ثقافة التغيير وتغيير الثقافة الإسلام وثقافة السلام
ثقافة التغيير وتغيير الثقافة الإسلام وثقافة السلام
سعاد الحكيم*
تدور نقاشاتٌ عاصفةٌ ما عادت مقصورةً على أوساط العرب والمسلمين حول طبيعة الإسلام, وقدرات المسلمين على المشاركة في حضارة العالم وتقدمه وأمنه ومستقبله. ويرجعُ ذلك، ليس إلى صعود الأصولية العنيفة وحسب, بل وإلى طرائق التفكير والتدبير في حلول المشكلات الكثيرة والعالقة, وبينها القومي والوطني والإسلامي.
لا جدل بالنظر لهذين العاملين, عامل الفكر والممارسة, وعامل سوء العلاقة بالعالم المعاصر, في ضرورات التغيير الفكري واجتراح المستقبل الآخر. وأرى أنه حان الوقت لإرساء ثقافة تغيير مؤصلة على الإسلام, تجدّد الدين وتغيّر طرائق التفكير والتدبير. وأن بين أهم المسائل الملحّة للتغيير مسألة الثقافة, وعلى التحديد ثقافة السلام.
إن السلام قيمة أصيلة وجوهرية في الإسلام ولسنا اليوم نكشف عن وجوده بمهارة قراءة بل العكس هو معطى ظاهر. كل ما في الأمر أن هذه القيمة الأصيلة سرت في ممارسة السابقين وأسهمت في البناء الحضاري الكبير وتمثلت في السلام مع النفس والآخر, وفي نشر فكر التصالح مع العالم وفيه, ولكنها لم تتحوّل إلى ثقافة سائدة مكتوبة ومتوارثة, يحتكم إليها ويُساءَل بموجبها.
1 - السلام قيمة إسلامية
يتبدّى للعقل الناظر في النص الديني أنّ السلام هو النظام والقاعدة في الإسلام, وأنّ العنف هو خرقٌ لنظام الإسلام وخروج على قاعدة الحياة فيه. وفي إطار البرهنة على ما يتبدّى للعقل نورد حزمة أدلة:
1 - السلام هو اسم من أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن الكريم, يقول تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾(1).
2 - يدعو المؤمن ربّه بهذا الاسم المعظّم عقب كل صلاة يومياً: "اللهم أنت السلام ومنك السلام", وفي هذا لَفاتٌ لوجدان المسلم إلى ضرورة إشاعة سلام الإسلام في ذاته وفي محيطه.
3 - إنّ تحية المسلمين حين يلتقون بعضهم وغيرهم هي: "السلام عليكم", إنها مبادرة بإعلان السلام.
4 - في الصلاة يحيّي المسلمون نبيّهم (وإخوانهم وأنفسهم بقولهم: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
5 - أحد أبواب المسجد الحرام في مكة المكرمة, وأحد أبواب المسجد النبوي في المدينة المنورة يسمى "باب السلام".
6 - الجنة هي دار السلام. قال -تعالى-: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِم﴾(2).
7 - تحية المؤمنين يوم يلقون ربهم في الآخرة هي السلام، قال -تعالـــى-: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾(3).
8 - لقد جاء التبيان النبوي ليربط الإسلام بالسلام والإيمان بالأمان، فقال: (ص) "المسلم مـن سلم الناسُ من لسانه ويده، والمؤمن مـن أمِنَهُ الناسُ على أموالهم وأنفسهم".
9 - وفي القرآن الكريم تأكيد صريح على السلم, وخاصة عند غياب القتال, قال-تعالى-: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾(4).
10 - كذا إن عَلِم المسلم أن الذي يقاتله قد جنح للمسلم، فيدخل في الحالة السلمية، قال-تعالى-: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾(5).
11- إن السلم ليس مجرد هدنة في الإسلام بل العكس هو الأساس وهو النظام وهو القاعدة الحياتية. أما الحرب فهو خرق للنظام وهو الاستثناء. قال: (ص)"يا أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية"(6).
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة(8): "الأصلُ في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلم, وأن ذلك هو رأي الجمهرة العظمى من الفقهاء, والقلة التي خالفت ما كان نظرُها إلى الأصل بل نظرُها إلى الواقع, وكان ما قررته حكماً زمنياً وليس أصلاً دينياً".
2 - منطلقات إسلامية تؤسس لثقافة السلام
إن الإسلام -في أساسه- ليس فكراً فئوياً يهتم بجماعة من الناس, بل هو ينظر إلى الإنسانية كلها على أنها واحدة, وينظر إلى التاريخ البشري بأكمله على أنه وحدة متوالية متسلسلة. وفيما يأتي ندلل على وحدة الإنسانية ووحدة التاريخ:
1 - وحدة الإنسانية ووحدة الإنسان
تجلت وحدة الإنسانية في القرآن الكريم، يقول-تعالى-: ﴿يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾(9). تؤسس هـذه الآيـة للمساواة بين الأجناس والأعراق. فالكل من طبيعة واحدة، وله نفس الاستعدادات والإمكانات الإنسانية، لا عرق أفضل من عرق, وليس هناك "شعب مختار" أو "عرق مختار" يحق له قيادة العالم ومؤهل لسيادته.
الإسلام مفتوح أمام الإنسانية كلها, إنّه دعوة للجميع دون استثناء, ودون تفضيل لشخص على شخص إلا بالتقوى, والتقوى أمر اختياري إنساني لا أمر استعدادي خَلْقي. إذن, من التقوى ألا يتعصّب المسلم لعرق أو لعصب أو لقومية أو لطبقة, لا ميزة إنسانية لفئة على فئة أو لشخص على شخص, الكل سواسية كأسنان المشط(11).
ظهرت في القرن التاسع عشر في كتابات ترجع إلى نُخب علمية وثقافية غربية مقولة غريبة هي: "الشرق شرق والغرب غرب". وتبدو هذه المقولة تصنيفية بظاهرها ولكنها تُبطن قطيعة بين شعوب الأرض, وتؤسس لأشكال من الصراع والعزلة واللامساواة الإنسانية والغطرسة لعرق من الأعراق.
لقد استخدمت مقولة "الشرق شرق والغرب غرب" في إطار أن القطبين لن يلتقيا, ولا يمكن أن يلتقيا لأنهما مختلفان بالجوهر لا عرضياً. لكأن أهل الغرب هم من جنس بشري مختلف باستعداداته وإمكاناته وجوهره عن جنس أهل الشرق. وقسموا بالتالي حضارة العالم إلى حضارات على أساس عرقي وجغرافي(12) إلى جزر بشرية منعزلة بجنسها وحضارتها.
ونشأ عن هذه المقولة التصنيفية -عرقياً وإقليمياً- فكرة أشد فتكاً بوحدة الإنسانية وهي فكرة "الجنس الأعلى", وفكرة مفادها أنّ خصائص الشعوب ثابتة ونهائية وجوهرية. وأدى ذلك إلى انشطار إنساني حضاري تواجهت بموجبه الثقافات والحضارات, فإما مسار صراع وإما مسار حوار.
وفي المقابل, فإن الفلاسفة العرب المسلمين -كابن خلدون مثلاً- حين نظروا إلى الفروقات بين الشعوب وجدوا أنّها خصائص ناتجة من ظروف معيشية وبيئية وليست جوهراً إنسانياً. وبالتالي تسقط الظنون بأن عرق هو أقدر على التجريد العقلي وبناء الأنساق الفكرية من غيره من الأعراق وهكذا..
وقد يتبادر للذهن أن المسلمين أيضاً جنحوا للتفريق بين الشعوب حين تمسكوا بمقولة "خير الأمم"، وإنها مقولة تؤسس للتفاضل واللامساواة بين البشر. وحتى لا تقام مماثلة بين هذه المقولة ومقولـة "الشرق شرق والغرب غرب" نقول: إن الخيرية هنا ليست عرقية أو قومية أو إقليمية، إنّها خيرية أخلاقية لا وجودية، وبالتالي مفتوحة أمام إرادة كل من يشاء الدخول فيها.
وخلاصة القول إن الإسلام نظر إلى البشر جميعهم على أنهم أسرة واحدة, وإن رسول الله (ص) هو الرحمة المرسلة إلى الناس كافة بل إلى العالمين لا إلى المسلمين فقط. قال-تعالى-: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(13). فالإنسان نوع واحد يتعدد في الأعراق والقوميات.
2 - وحدة التاريخ والدين
نظر الإسلام إلى الدين على أنه واحد وبالتالي أصبح تاريخ الإنسان تاريخاً واحداً متعاقباً متسلسلاً, تكمل كل حقبة فيه وكل رسالة منه الأخرى, فلا تناقض بين الرسالات بل وحدة الدين وتعدد الشرائع.
وقد حذر القرآن الكريم من التفريق بين رسل الله سبحـانه، قال -تعالـى-: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(14). بل جعل الإسلام فعل الإيمان برسل الله أجمعين وبالكتب الإلهية المنزلة عليهم من أركان الإيمان.
كما أكّد محمد رسول الله (ص) على أخوة الرسل بقوله: "الأنبياء إخوةٌ من عَلاّتٍ وأمهاتهم شتى ودينُهم واحد"(15).
إذن, إن وحدة الإنسانية والإنسان، ووحدة الدين والتاريخ، تُسجّلان للإسلام. إنهما إنجاز إسلامي، وعلى المسلمين حمل هذه المسؤولية، مسؤولية بناء ثقافة إسلامية تعكس سلام الإسلام.
3 - ثقافة السلام لا بدّ أن تكون إنسانية وشاملة
أطرح هنا مسألتين: مسألة إنسانية هذه الثقافة ثم مسألة شموليتها.
1 - ثقافة سلام إنسانية
تُطرح في كثير من الأحيان مسألة السلام وكأنها مسألة من اختصاص الإسلام السياسي. أقول عبارة "الإسلام السياسي" بتحفظ، لأنني أرى أن الإسلام واحد وكلُّ لا يتجزأ, وأن التجزئة الواقعة في تخصصاته العلمية لا تنعكس تجزئة على ذاته.
وفي طرح مسألة السلام وكأنها مسألة سياسية فقط عائق أمام إنشاء ثقافة سلام في الإسلام, لأن السلام هو مسألة إنسانية لا مسألة سياسية فقط. فالإنسان الفاقد للسلام في ذاته وعائلته لا يستطيع أن يلتزم بالسلام المعقود بين الدول والمنصوص عليه في القوانين والمعاهدات.
وحيث أن مسألة السلام هي إنسانية لا سياسية فهي تخضع كغيرها من مسائل الإنسان إلى العقل والإرادة. فلا سلام حقيقي إن لم يقتنع به عقل الإنسان, ولا سلام حقيقي إن لم تلتزم به إرادة الإنسان بحرية واختيار.
وحيث أن مسألة السلام هي إنسانية لا سياسية فهي بالضرورة جماعية لا نخبوية، يشترك في صنعها الجميع, حكومات ومؤسسات ومجتمعات أهلية وعلماء الدين ووسائل الإعلام, وبالتالي أي بناء ثقافي في هذا المجال أو تغيير ثقافي لا بدّ أن يتسرب إلى الجماعة البشرية بأكملها, ويدخل في برامج التربية والتعليم والتنشئة, ويؤكّد على دور المرأة في صنع السلام وإشاعة ثقافة السلام.
2 -3- ثقافة سلام شاملة
حيث أن الإسلام هو كلٌ كامل لا يتقبل التجزئة لذا فثقافة السلام الإسلامية لا بدّ أن تكون شاملة للمجالات الإنسانية كلها. وهذا الشمول يجعلها مُحْكَمة مستمرة ومستديمة لا آنية وعرضة للانهيار والسقوط. وهذه الشمولية تظهر بوضوح في الفقرة التالية من هذا البحث.
4 - مجالات السلام الإسلامي
إن محور عملية السلام وثقافة السلام هو الإنسان, فهو السبيل وهو في الوقت نفسه الغاية, لأن السلام هو من أجل الإنسان. يولد السلام في العالم من قلب الإنسان كما أن العنف الظاهر هو أيضاً يتفجر من داخل إنسان. وبناء عليه فإن السلام منظومة متكاملة تتداخل فيها دوائر الوجود الإنساني كلها, الذات والعائلة والمجتمع والوطن والأمة والعالم أجمع. وإن أية خلخلة في دائرة منها سيسرّب الخلل إلى الدوائر الباقية.. وسوف أضع نقاطاً على شكل علامات ترسم حدود مجال ثقافة السلام وأفقها الإنساني المرجو.
1 -4- السلام الذاتي الداخلي
إن النصوص الإسلامية مثقلة بمفاهيم قابلة لأن تُستثمر في بناء ثقافة السلام الداخلي، وأرى أنه يمكن تصنيفها ضمن مرحلتين: المرحلة الأولى تحقق التوازن الداخلي بين مكونات الذات الإنسانية, وتُرسي مناخ الهدنة, وتزيل مساحات الاحتكاك العدائي العنيف. أما المرحلة الثانية فهي لا تكتفي بتحقيق التوازن الداخلي بل تذهب أبعد من ذلك, تصبو لأن تحقق وحدة الذات الإنسانية بتماسك مكوناتها الداخلية في كل منسجم متناغم لا يقبل التجزئة.
وفي إطار المرحلة الأولى نقرأ كافة التعاليم النبوية التي تنصّ على واجب الإنسان تجاه ذاته, وخاصة واجب العدالة بين مكوناته الذاتية. لقد ألفت الإسلام الإنسان إلى ضرورة العدل في ذاته, بين مكوناته نفسها, فألزمه بأن يعطي لبدنه حقه من الغذاء والنماء ولروحه حقه من العبادة والرجوع إلى خالقه بالذكر والتسبيح ولنفسه حقها في تلبية حاجاتها في حدود المسموح ولعقله حقه في التعلم والقراءة والتفكّر. يقول (ص): "فإن لزوجك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً"(16). و"إن لولدك عليك حقاً"(17). و"إن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً"(18). و"قال سلمان لأبي الدرداء: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"(19).
إن الإنسان وإن كان موجوداً وفاعلاً عبر مكوناته الذاتية إلا أنه ليس مالكاً لها بل مُستخلفاً عليها، يُسٍأَل عن بدنه فيما أبلاه وعن علمه فيما استنفذه أو أبقاه. وهذه المسؤولية ووجوب العدالة معاً تؤسسان لنهج حقوقي هام جداً, فالإنسان مسؤول لا عن حقوق الغير فقط بل عن حقوق الذات. ولكل شيء حق ومن الضروري أن يؤدي المسلم هذه الحقوق.
بتأدية الحقوق يتحقق العدل داخل الذات, وعندما يتحقق العدل ينزاح الظلم المسبب لكافة أشكال الصدام والصراع والشقاق والتطرف والإرهاب وغير ذلك. بتأدية الحقوق يتحقق التوازن الداخلي بين مكونات الذات, فلا صراع داخلي بين العقل والنفس, ولا صراع بين البدن والروح, بل كل مكونة تأخذ نصيبها وحقها وتعلم أن الذات هي الرقيب الضامن لعدم التسلط والتطرف, وغير ذلك.
وفي إطار المرحلة الثانية نقرأ كافة النصوص القرآنية والنبوية التي تُلفت المسلم إلى أهمية القدوة الإنسانية والأسوة الإنسانية في مجال بناء الذات وصناعة وحدتها الداخلية وتماسكها. إنّ تأدية حقوق المكونات الذاتية يرسي العدالة ويزيل مسببات الصراع الداخلي, ولكن انصهار المكونات في وحدة ذاتية متماسكة لا يتم إلا بفعل الارتباط الإنساني.. من هنا نفهم تمزق الشباب المسلم المشدود إلى شاشات التلفزة والمصدّق لما يراه من صور, ونشهد ذهاب مكوناته كـل في ناحية, فالبدن يتأسى بفلان المصارع أو فلانة الممثلة, والروح يتأسى بفلان الداعي أو فلانة الصالحة, والعقل يتأسى بفلان المفكر أو فلانة المثقفة, والنفس تتأسى بفلان الناجح أو فلانة البارزة.. وهكذا, وإن اجتهد الشاب على مكوناته, كل واحدة على حدة, فإنه لن يصل إلى وحدته وانسجام مكوناته في كل متماسك إن لم يلملم ارتباطاته المفرّقة في ارتباط إنساني واحد يشبع كافة احتياجاته الإنسانية في السلام والوحدة الداخلية.
إذن في المرحلة الثانية لا بدّ من الاقتداء بالأسوة الواحدة لما لها من أثر على بناء الذات الإنسانية ووحدتها.
2- 4- السلام العائلي
يتأسس السلام العائلي على أربعة ركائز: على السلام بين الرجل والمرأة, وبين الأهل والأبناء, وبين الأبناء والأهل, وبين الأبناء فيما بينهم.
كثيرة هي النصوص الإسلامية, وحاسمة, فيما يتعلق بالعائلة. وفي إطار رسم المعالم نورد ما يأتي:
أ- علاقة الرجل بالمرأة. يخاطبنا القرآن الكريم بلغة الرمز والإيحاء فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة، ونخلص إلى أربعة أمور هي: السكن، المودة، الرحمة، اللباس.
يقول -تعالى-: ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(20). وقال -تعالى-: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾(21).
وإذا فككنا هذه العلاقات الأربع نجـد أن "السَكَن" عبارة عن استقرار وأمان، فلا بدّ إذن من أن يشعر كل طرف من الطرفين بالاستقرار والأمان ليتحقق السلام.
كما نجد أن "المودة", هي المحبة الثابتة لا الرغبة الجارفة الآنية والزائلة، ولا شيء يضمن السلام بين الرجل والمرأة أكثر من ثبات المحبة واستمرارها.
كما نجد أن "الرحمة", هي عدم الإرهاق, فلا يرهق الزوج زوجه بمتطلبات تفوق قدراتها الجسدية والإنسانية، وكذا لا ترهق الزوجة زوجها بمطالب تلجئه إلى ما لا يرضى أو تولد فيه مشاعر الإحباط والفشل والقلة.
كذا نجد أن "اللباس", هو الثوب، والثوب للبدن التصاق وتماسك، وحماية وستر من العيب وزينته. وبالتالي حين يكون الزوج لزوجه والزوجة لزوجها التصاق وتماسك وحماية وستر وزينة يشيع السلام وتُسدّ منافذ الصراع كلها.
إنّ السلام بين المرأة والرجل هو الأساس للسلام العائلي، وخاصة في المرحلة الحياتية الأولى للعائلة.
ب - علاقة الأهل بالأبناء.. لقد نص الإسلام على حقوق الأطفال والأولاد، وخاصة حق الإطعام والكسوة والرزق والتربية والتعليم والتأديب، حتى حق الولد في الاسم اللائق وغير ذلك. وحيث أنّ هذه الحقوق معروفة تكفي الإشارة إليها، ونورد قوله-تعالى-: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا(22).
ج - علاقة الأبناء بالآباء.. ترتكز علاقة الأبناء بالآباء في الإسلام على قاعدة وحيدة هي: الإحسان. إنها ليست علاقة معاوضة وعلاقة عدل وجزاء، لأن الفعل هنا يتجاوز الجزاء العدل بنص القرآن، لذا فهي علاقة "إحسان"، ورضوخ تام واحترام، يقول-تعالى-: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾(23).. قول كريم يؤسس للسلام بين الأجيال, سلام مبني على احترام الصغير للكبير لا على النديّة, فالابن يحتاج إذن والديه حتى بعد بلوغه سن الرشد إن أراد السفر أو حتى الجهاد, وكذا نبهت التعاليم النبوية على أن عقوق الوالدين من كبائر الإثم.
د - علاقة الأبناء فيما بينهم.. إنّ الأخوة علاقة مقدسة في الإسلام, وقد اتسعت وانتشرت خارج إطار العائلة لتشمل الإنسانية كلها. والأخوة لا تنفي أصل الخصومة بل تنفي أصل المفارقة, نختلف ونبقى أخوة غير متفارقين يجمعنا نسب مادي أو نسب معنوي.
وهكذا يؤسس الإسلام لثقافة سلام يمكن استثمارها للجماعة البشرية بأكملها.
3- السلام الاجتماعي
ينظر الإسلام إلى المجتمع الإنساني على أنه فئات اجتماعية, وكل فئة منها تتدرج أوضاعاً معيشية, متساوية في القيمة الإنسانية "الناس سواسية كأسنان المشط". وهذه المساواة الإنسانية, إن مورست بمهارة وفهم, تؤدي إلى التماسك والتعاون والتآخي وتزيل مسببات الصراع الطبقي كلها. لأن الصراع يتولد من مشاعر الدونية والقلة والإحساس بالغبن والظلم.
لقد أوجد الإسلام منظومة مفاهيم اقتصادية تُرسي السلام الاجتماعي. ونحتاج اليوم إلى إعادة استثمارها في ثقافة السلام, وأهمها: تداول المال وعدم كنزه بالبخل, النهي عن الإسراف والتبذير, الحقوق المالية للآخر كالزكاة مثلاً: التكافل والتضامن والتعاون في حالات العوز والشدة.. تعاون فيه مساواة وندّية ويسهم في تنمية الآخر وتقدمه.
لقد حرّض الإسلام المسلم على أن يكون غنياً قوياً, فقال (ص): "اليد العليا خير من اليد السفلى", تحريض للإنسان على التقدم والعمل.
ولا أدلّ على إمكانات الإسلام في إرساء ثقافة للسلام الاجتماعي, من فتاوى علماء أجلاء, من بينهم ابن حزم الذي أفتى باعتبار أهل المحلة التي يموت فيها فرد من الجوع قتلة له تُؤخذ منهم الديّة.
كما أوجد الإسلام منظومة مفاهيم اجتماعية, تؤسس للسلام والأمن الاجتماعي، وتحمي بوجودها مـن التفكك والدمار وأشكال العنف والإرهاب. ومن هذه المفاهيم: الأخوة, الصداقة, الجيرة, صحبة العمل, معاشرة الأهل, النهي عن التجسس, إدانة الغيبة والنميمة والاستهزاء بالآخر والظن السيئ ونقض العهد والخيانة ورمي المحصنات, النهي عن الظلم والطغيان, والعدوان والإفساد, وغير ذلك من مفاهيم مشبوكة بآيات القرآن الكريم وبالتعاليم النبوية العصماء, ومستثمرة في كتب الفقهاء والصوفية.
ولا يكفي من أجل إنشاء ثقافة للسلام أن تظل هـذه النصوص في سياقها السابق, بل لا بدّ من أن تعاد صياغتها في منظومة جديدة من أجل عصر جديد.
4 - السلام الوطني
إن سلامة الأوطان والمواطنين هما جزء من السلام الإنساني. وفي هذا السياق أفتى جلّ علماء المسلمين عبر تاريخ طويل من ملاحظة الواقع ومعاناته والتكيف معه وتجاوزه بطاعة الحاكم, وعدم مشروعية الثورة عليه حتى لو كان باغياً. وأفتى البعض -ومنهم الإمام الغزالي- بخلعه شرط دون قتال وإلا وجبت طاعته.
ومسألة "طاعة الحاكم"، لقيت في أزمنة الإصلاح الحديثة والمعاصرة الكثير من النقد, لما فيها من سلبية وإبقاء الحال على ما هو عليه. ولكن بعد انقضاء قرنين في الصراع بين الراعي والرعية في المحيط العربي ندرك أهمية التغيير السلمي لأنظمة الحكم, أو التغيير الديمقراطي إن أردنا بلغة العصر.
إن طاعة الحاكم لا تعني الخضوع والخنوع وإقرار البغي والفساد, ولكن تعني من منظور حديث, الحفاظ على الأمن الاجتماعي, مكافحة الفتن التي تدمر الإنسان والمجتمع, دفع عملية النماء والتنمية إلى التقدّم, إنعاش الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية والمشاركة الشعبية في اختيار المستقبل.
لقد آن الأوان لأن نرى أننا دخلنا في عالم جديد, اختلفت فيه الأسلحة وميادين القتال, وبرز فيه الإنسان والفكر على أنهما السلاح والميدان معاً في كل مجال.. والسلم الوطني هو السبيل الوحيد لنماء الإنسان وتنمية فكره ليواجه الحياة بروح العصر.
5 - السلام الأممي العالمي
إن السلام العالمي هو الحاضن للسلام الإنساني, والإسلام بناه على حسن الجوار وعدم الاعتداء والطغيان, بناه على العهود والمواثيق وواجب الوفاء بها والالتزام ببنودها. وقد أبان الشيخ محمد أبو زهرة حكم الإسلام فيما يتعلق بالعهود الدولية ومواثيق المنظمات, يقول(24): "يجب أن يُلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحـدة [منظمة الأمم المتحدة] قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها, وحكم الإسلام في هذه أنّه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التي تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذي قرره القرآن الكريم, وعلى ذلك لا تعدّ ديار المخالفين التي تنتمي لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد".
5 - معوقات نشر ثقافة السلام
يجب أن نعترف بوجود معوقات إنسانية أمام نشر ثقافة السلام, معوقات لا بدّ من أن نوليها الاهتمام اللازم فندرس أسبابها وآلياتها ونتأمل إنسانياً في حلّها ولا نكتفي بمحاربتها فقط. وأضع بين يدي هذه المعوقات ثلاث أفكار:
الفكرة الأولى.. منظومة رباعيّة مدمّرة.
تتجلى ظواهر عديدة تؤكد على وجود منظومة رباعية مدمرة فاعلة في العالم اليوم, وهذه المنظومة الرباعية تتلخص بأربع كلمات هي: التعصب -التطرف - العنف - الإرهاب.
تتجلى ظاهرة التعصّب اليوم بكافة أشكاله فمنه الفكري والديني والعرقي والقومي. وعلى حين أن العصبية ليست ضد الآخر إلا أن التعصب للعصب هو المؤسس للصراع وكذا فاتّباع فكر معيّن ليس ضد الآخر ولكن التعصب لفكر واحد يؤدي إلى الصراع, يؤدي إلى عدم قبول الآخر, والى الأحادية التي يظن المتعصب لفكره بموجبها أنه وحده على حق وكل الآخرين على ضلال. إن ظاهرة التعصب التي هي أولى مراحل الدمار تحتاج إلى مزيد دراسة لمعرفة أسباب تكوّنها داخل الذات البشرية ودور الاستبداد والطغيان والظلم والقمع والخوف على الهوية وحماية الذات في ذلك.
كما تتجلى ظاهرة ثانية هي التطرف. الخطوة الثانية بعد التعصب هي التطرف, هي التخلي عن الاعتدال والوسطية, هي ترك وسطية الإسلام لاعتناق الغلو والمغالاة, والتشدد بما لا يترك مجالاً للقاء مع الآخر في مساحات مشتركة.
وتتجلى ظاهرة ثالثة هي العنف, إذ نلحظ أن العنف أصبح يفور كالتنور في وجدان معظم الناس, إلا من رحم ربي. عنف على كافة المستويات, حركة عصبية عنيفة أمام آلة ترفض الاستجابة, سرعة غضب وعنف كلامي أثناء عرقلة سير أو مخالفة للسير من شريك الشارع, عنف وغليان عند تأخر في موعد, حتى الأطفال مع الأهل والأهل مع أولادهم نلحظ حالات من العنف وعدم المسالمة وعدم التسامح. ولسنا هنا في مجال دراسة أسباب العنف, ولكن لا بأس من الإشارة إلى مشاعر الإحباط والغضب, اثر الوضع العام, ضغوط العمل والمحيط, اثر وسائل الإعلام والأفلام الأجنبية, حتى أفلام الكرتون للأطفال قبل الثالثة من العمر وبعدها تولد في الطفل التخطيط للأذى والشر (أفلام توم أند جيري مثلاً وخطط الفأر لإيذاء القط بهدف إزاحته من مساحة العيش المشترك وغير ذلك...). باختصار, إن العنف عائق أمام ثقافة السلام, وتجعل الإنسان, رجلاً أو طفلاً, ذكراً أو أنثى, غير متلق وغير مستجيب لها. والعالم أجمع بحاجة إلى توجيه العنف المبثوث في الصورة وتوظيفه في إطار القيم الإنسانية, توظيفه فذي الخير في الفروسية الاجتماعية أسوة بكل الأعمال التاريخية للأجيال السابقة.
وتتجلى ظاهرة رابعة هي الإرهاب, إذ أن التعصب والتطرف والعنف تمهد أرض الإنسان وتجعلها مواتية في كثير من الأحيان للانتقال من حيز الذات إلى حيز الجماعة. فتتجسد هذه العوامل في عمليات التدمير واستئصال المختلف معنوياً ومادياً. كما تتوظف هذه الظاهرة في أحايين كثيرة في سياق سياسي سلطوي, يشيع الذعر والدمار ولا يقدم مشروعاً إنسانياً للجماعة.
الفكرة الثانية.. إن منظومة الدمار متسلسلة
إن أكثر ما يثير مخاوف المفكرين هو أن منظومة الدمار متسلسلة, بمعنى أنها تعيد إنتاج ذاتها عبر ضحاياها. يتلقى الإنسان الظلم والعنف والقهر والقمع فيكون مظلوماً ومقهوراً ومقموعاً وغير ذلك, فإذا به يصبح هو الظالم, وهو القاهر، وهو القامع، لمن هو دونه وتحت رحمته. التسلسل يجعل الضحية هو الجلاد لضحية ثالثة والضحية الثالثة جلاد لضحية رابعة وهكذا.. والأمثلة على ذلك كثيرة ابتداء من الدولة والأب والأم والابن وانتهاء بالمحبين وأفراد الناس.. الإرهاب يتسلسل، يولد العنف عنفاً آخر لدى شخص آخر وهكذا.
الفكرة الثالثة.. فلسفة الدور
إن منظومة الدمار تدور بين الجلاد والضحية, وكلما أتمت دورة من دوراتها ازدادت قوة وعنفاً. إن القمع والظلم والطغيان من طرف تولد لدى الطرف الآخر تعصباً وتطرفاً وعنفاً وإرهاباً, وبظهور هذه الأعراض لدى الطرف الآخر يزداد الطرف الأول في قمعه وظلمه وتأديبه وطغيانه. مثلاً, يظلم الأب ولده, فيصبح ابنه عنيفاً, فيزداد الأب في قمعه, وهكذا تدور الظواهر في حلقة تولد واحدة منها الأخرى. فإن سألت الأب عن سبب شدته مع ابنه, يقول لك انه عنيف, وان سألت الابن يقول لك انه ظالم وهكذا..
6 - من أجل بناء ثقافة للسلام في الإسلام
إن البشرية بأكملها وحدة عضوية, أبحر أبناء الإنسان في مركب واحد, أو أقلعوا في طائرة واحدة.. إننا جميعاً نسبح في الفضاء على سطح كوكب واحد, ولا بدّ أن يأتي على الناس حين من الدهر يلمسون فيه هذه الحقيقة البديهية, ويدركون أنّ أي فساد يلحق بشعب من الشعوب أو بأمة من الأمم سيؤدي حتماً إلى فساد الآخرين, شركاء الوجود الإنساني.
وفي خضم هذا الخلط الهائل بين دين الإسلام وتاريخ المسلمين وواقعهم لا بدّ من التأسيس لثقافة للسلام المستدام, وليس للسلام الآني المرحلي, سلام هو فعل إسلامي مؤسس على جدلية النص والواقع لا ردة فعل على تهم موجهة أو أحداث محدودة.
وأعترف بأن المسألة صعبة, لأن الكتابة على المحو ليست كالكتابة على الصفاء الأول, كما يقول الإمام الغزالي.. ومع ذلك أرى أنه من أجل بناء ثقافة للسلام فـي الإسلام من التعاليم الإسلامية التي أشرت إليها في الفقرات السابقة كلها, لا بدّ من أن نلتزم بالتأسيس على محورين: على مركزية الإنسان, وعلى مركزية الإسلام معاً.
1 - مركزية الإنسان
لا سلام بدون مشاركة الإنسان, لذا لا بدّ من بناء إنسان قادر على نشر السلام العادل بين الناس. ويتحقق ذلك من وجهة نظري إن قمنا بعملين متزامنين:
العمل الأول.. هو بناء إنسان تعددي, يقبل الآخر. لأن الأحادية تؤسس للنزاع والصراع. ومن أجل بناء التعددية نعمل على إيجاد ثقافة التنوع فنستثمر النصوص التي تعرّف الإنسان بروابطه وخصائصه, تُظهر تنوع ذاته الواحدة في الأعراض, وتُبدي أبعاد هذه الذات الواحدة. مثلاً انه في الوقت نفسه يؤمن بدين ويلتزم بشريعة, وينتسب إلى عرق والى قومية والى عائلة ووطن ومنطقة وغير ذلك, فإن تعصب لأي بعد من هذه الأبعاد وتطرف خسر تكثّره وخسر غناه وسقط في الأحادية.
إن بناء الإنسان التعددي يبدأ منذ الطفولة, يبدأ من مدرسة الأهل التي تنشئه على التعامل مع كثرته, فيراها ويعطي كل ذي حق حقه, منذ الطفولة يتدرب الإنسان على عيش الكثرة في الوحدة.
وهذا التعدد ليس مجانياً, ولا هو معطى فطري إنساني, بل لا بدّ من اكتسابه بالتعلم والدربة. ومتى تحقق هذا الإنسان القادر على استيعاب المتخالفات ينهض مجتمع التواصل والحوار والتعددية.
العمل الثاني.. هو إيجاد إرادة السلام لدى الإنسان. إذ لا يكفي أن يكون الإنسان متنوعاً في ذاته مفتوحاً على حوار المتخالفات بل لا بدّ من أن تختار إرادته السلام والمسالمة. وهذه الإرادة تولد من الاعتقاد ومن العقل معاً, وتتفعل بالتربية حين يتشرّب الإنسان منذ طفولته الأولى حقوق الآخر, سواء أكان هذا الآخر أخاً له في الدين أو في الإنسانية.
وتقدم لنا النصوص الإسلامية كنزاً هائلاً قابلاً للاستثمار في ثقافة السلام, ولا يزال مهجوراً حتى اليوم إلا في حدود ضيقة.
وتحت عنوان "حقوق المسلم على المسلم" نجد نصوصاً إسلامية ثابتة وصحيحة تدين ما نراه اليوم بين المسلمين, ومنها: أن لا يؤذيه بقول أو بفعل, لا يزيد في هجره على ثلاثة أيام في حال الخصومة, يستر عورته, يصون عرضه ونفسه وماله, يوقر المشايخ ويرحم الصبيان, يفي بوعوده له, لا يسمع بلاغات الناس فيه, ينزله منزلته (وقصة جرير البجلي ورداء رسول الله(ص)(معروفة), يكرمه لحقّ قديم, يصلح ذات البين... والحقوق كثيرة لا يفي المكان بسردها(27).
كما أثبت الإسلام حق غير المسلم على المسلم. قال (ص): "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد, وجار له حقان, وجار له ثلاثة حقوق. فالجار الذي له ثلاثة حقوق هو الجار المسلم ذو الرحم, فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم. وأما الذي له حقان فالجار المسلم, له حق الجوار وحق الإسلام. وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك"(28), وقال (ص): "أحسن مجاورة من جارك تكن مسلماً". والجوار مسألة منزلية كما أنها مسألة دولية.
2 - مركزية الإسلام
يحتل الدين مكاناً جوهرياً في حركية السلام العالمي(29), وهنا تبرز أهمية إظهار "الإسلام الكامل" بالعودة إلى النص الأساس. وفي مقابل "الإسلام هو الحل" نضع مقولة "الإسلام الكامل هو الحل".
الإسلام الكامل هو الذي ينص على أحكام العمل وعلى أصول أدائه معاً, يأذن بالحرب وينص على أخلاقها ومبادئها من عدم قتل للنساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين وعدم قطع شجرة وغير ذلك.
إن فصل الحكم عن المبادئ الأخلاقية المواكبة له يجتث العدل من الأرض ويجعل تطبيق الحكم قاهراً ظالماً يستدعي ما نراه اليوم من إعادة نظر -بريئة وغير بريئة- في أحكام الإسلام.
أقول أخيراً: إن ثقافة السلام في الإسلام نجد مصدرها في آيات القرآن الكريم وفي التعاليم النبوية العصماء, وفي ارتكازها على هذين المصدرين تضمن التداول بين الجماعة ولا تنحبس ضمن فكر نخبة متقدمة مثقفة بل تصبح مسألة جماعية يشارك فيها الطفل والشاب والرجل والشيخ, ذكراً وأنثى.
*****************************
الحواشي
*) باحثة وأكاديمية لبنانية.
1- انظر بهذا الخصوص: مصطفى السباعي, نظام السلم والحرب في الإسلام, ضمن سلسلة "هذا هو الإسلام", مطابع دار الكتاب, بيروت.
2- سورة الحشر، الآية23.
3- سورة الأنعام، الآية173.
4- سورة إبراهيم، الآية23.
5- سورة النساء، الآية90.
6- سورة الأنفال، الآية 61.
7 - رواه أحمد في كنز العمال 4/323.
8 - محمد أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام, القاهرة 1964, ص52 (نقلاً عن العلاقات الدولية في الإسلام, عدنان حسين، ص50).
9- سورة النساء، الآية 1.
9- سورة الأنبياء، الآية 107.
10- بخصوص: "حقوق الإنسان في الإسلام", الحقوق الطبيعية والمدنية والسياسية والإقتصادية والاجتماعية, وكذا حماية الفقه والقضاء لحقوق الإنسان, انظر: عبد اللطيف الحاتمي, حقوق الإنسان في الإسلام, دار الجيل, بيروت, ودار الآفاق الجديدة, المغرب، 1990م.
11- يراجع بشأن المساواة في الإسلام: باقر شريف القرشي، النظام السياسي في الإسلام, دار التعارف للمطبوعات, بيروت, 1982م, 202-211.
12- انظر في هذا السياق: كلود ليفي شتراس, العرف والتاريخ, ترجمة سليم حداد, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر, بيروت, 1982م.
13- سورة الأنبياء, الآية107.
14- سورة النساء، الآية 152.
15- صحيح مسلم، كتاب الفضائل.
16 - صحيح مسلم, ج 2 ص813.
17 - المرجع نفسه, ج2 ص814.
18 - صحيح البخاري, ج1 ص387.
19 - المرجع نفسه, ج2 ص694.
20- سورة الروم, الآية21.
21- سورة البقرة,الآية 187.
22- سورة البقرة, الآية 233.
23- سورة الإسراء, الآية 23.
24- محمد أبو زهرة, العلاقات الدولية في الإسلام, ص57(نقلاً عن العلاقات الدولية في الإسلام, عدنان حسين ص147).
25-يراجع بشأن الثقافة الإسلامية وثقافة السلام: رضوان السيد, الصراع على الإسلام, دار الكتاب العربي, بيروت 2004م, ص189.
26-انظر بخصوص "إشكالية الآخر"و"ثقافة المعارضة": رضوان السيد, الصراع على الإسلام, دار الكتاب العربي,بيروت 2004م، ص189.
27- انظر كتابنا "إحياء علوم الدين في القرن الواحد والعشرين ", دار الشروق, مصر, الطبعة الثانية 2005م، ص530-535 (حق المسلم على المسلم).
28- ورد في إحياء علوم الدين ج 2 ص212, والحديث أخرجه الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما, وأبو الشيخ في كتاب الثواب, وأبو نعيم في الحلية
29-انظر في هذا الإطار: مجيد خدوري, الحرب والسلم في شرعة الإسلام، الدار المتحدة للنشر، بيروت 1983م, 358-392 (تأثير الإسلام في مفاهيم الغرب لقانون الدول).