القراءة الجديدة للقرآن في جامعة نوتردام
القراءة الجديدة للقرآن في جامعة نوتردام
سامر رشواني*
"نحو قراءة جديدة للقرآن" كان عنوان مؤتمر دولي عقده قسم اللاهوت في جامعة نوتردام في شهر إبريل المنصرم (2005م). شارك في هذا المؤتمر- الذي أشرف عليه جبريل سعيد رينولدز- حشد من المستشرقين المتخصصين في دراسة الإسلام والقرآن على نحو خاص. وتركزت المشاركات في أربعة محاور:
أولا: السريانية والقرآن
أ- في هذا المحور قدم جوزيف آمار (Jose Amar) بحثا عن "المقالات الاعتذارية" لمار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي" (ت1171م) نظراً إلى أنه أوسع وأطول وثيقة سريانية تتضمن نصوصا جدالية مع المسلمين، هذا النص السرياني كان يهدف إلى تزويد القارئ بحقائق أساسية عن الإسلام، تمهيدا لإبطال وتفنيد النقد الإسلامي للاعتقادات المسيحية. وتنبع أهمية هذه الوثيقة -إضافة إلى الجوانب التاريخية- من مجموعة الاستشهادات القرآنية المترجمة إلى السريانية والتي تشمل عددا من سور القـرآن (25-30). ويناقش آمار الفرضية المثيرة للجدل التي طرحها "مينغانا" (Mingana) عن هذه الاستشهادات السريانية.
ب- من زاوية أخرى عرض أندريه ربن (Andrew Rippin) نظريات المسلمين عن السريانية في القرآن الكريم، مشيرا إلى أن كريستوف لوكسنبرغ (Christoph Luxenberg) ومينغانا لم يكونا أول من تحدث عن وجود السريانية في القرآن؛ بل إن التفاسير الإسلامية القديمة أشارت باستمرار إلى كلمات مختلفة على أنها ذات أصل سرياني. فقد كان الكتاب المسلمون الأوائل واعين باللغة المتداولة في محيطهم والتي كانوا يسمونها "السريانية أو النباتية"، ويبدو أنهم استعانوا بها لحل بعض الإشكالات التفسيرية التي واجهتهم في فهم القرآن. وكانت الأصول التي استندوا إليها في ذلك عديدة: التركيب الاشتقاقي لبعض الكلمات الغربية، استحالة تتبع الأصول الاشتقاقية لبعض الكلمات وإرجاعها إلى أصول عربية، وجود اعتراف أو اتفاق على وجود بعض الأسماء ذات الأصل السرياني.
ت- وفي سعي لمعرفة الأصول السريانية لبعض قصص القرآن عرض كيفين فان بليدل Kevin Van Bladel ما أسماه "نبوءة الاسكندر الأكبر" أو ذي القرنين في القرآن على أنها قصة مشتقة من أصول سريانية، متابعا في ذلك ما قاله نولدكه من قبل عن أصل هذه القصة، وهو القصة السريانية التي نشرها Budge "أعمال الاسكندر"، وهو نص أرجع نولدكه تاريخه إلى القرن السادس الميلادي، ولكن الباحثين من بعده أثبتوا أنه وجد في حدود (629-630م)، ثم أكد برانون ويلر (Brannon Wheeler) أن هذا النص السرياني لم يكن مصدرا للقرآن نفسه بل مصدرا للتفاسير القرآنية التي اعتمدتئكسنبرغ التاريخية- من مجموعة الا عليه.
ولكن فان بليدل يعود إلى تأكيد العلاقة بين هذا النص السرياني وقصة ذي القرنين في القرآن، من خلال المقارنة بين مضمونها، والبحث عن المماثلات العديدة بينهما حتى في المفردات. كما يحاول أن يثبت أن القرآن قد اعتمد إما على هذا النص السرياني مباشرة أو أن هذين النصين اعتمدا على مصدر آخر مشترك. كما حاول أن يقدم تفسيرا لاعتماد المفسرين الأوائل على هذا النص بإرجاع ذلك إلى الخصائص النبوية للاسكندر البادية في النص السرياني، أو ما يدعوه فان بلديل "نبوءة الإسكندر".
ث- بعيداً عن الدرس القرآني خصوصاً، يثير عبد المسيح سعدي بعض القضايا التاريخية المتعلقة بموقف المسيحيين السريان من المسلمين الذين هاجروا إلى أراضيهم من الناحية الدينية والتاريخية والعرقية، وذلك خلال القرن السابع للميلاد.
ثانياً: التأثير المسيحي والإثيوبي في القرآن
أ- قدم "مانفرد كروب" Manfred Kropp قراءة لحصيلة قرن كامل من الدراسات المتعلقة ببحث التأثيرات الإثيوبية في القرآن وعهود الإسلام الأولى في الموضوع. يذكر "كروب" أن التقدم الكبير في الدراسات السبئية أثبت أن تأثير الثقافة اليمنية القديمة (في جنوب الجزيرة العربية) على المجتمعات العربية الشمالية كان موازيا للتأثيرات المسيحية واليهودية في سورية عليها. هذا التأثير اليمني يستدعي تساؤلا عن التأثير الإثيوبي، وذلك بسبب التاريخ المشترك بين اليمن القديمة وإثيوبية القديمة (أقسوم) بداية من الاحتلال السبئي للساحل الآخر من البحر الأحمر مرورا بالحملات الإثيوبية على اليمن. إضافة إلى التبادل التجاري، وبالتالي الثقافي والديني الحاصل بين إمبراطورية أقسوم (التي اعتنقت المسيحية منذ منتصف القرن الرابع للميلاد), وأقاليم شمال غرب الجزيرة العربية. حيث وجد في مكة قبل الإسلام كثير من التجار والحرفيين والعبيد الإثيوبيين، ولا شك في أنهم نقلوا معهم - فضلا عن البضائع- المفاهيم الثقافية الدينية, ولا ننسى المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وعادوا إلى مجتمع المدينة.
إن تأثير هذه العلاقات بإثيوبيا ومسيحييها ظاهر للعيان من خلال الكلمات الإثيوبية المعربة أو الكلمات التي تأثرت باللغات الإثيوبية في القرآن، وقد ناقش نولدكه من قبل بعضا من أهم هذه الكلمات. ولكن ظهر عدد من النصوص القديمة بعد نولدكه سيسمح إعادة كتابة تاريخ هذا التأثير الإثيوبي ليس فقط في مجال الكلمات الأجنبية المستعارة، بل في مجال التراكيب أو القصص، بل المفاهيم اللاهوتية الموجودة في القرآن والتي يمكن إرجاعها إلى أصول إثيوبية أو مسيحية إثيوبية.
ب- وفي إطار التأثير المسيحي على القرآن يقدم سيدني جريفث (Sidney Griffith) دراسة لقصة أهل الكهف من خلال المصادر المسيحية السريانية. ذلك أن أقدم مصدر يخبرنا عن قصة "نيام الكهف" قبل القرآن هو نص سرياني يعود إلى القرن السادس للميلاد، صادر عن الكنسية الأرثوذكسية السريانية. تحاول هذه الدراسة معرفة الطريقة التي انتقلت بها القصة إلى المسيحيين العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وذلك من خلال مقارنة التفاصيل الاشتقاقية اللغوية والقصصية للنصين السرياني والقرآني، من أجل إدراك فهم أعمق لإشارات القرآن إلى المصادر التي يشترك فيها مع التراث المسيحي السرياني.
ت- وفي هذا الإطار أيضا يقدم جاري اندرسون(Gary Anderson) دراسة مقارنة بين القرآن والتفاسير المسيحية الربانية في سردها لقصة سجود إبليس لآدم في دراسة للعلاقة بين هذه المصادر القديمة والرواية القرآنية للقصة.
ث- ولكن مايكل ماركس (Anderson Marx) حاول إعادة النظر في فرضية المعتقدات المسيحية اليهودية الموجودة في القرآن. إذ إن كثيرا من الباحثين الغربيين أكدوا على أن عددا لا بأس به من المعتقدات المسيحية اليهودية موجود في النص القرآني (فون هارنك 1911م، شلاتر 1918م، الحداد، ودي بلو 2004م.. وغيرهم). وهكذا يعيد ماركس البحث في: التلقي القرآني لتاريخ الخلاص (تاريخ النبوة) وفكرة تعاقب الأنبياء في الكتاب المقدس.
إن مفهوم "الأنبياء السابقين" يبدو غير متوافق مع الفهم اليهودي أو المسيحي (الأرثوذكسي أو الكاثوليكي) لتاريخ النبوة، حتى وإن أظهرت كثير من العناصر النصية الخاصة بأنبياء الكتاب المقدس الموجودة في القرآن صلتها بالأدبيات الربانية (التلمود والمدراش كما قدمها جيجرز Geiger في دراسته الرائدة عام 1833م). إن الموقف من عيسى المسيح يختلف تماما عن الخلفية الربانية المفترضة، فالصورة الخيرية للمسيح لا يمكن نسبها إلى المعتقدات اليهودية. كما أن التعريف القرآني بأنبياء الكتاب المقدس يقدم دائما منظورا نافيا للقدسية، ورسالة النبي محمد- من منظور تاريخ "الأنبياء السابقين"- ليست إلا حلقة في سلسلة متصلة من النبوة.
ج- وفي السياق نفسه يحاول سليمان مراد أن يقدم صورة لمريم من خلال القرآن الكريم، موضحا ما يتعلق بهويتها والقصص المتصلة لها من خلال كتب التفسير الإسلامي، معيدا النظر في الأفكار التي طرحها الباحثون الغربيون عن خلط محمد في هوية مريم ابنة عمران ومريم أخت هارون وموسى.
وفي نفس السياق قدم سمير خليل سمير بحثا في "إعادة النظر إلى القرآن في علاقته بالمسيحية".
ثالثاً: نقد الاطروحات الاستشراقية الجديدة حول القرآن:
يبدو أن أطروحة كريستوف لوكسنبرج والجدل الذي أثاره في دوائر الاستشراق في السنوات الأربع الماضية لازال مستمرا، فقد شغل جزءا كبيرا من اهتمام المتحدثين، حتى الذين لم يخصوه بقراءات نقدية كان منهم إشارات وتلميحات اعتراضية على أطروحاته.
أ- قدم جيرهارد بورنغ (Gerhard Bowering) نقدا حادا لدراستي جنتر لولنغ (Gunter Luling) وصاحب الاسم المزيف "كريستوف لوكسنبرغ" وإعادة بنائهما للقرآن: وهما باحثان ينشطان في ألمانيا على هامش الأكاديمية، ولمح إلى أن هذين الباحثين لم يجتمعا علنا قط (في إشارة إلى أنهما قد يكونان شخصا واحدا)، ولكنهما يتفقان في عدد من النقاط: أهمها أنهما قد تجاهلا قرونا طويلة من الدرس الإسلامي للقرآن، وأهملا النسق المعرفي متعدد الأوجه في درس الأصول القرآنية الذي عمل به المستشرقون خلال قرنين من خلال البحث الدقيق... من نولدكه وشفالي حتى هوفيتز وبيل وجفري وبلاشير وباريت.. إن دراستهما على الرغم من غناها بالتفاصيل فإن أيا منهما لم يستطع أن يضع قاعدة تاريخية قوية لنظريات علمية حول أصول المصطلحات القرآنية في سياق القرن السابع في الجزيرة العربية. إن مقاربتهما المنفردة الحاذقة الاستفزازية المثيرة للجدل قد جعلتهما محلا لنقد حاد من الباحثين الغربيين المتخصصين بدرس القرآن (مثل برجمر Burgmer في كتابه "الجدل حول القرآن" (Streit um den Koran برلين 2005م كما جعلتهما محطا لنقد عنيف من المسلمين على الإنترنت.
ب- كذلك فعل فرد دونر Fred Donner حيث نظر في عمل لوكسنبرغ ضمن سياق البحث الغربي المبكر في القرآن، وما يتضمنه هذا العمل من إمكانات للعمل المستقبلي. يبحث دنفر في العلاقة بين النص القرآني المكتوب وبين تراث التلاوة الشفاهي، ويتحقق من دعوى اللغة المختلطة الآرامية العربية في شبه الجزيرة العربية، وأنظمة الكتابة وعلاقة النص بالإملاء العربي.
ت- ولكن دانيل مدايغان (Daniel Madigan) يبتعد عن مناقشة صحة أطروحة لوكسنبرغ، وينتقل إلى سؤال تأويلي أو لاهوتي متعلق بالعلاقة بين النصوص المقدسة والمجتمعات التي تؤمن بها. إذ أن عمل لوكسنبرغ يفترض أنه بمجرد الكشف عن المعنى "الحقيقي" للقرآن فإن ذلك سيغير من طبيعة الإسلام. ولكن في التحليل النهائي يبقى السؤال: ما هو التأثير الذي يمكن أن يحققه إعادة بناء معاني النص المقدس على ما يعنيه النص عن المؤمنين به؟.
رابعاً: تاريخ القرآن
أ- يرى كلود جليو (Claude Gilliot) أن البحث الغربي في تاريخ القرآن لا يزال في عالم "أليس في بلاد العجائب" مقارنة بما أنجز من بحوث في حقل دراسات الكتاب المقدس. إذ يحتوي القرآن نفسه والتراث الإسلامي العديد من الإشارات أو المعلومات التي تدعو الباحثين لإعادة بناء نظرة "مختلفة" جزئيا لتاريخ هذا النص. والاختلاف هنا يعني أنها نظرة مختلفة عن الفهم الإسلامي الرسمي للقرآن تلاوة وكتابة. ومن هنا يدعو جليو إلى النظر في دور مساعدي محمد خديجة وورقه بن نوفل، ثم في فكرة الرواة وتعلم زيد بن ثابت للآرامية والسريانية أو العبرية وعناصر هذه اللغات قبل وصول محمد إلى المدينة، والآيات المفقودة والآيات المنسوخة، وغموض المفردات الخاصة بجمع القرآن مثل: الجمع والتأليف.... وغير ذلك.
ب- يبحث روبرت هويلاند (Robert Hoyland) في نشأة الحرف العربي من خلال النقوش والحفريات العربية التي ترجع إلى ما قبل مجيء الإسلام ووجدت في مناطق من سوريا ودمشق وشمال غرب الجزيرة العربية في القرن السادس للميلاد. فعلى الرغم من أن اللغة العربية قد ظهرت قبل هذا بكثير ولكنها كانت تكتب بإملاء لغات أخرى (جنوب الجزيرة أو الآرامية النباتية) لذا فما الذي تغير حتى نشأ الخط العربي الخاص؟.
يناقش هويلاند النظريات المختلفة: كونها من عمل التبشيرية المسيحية، الحاجات الإدارية لزبائن العرب في مملكة روما، التطور الطبيعي من الآرامية النباتية (كمقابل للآرامية السريانية) وتوضيح علاقة ذلك بقضية جمع القرآن وظهور هوية العرب وانتشار الإسلام.
كما بحث عن الكتابات المسيحية خلال الفتوح الإسلامية وفيما إذا كانت تحوي أي علامات على معرفة البيئة الآرامية السريانية التي ادعاها كريستوف لوكسنبرغ.
ث- يناقش ديفن ستورات (Devin Stewart) التصحيحات والتنقيحات التي طرحت للنص القرآني في التراث الإسلامي والبحث المعاصر، ومدى صحتها والأدوات التي يمكن الاستعانة بها للتحقيق من ذلك.
أخيراً، فإن حصيلة المؤتمر توحي بأن كثيرا من المستشرقين الغربيين اليوم لم يزالوا يدورون في فلك القضايا التي انشغل بها التراث الاستشراقي في القرنين الفائتين، معتمدين-في الغالب- نفس المناهج والطرق التحليلية والنقدية، في سعي حثيث للبحث عن الأصول البشرية للنص القرآني من فتات الأخبار ومتناثر الأحجار.
**************
*) كاتب سوري مقيم في مصر.