوروبا، كما تُجاه بلدان آسيا وإفريقيا في أعقاب الحرب الثانية.

أمّا الأُصولُ الثقافيةُ والسياسيةُ لتلك الحالة العامة أو السائدة فتعودُ قروناً إلى الوراء، إلى عصر الكشوف الجغرافية، حين جرى تسويغُ الموقف من الهنود الحمر والهنود السُمْر والناس الصُفْر بأنهم بدائيون، وبأنّ المُراد تحضيرُهُم أو دَفْعُهُم لاعتناق المسيحية، الدين الصحيح والراقي لتلك الحضارة البازغة. وقد استجدَّت في القرنين السابع عشر والثامن عشر مشكلةٌ شغلَتْ الأوروبيين طويلاً، وربما ما تزالُ تشغلُهُمْ حتى اليوم؛ إذ حدث تطوران؛ الأول: انقسام الكنيسة المسيحية الغربية إلى قسمين رئيسيين: كاثوليك وبروتستانت؛ والثاني: العلمنة التي صارت تياراً ثقافياً وسياسياً عريضاً يتمرد على الدين تارةً باسم النوازع الفردية، وطوراً باسم العلم والتنوير. وقد أربك ذلك الإمبريالية الأوروبية لحوالي القرن في إعادة تحديد "رسالتها" تجاه العوالم غير الأوروبية، بين المسيحية والحضارة، أو الحضارة والمسيحية أو الاكتفاء بالحضارة. ومع أنّ الآباء المؤسّسين في أميركا عرفوا المشكلات الأوروبية بعُمق، وأحسّوا بصراع الروح والفكر والسياسات؛ فإنّ النزاع مع الدين ما تجلّى في دستور الدولة أو تنظيماتها كما حدث في فرنسا. بل ظلّت التجربة الأميركية أدنى إلى التجربة الفرنسية في فهم علاقة الجمهور بالشأن العامّ، وأدنى إلى التجربة البريطانية في علاقة الدين بالدولة. وبذلك تَنَاغَم في فهم الولايات المتحدة للرسالة تُجاه العالم الجانبان الثقافي/ الديني، والسياسي/ الدولتي(انظر كتاب طارق متري: مدينةٌ على جبل) أي أنّ المسيحية البروتسانتية الأميركية، والتي أتت إلينا في المشرق حوالي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حملت لواءَ الحداثة السياسية، سواء لجهة إقامة الدولة القومية أو الوطنية، أو لجهة الديمقراطية المباشرة أُسلوباً في إدارة الشأن العامّ في المجتمعات التعددية. وهكذا فقد كان المبشّر الأميركي في لبنان وفلسطين مَثَلاً يأتي فيُنشئ مدرسةً أو جامعةً أو مستشفى أو مركزاً للتدريب المهني، ولا يدعو للمسيحية مباشرةً مثل اليسوعي، بل يغلِّفُها بالحداثتين الثقافية والسياسية؛ فضلاً عن تبيئة الحداثتين بالمؤسسات التي يُنشئُها.

إنّ الذي أقصِدُهُ من وراء هذا الاستطراد أنّ الفتح السياسيَّ الأميركيَّ لعوالم آسيا وإفريقيا بعد الحرب الثانية؛ تحقّق بعد أن كانت العولمةُ الغربيةُ ذاتُها قد تحقّقتْ بالقوة على أيدي المستعمرين الذين كان البريطانيون والفرنسيون أبرزَهم(انظر العولمة الثقافية لجيرار لكلرك)، ثم أتى الأميركيون لتثبيت ذلك بالحُسْنى وبالإغراءات الأصلية للرسالة، والتي بمقتضاها حملت البروتستانتية الأميركيةُ كما سبق القول الحداثة الثقافية والسياسية عنواناً لها أو شِعاراً. كانت الحضارةُ الغربيةُ إذن هي العامّ، أمّا الخاصّ أوالخصوصيات أو الهويات الخاصة فقد كانت لدى الأميركيين بعد الحرب الثانية على ثلاثة أنواع: النوع الأول: الخصوصية أو الخصوصيات الأوروبية، وهذا النوع اعتبرته الولايات المتحدة بمثابة الأخ الأصغر أو الفرع الذي لا حرَجَ فيه ثقافياً أو دينياً؛ وإنما المشكلة في بعض السياسات لدى الأوروبيين، والمتخلفة من أزمنة الاستعمار والإمبريالية. وهذه يمكن تجاوُزُها أيضاً بتدعيم الديمقراطية في القارة القديمة، إذ هي التي تصحِّح المسار، وتتماهى مع الولايات المتحدة في حلف الأطلسي وفي غير حلف الأطلسي.

أما النوعُ الثاني من الخصوصيات؛ فهي الخصوصياتُ المُعادية للحضارة الغربية في الأمرين: القيم الأخلاقية والثقافية، وقيم الحداثة الثقافية؛ ورمزُها يومَها الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه في حلف وارسو والصين. وقد شنّت الولايات المتحدةُ وحلفاؤها على هذه "الهوية المصطَنَعة" حربين لاهوادة فيهما: حربٌ ثقافية، وأُخرى سياسية وأمنية. وقد عُرفَ هذان النزاعان بالحرب الباردة، واللذان انتهيا بسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990م.

أما النوعُ الثالثُ من أنواع الخصوصيات أو الهويات فيتمثل في الهويات المحلية والإقليمية الدينية والإثنية واللغَوية في آسيا وإفريقيا.وقد كانت الولاياتُ المتحدةُ ترى لنفسها التزاماً مزدوجاً إزاءَها: تخليصَها من الاستعمار، وتحقيق الحداثة السياسية بإنشاء الدولة الوطنية، ونشر الديمقراطية، في أرجائها. وقد وفّت لحدٍ ما بالقسم الأول؛ لكنها ما وفّت بالقسم الثاني؛ لأنَّ الخصوصية الثانية شغلتْها عمّا سواها: الصراع مع الاتحاد السوفياتي-وبخاصةٍ أنّ الأيديولوجيا الاشتراكية اجتذبت كثيرين في عالم التحرر من الاستعمار- ثم إنّ الولايات المتحدة ارتأت استخدام هويات النوع الثالث، أي الهويات الثقافية والدينية ضدّ خصمِها الرئيسي هذا بوسائل مباشرة وغير مباشرة.

II

تنبَّه الإحيائيون الإسلاميون(وأنا أقصِدُ بهم هنا بالتحديد أبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب) مبكّراً إلى خطَر " الرسالة" الأميركية وخطورتها من وجهة نظرهم على الهوية الإسلامية. ما كانوا خائفين من استمرار نفوذ الأوروبيين المستعمرين الذين انكسف نجمهم في الصراع العالمي الكبير، بل خافوا من الجاذبية الأميركية الجديدة. الندوي ثم المودودي ركّزا على إذابة أميركا للخصوصيات والهويات ببريقها الوهّاج. وسيد قُطب، في مقالاته عن الولايات المتحـدة، وبعد ذلك، أبرز المعالمَ الأساسية للثقافة والمجتمع في أميركا، والتي لا تختلفُ في وحشيتها وماديتها عمّا عرفه المسلمون في الحضارة الأوروبية الاستعمارية. فالأرضُ الجديدةُ، تتميز في نظر الإحيائيين الإسلاميين الكبار باستثارة الغرائز والحريات المنفلتة من عقالِها. ومشكلةُ المسلمين أنّ الاستعمار الأوروبي استخدم العنف العسكري والثقافي والسياسي لإزالة هويتهم أو إضعافِها فلم يستطع ذلك، وإن يكن قد ترك آثاراً غائرة. والآن تأتي الولاياتُ المتحدةُ لتحقق بالإغراء ما عَجز الآخرون عن تحقيقه بالقوة. ولذلك فالحذَرُ ينبغي أن يكونَ أشدَّ وأكبر.

أما تيارُ الإحياء الإسلامي الذي سيطر على الساحتين العربية والإسلامية في العَقدين الأخرين، فهو في الأصل أحد تيارات العداء للاستعمار في آسيا وإفريقيا، إلى جانب التيار القومي، والمجموعات والميول المحلية. وله نظائرُ في القارتين وفي أميركا اللاتينية منذ مطالع القرن العشرين. وإنما اختلفت المصائر لاختلاف الأصول التاريخية والبيئات والظروف والتطورات. وقد يكونُ من المفيد في سياقاتٍ أخرى إجراء دراساتٍ مقارنة بين تيارات الإحياء القومي والديني في ما عُرف إبّان الحرب الباردة ببلدان العالم الثالث. بيد أنّ الذي يُهمُّنا هنا تيارُ الإحياء الإسلامي أو الهوية الإسلامية. بدأت معالمُ هذا التيار بالظهور في حقبة ما بين الحربين، وفي سائر أنحاء العالمين العربي والإسلامي في مواجهة ثلاث ظواهر: مشكلات التحرر من الاستعمار، ومن ضمنها المسألةُ الثقافية/ الدينية، والمشكلات المتعلقة بقيام الدولة الوطنية أو الحديثة، والمشكلات الناجمة عن إعادة التفكير بالإسلام ومصائره. في المجال الأول، مجال التحرر من الاستعمار أو مقاومة الاستعمار، ظهرت اتجاهاتٌ متعددةٌ لتحقيق ذلك، وكان من ضمنها أولئك الذين فكروا على طريقة رؤى رجالات التنظيمات العثمانية، أي التطوير من ضمن الاستمرارية. بينما كان هناك الثوريون الذين فكّروا وعملوا بطريقة زعيم السَنوسية أحمد الشريف، أي الكفاح المسلَّح لحين التحرر الكامل، أو بالطريقة الخلدونية لعبد العزيز آل سعود: العصبية التي تحمل دعوةً دينيةً وتمدُّ سيطرتَها بالتدريج على ما حولها بالفتح وبالاستيعاب دونما تجاهُلٍ للأوضاع الاستعمارية. وقد كان الوعي العامُّ مؤيّداً للحلَّين السَنوسي والسعودي؛ بيد أنّ الطريقة التي حقّقت أكثر النتائج ظهوراً كانت الطريقة الأولى، التي بدا أنها تتعاونُ مع المستعمرين بشكلٍ ما، وقد أنتج ذلك حالةً من القلق ذي الأبعاد الدينية بعد أن انتهت سنوسيةُ مصطفى كمال(أتاتورك) إلى عكسِها، أي إلغاء السلطنة ثم الخلافة العثمانية، وإقامة دولة علمانية بالكامل. ونتيجةً لانقسامات الوعي هذه ظهرت إشكالياتُ الدولة الوطنية التي بدأت بالتبلْوُر في حقبة ما بين الحربين، والتي أحاطها وعي المسلمين بالكثير من الشكوك، لأنها بدت معاديةً للإسلام، أو أنها مُحايدةٌ إزاءه. ثم إنّ النُخَب الحاملة لمشروع الدولة الوطنية، ذات الشعبية الكبيرة في البداية، كانت فئاتٍ مدينيةً بشكلٍ ما، وما استطاع الريفيون المُقبلون على المُدُن الالتحاق بها، ولا هي استطاعت استيعابهُم وسط مُشكلاتها الكبيرة. وهكذا تجلَّى النوعُ الثالثُ من المشكلات والمتعلّق بالهوية الثقافية، أي بالإسلام- وما اقتصر ذلك على بعض البلدان العربية؛ بل ظهر أيضاً في إندونيسيا والهند وآسيا الوسطى. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تبلور في مجال التفكير الإسلامي تياران: التيار التقليدي، إذا صحَّ التعبير، وهو يتكون من رجالات المذاهب الفقهية، والمعاهد العريقة، والطُرق الصوفية. وهؤلاء ساروا بطريقةٍ أو بأخرى من وراء مشروع التنظيمات، عن تبعيةٍ وليس عن اقتناع؛ لأنّ الدولة الجديدة سلبتهم استقلاليتهم بالاستيلاء على الأوقاف، وسلبتهم أكثر صلاحياتهم الرئيسية في الاشتراع والتعليم. أما التيارُ الآخَرُ وهو الذي سمَّى نفسَهُ إصلاحياً، فقد تبنّى مشروعَ دولة التنظيمات عن وعي، ثم استجدَّ لديه اهتمامٌ بالإصلاح الديني، أي تجديد المشروع الإسلامي بالتساوق مع مشروع تجديد الدولة والشأن العامّ. ولذلك ففي حين ظلَّ التيار التقليديُّ يسعى للتشبُّث ببقايا الاستقلالية عن الدولة وعن التفكير في الشأن العام، ويطيع السلطات دون أن ينضويَ تحت لوائها بالكامل، فإنّ الإصلاحيَّ اعتبر نفسه شريكاً في العملية الجديدة على كل المستويات.

ولذلك فقد وجد الوعيُ المستجدّ القلِقُ نفسَهُ في غُربةٍ قاتلةٍ عن الوقائع الجديدة: الدولة الوطنية التي يبدو أنها سائرةٌ في ركاب التحديث، والتقليد الديني الذي يبدوعاجزاً عن مُساوقة التطورات، والإصلاح الديني الذي يبدو سائراً في ركاب الحداثة الاستعمارية. ومن هنا فقد حدثت أزمةٌ في وعي كثيرٍ من الشبان المتدينين الذين نبذوا التقليد العاجز، وتشككوا في الإصلاحيين الذين اعتبروهم متغربين، وانصرفوا لأمرين: نقد الحداثة الغربية ومن ضمنها الدولة الوطنية؛ وبخاصةٍ أنّ الحركة الوطنية وقتَها انفصلت تدريجياً عن رجالات الإصلاح الإسلامي، لاستقلال المجال السياسي الجديد، وفي المشرق العربي قبل المغرب العربي. والأمر الثاني: بناء وتنظيم النموذج الإسلامي، من طريق الجمعيات، التي اهتمت بالمسائل التربوية فالعَقَدية أو العَقَدية فالتربوية. وفي الأربعينات من القرن العشرين كانت الإحيائية الإسلامية قد تبلورت في تيارين: الإحيائيين الأُصوليين، والإحيائيين السَلَفيين. الأُصوليون أعطوا الأَولوية للمسائل الثقافية والرمزية والتنظيمية، والسلفيون اهتمُّوا أو أعطوا الأولوية للمسائل العَقَدية والشعائرية. وفي حين تأخر السلفيون في الاهتمام بالشأن العامّ، وانصبَّ تركيزُهُم على الطهورية الفردية والشعائرية بحكم البيئات التي ظهروا وازدهروا فيها – انصرف الأصوليون لبناء المنظمات الجماهيرية، وتبنَّوا اتجاهاً راديكالياً في حلّ المسألة الوطنية، أي أنهم اتجهوا للتصادم مع الدولة الوطنية بشكلٍ مباشر. وهناك لحظتان أساسيتان شكّلتا نقطةً فاصلةً أو لحظة افتراقٍ لدى الإحيائيين الأصوليين بالذات، وفي العالم العربي، والعالم الإسلامي: قيام دولة باكستان عام 1947م بالنسبة للإسلام الهندي والأسيوي، وضياع فلسطين عام 1948م ومقتل حسن البنا عام 1949م بالنسبة للأصوليين العرب. آباءُ فكرة باكستان إحيائيون مسلمون أيضاً، لكنهم وتحت تأثير أجواء الثقافة السياسية البريطانية، نظروا لانفصال باكستان عن بقية أجزاء الهند، باعتباره تحويلاً للإسلام إلى ما يشبهُ الهوية القومية، شأن كلّ الأقليات. وهكذا فهم أدنى للإحيائيين القوميين منهم للإحيائيين الدينيين أو الإسلاميين. وما قبل ذلك الندوي والمودودي وآخرون من الإحيائيين الأصوليين، الذين رأوا أنّ الكيان المنفصل ليس كافياً لإقامة دولةٍ إسلامية؛ بل لا بُدَّ من دستورٍ أساسُهُ الشريعة الإسلامية، لكي تكونَ الدولةُ إسلامية. أما الإسلاميون العرب فقد رأَوا في ضياع فلسطين ثم في مقتل زعيمهم دليلين آخَرين على المؤامرة الكبرى على الإسلام، والتي لا بُدَّ من مواجهتها بإقامة الدولة الإسلامية التي تطبِّق الشريعة. وفي الحالتين ازداد تأزُّمُ الوعي لدى تلك النُخَب، وحدث الصراع بين الإحيائيين الإسلاميين، والإحيائيين القوميين، والذي استمرت وقائعُهُ وأحداثُهُ حتى السبعينات من القرن العشرين. وتأخّر الصراعُ بين الطرفين في المغرب العربي وفي إندونيسيا حتى النصف الثاني من الستينات لاختلاف المشكلات، ولأنّ النُخَب الوطنية والإسلامية ظلّت تعملُ معاً في مواجهة الاستعمار.

III

تجوَّل الكاتب الترينيدادي ذو الأصل الهندي "س.نايبول"، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998م في بلدان شرق وجنوب شرق آسيا بين العامين 1979و1981م، ثم أصدر كتابَهُ المعروف: " بين المؤمنين" أو " في مجتمعات المؤمنين" – وفيه استظهر وجودَ اهتمامٍ كبيرٍ لدى المسلمين بخصوصيتهم بشكلٍ طُهوريٍ مُبالَغٍ فيه. ومع علمه بأنّ تلك المجتمعات تعددية ومختلطة منذ القديم، رأى أنَّ المسلمين على الخصوص مهتمون أكثر من الصينيين والهندوس مَثلاً بهويتهم الدينية والثقافية الخاصة حتى في المجتمعات التي يشكّلون فيها أكثرية. وقد رأى أنّ ذلك يعود إلى أنَّ الإسلامَ بطبيعته –فيما يبدو- دينٌ شعائريٌّ متشدّد يقول بالانفصال والتغاير أو المُغايرة القوية بين المؤمنين وغيرهم؛ حتى أولئك الذين يعترفُ بهم القرآن ويسميهم أهلَ الكتاب؛ ثم تسَاءل عن حقيقة هذه الخصوصية التي يُصرُّ عليها المسلمون من سائق التاكسي وإلى الأستاذ في الجامعة؟! وفي العام 1990م قرأتُ مقالةً لنايبول نفسه يعلّق فيها على قضية سلمان رشدي والفتوى الصادرة عن الخميني عام 1987م بقتله. وقبل أسبوعين عاد نايبول فعلّق تعليقاً مشابهاً على هياج المسلمين إزاء قضية الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

فيما بين العامين 1947 و1981م صارت الإحيائيةُ الإسلامية اتجاهاً جماهيرياً واسعاً وغلاّباً، وما عادت أزمةً في وعي النُخَب المتدينة وحسْب. وقد أطلق الإسلاميون على هذه الموجة اسم: الصحوة الإسلامية؛ بينما درسها برنارد لويس تحت عنوان: عودة الإسلام. وليس من السهل في هذه العُجالة تقديم استعراضٍ واسعٍ لظواهر الصحوة ومظاهرها، وعلائقها بفكر الهوية والخصوصية وممارساتهما. لكنْ يمكن إيجازُمستجداتهاوأفكارها الرئيسية في نقاطٍ موجزة:

أولا: يعتبر الوعي الإسلامي العامُّ أنّ الدينَ في خَطَر، ولذلك لا بد من مواجهة هذا الخَطَر من طريق الالتزام الشخصي أو الفردي، ومن طريق الالتزامات والمظاهر العامة.

ثانياً: التأصيل هو المنهج العامُّ للالتزام لدى العامة ولدى المتخصّصين، وهو يقومُ عموماً علىالتمسك بالكتاب والسنة. وهذا يعني لدى العامة التمسُّكَ بالمظاهر والشعائر الإسلامية. ولدى المتخصّصين الاحتكام في الحياتين الشخصية والعامة للقرآن والسنة، دونما اعتبارٍ كبيرٍ للتجربة التاريخية التي لهم عليها مآخذ كثيرة أهمُّها التقليد وعصور الانحطاط والافتراق عن الإسلام الصحيح.

ثالثاً: تقوم الشرعية الكاملةُ لدى الإسلاميين على الاقتران الوثيق بين العقيدة والشريعة وبين الدين والدولة. و هكذا فإنه في وعي المعتدلين منهم أو أتباع التيار الرئيسي: هناك منهجٌ إسلاميٌّ كاملٌ في شتى مناحي الحياة العقلية والشعورية والمادية. ومن جوانب هذه المنهج ضرورةُ أن يكونَ النظامُ السياسيُّ أداةً بيد الدين من أجل اكتمال تطبيق المنهج.

رابعاً: يتساوى في اعتبار هذه الأُسُس الإحيائيون السنة والإحيائيون الشيعة. بيد أنَّ السنة يركّزون على الشريعة، بينما يشخصنُها الشيعةُ في الولي الفقيه. لكن هناك فرقاً آخر يتمثل في مصائر المرجعية الدينية أوالمؤسسة الدينية التقليدية لدى كلٍ من السنة والشيعة. المراجع الشيعةُ الكبار انضموا في أكثرهم إلى الإحيائية الشيعية وقادُوها، ولذلك هناك نوعٌ من الاستمرارية ما توافرَ لدى السنة. فالمرجعيةُ السنية المذهبية تحطمت لعدة أسباب: أنها في الأصل ضعيفة، وأن الإصلاحيين صارعوها طويلاً وحلّوا محلّها في كثيرٍ من المؤسسات، وأنَّ الدولة الوطنية استتبعتها أو ألغتها فسهل على الإحيائيين الحلولُ محلَّها أو محاولةُ ذلك.

خامساً: فكرُ الهوية والخصوصية هذا فكرٌ عقائدي، أي أنه يهتم كثيراً بالرموز ولا يستطيع الاستغناء عنها. ثم إنه لا يقبلُ التسويات وأنصاف الحلول، ولذلك ليس هناك في الحقيقة تفرقةٌ بين معتدلٍ ومتطرف؛ بل بين عقائديٍ عنيف وآخَر غير عنيف. والإسلامُ السياسيُّ هو التيارُ الرئيسيُّ غيرُ العنيف، أي الذي يقولُ بالدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة من طريق الوسائل غير الدموية. ولا مانعَ لدى غير العنيفين من أهل الإسلام السياسي تسمية ذلك ديمقراطية أو ديمقراطية إسلامية أو شورى. لكنّ الانتخاب والاقتراع يظلان واجباً شرعياً أو تكليفاً شرعياً.

* * *

ولنعُد إلى سؤال نايبول: هل هناك " خصوصيةٌ " إسلامية؟. الجواب: "نعـم ولا". "لا"، لأنّ هذه الظواهرَ والمقولات حديثةٌ كلُّها. فأكثرُ الإحيائيات الإسلامية القديمة صوفية أو روحية. وحركة ابن تيمية السلفية تكادُ تكونُ خاصة، ولا تمثّل تياراً جماهيرياً. ودعوات العودة لسيرة السلف الصالح كانت في الأغلب الأعمّ دعوات فقهاء معارضين، شأنهم في ذلك شأن ُدعاة الشورى من المعارضين السياسيين. وكانت هناك مقولاتٌ ثابتةٌ تربطُ العملَ بالإيمان، لكنها لا تكفّرُ تاركَ العمل ولا تُخرجُهُ من الجماعة. وكانت العلاقةُ بين الدين والدولة مُشكلةً، لكنّ الإمامة كانت اجتهاديةً وليست من العقديات أو التعبديات؛ بينما هي في فكر الهوية الإسلامية المعاصرة عَقَدية أو أنها جزءٌ من هوية المسلم أو اعتقادة.

وهناك إجابةٌ ممكنةٌ بنعم، أي أنّ الخصوصية الإسلامية موجودة، مقارنةً بالأديان والمذاهب الأُخرى. فهي الإحيائيةُ الوحيدةُ في العالم التي يقولُ تيارُها الرئيسي بالدولة الدينية؛ رغم وجود اجتهاداتٍ أُخرى.

وقد سبق القولُ أنّ الإحيائيات القومية والدينية موجودةٌ في كلّ الثقافات الحديثة والمعاصرة؛ فلماذا حدث الصدامُ بين الإحيائية الإسلامية والعالم، دون الإحيائيات الأُخرى؟! الذي أراه أنّ ذلك حدث لثلاثة أسباب: التجربة السياسية العربية والإسلامية في العالم المُعاصر، والأوضاع الجيواستراتيجية، والرسالية القوية والغازية للبروتستانتية الأميركية. فالدولةُ الوطنيةُ العربيةُ ما استطاعت تحقيق الهدفين اللذين اُنشئت من أجلهما الكيانات: صون المصالح الوطنية الكبرى، وتحسين شروط حياة الناس بطريقةٍ محسوسة. والسببُ الثاني: الوضع الاستراتيجي المهمّ للعالم الإسلامي والمنطقة العربية، بالثروات البترولية الكبيرة، وبالممرات الاستراتيجية الهائلة الأهمية. والسببُ الثالث: انضمامُ الإحيائية البروتستانتية الجديدة إلى المعنى الآخَر للرسالية الأميركية؛ بحيث تصادمت الأصوليتان.

وأخيراً: ما علاقةُ الخصوصية بالتبعية؟ لا علاقة بينهما أصلاً. لكنّ التبعية المفرطة يمكن أن تُسهم في دفع المستتبعين باتجاه خصوصيةٍ متمردة. بيد أنّ عقائدية الهوية لدى العرب والمسلمين، ما كان يمكن أن تتحول إلى تيارٍ زاخرٍ لولا الأسبابُ االثلاثة السالفةُ الذكر: التجربة السياسية المؤسية، والوضع الاستراتيجي للعالمين العربي والإسلامي، وتعمْلُقُ الإحيائية البروتستانتية الغازية.

*********************

*) مفكر وأكاديمي من لبنان، ومستشار تحرير مجلة التسامح.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=276

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك