الحرية الدينية في الإسلام

الحرية الدينية في الإسلام

عبده الفيلالي الأنصاري*

عندما نجدُ مثل هذا العنوان: الحرية الدينية في الإسلام، يكون علينا فوراً أن نُشير إلى الارتباك الذي يُثيرُهُ. فالإسلام مصطلحٌ يُستعملُ اليوم بطرقٍ كثيرةٍ لا ضوابطَ عليها. فهو يشير مرةً واحدةً إلى دينٍ وجماعةٍ وأيديولوجيا وخليط من وجهات النظر الخاصة والأحداث والوقائع..إلخ. ويخلُفُ ذلك مواقف يقوم فيها الناس بالتعبير بالمفرد نفسِه عن أشياء مختلفة، مسبّبين بذلك وجوهاً كثيرةً من سوء الفهم. وفي الواقع، يدفع ذلك إلى مجادلات ونقاشات تحول دون الوصول إلى نتائج موضوعية؛ تساعد على استجلاب فهمٍ أفضل ومعقولية من وراء كلّ تلك الجهود. والحق أنه ليس هناك شيء هكذا اسمه الإسلام بدون تخصيصٍ أو توصيف. وكما أشار عددٌ من المراقبين، الواقع أنّ ما نملكه في الواقع هو المسلمون، وهم أفرادٌ يَعُدُّون اليوم ملايين وملايين، بآراء متباينة ومواقف مختلفة، تدّعي أحياناً الانتساب أو التواصُل مع مجموعةٍ من النصوص المقدسة والتقاليد التأسيسية. ولذلك يكون علينا السعي دائماً للتعبير عن الحاجة إلى "نظامٍ للخطاب" في هذه النقاشات. وهذه الحاجةُ للتعبير النظامي والاصطلاحي يمكن أن تضعنا على المسار الصحيح، مسار الوضوح والفهم، بدلاً من الاستمرار في تداول الأفكار المسبقة والنمطية. فالخطابات عن المسلمين والتقاليد الإسلامية، ما كانت من الدقة بحيث تُميّزُ بين الوقائع والأحداث التي نشير إليها، مثلما يكون الأمر لو تحدثنا عن المسيحية أو العالَم المسيحي، بحيث تضطر أحياناً لإضافة تعبير المسيحاني مثلاً.

والأمر الآخر الذي يكون علينا من أجله أن نكونَ حذِرين، مسألة "الحرية الدينية" في الإسلام، لأنّ الإقدامَ على ذلك بدون استعدادٍ يدفع لمواقف إعتذارية(إيجابية أو سلبية بهذا الشكل أو ذاك، ومتعاطفة أو معادية للإسلام). فتلك الأحاديث في العادة تجمع بعضاً من اللاهوت وبعضاً من التاريخ، بدون فكرةٍ أو منهجٍ حاكم؛ سواءٌ أكان ذلك يحملُ وراءه دافعاً علمياً أو دينياً. والذي أقترحه لجمع شمل التنوع والتعقيد في مواقف المسلمين من الحرية الدينية، القيام بعرضٍ تاريخي وآخر كلامي أو لاهوتي، يمكن أن يساعد في فتح أفقٍ للحديث عن مستقبل الحرية الدينية في سياقاتٍ إسلامية.

1- التاريخ أولاً: تنفتح النقاشات حول موضوعٍ كهذا في العادة، بإيراد نصوصٍ مختارةٍ بطريقةٍ معينةٍ بحيث تُعطي منذ البداية الانطباع الذي يختاره المرءُ. اللاهوت أولاً، يعني في هذا السياق، اختيار وجهات نظر معينة والدفاع عنها بطرائق جدالية. والطريقة هذه تمكّنُ الأُصوليين من الوصول إلى تقرير حقائق يعتبرونها ثابتةً وأبدية، كما يعتبرون أنفسهم الممثلّين الشرعيين لتلك الحقائق. ولكي أتجاوز هذه المقاربة، فسأُوردُ بعض التطورات التاريخية المهمة، التي آمُلُ من ورائها أن نتعرف على الواقع، وليس على المقال الذي ينبغي أن يسود.

إنّ نظرةً سريعةً في التاريخ، تشير إلى تعددٍ كبيرٍ في الآراء حول الحرية الدينية، كما تشير إلى أنّ وجهات نظر المسلمين في ذلك ما كانت تحددها النصوص أو النظريات الدينية المسبقة. فالذي نشاهده أنه في أكثر الأحيان، جاءت وجهة النظر باعتبارها تبريراً أو تعريفاً "بعد الواقعة"، والقصد من ذلك تقديم تأصيل عقائدي أو دعم لسلوكات وسياسات، جرى السير فيها في الغالب، لاعتباراتٍ دنيوية. فالمصطلحات المأخوذة من النصوص المقدسة أو التقاليد المقدسة والتعليمات والمبادئ والسوابق التاريخية، جرى استعمالُها لنُصرة هذا الموقف أو ذاك. بل ويمكن القول إنّ هذا الفرد أو تلك الفئة من المسلمين صارت مع الحرية الدينية، لأنها وجدت نفسها في موقع الأقلية، أو الأكثرية التي لا وصولَ لها إلى السلطة السياسية. وقد كان هؤلاء يعودون للمحافظة أو للمواقف الثابتة من الترتيبات الدينية عندما يجدون أنفسهم في مواقع الأكثرية السائدة. ويمكن اعتبارُ ذلك قاعدةً تنطبقُ على مختلف الجماعات الدينية والثقافية والسياسية. وهكذا فإنّ المسيطر يميلُ إلى الوصول لدرجة الهيمنة، والأقلية الفاقدة للقوة تسعى لتأكيد نفسِها باعتبارها قوةً متميّزة بالشعائر والقواعد والعقائد المختلفة.. وبالطبع فإنّ لكلٍ من هذه القواعد استثناءات. ويمكن أن نعود لذلك لاحقاً.

أمّا النقطة الرئيسية الثانية، والتي نودُّ لفت النظر إليها هنا؛ فهي أنّ "الخطوط الفاصلة" في مسألة الحرية الدينية، تظهر في المواقع التي لا ننتظرها. فعلى سبيل المثال، "المعتزلة" وهم الفرقة الأكثر ليبراليةً وعقلانيةً في التاريخ الإسلامي المبكّر؛ كانوا هم الذين نظّموا إحدى أوسع حملات الاضطهاد ضد حرية التفكير الديني. فالمحنةُ(حركة الاضطهاد والتفتيش العَقَدي) التي قامت بها الخلافة العباسية، والتي كان المعتزلة أقرب حلفائها، تركت آثاراً عميقةً في تطور الفكر الديني، والتاريخ الإسلامي لعصورٍ متطاولة. ويمكن القول إنّ تلك الآثار باقيةٌ حتى اليوم؛ إذ إنّ الأرثوذكسية(السنّية) التي تسودُ حتى اليوم بداخل الإسلام إنما كوَّنها أولئك الذي اعتُبروا شهداء وضحايا المحنة التي صنعتها السياسات القمعية آنذاك. وبذلك صارت العقلانية وحرية الإرادة والانفتاح على الفلسفة والعلوم التطبيقية، مرتبطةً في أذهان الجمهور بالاضطهاد الديني والحكم الطغياني الذي نشره حاكمٌ بأمره. وما كانت تلك الحركة الاضطهادية هي الوحيدة في التاريخ الإسلامي، والتي تركت آثاراً عميقةً وغائرة. فحركة الموحدين بالمغرب بدأت باعتبارها تعبيراً قوياً عن الاحتجاج على النزوع الفقهي التجزيئي لرجال الدين المسلمين، والانشغال بالرسوم والشكليات الكثيرة وغير المجدية.

وظلت تصرفاتها في سنِتّها الأولى معنيةً بالعودة لبساطة الإسلام الأول، بوحدانيته التأسيسية الواضحة. بيد أنها ما لبثت أن تشددت، واتخذت مواقف لاهوتية وعقائدية متصلّبة، وانصرفت لاضطهاد الناس وإرغامهم بالقوة العسكرية.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الأنظمة السياسية القوية والمركزية، بدت لديها ميولٌ وسلوكاتٌ لصون الحريات الدينية داخل جماعة المسلمين، ومع الديانات الأخرى، أكثر من الفئات الاجتماعية والسياسية الأخرى. ويبدو ذلك في تصرفات الفاطميين الذين كانوا من الشيعة الإسماعيلية، وكان رعاياهم في أكثرهم من أهل السنة. وما حاول هؤلاء أن يفرضوا "أرثوذكسيتهم" على الرعايا أو يحدّوا من حريات منافسيهم المسلمين. وقد صار "الأزهر" الذي أنشأوه مؤسسةً رئيسيةً للتعليم السني في الكلام والفقه. ومضى حكام الهند المغول خطوةً أبعد، حين أفادوا من النصوص القرآنية في مدّ التسامح إلى أوساط رعاياهم من غير أتباع ديانات التوحيد إذ كانت أكثرية رعيتهم من الهندوس، وقد حصلوا على تفسيرات جديدة من علمائهم للنصوص سمحت بتبنّي سياسات سمحة تجاههم. بل إنهم توصلوا إلى مواقف جديدة دعمت إلى حدٍ بعيدٍ مسائل الحرية الدينية وفي الاتجاه نفسه أوجَد العثمانيون نظام المِلَل، الذي أعطى أبناء الديانات الأخرى والطوائف حرياتٍ واسعة ما عرفوها من قبل. وعرفت أسبانيا الإسلامية حِقَباً من الانفتاح الكبير في عصرها الذهبي، الذي ظهر فيه عيشٌ مشتركٌ بين أهل الأديان والمذاهب المختلفة. بيد أنّ الأندلس شهدت، والحقُّ يقال، موجاتٍ من الصعود والهبوط، أفضت أحياناً إلى تقييد الحريات، ومنع النقد والنقاش المنفتح.

ونصلُ أخيراً إلى الاستثناء على القاعدة. فالأنظمة السياسية القوية هي التي كانت تقفُ مع الحريات الدينية، وتؤمّن لرعاياها جميعاً عيشاً شبه متساوٍ بغضّ النظر عن الدين والمذهب والعِرْق. أما الأنظمة الضعيفة، فقد كانت واستناداً إلى متكلِميها المتشددين تقومُ بإظهار التشدد في التدين، والضغط على الآخرين المختلفين باسم حماية الدين أو المذهب الصحيح، لتشتري بذلك ولاءَ العامة من طريق مكافحة "العدو الداخلي". والمعروفُ أنّ الضغوط على الأقليات وعلى المختلفين تحدُثُ في حالات الخطر وحالات الأزمات.

لا شيءَ مما جرى ذكره اعتباره جديداً أو مفاجئاً. بل هذا هو ما يمكن أن نتعلمه من التاريخ. ولسنا بحاجةٍ لاستعمال نظريات معقَّدة لإثبات أنّ الرموز الدينية تُستعمل باعتبارها لغةً يمكنُ لها أن تقول الشيءَ وعكسه أحياناً.

2- ماذا يمكننا الإفادة من النصوص؟ لكل لغةٍ قواعدُها التي ينبغي احترامُها من أجل القدرة على الفهم. وسنحاول الإشارة إلى بعض النقاط والمراجع والنصوص التي استُخدمت في ظروفٍ مختلفةٍ وسياقاتٍ مختلفة.

﴿لا إكراه في الدين﴾ جملةٌ مأخوذةٌ من آية قرآنية، وقد جرى ذكرها كثيراً في النقاشات حول "الحرية الدينية في الإسلام". ونادراً ما يسمع المرءُ الآيةَ كلَّها: ذلك أنَّ الجزء الباقي من الآية يضيف مواصفاتٍ عدةً إلى ذلك التأكيد. فبقية الآية تقول إنّ البرهان الإلهي قد أتى فبيَّنَ الحقَّ من الباطل، والصحيح من المخطئ.

والانطباعُ الأولُ من قراءة جزء الآية ذاك أنه لا حاجةَ لاستخدام الإكراه والإرغام، لأنَّ الوضوحَ صار سائداً بعد ظهور الحقّ والصواب، وتمايُزه عن الخطأ والضلال. وهذا يترك السؤال مفتوحاً، ماذا سيحصل لأولئك الذين يُنكرون دلائل وبراهين الهُدى(كما حدث بالفعل)؛ هل يجري التسامُحُ معهم، أم يُعتبرون ذوي اعتقادٍ سيء، أو يُعتبرون أعداء للطريق الصحيح والمستقيم؟ ولا شك أنّ هذه الأسئلة والاحتمالات كلّها ظلّت تابعةً في التأويلات للظروف والسياقات التاريخية التي أُنزل فيها هذا النصّ. وهذا من ناحيةٍ أخرى يجعلُنا حذِرين إزاء استخدام النصوص المقدسة من القرآن وغيره. فقد أثبت التاريخ مرةً ثانيةً أنّ النصوص الجدلية لا تشكّل أساساً لأي مبدأ أو موقف. وقد كان سهلاً دائماً على الخصوم في الجدال استحضار نصٍ آخر أو موقفٍ آخر ينقُضُ ما جرى الاحتجاج له أو به.

و هنا يمكن، على أي حال، ذكر نصوصٍ أخرى، قليلاً ما جرى الاحتجاج بها، ويمكن أن تفتح آفاقاً أخرى. إنها ليست آفاقاً للحريات الدينية بالضرورة. بل إنها قد تشجّع على وجوهٍ أُخرى من التفكير والتقدير. من هذه النصوص، ما ورد في القرآن: ﴿ لكلٍ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبِقوا الخيرات إلى اللهِ مرجِعُكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾(القرآن: 5/48). توضّح هذه الآية أن التعددية الدينية هي جزءٌ من خطة الله –عز وجلّ- للبشر الذين خلقهم. فقد أعطى للجماعة والأُمم لكلٍ منها شرائع ومناهج مختلفة. بل ويستطيع المتكلمون الذين يقودون النقاشات إلى نهاياتها أن يقرروا هنا إمكان النقاش الديني حول الحقيقة بحريةٍ، لأنّه لا يعلمُ الحقيقة غير الله. والواقعُ أن من يقرأ هذا النصّ بعنايةٍ يستطيع الوصول إلى تأملاتٍ عِدّة في مسائل الحرية الدينية. وأحد تلك الاستنتاجات أنه لا أحد من البشر يستطيع الوصول إلى الحقيقة النهائية في المعتقد الديني. وثانيها أنّ الله وحده يملك الكلمة الفصل في الموضوع. وثالثها أنّ الكلمة النهائية حول الحقيقة لا يمكن الوصولُ إليها في العالم الدنيوي. لا بد من الانتظار إلى نهاية التاريخ(النهاية الحقيقية، وليس الهيغلية أو ما ذهب إليه فوكويا ما) لبلوغ الحقيقة اليقينية. والاستنتاج الرابع أنّ النقاش حول أمور الحقيقة الدينية شيء طبيعي ويمكن أن يستمر. وأخيراً فإنّ المطلوب هو التركيز على الأعمال الحسنة والطيبة والخيرّة بغضّ النظر عن الاعتقادات الدينية! ربما نحسبُ أننا وصلْنا من وجهة نظر إسلاميةٍ إلى قولٍ فصْلٍ في مسألة الحرية الدينية، وحرية التفكير بشكلٍ عام. ومع ذلك فالذي أنصح به البقاءَ على حَذَر. فالجداليون يستطيعون إذا أرادوا أن يجدوا أيضاً آخَر يدعم وجهة نظرهم.

3- هل هناك إستراتيجية بديلة؟ ربّما أمكن لنا التفكير للخروج من المأزق، بالتعرض لعقوبة المرتدّ، والتي ظلّت عبر التاريخ وإلى اليوم حاجزاً لا يمكن تخطّيه ولا إقناع المسلمين بتجاهُله. فالردة لدى المسلم المتدين خطيئةٌ كبرى لا جزاء لها غير الموت.

نستطيع البدء بالقول إنّ كثيراً من الدارسين ذهبوا إلى أنّ العقوبة على المرتد هي شأنٌ من شؤون التاريخ الإسلامي، وليس من شؤون العقيدة الإسلامية. لقد كانت سلوكاً سابقاً على الأزمنة الحديثة؛ لكنّ كثيراً من المسلمين يصَّرون على ربطها بالرسالة الإسلامية؛ رغم أنّ التاريخ يقول غير ذلك.

الواقع أنّ هذا الأمر هو جزءٌ من ميراث التدين الإسلامي. فرغم إيمان المسلمين أنه لا كتاب بعد القرآن، ولا سنة بعد النبي الخاتم؛ فإنهم أضافوا إلى مصطلح الإيمان كثيراً من المفاهيم والشروح والمؤسسات التي قال بها الفقهاء أو بعض السلطات في أزمنةٍ مبكّرة. لقد حدث مثل ذلك بالنسبة لمؤسسة الخلافة، التي أثبت علي عبد الرازق أنّ المسلمين الأوائل أوجدوها بعد وفاة النبي. بيد أنّ بعض المسلمين يعتبر تلك المؤسسة مقدسة، وهي جزءٌ لا يتجزأُ من رسالة الإسلام. لقد كان المسلمون مضطرين بعد وفاة النبي إلى إيجاد مؤسسة سياسية، الخلافة أو كما قال البعض أخيراً: الدولة الإسلامية. لكنّ إلغاء الخلافة من جانب مصطفى كمال أتاثورك عام 1924م أحدث صدمةً عميقةً في أوساط المسلمين عبر العالَم. وقد برهن علي عبد الرازق أنّ الخلافة كانت خياراً بين عدة خياراتٍ بعد وفاة النبي، وأنها تدين بانتصارها وبقائها لظروفٍ وسياقاتٍ معَينة ما عادت موجودة ولا ضرورية. والذي حدث أنّ المسلمين فيما بعد طوروا إعجاباً عميقاً بهذه الصيغة العائدة للآباء المؤسّسين، وصارت في وعيهم جزءًا من الدين ذاته. وهذا الأمر يمكن تتبُّعُهُ في عدة أمورٍ أو مؤسسات أو أحكام مثل المواقف من المرأة أو من الحريات الدينية. "تقديس التاريخ" هو الأمر الذي تحُسُنُ مناقشتُهُ في هذا السياق. فقد صارت مسائل كثيرةٌ جزءًا من الذاكرة الجماعية، ومن الوعي التاريخ، وأدت حتىّ إلى تجاهُل التعاليم الإسلامية أو القرآنية الأولى. وقد حدث ذلك بالنسبة لعقوبة المرتد. إذ أثبت مؤرخون كثيرون أنّ المسلمين لجأوا لذلك في ظروف الضعف والحصار، وعندما صارت الردةُ معتبرةً بمثابة الهروب إلى العدو. ويمكن لقائلٍ أن يقول إنّ التراث الدينيَّ إنما يتكون ويتراكم نتيجة السوابق والتقاليد والشروح ولا فاصل بالقطع بين التاريخ والرسالة. فزمنُ "الصياغة" مستمرٌّ إلى ما لا نهاية، وكل فصلٍ بين التاريخ والمقدس أو حديث عن "نهاية الوحي" لا معنى له في ذهن المتدينين ووعيهم؛ كما لا معنى في السياق نفسه للنقد التاريخي الذي قام به عبدالرازق لمسألة الخلافة.

ومع ذلك، فالذي أراه أنه لابد من تحوُّل. وهو تحوُّلٌ يمكن أن يحدث من خلال النقد التاريخي. فبواسطته يمكن الوصول إلى نوعٍ من التمييز مثلما حاول إدموند هوسّرل بين الفلسفة والعلم. لابد من تفرقةٍ أو تمييزٍ بين المتسامي والمعيش أو بين المضمون (النظرية، التفسير) وشروط الاكتشاف. إنّ النقد التاريخي هو الذي يكشف عن أنّ التقاليد الدينية تحدث في زمن الانتشار والإنجاز والتحقق خلال التاريخ. ورغم أنّ الأعمال الأولى يمكن (أو هي في الحقيقة) أن تنتمي إلى مجرى التاريخ، حيث تمتزج المبادئ بالمصالح والمكائد والمواجهات؛ فإنّ معناها "النهائي"، لا تُخطئُه العين. لكنْ من أجل أن لا تخطئه؛ فإننا نحتاج للنقد التاريخي.

************************

*) مفكر وأكاديمي من المغرب.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=257

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك