قاعدة التسامح مع الآخر: نحو فهم تنويري داخل الإسلام

قاعدة التسامح مع الآخر: نحو فهم تنويري داخل الإسلام

تركي علي الربيعو*

على مسار تاريخ طويل من فجر الإسلام وحتى اللحظة المعاصرة، ظلّت الآية القرآنية الكريمة(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) تثير الكثير من الإشكال كما نقول بلغتنا اليوم، وتدفع باتجاهين، إما التسامح مع الآخر بكل صنوفه وأشكاله، لأن المرجعية في النهاية لله "إلى الله مرجعكم جميعا" أو إلى القوامة عليه وفرض الدين عليه بالقوة كما تذهب إلى ذلك بعض التأويلات الجديدة، وأخص منها بالذكر تأويل سيد قطب في "ظلال القرآن" الذي سنقف عنده، بوصفه الوحيد الذي أشاح بوجهه عن التفاسير القديمة، وعن المناحي التي ذهب إليها المفسرون، قاطعا معها ومحمّلاً الآية الكريمة من الحمولات الإيديولوجية الكثير، والتي من شأنها تقسيم العالم إلى دارين وفسطاطين، دار الإيمان ودار الشرك، وحيث لا يستقيم الأمر إلا بفرض القوامة على الآخر وإهدائه إلى سواء السبيل.

نتعرض في كتابتنا لأمور أربعة:

الأول: ويبحث في الإشكاليات الفكرية والدينية التي أثارتها الآية الكريمة على صعيد بعض المفسرين، القدماء منهم والمحدثين.

الثاني: ويتناول الحمولة الذهنية والإيديولوجية التي حمّلها بعض المؤولين الإسلاميين المعاصرين للآية الكريمة من رؤية متطرفة تقود إلى مسارات ضيقة في علاقة الأنا بالآخر.

الثالث: يعرض النتائج التي نجمت عن هذا التفسير/ الفتنة.

أمّا الرابع: فيحكمه التساؤل: كيف السبيل إلى فهم وفعل تنويريين ينهضان على قاعدة التسامح مع الآخر وتجاوز المعادلات المستحيلة الحل.

أولاً: في التأويلات الفكرية والدينية للمفسرين القدماء وبعض المعاصرين

يورد الطبري في "جامع البيان في تفسير القرآن" أكثر من تأويل وأكثر من واقعة تشهد على اختلاف التأويل، فبعضٌ، من الصحابة -رضوان الله عليهم- فهمها على أنها رخصة تريح المسلم من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1). وآخرون -ممن أشكل عليهم تأويلها- قاموا بإرجائها إلى زمن لاحق، فقد قيل: إن "تأويلها آخر الزمان"(2) وقيل: "إنها خاصة الله تلك التي خص بها أولياءَه"(3) وقيل: إنها لدرء الفتنة "عليك بخويصة نفسك وذر عوامَّهم" حيث حضورُ العوامِّ شاهدٌ على الفتنة كما يرى الإمام الغزالي لاحقا(4). على أن الطبري الذي يتحفنا بفضائله الكثيرة عن التأويلات التي يوردها في تفسيره، يرى أن التأويل الصحيح للآية هو ما أورده وفيه: "وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية ما روى عن أبي بكر الصديق فيها وهو﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ أي ألزموا العمل بطاعة الله وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضلّ إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله وأديتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد ومنعه منه، فأبى النزوع على ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا اهتديتم وأديتم حق الله تعالى فيه، وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب؛ لأن الله تعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويتعاونوا على البر والتقوى والأمر بالمعروف وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ولو كان للناس ترك ذلك لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ترك ذلك وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة فيكون من خصاله تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه"(5).

ويسير ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" على خُطَا الطبري وسنَن من سبقوه، ويورد معظم التأويلات والتفسيرات، فالآية الكريمة "ليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(6)، ولكنه يحكي تلك الحادثة المروية عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عندما أتاه رجل "جليد العين شديد اللسان" فقال له: يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم بالشرك؟ فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، إنما أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديثَ، فقال عبد الله: لعلك ترى -لا أبا لك- أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم، عظهم وانههم، وإِن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله -عز وجل- يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾(7). فالحادثة هنا دالة على التسامح وعلى التزام الحذر والحيطة واتقاء الفتنة والنهي عن تغيير المنكر ما أمكن باليد، فابن عمر لا يرخِّص لذلك الرجل "جليد العين شديد اللسان" أن يقوم بمبدأ الحسبة ليهدر دم أولئك النفر الستة، إنه يلمح ملامح الغلو في الدين عند بعض المسلمين وميلهم إلى تكفير المسلمين فيسارع إلى تحريم ذلك لأن الأولى هو النصح والتبيين، فالمسلمون يجب أن يكونوا هداة وليسوا قضاة.

يؤكد الطباطبائي في "تفسير القران" أن الآية المذكورة "لا تخلو من غور عميق"(8). فعلى المؤمن "أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يُهَزْهِزُهُ ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم، فالحق حق وإن تُرِكَ والباطل باطل وإِنْ أُخِذَ به"، ويضيف: "على المؤمن أن يدعو إلى الله على البصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه"(9). على أن الأهم هو تفسيره لقوله تعالى: ﴿لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ "أنه يراد بهم أنهم -أي المسلمين- في أمن من أضرار المجتمعات الضارة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة"(10).

تفسيرات المعاصرين

في الجزء الأول من تفسيره التوحيدي، يذهب حسن الترابي إلى القول: "بأن الآية الكريمة تلك -لا يضركم من ضل إذا اهتديتم- جاءت في سياق العلاقة مع المشركين، فالخطاب موجه للمسلمين الذين عليهم أن يلزموا أنفسهم الهدى، وألاَّ يتأثروا بمواقف المشركين الذين تعصبوا لميراث آبائهم بغير علم ولا هدى ولا حجة ولا عقل، وألا يبالوا بذلك ما حفظوا أنفسهم استقامة على الهدى ودعوة ونصحا وأمراً بالمعروف. فإنّ من اهتدى وبلغ لا يضره ضَلاَلُ مَنْ ضَلَّ. ومهما يظهر من قوم اتبعوا آباء سلفوا أو وعظهم الهداة ولكنهم ركبوا الضلال فالخطاب للمؤمنين المهتدين: إنكم جميعا أنتم وهم -سترجعون إلى الله يوم القيامة ليجد من اهتدى نبـأه عند الله ثوابا في الجنة ويجد من ضل عذابا في النـار"(11).

وَحْدَهُ سيد قطب -الذي قدمنا عليه الترابي- بهدف الوقوف على تفسيره، لما يمثله من مرجعية تفسيرية للكثير من الحركات الإسلامية المعتدلة منها والراديكالية التي جاهرت في قتالها للعدو الأقرب، ثم آثرت الانتقال من مجاهدة العدو الأقرب إلى مجاهدة العدو الأبعد. إنه وحده يرفض التفسيرات التي يمكن لها أن تعفي الضعاف من المسلمين من تعب الجهاد ومشاقِّه، فنحن اليوم أحوج إلى التصحيح كما يقول والسير على الطريق القويم الذي سلكه السلف الصالح، ففي تفسيره للآية الكريمة المذكورة أعلاه ينشئ سيد قطب استقطابا حادا بين الجماعة المسلمة المؤمنة المتكافلة والمتضامنة وبين من عداها، وهو يسميه بـ"التمييز والمفاصلة" فالمسلمون منفصلون عن سواهم "وحدة منفصلة"، متضامنون متكافلون فيما بينهم، وفي تفسيره الذي يقطع مع ما عداه يقودنا سيد قطب إلى الآتي:

أولا: "أَنّ الأمة المسلمة هي حزب الله، ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان. ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن؛ لأنه لا اشتراك في عقيدة، ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة، ولا اشتراك في تبعة أو جزاء".

ثانيا: "على الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها، وأن تتناصح وتتواصل، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئاً أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى".

ثالثا: "لا يعني ذلك أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس، فعليها أَنْ تدعوَ الناس كافة، وأن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم، ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم".

رابعا: أن الأمة المسلمة قَوَّامة على نفسها أولا من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقَوَّامة على البشرية كلها أخيرا كما يقول سيد قطب، وهنا تكمن المحنة التي لم يدرك نتائجها إلا القليل من قادة الحركات الإسلامية لاحقا وبعد أن جلبت على الأمة الكثير من الكوارث(12).

في تفسير قطب أن الضلال نوعان، ضلال الأفراد وهؤلاء يمكن الحديث معهم بالحسنى والإرشاد والإنارة بحسب تعبيره، وضلال القوى الباغية التي تصد الناس عن الهدى وهذه لا بد من مجاهدتها بالقوة. وفي رأيي أنه يمكن موضعة الخطاب القطبي في المتن من ميثولوجيا دينية عريقة يسميها عالم الأديان "مرسيا إلياد" بالكوسموغونيا الدينية، التي تتفرع عنها كوسمو غونيا سياسية. إن سيد قطب يحلم ببناء قوة سياسية دينية كبيرة، هذا الحلم هو الذي يدفعه إلى موقعة الجماعة الإسلامية، والأمة الإسلامية في مركز الكون وهو عمل ميثولوجي محض وليس هذيانا سيكولوجيا كما يحاول أن يقنعنا هواة التحليل النفسي، ممن يسوقون التحليلات السريعة والعجلى من حول الحركات الإسلامية، وهذا جزء كما أسلفت من الكوسمو غونيا الدينية، فالغاية من المركز في معظم الميثولوجيات أن يكون نقطة انطلاق وبوابة صعود(إسراء) إلى السموات، لنقل إلى الحقيقة المطلقة، وبحسب الميثولوجيا الدينية إلى زمن الإنسانية اللاتاريخي الذي لم تَشُبْهُ شوائب التاريخ، لاستلهامه وإعادة إحيائه وتحيينه بوصفه نموذجا بدئيّاً وأزليّاً لا يمكن مقارنته بأي نموذج تاريخي، لذلك ليس غريباً على قادة الجماعات الراديكالية في عقد الثمانينات من القرن المنصرم أن يهاجروا إلى الجبال العالية وإلى المناطق المعزولة للتشبه بالنموذج البدئي والأولي الذي شكل لهم عاصما ممّا يمكن تسميته بـ"زمن الإنسانية التاريخي" الذي أطاح بـ"الأنماط الأصلية" التي تشد الرحال إليها، وهذا ما ألحت عليه الجماعات الإسلامية في معظم أدبياتها، من أن الهدف هو أن يعيش الشباب في زمن المجتمع الإسلامي الأول(13). وهذه حالة بنيوية عرفتها جميع الأديان والثقافات ولم يكن حصرا بالدين الإسلامي وقد يصلح لأن يكون مدخلا إلى فهم الظاهرة الأصولية على صعيد عالمي(14).

لا يقبل هذا التفسير الذي استلهمته الكثير من الحركات الراديكالية الإسلامية الجهادية بأقل من مجاهدة "القوة الباغية" وإعادتها إلى جادة الصواب والرشاد، فهو لا يعفي المسلم من الجهاد و المجاهدة على الرغم من مشقتها، والسؤال: ماذا ترتب ويترتب على هذا التفسير الذي يمهد إلى ما يمكن تسميته بالغلو في الدين والغلو في التفسير معا؟ وماذا جلب على الأمة الإسلامية التي يتصورها الخطاب الراديكالي "كأمَّة منفصلة" عما عداها من أمم الشرك وأمم الجاهلية".

أولاـ أن هذا التفسير يضع الأمة في مواجهة مع بقية العالم. أضف إلى ذلك أن القوامة تجعلنا قَيِّمين على أفكار الناس وأعمالهم، نستحسنها أو نستعجبها أو نستقبحها ومن ثم تفرض عليهم أن يفكروا كما نريد ويتكلموا كما نستحسن، وهو ضرب من التفكير البدئي عن العالم المعاصر الذي تنقصه الخبرة البصرية والمعرفة الحقيقية بالتحولات التي طالت العالم. أضف إلى ذلك أن هذا التفسير يمهد حقيقة إلى تقسيم العالم إلى دارين وفسطاطين، دار الإيمان ودار الكفر، دار الهدى ودار الضلال، دار الإسلام ودار الجاهلية، فالآخرون في الجاهلية التي كتبت عنها أنهرا من البلاغة(15)؛ لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله، وكلمة "الآخرون" تشمل كما هو معروف الآخر القريب والآخر البعيد، أضف إلى ذلك أن هذه القوامة لا تمهد للحوار مع الآخر أو الاستفادة من هديه وتجربته، فهي لا تنشد النهضة مع الآخر، وإنما تؤكد أن النهضة لا تتحقق إلا بتبعية الآخر لنا وسيره على خطانا. إنها المعادلة المستحيلةُ الحلِّ التي لا تتصور إمكانا للنهضة إلا بتغييب الآخر، وهي المعادلة التي انتقل تأثيرها من التفسيرات الإسلامية المتشنجة إلى الرحاب الحديثة للميثولوجيا المفلسفة حيث لا يتصور إمكانا لنهضة الأمة الإسلامية إلا بانحدار الغرب، وهذا ما يفسر كل هذا الولع الفكري بمقولة انحطاط الغرب، كذلك مقولة إفلاس الحضارة الغربية التي تلقى صدى واسعا في خطابنا المعاصر كما تترجمها الكثير من الكتابات(16).

ثانيا- أن الله قد أوكل إلينا مهمة فريدة تتمثل في فرض دينه على الجميع، على المجتمع والمنطقة والعالم، ومع أن الآية الكريمة مضمرة بالدعوة إلى معرفة النفس البشرية وما جبلت عليه "من عرف نفسه عرف ربه" كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعرفة حجمها ودورها، لكي لا تنوء بمهمة هي اكبر من طاقتها، خاصة وأن الراديكاليين لا يقبلون من المسلم بأقل من مجاهدة القوة الباغية والغاشمة حتى ولو كان في عقر دارها، كما تمثل في أحداث الحادي عشر من أيلول التي جلبت على الأمة من المضار أكثر من كل المنافع التي توقعها فاعلوها(17)؟

ثالثا- أن فهمنا اللاحق للدين كما يتجلى في تفسير سيد قطب للقرآن الكريم للآية السابقة هو عين الصواب وحقيقة الدين وكل ما يخالفه باطل وضلال، وهذا ما يفسر ذلك الخلاف وشِدَّتَهُ بين الجماعات الإسلامية الراديكالية وبين المؤسسة التقليدية كالأزهر مثلاً فقد كان الخلاف هو القاعدة، وكان الراديكاليون الإسلاميون يضيقون ذرعا بالتفسيرات التقليدية لشيوخ الأزهر، الذين كانوا أعلم منهم بالدين، وأعلم منهم بالجهاد وأصوله(18).

رابعا ـ أنه يمكن فرض الدين الإسلامي بالقوة والإكراه، وهذه كانت ذروة المراهقة الفكرية والسياسية عند بعض قادة الجماعات الإسلامية التي انخرطت في إطار موجة التكفير والتخوين(19)؟ كيف السبيل إلى فهم تنويري ينهض على قاعدة التسامح مع الآخر؟

في رأيي أن الآية القرآنية الكريمة "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" تصلح لأن تكون شعارا نهتدي إليها ونهتدي بها، فالآية الكريمة تنهض على قاعدة التسامح مع الآخر، وقاعدة التسامح كما هو معروف هو قاعدة التنوير والديمقراطية معا؛ لأن الديمقراطية بأبسط تعاريفها -كما يقول الفيلسوف الفرنسي آلان تورين- هي الاعتراف بالآخر، الآخر القريب الذي تعزز به لحمة الجماعة والمجتمع كذلك، والآخر البعيد الذي لا يمكن للنهضة المرتقبة أن تتحقق بعيدا عنه أو بغيابه كما ترى بعض الخطابات الإسلامية المتطرفة. من هنا تتأتى أهمية الحاجة إلى ما سمّاه أحدهم بـ"الحلف التنويري"(20) الذي يجمع كل الغيورين على هذا الدين وعلى مستقبل الأمة، والذي من شأنه أن يقود إلى فهم جديد أساسه التسامح والاعتراف بالآخر، والأهم القطيعة مع اتجاهات الغلو والتطرف التي سادت بعض خطابات الإسلام السياسي وقادت إلى نتائج لا تحمد عقباها، بخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وما جَنَتْه على الأمة. وما يلفت النظر ويبشر بالخير، في العقد الأخير من القرن المنصرم وبداية الألفية، هي بروز عدة اتجاهات:

الأول: ويقوم بمراجعة جذرية لطروحات الغلو والتطرف داخل الخطاب الإسلامي التي لا تنهض على قاعدة التسامح، فانتهت إلى ساحة الأزمة وعادت وبالا على القائمين بها، مراجعة طالت الكثير من المفاهيم والمقولات كمفهوم الحاكمية والجاهلية ومقولة إفلاس الحضارة الغربية التي عزف عليها البعض من المفكرين الإسلاميين المضمر خطابهم بتجهيل الغرب.

الثاني: ويدعو إلى تجديد ديني ينهض على قاعدة من التسامح والتنوير والتواصل مع الآخر، وينهض على قاعدة من المصالحة بين الدين والدولة(21)، بصورة أدق، الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، بحيث لا تنحصر وظيفة الدولة كما يرى الإسلاميون الراديكاليون الذين يطمحون إلى السيطرة على الدولة بهدف أسلمة المجتمع.

الثالث: يتحدث عما سمي بـ"ما بعد الأصولية" والذي يراهن على ما سمي بالإسلام التنويري الذي ينهض على قاعدة التسامح، " فقد فشل المشروع الأصولي من وجهة نظر كثير من الباحثين، فشل فشلاً ذريعاً في حل مشاكل المجتمع، والنتيجة لهذا الفشل كما يرى عديدون هي بروز تيار إسلامي عقلاني مستنير في العالم العربي الإسلامي –وإن كان محدوداً-، من شأنه أن يكون ردّاً حضارياً وعقلانياً على موجة الأصولية التي أغرقت العالم بالعنف.

كان جمال البنا، و في أواسط عقد التسعينات من القرن المنصرم، قد بشّر بدوره بمرحلة جديدة في سياق الدعوة الإسلامية، سمّاها بمرحلة "ما بعد الإخوان المسلمين" كما يشهد على ذلك كتابه الموسوم بذلك والصادر في العام 1996م(22)، فمن وجهة نظره أن التطورات الحاصلة في العالم و في العالم العربي الإسلامي، تمهد إلى تجاوز تلك المرحلة المتميزة على حد تعبيره من تاريخ الإخوان المسلمين، وتبشر بـ"ميلاد جديد" لدعوة إسلامية تمثل نقلة نوعية في تاريخ حركة الإخوان المسلمين وحركة الإسلام السياسي عموماً؟

هذا الميلاد الجديد، يبني عليه حسن حنفي آمالاً عريضة، ففي كتابه "في الثقافة السياسية: آراء حول أزمة الفكر و الممارسة في الوطن العربي، 1998م حيث يرى حنفي" أن أهم تيار في مرحلة ما بعد الأصولية هو الإسلام المستنير، الذي يقبل التعددية وشرعية الاختلاف و الخلاف في الرأي، و يقبل أساليب العمل الديمقراطية ويحتكم إلى الرأي العام و صناديق الاقتراع، ويؤمن بالتعددية السياسية وبتعدد الأطر النظرية، ويقر بأنه ليس وحده في الشارع السياسي(23).

من الواضح أن حنفي يقوم بالتمييز بين الأصولية و ما بعد الأصولية، على غرار الحداثة و ما بعد الحداثة، ولكن هذا التميز الذي يبشر بمرحلة جديدة، بمرحلة ما بعد الأصولية، لا يجنح باتجاه الإيديولوجيات السائدة(الإعلامية والحداثوية) التي تصور الأصولية على أنها مصدرٌ لكل الشرور، فمن وجهة نظره أن "الأصولية ليست مجرد ظاهرة وقتية وهامشية يمكن القضاء عليها بأجهزة الأمن والشرطة بل والجيش أحياناً، بل هي ظاهرة تاريخية من منظور أعم"(24)، ولكنها قد استنفذت أهدافها من خلال تقوقعها ومحافظتها، إنها ترث ألف عام من المحافظة الدينية وأحادية النظرة والتصور الإطلاقي للحقيقة الذي يرفض التعددية والحوار والنسبية تحت تأثير حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم. من هنا فإن "ما بعد الأصولية" يعني الدخول في تحدٍّ فكري للظواهر المكونة للأصولية، ولظاهرة العنف التي تسمها، ويعني القبول بالتعددية الثقافية والسياسية(25).

ما يجمع الكتابات والاجتهادات هذه -هو أنها قد صدرت جميعها، قبل أحداث الحادي عشر من أيلول الدامي، وهذا ما يكسبها قيمة ومصداقية. إن ما يجمع البناء وحنفي، هو رهانهما، على تزايد المعتدلين داخل الحركات الإسلامية التي توسم بالتطرف، والذي من شأنه أن يرجح من كفة الاعتدال والمصلحة داخل الفئات المدنية على حساب التيار المتطرف. والمتابع لما يجري من تحولات داخل الحركات الإسلامية، يلمح انقساماً داخل الإجماع الأصولي الذي غذّى هذه الحركات في العقود المنصرمة من القرن العشرين، والذي قاد إلى استشراء العنف في الكثير من البلدان العربية والإسلامية. من هنا مصدر إيمان بعض الباحثين وبَشيرهم بمرحلة جديدة يدركون أن مسارها وعر وأن ولادتها عسيرة، ولكنهم يجعلون منها معركة على الأجيال الإسلامية أن تخوضها.

وفي رأيي أن الرهان على تيار "ما بعد الأصولية" و إن لم يتبلور بعد، على استنارته وتفتحه، يظل هدفاً نسعى جميعاً للوصول إليه، وذلك بهدف تجاوز الأزمة الراهنة والمستفحلة التي تمر بها الأمة، وبهدف وضع حد لساحة العنف التي مزقتها.

*********************

الهوامش

*) كاتب و أكادسمس من سوريا.

1- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار المعرفة، 1986م/1406هجرية)الجزء الخامس ص62.

2 - الطبري، المرجع نفسه، ص62.

3 - الطبري، المرجع نفسه، ص63.

4 - الغزالي، إحياء علوم الدين، فصل خاص بعنوان "إلجام العوام عن علم الكلام"؟.

5 - الطبري، المرجع السابق، ص65.

6 - أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار المفيد، 1983م/1403هـ، المجلد الثاني، ص102.

7 - ابن كثير، المصدر نفسه، ص102.

8 - محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1997م/1417هـ، الجزء السادس، ص161.

9 - الطباطبائي، المصدر نفسه، ص162.

10 - الطباطبائي، المصدر السابق، ص163.

11 - حسن الترابي، التفسير التوحيدي، بيروت، دار الساقي، 2004م، الجزء الأول، ص552.

12 - سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة، دار الشروق، 1992م/1412هـ، المجلد الثاني، ص992.

13 - منتصر الزيات، الجماعة الإسلامية: رؤية من الداخل، القاهرة، دار مصر المحروسة، 2005م.

14 - أسماء العريف بياتريكس، الآخر أو الجانب الملعون، صص89-98، ضمن كتاب "صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظورا إليه، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999م.

15 - محمد قطب، جاهلية القرن العشرين وهو الكتاب الأكثر شهرة والذي ألهم الكثير من الحركات الراديكالية الإسلامية مفهوم الجاهلية الذي استفاض سيد قطب في شرحه، انظر: الزيات، المصدر السابق ص34.

16 - محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، بيروت، دار الجديد، 1998م.

17 - انظر: منتصر الزيات، أيمن الظواهري كما عرفته، القاهرة، دار مصر المحروسة، 2002م.

18 - منتصر الزيات، رؤية من الداخل، ص41.

19 - سيد عطاء الله مهاجراني، التسامح في الإسلام، ترجمة سالم كريم، بيروت، دار الريس، 2001م، وهو كتاب جميل ورائع في مضمونه، وانظر الزيات، المصدر السابق، ص34.

20 - عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2001م، ص87.

21 - رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والسلطة، بيروت، دار الكتاب العربي، 1997م، ص359 وما بعدها، والذي يبحث في "الدين والدولة: إشكاليات الوعي التاريخي".

22 - جمال البنا، ما بعد الإخوان المسلمين، القاهرة، دار الفكر الإسلامي، 1996م وانظر الحوار مع الباحث الفرنسي جيل كيبل، حوار ما بعد الأصولية، الشرق الأوسط20/10/2002م.

23 - حسن حنفي، في الثقافة السياسية: آراء حول أزمة الفكر والممارسة في الوطن العربي، دمشق، دار علاء الدين، 1998م، ص286.

24 - المصدر السابق، ص286.

25 - منتصر الزيات، رؤية من الداخل، ص52.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=263

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك