الإسلام دعا إلى الحوار السِّلمي

محمد حسين فضل الله

 

لاحظ الإسلام ـ في ما يحدِّثنا به القرآن الكريم ـ أنّ هناك طريقتين للحوار الفكري، أو للصّراع في جميع مجالاته، فهناك طريقة العنف التي تعتمد مواجهة الخصم بأشدّ الكلمات والأساليب وأقساها، بحيث يتركَّز الاختيار على كلّ ما يساهم في إيلامه وإهانته وإهدار كرامته، فلا مجال لمراعاة مشاعره وعواطفه، ودراسة واقع حياته، والإحاطة بظروفه من أجل المحافظة على الانسجام معها، بل الأمر ربما يكون ـ على العكس من ذلك ـ تحدّياً للمشاعر في كلّ المجالات.

وقد لا نحتاج إلى التأكيد بأنّ مثل هذه الطريقة لا تنتج إلا مزيداً من الحقد والعداوة والبغضاء، والبعد عن كلّ الأجواء التي تقرّب الأفكار، وتساهم في الوصول بالصّراع إلى نتيجة طيّبة.

وهناك طريقة اللاعنف، أو الطريقة السلميّة، التي تعتمد اللّين والمحبّة أساساً للصّراع، انطلاقاً من القاعدة الإسلامية التي تعتبر موضوع الصراع، بمختلف مستوياته ومجالاته، وسيلةً من وسائل الحركة المنفتحة للوصول إلى الهدف، وهو الإيمان بالحقّ، والوقوف معه، والعمل على حشد أكبر عدد ممكن من الناس للارتباط بالهدف والانسجام معه؛ ولا بدَّ لهذا الخطّ من الالتقاء بكلّ الكلمات والأساليب الطّيبة المرنة التي تفتح القلوب على الحقّ، وتقرّب الأفكار إلى مفاهيمه وأحكامه، بعيداً من كلّ المعاني الشرّيرة والسلبيّات القاسية.

وقد ركّز الإسلام على هذه الطريقة في كلّ أساليب الحوار والجدال، من أجل الوصول إلى المعرفة من جهة، أو إلى الموقف الحقّ من جهة أخرى، وأطلق على ذلك كلمه التي هي أحسن؛ فهي الطابع الذي يطبع كلّ وسائل الحوار وأساليبه.

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ* وَلاَ تَسْتَوِي الحْسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبيْنَهُ عَدَاوةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذو حَظًّ عَظِيم} (فصِّلت: 33-35).

ومن الواضح لدينا أنّ الحسنة تعبِّر عن الأسلوب السّلمي، بينما تعبِّر السيّئة عن الأسلوب العنيف.

ونلاحظ أنّ القرآن الكريم حين يختار لنا أسلوب اللاعنف وطريقة اللّين، يشير إلى النتائج العملية التي تجنيها الرسالة من خلال هذا الأسلوب، وهو أن تحوِّل أعداءك إلى أصدقاء، ينطلقون معك في ما تفكّر فيه وفي ما تعمل له. ثم يعقّب على ذلك بالإيحاء بأن السير في هذا السبيل يحتاج إلى مزيدٍ من الصبر، وإلى حظّ عظيم من الإيمان، لأن ذلك يخضع لقوّة الأعصاب، ومرونة الشخصية في مواجهتها لتحدّيات الخصومة ومشاكل الصراع.

وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في آيتين أخريين تتعلقان بالدعوة والحوار بشكل مباشر:

{ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالحْكمَةِ وَالمَوْعِظةِ الحْسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتَدِينَ} (النحل: 125).

{وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهلَ الكِتَابِ إِلاَّ بالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُواْ مِنهُم وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنِحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46).

ولن نحتاج إلى جهد كبير، لنعرف أنّ الجدال بالتي هي أحسن يتمثّل في اتباع أفضل الأساليب وأحسنها في إقناع الخصم بالفكرة التي يدور حولها الحوار، بحيث يظلّ الداعية في ملاحقة جادّة واعية لكلّ الأساليب المطروحة المعروفة وغير المعروفة، ليختار منها الأسلوب الأحسن والطريق الأقوم، سواءٌ في ذلك الكلمات التي يستخدمها أو المعاني التي يعبّر عنها.

ولعلّ من أفضل الأمثلة على ذلك، هو النموذج الذي طرحه القرآن الكريم في نهاية الآية الأخيرة، في الحديث عن جدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فقد بدأت الآية الكريمة الحوار معهم بالطريقة التي تبحث عن مواطن اللّقاء التي نؤمن بها، من خلال رسالتنا وفكرنا، فنحن لا نتنكّر لما يؤمنون به من كتاب، وما يعتقدونه من رسالة، فإن القيمة الكبيرة للإسلام هي أنه ينطلق من الإيمان بكل الرسالات السماوية، والتصديق بجميع الأنبياء، والشعور المشترك ـ منا ومنهم ـ بالعبودية لله سبحانه وتعالى الذي نسلّم له ولرسالاته.

وعلى هذا الأساس، يبدأ الحوار من قاعدة مشتركة يمكننا أن نقف عليها معاً، حيث نشعر بإمكانيّة اللّقاء في القضايا الأخرى، بعد تحقّق اللّقاء في القضايا الأساسية.

المصدر: http://arabic.bayynat.org.lb/ArticlePage.aspx?id=27510

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك