التعدد والتسامح والاعتراف: نظرة في الثوابت والفهم والتجربة التاريخية
التعدد والتسامح والاعتراف: نظرة في الثوابت والفهم والتجربة التاريخية
رضوان السيد*
1
اختار النهضويون العرب أحد مفردين للتعبير عن الحاجة للتعايش مع الآخر المختلف عقيدةً أو قوميةً أو ثقافة: التحمُّل والتساهل. ثم ساد في الربع الأول من القرن العشرين مصطلح "التسامح" للتعبير عن تقبُّل الاختلاف. وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ الإشكالية نفسها جرى التنبُّـه إليها ضمن حقبة التواصُل مع الغرب الأوروبي. وهي بذلك مأخوذةٌ عن ذاك الغرب، ليس بمعنى الاستيراد، كما يريد أصحابُ رؤية الأصالة الإقناعَ منذ عقود. بل ما أعنيه بأنها مأخوذة، أنّ المشكلات التي ظهرت وتبلورت في الاجتماع البشري والسياسي حوالي أواسط القرن التاسع عشر، حاول الإصلاحيون والمجدّدون الإفادةَ في معالجتها من تجربة أو تجارب الغرب خلال عصور نهوضه وتقدمه. ومن ضمن مشكلات الغرب منذ القرن السابع عشر، الصراعات الناجمة عن الاختلاف الديني، والصراعات الناجمة عن التبلور القومي والوطني. وأخيراً النزوع الإنساني في التعامُل مع الحضارات والثقافات الأخرى غير الغربية. والنوع الأخير من "التسامح" إذا صحَّ التعبير من نتاجات القرن العشرين وإن تكن بداياتُهُ قبل ذلك. والهدفُ من وراء هذه المقالة، القيام باستطلاعٍ موجَزٍ للتجربة التاريخية العربية الإسلامية في هذا الشأن، قبل الأزمنة الحديثة. والواقع أنّ رؤى "التسامح" أو الاعتراف بالاختلاف تكادُ تنحصر في ثلاث:
أولاً: الرؤية المسيحية: وهي تقومُ على "المحبة"، وهي التي دفعت –في هذا المنزع- لظهور العقائد المسيحية الكبرى في التجسد والصلب والفداء والقيامة والثالوث. بيد أنّ حصرية سبيل النجاة بربطها بقانون الإيمان المسيحي من جهة، وربطها بالكنيسة والدولة من جهةٍ ثانية وبخاصةٍ بعد القرن الرابع الميلادي؛ أنتجت اعتقاداتٍ وممارساتٍ ضيّقت من مفهوم المحبة ومجالاته، وقصرتْهُ على المؤمنين بالمسيح وكنيسته. ولهذا ما أمكن استيعابُ الاختلافات حتى داخل المسيحية نفسها، مما أنتج شقاقاتٍ عدَّدت الكنائس منذ القرون الأُولى لظهورها، وكان آخِرها وأكبرها الانشقاق الكاثوليكي/ البروتستانتي، بعد الانشقاق الكاثوليكي/ الأرثوذكسي. وما استطاع المسيحيون حلَّ المُشكل من خلال المحبة، كما لم يستطيعوا الجمع بين مبدأ حصرية الحقيقة والخلاص، ووحدة الكنيسة الجامعة. وهذا هو سببُ الحروب الدينية الكثيرة منذ القرن الرابع عشر الميلادي، وحتى القرن التاسع عشر.
ثانياً: الرؤية الإنسانوية: وقد ظهرت لدى الأوروبيين في القرنين السابع والثامن عشر. وهي تبحثُ عن السلام الاجتماعي من خلال الإقصاء القسْري للدّين أو تحييده؛ إمّا استناداً إلى التجربة المرة وحروب الإبادة المؤْسية بين المختلفين دينياً، أو استناداً إلى مبدأ اللاأدرية الذي يتجاوزُ الأديان والعقاديات، ويعتبرها سيّين في الاقتراب من الحقيقة أو الابتعاد عنها. وبعد تطوراتٍ كثيرةٍ ظهرت المقولةُ التي تذهبُ إلى أنّ لكل إنسانٍ حقاً طبيعياً(ناجماً عن الطبيعة الأصلية) في الحريات الأساسية في الاختيار الديني والاجتماعي والسياسي. وهذا التيار بالذات هو الذي استلهمه بعض النهضويين العرب الذين اختاروا له اسم التساهُل فالتسامُح. وبسبب الموقف(السلبي) من الدّين، وقف الإصلاحيون ذوو الأصول الإسلامية في مطلع القرن العشرين ضدَّ التسامُح بمعنى اللاأدرية أو فصل الدّين عن الدولة، واحتجوّا لهذا الرفض بالتجربة الإسلامية الوسيطة التي أنتجت تجربةً مدنيةً في الحكم، وانسجاماً بين الدّين والدولة، وحريةً نسْبيةً في الاعتقاد، واعترافاً بالآخر الديني والتعايش معه. بيد أنّ أعقابَ هؤلاء –بعد الحرب الثانية- عادوا للقول بالتسامُح، أي تقبل الاختلاف، استناداً للقرآن، وللتجربة التاريخية الإسلامية نفسها؛ فبدا التبايُنُ في المواقف ناجماً عن الخلط والغموض في الاصطلاح، وليس أكثر.
ثالثاً: الرؤية القرآنية: الاختلاف في هذه الرؤية حالةٌ طبيعيةٌ منذ خَلَقَ الله الخَلْق؛ وهو تعبيرٌ عن قدرة -الله عز وجلّ- ومشيئته: ﴿ومن آياته خَلْقُ السموات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم﴾(سورة الروم: 22). فالأمة الواحدةُ المعنيُّ بها البشريةُ الواحدةُ أو الإنسانيةُ الواحدة: ﴿وما كان الناسُ إلاّ أمةً واحدةً فاختلفوا..﴾(سورة يونس: 19)؛ وهكذا فالواحدةُ هنا تعني التساوي في الخَلْق والقيمة رغم الاختلاف في الألسنة والألوان والعقول والعقائد: ﴿خلقكم من نفسٍ واحدةٍ، وخلق منها زوجها، وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء.. ﴾(سورة البقرة: 21): ﴿ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلاّ مَنْ رحم ربُّك ولذلك خلقهم﴾(سورة هود: 118-119). وهناك طريقتان لتنظيم الاختلاف بين الناس وضبطه؛ طريقة أو منهج التعارُف، أي الاعتراف، اعتراف البشر أفراداً وفئاتٍ باختلاف بعضهم عن بعض، وضرورة التوافُق على العيـش معاً رغم الاختلاف أو بسببه: ﴿يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾(سورة الحجرات: 13). والطريقة الثانية: التآلُفُ بين المؤمنين بالإله الواحد والدين الواحد، بما يتجاوزُ الاعتراف إلى التآخي: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله؛ فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون﴾(سورة آل عمران: 64). بيد أنّ الإعراض عن التعارُف وعن التآخي لا يعني حتمية التنازُع؛ بل هناك حدودٌ دُنيا يمكن الوقوفُ عندها: ﴿لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبروهم وتُقسطوا إليهم إنّ الله يحبُّ المقسطين﴾ (سورة الممتحنة: 8). وإذا كانت تلك حدوداً في التعامُل بين جماعة المسلمين وغيرهم؛ فهناك حدودٌ في الموقف أساسُها الحريةُ في ممارسة الاختلاف حتّى في المجال الديني: ﴿لا إكْراهَ في الدين قد تبيَّن الرُّشْدُ من الغي ﴾(سورة البقرة: 256)، و﴿أفأنت تُكرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين﴾(سورة يونس: 99)؛ إذ إنه صلواتُ الله وسلامُهُ عليه ما أُرسلَ إلا رحمةً للعالمين: ﴿ وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين﴾(سورة الأنبياء: 107).
2
ظهرت جماعة المسلمين، جماعةُ التعارُف والقسط والرحمة في عالَم القرن السابع الميلادي، وكان اتخاذُها للهجرة النبوية (622م) تأريخاً لها عَلَماً على ظهور التنظيم السياسي، فتحاور وتجاور في تجربتها التاريخية الاجتماع الإنساني مع الدولة. و قد كان أول الأنظمة ظهوراً في التعامُل مع غير المسلمين هو نظامُ أهل الذمة الذي شمل المسيحيين واليهود في البداية استناداً للقرآن، ولتجربة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في مجتمع الجزيرة العربية. وقد تجاوز نظامُ أهل ذمةِ المسلمين التعارُف والاعتراف، إلى ما يقرُبُ من الأخوة، بحسب ما نصَّ عليه القرآن، للاشتراك في أصل الإيمان بالإله الواحد، والعقائد الأساسية؛ وإن لم يبادلْهم "أهل الكتاب" ذلك. و قد اعتبر الفقهاء في كتبهم أهلَ الذمة "من أهل دار الإسلام"، وضمِنت الدولةُ لهم الحرية الدينية المتضمنة حريةَ العبادة والتعليم الديني، والتنظيم الديني، وحرية الحركة الاجتماعية والاقتصادية. وكانوا يدفعون "الجزية" التي نصَّ عليها القرآن؛ وهي رمزيةٌ تُناظِرُ ما يدفعُهُ المسلمون من زكاةٍ لكنها أقلّ بمراحل من حيث القيمة. ثم إنّ رجالَ الدين اليهود والمسيحيين(غير الكاسبين) مُعفَونَ منها. ولهؤلاء نظامهم القضائي الخاصّ، وليس من حقّ الدولة استدعاءَهم للقتال- وفي الوقت نفسِه هناك شراكةٌ إداريةٌ كاملةٌ في الشأن العامّ، ولا كذلك في الشأن السياسي.
والواقعُ أنّ نظامَ أهل الذمة في أكثر وجوهه اجتهاديٌ، وليس قرآنياً إلاّ من حيث أصلُهُ – ولذلك فقد تأثر بالظروف التاريخية، وبعلائق الدولة الخارجية. إذ من المعروف أنّ التوتّر مع البيزنطيين المسيحيين استمر على الحدود قروناً متطاولة، وكان ذلك التوتر يؤثّر على التعامُل مع المسيحيين بداخل دار الإسلام فينال بعضَهم حيفٌ أو توجُّس، لكنّ شيئاً من ذلك ما تحول إلى سياسةٍ مقررةٍ في أي حقبةٍ من الحِقَب. والدليلُ على ذلك أنّ هذا الحيف العارض أيام العباسيين والحروب الصليبية، ما شمل اليهود؛ رغم سوء علاقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم في المدينة في سِنيِّ الإسلام الأولى؛ لأنهم كانوا أقلياتٍ منتشرةً في دار الإسلام، وما كانت لهم دولةٌ تتحدى الدولة الإسلامية أو تقع على حدودِها. ولذلك ما نالهم شيءٌ من الهضْم الذي نال بعض الجماعات المسيحية في أوقاتٍ محدودة. وما يقالُ عن عيشهم وحرياتهم ومشاركتهم، يقالُ عن أديانهم. إذ ما أُرغم أحدٌ منهم على اعتناق الإسلام بقوة الدولة أو الضغط الاجتماعي. وقد بقي المسيحيون أكثريةً في الشام ومصر إلى عصر الحروب الصليبية، وإلى ما بعد ذلك في الأندلُس ونواحٍ أُخرى.
وإذا كان نظامُ أهل الذمة اجتهادياً، وشمل في الأصل اليهود والنصارى، فقد امتدَّ فيما بعد ليشمل الزرادشتيين (المجوس) والبوذيين والهندوس، باعتبار هؤلاء جميعاً أهل أديانٍ يمكن إدخالها تحت عنوان (الصابئين) الذين ذكرهم القرآن.
والتقسيم إلى مسلمين وذميين تقسيمٌ إسلاميٌّ داخليٌّ من أجل التنظيم وليس من أجل التمييز إلاّ فيما ندر، كما سبق القول. أمّا العلاقات الخارجية بين الدولة الإسلامية، والدول غير الإسلامية فقد إشتُرع لها بالممارسة ثم بالنظرية تنظيم دار الإسلام ودار الكفر أو الحرب. وهذا التنظيم اجتهاديٌّ أيضاً، ولا يتضمن تمييزاً بل هو تقريرٌ لأمرٍ واقع. فالحرب التي يصحُّ تسميتُها جهاداً هي الحربُ الدفاعية. إذ علةُ الجهاد أو الحرب المشروعة: العدوانُ أو خَوفُه، في رأي أكثرية الفقهاء المسلمين. ثم إنّه رغم التسمية بدار الحرب، فأكثر الدول خارج دار الإسلام تشملُها تنظيماتٌ أُخرى مثل دار الموادعة، ودار العهد، ودار الاستئمان؛ وهي جميعاً تعبيرٌ عن أنواع العلاقات القائمة بين تلك الدول مع الخلافة الإسلامية. وفي كل الأحوال ما توقفت التعامُلات السلمية والتجارية بين الأفراد والفئات من تلك الدُور، وبين أهل دار الإسلام؛ حتى في حالات الحرب. وكان هؤلاء من غير المسلَّحين يُسمَّون فور دخولهم دار الإسلام: المستأمنين، ويستطيعون العمل والتصرف بحرية- وفي حالات الحرب كانت لأسرى العدو وجرحاه حقوقهم المَصونة، التي نصّت عليها كتب السِيَر والجهاد، ومن ضمنها عدم جواز قتلهم أو إساءة معاملتهم ولو فعل العدوّ ذلك بأسرى المسلمين، وهذه ممارساتٌ اعتبرها بعضُ العلماء المُحّدْثين معالمَ مهمةً في تطور القانون الدولي في العصور الوسطية.
3
وعرف الإسلام في عصوره الوسيطة حركاتٍ متشددةً وأُخرى منفتحة ومتسامحة، وكانت هناك جماعاتٌ اعتبرت نفسها "الفرقة الناجية"، وشكّكت في إيمان المخالفين لها في العقائد والسلوك. بيد أنّ المسلمين ما وصلوا إلى إشتراع "قانون إيمان" ذي بنودٍ تُخرج من الدين أو تكون شروطاً للدخول فيه. وتعرفُ كُتُبُ علم الكلام أو أصول الدّين تدقيقاتٍ عقديةً كثيرة. لكنّ جِماع الاعتقاد مرَكّزٌ في ثلاثة أصول: التوحيد، والنبوات، واليوم الآخِر. وليست هناك هرميةٌ أو مؤسسةٌ دينيةٌ معصومة أو شبه معصومة. ولذلك يؤاخَذُ المرءُ باعترافه وإقراره وإعلانه، ولا شيءَ وراء ذلك في مسائل الإيمان والإسلام إلاّ ما بينه وبين الله. وهناك المبتدعون والعُصاة، لكنْ ليس هناك من يُصدرُ عليهم حَرْماً دينياً، وإنما هي تقاليدُ التماسُك وحُرُمات الاجتماع العادي بين الناس. و بسبب رحابة فكرة الجماعة وممارساتها، ما كثُرت الفِرَقُ الإسلامية، بل كثُرت المذاهب الفقهية أو التوجُّهات والآراء في الفروع وتعرضت بعضُ الفِرَق للضغوط؛ لكن لم تنشب حروبٌ دينيةٌ في التاريخ الإسلامي. و قد كان هناك من قال: كلُّ مجتهدٍ مُصيب، وهناك مَنْ ذهب إلى أنَّ الحقَّ في واحد. وفي كلتا الحالتين، بقيت للرأي الحرّ اعتباراته حتى في المسائل الدينية والتعبدية.
وقد فرض الفقهاءُ تعزيراتٍ على المرتدين عن الإسلام، لأنهم ما أدخلوا ذلك ضمن الإكراه في الدين. بيد أنّ الأمر انتهى إلى الاستتابة أو الحبس المؤقت. ولا نعرفُ إعداماتٍ لأسبابٍ دينيةٍ إلاّ ما لا يزيد على عدد أصابع اليدين. وهي في الواقع حالاتُ ظُلْمٍ لها عِلَلٌ غير دينية، أو أنها ناجمةٌ عن ضغوطٍ اجتماعيةٍ مُحافِظة. وقد كان هناك انسجام ٌبين الدين والدولة في أكثر أزمنة العصور الوسيطة. لكنّ السلطتين لم تُمارسا في مؤسسةٍ واحدة. ثم إنّ السلطة التشريعية كانت في يد الفقهاء، وليس في يد الدولة. ولهذا فقد ظلّت الدولة الإسلامية في أكثر عصورها فوق المذاهب والفِرَق، وما استطاعت إلزامَ الناس بمذهبٍ معيَّنٍ أو عقيدةٍ معينة. وظلت المجتمعات الإسلامية مجتمعاتٍ تعددية في الأديان والمذاهب والتوجهات، واعتبرت الأكثرية ذلك أمراً طبيعياً؛ أخذاً من تجربة النبي( في المدينة، وتجارب المسلمين في حقبة الراشدين والعصور المبكّرة. وعندما انتصر العثمانيون للمذهب الحنفي في النظام القضائي، ما اضطهدوا المذاهب الأخرى، التي ظلَّ لها قُضاتُها ومدارسُها ومُفْتوها. وظلَّ الاتجاه السائد قول الإمام الشافعي: رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب. وقد ظلَّ المجتمع الأهلي أو المدني قوياً من خلال الأَوقاف والمدارس والأصناف وجمعيات التجار والعلماء وتنظيمات المذاهب والفتيان والطرق الصوفية.
والشأن في التجربة السياسية مثل الشأن في التجربة الاجتماعية. فقد جرى تجاوُز سياسات الراشدين بالتقاليد الإمبراطورية مع تضخم الدولة وعظمتها. بيد أنَّ أحداً ما استطاع إنكار مبدأ الشورى وعدم التوريث. وتوصل علماءُ كبارٌ في مذاهب الأكثرية إلى تجاوُز شرط القُرشية في الإمام. وظلّت المعارضةُ السياسيةُ غير المسلَّحة حقاً معتَرَفاً به. بل إنّ الفقهاء طوَّروا ذلك في وقتٍ مبكّرٍ إلى حدود القول بأنَّ المعارضين (البُغاة) الذين ينالون من دمٍ أو مالٍ بسبب عدم الإصغاء لمطالبهم لا يُحاسَبون على ذلك بعد عودتهم للجماعة، أي أنه ليست هناك جريمةٌ سياسيةٌ باستثناء الخيانة. والخيانة نفسُها تتنوع العقوبةُ عليها بحسب الضرر الذي أَوقعه صاحبُها بالدولة أو بالأفراد.
4
شهد الاجتماعُ الإسلامي السياسي والثقافي والديني، تطورات كبرى على شتى المستويات، مثل سائر المجتمعات والثقافات التاريخية. لكنْ لا صحة للقول أنَّ هناك انحطاطاً دام عشرة أو ثمانية قرون.
وقد تغيرَّ "نظام العالَم" عبر القرن التاسع عشر، ومن ضمنه النظام في العالمين العربي والإسلامي، واللذين خضعا في الأكثر للاستعمار الأوروبي بطرائق مباشرة أو غير مباشرة. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر أُثيرت في الدراسات الاستشراقية مسألتا: الحرب الدينية في الإسلام(الجهاد)، والحرية الدينية(العقوبات على الردة). وكانت الدولة العثمانية قد أبطلت عام 1857م بواسطة التنظيمات نظام أهل الذمة، وأحلّت محلَّه نظام المواطنة العثمانية. وكانت كل الصراعات التي خاضها المسلمون منذ مطلع القرن التاسع عشر صراعات ٍضدّ الاستعمار وهجماته في آسيا الوسطى والقوقاز والهند، ثم في سائر النواحي. ولذلك فقد اعتبر فقهاءُ كثيرون الكلامَ على الحرب الدينية واهياً وواهماً. ومع ذلك فقد قال كثيرون منهم بانقضاء زمن دار الحرب ودار الإسلام؛ بسبب التغيير في نظام العالَم أو النظام الدولي. بيد أنَّ الفقهاء ما تقدموا كثيراً في مسألة الردة؛ بسبب الهواجس التي خالجتهم لهجمات التبشير الذي جاء مع الاستعمار. والحقَُّ أنّ الفقهاء أو كثيراً منهم يطالبون بما لا يطالب به القرآن الكريم، الذي يكرر النصَّ على الحرية الدينية، ولا يشرع عقوباتٍ دنيويةً على المرتدّ. وفي القرن العشرين التحقت مسائلُ حريات المرأة ومساواتها بالرجل، بالقضايا التي تؤخَذُ على النصوص تارةً وعلى اجتهادات الفقهاء أطواراً. وليس بالوسع الزعم أنّ أحوال المرأة المسلمة مُرْضيةٌ للسائر النواحي اليوم؛ رغم التطورات الكثيرة التي دخلت على أوضاعها وحقوقها خلال قرنٍ من الزمان.
وتنتشر منذ عقود فكرةٌ في أوساط الدارسين عن تعصب المسلمين وتشددهم وميلهم للهوية المنغلقة والمتميّزة، وظهور صورة للعالَم في أوساطهم، تعتبر أنّ هناك مؤامرةً عليهم وعلى دينهم. وقد لاحظ ذلك "برنارد لويس" المستشرق المعروف، كما لاحظه "نايبول" الروائي الترينيداري من أصل هندي، والذي حصل على جائزة نوبل للآداب قبل سنوات. وبدأت تظهر نظرياتٌ حول أنّ التشدد والعنف بنيويٌّ في الإسلام، وأنّه لا يقولُ بالحوار، ويميل للصدام مع الثقافات والحضارات الأُخرى كما زعم هنتنغتون وغيره. وبلغ الأمر بتوماس فريدمان(الصحافي المعروف بنيويورك تايمز) حدود القول إنّ العرب والمسلمين لا يشعرون بالمسؤولية الإنسانية تجاه ضحايا الأصولية؛ ولو كان هناك إجماعٌ على ذلك لتوقف العنف الأصولي!
وقد ثبّتت أحداث العنف العشوائي ومآسيه في السنوات الأخيرة، هذا الانطباع لدى دوائر كثيرة، وليس في الغرب فقط. وهذه الانطباعات ليست مُحِقّةً في مجموعها طبعاً، فالصراع اليومَ ليس بين الإسلام والأديان والثقافات الأخرى، بل بين "الأصوليات" كما يقول طارق علي. بيد أنّ هناك تأكيداً كبيراً على الهوية والخصوصية، لا يعني العنف والتعصب في أكثر الحالات، ولا يختلف عما يجري في الديانات والثقافات الأخرى؛ لكنه يصل في الكثير من الأحيان إلى رفض المعرفة والتعارف.
والواقعُ أنَّ الإسلام –كما المسلمين- تعرَّضَ تأويلاً وممارسةً لضغوطٍ عنيفةٍ وعاصفةٍ طَوالَ القرن العشرين. وكما تغير الإطاران الاجتماعي والسياسي، تغير أيضاً الإطار الثقافي والثقافي الديني. وقد ظهرت إحيائيةٌ إسلاميةٌ قويةٌ ضربت المؤسسات التقليدية، وأضعفت تحركات الإصلاح بحجة مكافحة التغريب. وسادت على مدى نصف قرنٍ ثقافةٌ دينيةٌ مُضادةٌ للكثير من تطورات العصر، أنتجت رؤيةً أُخرى للعالَم. ووسط هذا الثَوَران والمخاض الكبير ما أمكن للإسلام عبر علمائه التقليديين أو الجدد الاستيعاب والاستجابة والتفاعل بالقدر المُلائم. ولذلك فقد بدا المسلمون في قضايا التسامُح والانفتاح ومُعاصرة العالم؛ إمّا جامدين وعاجزين إذا كانوا تقليديين؛ وإمّا مُعادين وعَدَميين إذا كانوا إحيائيين أو أُصوليين.
وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه النزعة الإنسانوية تُنجز بعد الحرب الثانية ميثاق الأُمم المتحدة، والإعلان العالمِيَّ لحقوق الإنسان؛ كان الإحيائيون الإسلاميون يُقْبلون على مجادلتها باعتبار قولها بالحقّ الطبيعي، بينما يقولون بالتكليف الإلهي! وفي الوقت الذي كانت فيه الكنائس المسيحية الكبرى تُنجزُ سلاماً فيما بينها، ومع عالَم الأديان والمذاهب والأزمنة الجديدة بالحديث عن إمكان نجاة غير المسيحيين في الآخرة مع استمرار التجاذُب والصراع على "أرواح المؤمنين" تحت السطح طبعاً؛ كان الإسلاميون ينهمكون في خصومات لا تنتهي حول دقائق العقيدة ومقتضياتها؛ مما دفع الروائي اللبناني المعروف أمين معلوف في كتابه: "الهويات القاتلة" للذهاب إلى أنّ المسلمين كانوا منفتحين في العصور الوسطى وهم اليوم يتشددون، بينما المسيحيون المتشددون في العصور الوسطى هم اليوم متسامحون.
انتهت التجربة الإسلامية التاريخية بحسناتها وسلبياتها. ونحن نخوض غمار مخاضٍ كبيرٍ جوهرُهُ ضرورة التلاؤم مع قيم العالَم ومنجزاته. وفي هذا الأمر لا بدّ من توافر الوعي والإرادة، المؤسَّسين على المعرفة بتاريخنا وبالعالَم المعاصر.
ليس من حقّ أحدٍ أن يطلب منا التخلّي عن ثوابتنا أو حتى القول بنسْبية الحقيقة. بل المطلوبُ منا تطبيق منهج "التعارُف" القرآني، الأقرب من التسامح إلى طبيعة الإسلام. و التعارُف هو المعرفةُ المتبادَلة، وهو الاعترافُ المتبادَل بالحقّ في الاختلاف: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، ولذلك خلقهم﴾. و هذا الحقّ لا يمكن أن ينبني إلاّ على المعرفة، والتعارُف، وأن نعيشَ عصرنا وعاَلَمنا. ولا خشية على الهوية والانتماء من الانفتاح، لأنّ الهوية المنفتحة والمتجددة هي الباقية. ولا واصلَ بين الثوابت والمتغيرات غير منهج التعارُف.
**********************
*) مفكر وأكاديمي من لبنـان، ومستشار تحرير مجلة التسامح.