أسلمة الإرهاب أم إرهاب الإسلاميين؟
هل يمكن القول إنّ الإسلام قد مثّل خزّان عنف زوّد المقاتلين باسم الجهاد بعدّة التشريع الدّيني من أجل استباحة دماء الموسومين بالكفر، فيصحّ القول بأنّ النصّ بمساراته التأويليّة كاشف أصل العنف وعلته، وأنّ الدواء كامن في استحداث مضادات تأويليّة من جنس الدّاء؟ أم إنّ عنف المسلم صار تهمة تسمه بالإرهاب، فتضاف إلى تهمة العنف المدان قانونيّا تهمة الهويّة الإسلاميّة المدانة حضاريّا. ويصير القول بالتآمر مدعاة إلى البحث عن علله الحداثيّة؟
إنّ وجود تيّارات جهاديّة أعلنت حربها على الموسومين بالكفر في العالم يظلّ شاهدا على أنّ النصوص الدينيّة وفّرت العدّة الإيديولوجيّة لتلك التيارات التي أولّته تأويلا عنيفا، فجعلته مرجع عنف وغطاء قداسة يهب أصحابها شرعيّة القتل المقدّس. ولم تكن سرديّات الأديان التوحيديّة بجميع اتجاهاتها سوى مطايا لكثير من الباحثين عن تبرير عنفهم وتطرّفهم. ولئن صار من المستحيل تصوّر عالم خال من الأديان؛ فقد أضحى نقاش أطروحات المؤمنين بتلك العقائد أمرا لا مناص منه ما داموا يقتحمون جميع المجالات الجغرافيّة، ولا يعترفون بالحدود التي رسمتها القوانين الدوليّة. فالقاعدة أشهرت عنفها ضدّ الغرب وطالت هجماتها أعماق أفريقيا وأبراج مانهاتن وأنفاق أوروبا ووسائل نقلها ومدن آسيا. أمّا داعش التي ملأت وسائل الإعلام وشغلت الرأي العام، فقد صار صيتها ذائعا في جميع أنحاء العالم وتوافد عليها المؤمنون بمبادئها ودستورها وخلافتها من أماكن مختلفة، وبلغت تسجيلاتها أرقاما قياسيّة من المشاهدات.
إنّ وضع العالم قرية قد صيّر أخبار الإرهاب الإسلاميّ أكثر الأخبار التي تتداولها وكالات الأنباء وأكثر الأحداث إثارة لاهتمام روّاد شبكة الأنترنت. فقد تابعت الجماهير مباشرة على شاشات التلفزيون الطائرة الثانية التي ولجت أبراج مانهاتن ومشاهد الدمار الشبيهة بأفلام هوليود. وصارت مقاطع الفيديو التي تعرض عمليات النحر والحرق أسرع المقاطع تداولا على الأنترنت. وأضحى أيّ حادث طعن عرضيّ يقوم به مسلم في إحدى الدول الأوروبيّة عملا إرهابيّا، وإن كان منفّذه مختلّاً عقليا، فتغيّب حالته الاجتماعيّة والنفسيّة ويقدّم عمله "الإرهابيّ" على أساس هويّته الإسلاميّة. فاختلطت صورة الإرهاب الإسلاميّ بمتخيّل يجعل من المسلم إرهابيّا بالقوّة. ولهذا السبب اتّجهت المقاربات إلى الجزم بأطروحتين متقابلتين:
الأولى عبّر عنها أوليفييه روا (Olivier Roy) بقوله إنّ "الإرهاب لا يتأتّى من تطرّف الإسلام، بل من أسلمة التطرّف." [1]
والثانية ردّ بها "علي حرب" على أطروحة "أوليفييه روا"، فاعتبرها "تبنى على الجهل بنسق فكريّ أصوليّ يدّعي أصحابه احتكار الحقيقة والمشروعيّة، بقدر ما يتوهّمون بأنّهم أهل الصفوة المختارة أو أتباع الفرقة الناجية؛ أي الأحقّ والأصدق والأفضل من دون سائر الناس. مثل هذا الهوام الاصطفائيّ الذي يحتلّ عقل كثيرين أكانوا فلاسفة متكلّمين أو فقهاء مشرّعين أو دعاة مجاهدين، لا ينتج إلاّ التطرّف والعنف، بالعمل على إلغاء الآخر، إن بصورة رمزيّة لفظيّة أو بتصفيته الجسديّة."[2]
لقد انطلق "أوليفييه روا" في أطروحته من قاعدة بيانات فرنسيّة بحته وتضم نحو مئة شخص متورّطين على الأراضي الفرنسيّة، أو غادروا فرنسا للاشتراك في الجهاد العالميّ. أمّا "علي حرب"، فقد عرف دوما بقراءته للنّصوص وتفكيكه للخطاب ورهابه من الإرهاب. ويبدو منطلق البحث هو السّبب الرئيس في اختلاف الأحكام. فلئن كانت ظاهرة الإرهاب بكلّ صيتها العالميّ الذائع مجرّد أوهام ومشروع الخلافة الإسلاميّة طوبى، فإنّ الحديث عن أسبقيّة التطرّف على الانتماء إلى الدائرة الإرهابيّة يتجاهل إلى حدّ كبير الواقع الميدانيّ في العراق وسوريا. فجغرافيا داعش وقوانينها وأحكامها تجعل الحديث عن أسبقيّة التطرّف صحيحا بالنسبة إلى العيّنات التي انطلق منها "روا" ولكنّ علاقة داعش بالقادمين من دول إسلاميّة أو المنتمين من العراقيين والسوريين تختلف تماما عن علاقتها بالسكّان المحليين الذين انضمّوا إلى التنظيمات الجهاديّة قبل تشكّل داعش. وكانت لهم حسابات ومتخيلات مختلفة عن متخيل القادمين من دول أوروبيّة أو حتّى من دول عربيّة وإسلاميّة أخرى. فليست "الدولة الإسلاميّة" بالمعنى الدّاعشي مجرّد وهم وإنّما هي حقيقة، صحيح أنّ خطرها على الغرب محدود، وأنّها تقع في ملتقى ظروف إقليميّة جعلت كلّ طرف سياسيّ يستفيد من وجودها. ولكنّ وجودها العسكريّ والقانوني لا يمكن تجاهله. ولعلّه يبدو من الغريب تبادل التهم بدعم داعش بين الأطراف المتنازعة في سوريا باسم نشر الإسلام أو نشر الديمقراطيّة أو باسم الحفاظ على النظام القائم ضدّ المتطرّفين والإرهابيين. ولكنّها في النهاية تنظيم له فاعليّته القتاليّة ونظمه التشريعيّة. وإذا استثنينا بعض العمليات الهامشيّة، أمكننا القول إن داعش أبعدت شبح الضربات الموجعة عن أوروبا وأمريكا، بل عن إسرائيل نفسها بدعوى محاربة من سمّتهم "الرّوافض الحاقدين". وهنا بالذّات تكون أطروحة "أوليفييه روا" معقولة باعتبارها تجعل من العنف أسلمة للإرهاب من جهة الغرب السّاعي إلى تضخيم العنف الداعشي درءا لعنفه وخدمة لمصالحه، ولكنّ الوضع يختلف على أرض المعركة في العراق وسوريا. فقد أعلنت الدّولة الإسلاميّة (داعش) "عن نشوئها على مساحة توازي مساحة المملكة المتحدة... ولدى هذه الدّولة أكثر من ستّة ملايين من المواطنين الثابتين في أرضهم... وحكومة تحكم وفق تفسيرها لتعاليم الشريعة والتقاليد الإسلاميّة يقودها "خليفة"."[3]
لئن كانت ظاهرة الإرهاب بكلّ صيتها العالميّ مجرّد أوهام ومشروع الخلافة الإسلاميّة طوبى، فإنّ الحديث عن أسبقيّة التطرّف على الانتماء إلى الدائرة الإرهابيّة يتجاهل إلى حدّ كبير الواقع الميدانيّ في العراق وسوريا
وإن دراسة موضوعيّة لأهمّ التغييرات السياسيّة والاجتماعيّة التي شهدتها المناطق الخاضعة لداعش، سيقود حتما إلى الجزم بأنّ هذه الدولة تمثّل صورة من صور الدّول الاستبداديّة التي يحكم خليفتها وأعوانه من رجال الحسبة وفق معايير لاهوتيّة مستبدّة تفرض نمطا محدّدا في التفكير وتضيّق على الحريات الفرديّة وخاصّة ما تعلّق منها بحريّة المرأة في وقت طمحت الشعوب العربيّة فيه إلى التحرّر من الاستبداد الذي صيّرته موجة "الربيع العربي" أولويّة، وجنّدت له الشّعب الأعزل والمقاتلين المدجّجين بالسلاح لبلوغه، وجمعت صوت الحالمين بالحريّة والمؤمنين بقداسة الدولة الإسلاميّة. ولذلك، فقد كانت صدمة الفريق الحالم بالحريّة أن تكون بدائل الاستبداد السياسيّ المعلمن (الذي لا يدّعي لنفسه شرعيّة إلهيّة) استبدادا لاهوتيّا يحكم خليفته باسم الله ويعتقد أعوانه أنّهم يطبّقون شريعة سماويّة بقطعهم الرؤوس ونحرهم الأسرى وإحراقهم.
لقد تتالت حقب العنف السياسيّ على العالم العربيّ الإسلاميّ بدءا بالاستعمار وانتهاء بمشاريع "الدولة الإسلاميّة" ومرورا بالأنظمة الاستبداديّة، ولكنّ تنوّع تلك العيّنات لا يمكن أن يحجب عن الدّارس منابع العنف المتمثّلة في الحقد الطائفي والمعتقد الاصطفائيّ والفكر الفاشيّ.[4] فخزّان العنف الذي وفّر العدّة التأويليّة الجاهزة وشعلة الحروب، سيظلّ قابلا للاستعمال مادامت العقول المدبّرة التي تتعمّم بالدين تعتقد أن حلول الأزمات التي يعاني منها "المسلمون" كامنة في حربهم "ديار الكفر" التي تختلف جغرافيتها من حقبة إلى أخرى وتخضع إلى آراء أصحاب السلطة التأويليّة والأنظمة السياسيّة التي توفّر الدعم بالمال والسلاح بحسب مصالحها. فقد ضمّت هذه التنظيمات أنماطا مختلفة من الاستبداد حول مائدة واحدة بعضها آخذ بخطاب الدين وبعضها الآخر آخذ بمصالح السياسيّين. وقد يصير من المجحف أن نسوّي بين المعتدي والمعتدى عليه باسم العنف اللاهوتيّ. ولكنّ الحقيقة أنّ ضحايا الإرهاب ليسوا فقط ممّن تُقطع رؤوسهم على الملأ أو ممّن يُحرقون أحياء، وإنّما هم أيضا ممّن ترسّخ لديهم الاعتقاد في العنف المقدّس ونبذوا قيم التّسامح وسيطر على عقولهم وهم راسخ بأنّه يسيرون إلى الجنان على جماجم الأبرياء. وأنّهم يرسمون "مجد الأمّة" بالجهاد والدّماء. فهؤلاء المقاتلون وأغلبهم من الشباب كثيرا ما يساقون إلى تلك الحروب باسم المقدّس وسحره، ويجدون في متخيّل الجهاد دواء لجراحهم الاجتماعيّة والنفسيّة، وتصعيدا لنزعاتهم العدوانيّة المكبوتة.
[1] أوليفييه روا، الجهاد والموت، (ترجمة صالح الأشمر)، ط1، بيروت، دار الساقي، 2017، ص 16
[2] علي حرب، الجهاد وآخرته، ما بعد الأسلمة، ط1، بيروت، الدّار العربيّة للعلوم، 2018، ص 84
[3] عبد الباري عطوان، الدولة الإسلاميّة، الجذور، التوحّش، المستقبل، ط1، بيروت، دار الساقي، 2015، ص 22
[4] اعتبر علي حرب أنّ هذه العوامل بمثابة الصّندوق الأسود أو الخزّان الذي ينبغي فتحه من أجل تشخيص علّة العنف. انظر كتابه: ملاّك الله والأوطان، الهشاشة/ المفارقة/ الفضيحة (في المأزق والمخرج)، ط1، بيروت، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2014، ص ص 100- 105
المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%...