مظاهرة العنف في المجتمع المعاصر

مظاهرة العنف في المجتمع المعاصر

محمد القاضي*

هل أصبح العنف سمة العصر الحديث؟
العنف كلمة أصبحت تتردد على آذاننا في كل لحظة، سواء عن طريق وسائل الإعلام المختلفة أو ما نصطدم به في واقعنا، وكأنه أصبح سمة هذا العصر الذي كثرت مشاكله، لدرجةٍ أصبح معها الإنسان ضعيفاًً أمام مواجهات عديدة لا يستطيع مقاومتها، أو التغلب عليها. وأصبحت ظاهرة العنف اليوم تثيرنا؛ لأن من مظاهرها المكاثفة ما لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسانية. فحتى مظاهر "التقدم العلمي والتقني"، التي هي من ثمرات المجهود الإنساني المستمر لتحقيق أكبر قدر من السعادة الدنيوية، غدت عنصراً تستند إليه مظاهر أشد عنفاً بين بني البشر. هكذا يظهر الإنسان وهو يمارس العنف، في صورة وجود متناقض. فمظاهر التقدم تستخدم في سيرورة حياته، فَتُظْهِرُ الإنسان بمظهر الكائن الذي يسير قُدُماً نحو تحقيق صورة من الكمال التي لم تصل إليها البشرية السابقة أبداً. ولكن مظاهر العنف التي تستند إلى التقدم العلمي والتقني ذاته جعلت الإنسان يظهر -في كثير من الأحيان- بمظهر الكائن الذي يعمل على تدمير ذاته، وعلى المزيد من فقدان نزعته الإنسانية الأخلاقية لصالح الرغبة في امتلاك الهيمنة، أو في سبيل الرغبة في امتلاك أشياء العالم والخضوع لمنطق علاقتنا بها(1).

ويُعرّف العنف عادة بأنه إلحاق الأذى والضرر بكائن أو مجموعة بشرية، بحيث يكون هذا الضرر إما مادياًّ، وإما جسمياًّ، وإما نفسياًّ، وإما معنوياًّ، بوسائل مختلفة تسبب للمتلقي، أو المتلقين آلاماً وخسائر متفاوتة. فقد يكون هذا الضرر نزعاً لممتلكات مادية، أو تعذيباً جسمياً، أو إهانة نفسية، أو نزعاً للممتلكات المعنوية، أو الرمزية، وغيرها من أشكال الضرر التي تبسط على سلّم عريض من الدرجات، وكل نوع من هذه الأنواع يتضمن درجات لا حصر لها، فالتعذيب الجسمي يمكن أن يبتدئ بالتهديد والمساومة، ماراًّ بالتجويع والجرح والضرب والكسر والقتل، وكذا الإسكات والإفحام والتكذيب والسبّ واللعن(2).

ظاهرة العنف قديمة في تاريخ الإنسانية الطويل، وإن جوهرها لواحد مهما كانت أشكالها ونوعياتها، ومهما تعددت نتائجها وتكاثرها في المجتمع العصري الحديث. ويرى المرحوم الدكتور صبحي الصالح: أن المقارنة بين(قسوتها) عند البدائيين، و(همجيتها) عند المتحضرين لا تمنعان من الاعتراف بأنها ظاهرة قديمة قِدَمَ الإنسان، ويبدو أنها لن تنسلخ انسلاخاً كاملاً من ذات الإنسان، ولا من مجتمع الإنسانية. ولقد صعد وارتقى إلى أعلى معارج العمران والعرفان. وعلى رغم التفاوت الملحوظ بين ماضي البشر وحاضرهم في مدى اللجوء إلى أعمال العنف يخيل لكثير من الباحثين أن مظاهر هذا أشدّ وأقسى في مجتمعنا المعاصر منها في ماضي البشر السحيق، ولعلّ هذا يرتدّ إلى الإحساس الداخلي العميق بتفضيل الماضي على الحاضر، ورفض الواقع، والخوف من المستقبل، والإصرار على الاعتقاد بأن ما ضمنه العلم من أسباب الرخاء والازدهار لم يمنع الإنسان المعاصر من الدوران المستمر في دوامة القلق، وغربة الروح، وتبلد الأحاسيس(3).

العنف الفردي

يقول الله -تعالى- في سورة البقرة الآية 30: ﴿إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمـون﴾.

هذه الآية الكريمة تجسد لنا الطبيعة الإجرامية الكامنة في الإنسان، والتي كانت الملائكة على علم مسبق بها، لهذا الاعتبار كانت الحقيقة الإنسانية محط حيرة شغلت الإنسان نفسه، الذي راح يبحث عن كنهه، وكان ذلك محور دراسات فلسفية وعلمية، وأبحاث فكرية مختلفة، وقد اقتضت الحكمة الربانية في خلقه أن تتميز كل مرحلة في حياتنا من الطفولة، إلى الشيخوخة ببعض المشاق والمشكلات، وتلك سنّة الحياة. غير أنّ مرحلة الطفولة تتميز عن باقي المراحل الأخرى بسمات كثيرة في كل الجوانب الحياتية من حيث البراءة والتفاعل والتأثر السريع بالآخرين، بحكم أن الطفل في هذه المرحلة هو عبارة عن ورقة بيضاء. ولكن في حياتنا الحاضرة برزت ظاهرة خطيرة آخذة في الانتشار بشكل سريع، وجَرَّتْ إليها بذلك اهتمام الباحثين في جميع المجالات؛ لأن في بقائها والإغضاء عن حلها عواقب وخيمة أصبحت تهدد المجتمع في قيمه وأمنه واستمراره، ألا وهي ظاهرة "جنوح الأحداث"، فلا يمضي أسبوع إلا وتنشر وسائل الإعلام عن جرائم بشعة يرتكبها أطفال صغار. وأصبحت هذه الظاهرة تطرح أكثر من سؤال، وتثير القلق والدهشة عن مصير الأجيال الحالية والمستقبلية، ومن ثم على مصير الأمم وتقدمها. وقد أثار الدكتور "جون بولبي" –باحث بريطاني– مسألة تأثير دمار الحياة الأسرية على حالة الطفل العقلية والنفسية، بقوله: "فبعد أن زادت نسبة الطلاق بمعدلات قياسية، أصبح الأطفال يشعرون باغتراب شديد، فهم يعيشون إما مع الأب، أو مع الأم، وأحيانا يتزوج الأب امرأة أخرى، والأم رجلاً آخر فيضيع الأطفال؛ لأن كلا الزوجين ليس عندهما وقت للعناية بهم، نتيجة لذلك ازدادت انحرافات الأطفال، وبدأ العنف يجتاح المدارس والمعاهد والجامعات"(4).

فطبيعة السلوك المكتسب داخل البيت خلال هذه المرحلة، هي التي تتحكم بشكل كبير في مصير حياة الإنسان، ولا يمكنه التخلص من رواسب هذا النمط في التربية، حتى ولو وصل إلى مستوى عالٍ من التعليم. ويرى الدكتور يوسف القرضاوي أن "من مسببات هذه الظاهرة إهمالنا لمرحلة الطفولة والتربية الراشدة، فهناك أمراض وآفات نفسية تبدأ مع الطفولة، ربما بتأثير من البيئة المحيطة، أو بتأثير سوء النشأة وسوء العناية بالأطفال من جانب الوالدين، بل قد تنحدر هذه الآفات النفسية مع خصائص الوراثة، والمدرسة والتربية الراشدة للأطفال ثم للشباب فيما بعد، وهي التي تهذب هذه الآفات وتحد من تناميها في نفوس شبابنا. فالمعروف أن العبادات التي شرعها الله للناس، يجب أن تزكّي السرائر، وتقيها من العِلل الباطنة والظاهرة، وتقوّم السلوك الإنساني وتعصمه من الاعوجاج والجور(5). وهنا لابد من الاهتمام بالطفل والعمل على تربيته تربية سليمة وصحيحة، كما يجب القيام بإعداد الشباب الإعداد الذي يبعده عن الهدم والتخريب واللجوء إلى العنف في تحقيق رغباته، وإعداده لخوض معركة النماء والبناء، تأخذ فيها بنصيب كل من الأسرة والمدرسة والمسجد وأجهزة الدولة.

شاشات التلفزة والعنف

جاء في تقرير لمجلة "ليفنما دي جودي" الفرنسية –وهي مجلة أسبوعية– أن الأجهزة المرئية في الولايات المتحدة أجهزت على الثقافة، لما تقدمه من عنف أسهم أكثر وأكثر في زيادة الجريمة داخل المجتمع الأمريكي، حيث يشاهد الأطفال والشباب أكثر من ثمانية آلاف جريمة قتل على الشاشة قبل أن ينتهي الطفل(الصبي) من دراسته الابتدائية، وأعربت المجلة عن مخاوفها من انتقال ظاهرة العنف والمخدرات والتفتت العائلي التي تسود المجتمع الأمريكي إلى فرنسا وأوروبـا(6). كما يجتاح العنف المسلح المدارس الأمريكية، فهناك 100 ألف طفل أمريكي يحملون مسدساتهم الحقيقية إلى مدارسهم كل يوم، مما يتسبب في غياب 160 ألف تلميذ يومياًّ خوفاً من مسدسات زملائهم، ويتلقى 90 معلماً يومياًّ تهديدات باستخدام العنف ضدهم، ويُقْتَلُ 40 تلميذاً، أو يصابون يومياًّ من جراء استخدام الأسلحة النارية. هذه الأرقام كشفت عنها جمعية التعليم الوطني في واشنطن، محذرة من أن العنف في الولايات المتحدة لم يعد مقتصراً على المناطق الفقيرة وأماكن تجار المخدرات. وتحذر الجمعية من انتشار الأسلحة المخيف في ظل غياب قانون يحكم بيعها في المتاجر العامة الذي يتم الآن من دون قيود صارمة.

وقد أجمع خبراء في علم النفس والقانون والاجتماع، ومسؤولي المدارس، على أن سوء التربية والتعليم في المدارس هو السبب الأول لجرائم الأطفال، كما اتهموا الشاشة المرئية بأنها السبب المباشر؛ لعرضها 175 مشهدَ عنفٍ وقتلٍ خلال ساعة إرسال واحدة، فأصبحت ممارسة القتل والعنف في مثل سهولة مشاهدته، والأطفال يلعبون دور "البطل" في أفلام ومسلسلات التلفزيون حيث يَقْتُلُ ويهرب بسرعة، وينجو من العقاب لأنه على حق(7).

إذا كانت أوربا تخاف وتحتاط من أن يتسرب إليها هذا الوباء المتفشي في الولايات المتحدة الأمريكية، حفاظاً على سلامة أبنائها، وإن كانت هي الأخرى لم تنج من انتشار ظواهر العنف داخل مجتمعاتها، فماذا عن بلادنا الإسلامية التي تستورد الكثير من البرامج والأفلام من أمريكا وبلاد الغرب الأخرى، ويتم عرضها على شاشات التلفزة بلا رقابـة –باستثناء بعض الدول العربية– ليشاهدها الملايين من شعبنا دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الأساسية بين المجتمعات الإنسانية. ونعود إلى قضية العنف التلفزيوني وأثره على المشاهدين، سواء في ذلك الكبار أو الاطفال.

إن مشاهدة العنف بشكل مستمر في البرامج المتلفزة، يؤدي بالضرورة إلى رفع مستوى الإثارة النفسي والعاطفي عند المشاهدين، مما يؤدي إلى احتمال حصول السلوك العدواني عند الأفراد، لاسيما إذا كان العنف المتلفز مبرراً، ففي هذه الحالة يصبح التأثير كبيراً وخطيراً. ومن المعروف أن قصص العنف والإرهاب يهتم بها الجمهور كثيرا؛ لأنها تثيره وتدعوه إلى متابعة المشاهدة بِشَغَفٍ ونَهَمٍ غَرِيبَيْنِ.

وفي دراسة نشرتها صحيفة "التايمز": "قبل حوالي عشر سنوات قام بها عالمان هما: (أليكس شميد، وجان دي غراف) تناولت موضوع العنف، خلصت بنتيجة مؤداها أنه إذا كان القصد من قصص الإرهاب والعنف هو التسلية فإن تأثر الجمهور وبخاصة المراهقون يكون كبيراً، وقد يجد الواحد منهم نفسه مدعواًّ إلى التقليد. ويقول العلماء: إن معالجة الإرهاب والعنف في وسائل الإعلام المختلفة يجب أن يتم وفق المصلحة العامة(8)، لنحمي ناشئتنا من هذا الوباء حتى لا تضيع قيمنا ونصبح في مهب الريح.

العنف الجماعي

لقد أصبح من الصعب تحديد الممارسات العنفوية، فهو سلوك متجذر في ذاكرة الإنسان. كما كثرت التساؤلات، عبر جملة من الدراسات العلمية، عما إذا كان العنف أو الفعل الإجرامي ملازماً للإنسان، أم أنه مجرد حدث عابر، يأتي نتيجة تراكمات وتفاعلات اجتماعية ونفسية وثقافية وسياسية واقتصادية. فنجد في مجال علم الاجتماع كثيراً من التصنيفات في صنفين رئيسيين: العنف الصامت(صراع الأبناء مع الآباء، الصراع الطبقي، أشكال السياسة القهرية... إلخ) قوامه التناقض الاجتماعي، والعنف العيني، وهو سلوك إيذائي مادي، قوامه إنكار الآخر كقيمة مماثلة "للأنا" أو "لنحن"، وكقيمة تستحق الحياة والاحترام. فهو يسعى إلى عدم الاعتراف بالآخر ورفضه وتحويله إلى سيئ، كأن ينصب العنف على جماعة أو جماعات بشرية، كما حدث للهنود الحمر في أمريكا من طرف الحضارة البيضاء، في معارك التصفية، والتعذيب الذي مورس على الإنسان الأسود في الحقول والمزارع بأمريكا اللاتينية، أو كما حدث للسكان الأصليين السود في جنوب إفريقيا، أو كما يحدث في مناطق عديدة من العالم (حروب عرقية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إبادة جماعية لطوائف بشرية في آسيا وأفريقيـا... إلخ).

"ورغم الكوابح الأخلاقية، والمثل والقيم الدينية التي تستهدف كف العدوانية، فإن تاريخ البشرية تاريخ دموي مملوء بالفظائع والمنازعات والحروب، ابتداء من المغول إلى الحرب العالمية الأولى. ولعله ليس هناك شيء مضاد للطبيعة البشرية مثلما هو الحب والمحبة، فكل الجهود التي بذلتها الحضارة باسم الحب لم تفلح في نزع فتيل العدوانية والعنف البشريين(9).

ويرى محمد وقيدي: "أن أكثر مظاهر العنف بروزاً هي الحالات التي يبدو فيها مهدِّداً لحياة عدد كبير من الناس ولأمنهم، وهذا حال الحروب التي زادت عدداً في عصرنا، وتفاقمت أخطارها، وتلونت صور تهديدها للحياة البشرية أو قضائها عليها. وهذه أيضا حالة من الحالات التي أصبح فيها التقدم العلمي والتقني -وهو من أهم خصائص عصرنا- يعكس دوماً ما كان منتظراً منه... إنتشرت الأسلحة المدمرة المختلفة المستويات، وزادت قدرتها على تدمير شروط الحياة بالنسبة لعدد أكبر من الناس. ولم يعد الإنسان، وهو مكتشف هذه الوسائل المدمرة لحياته، قادراً على تدبير اكتشافه لها أو على توجيه أثرها على حياته. لقد أصبحت سيرورة التدمير مستقلة استقلالاً نسبياًّ عن توجيه الإنسان لها، وتحولت إلى غاية من غايات العالم المعاصر(10). ويؤكد أن "لدى الإنسان، فرداً أو جماعات، ميلاً أخلاقيا إلى إقصاء العنف في مجال العلاقات الإنسانية، لكننا، مع الاعتراف بما لهذا الميل من دور إيجابي في هذا الاتجاه، لا نراه كافياً وحده. لن يزول بشعور أخلاقي باطني أو بموعظة أو دعوة إلى التوقف عن ممارسته"(11).

العنف السياسي

لعل من بين البدهيات التي تفرض نفسها بقوة على مسرح الأحداث اليومية هو الطفو المثير للعديد من أعمال العنف السياسي التي انتشرت في مناطق شتى من العالم، وتسببت في خسائر بشرية ومادية فادحة. وأصبح العنف السياسي من أدق الموضوعات وأكثرها إشكالية وإثارة للجدل في عالمنا المعاصر؛ لأنه يمس أهم المؤسسات في المجتمع. ولا توجد تقديرات دقيقة حول إجمالي الخسائر التي تسببها هذه الأحداث. فاستخدام السلاح أو العنف لفرض رأي سياسي ظاهرة موجودة منذ عقود، ولكن طريقة استخدامها هي التي اختلفت إضافة إلى أن الجماعات السياسية التي تستخدمه قد اختلفت هي الأخرى، فاختفى بعضها وظهرت جماعات جديدة وطرق جديدة.

وخلال الثورة الفرنسية "اتفق روبسبيير وسان جيست، وكوتون" بممارسة العنف السياسي على أوسع نطاق فتمكنوا من قطع رأس أربعين ألفاً بالمقصلة، واعتقال وسجن ثلاثمائة ألف شخص آخر، وجميعهم من الفرنسيين. ولقد زاحم السيناتور الأمريكي "جوزيف ماكارثي" الفرنسيين ونافسهم في التنكيل بالشعب الأمريكي. والعنف السياسي يكون ثورة إذا قلب نظام السلطة القائمة وتربع على عرشها كما حدث في روسيا عام 1917م. وقد يصبح أيضا إرهاباً إذا فشل كما حدث في دول أمريكا اللاتينية(12). ويرى محمد السعدي أن "التفريط في الحقوق القومية وموالاة أعداء الدين، وخيانة الحكام من أشد حوافز العنف. فالأمم لا تتسامح مع العملاء والخونة أبداً، ولا تغفر لهم مطلقا. وقد يختلف الناس في مشروعية الثورة على الحاكم المستبد الظالم، ولكن قلما يختلفون في مشروعيتها ضد الحاكم الخائن... وهناك نوع من العنف السياسي ينشأ بسبب الجهل بأحكام الدين والتطرف العقدي كذلك الذي عند بعض الفرق والأحزاب الدينية"(13).

ويعتقد أحمد الخمليشي(أستاذ جامعي) "أن سبب انزلاق بعض الأفراد إلى العنف بدعوى الدفاع عن العقيدة أو عن الفكر- يرجع من ناحية إلى الواقع غير المستقر للشباب في جميع أنحاء العالم، وقد بدأ بروز ذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا على وجه الخصوص، ويضاف إلى ذلك أن الأفكار التي يقرؤها الشباب أو تُلَقَّنَ لـه لا يأخذها بالتصور نفسه الذي يتصورها به الكاتب أو الملقِّنُ، وهنا في الواقع تكمن مسؤولية كبيرة، يتحملها كل كاتب وكل مرشد أو منظّر، فيما يكتبه أو يلقنه الفرد الذي يوجد في الخمسين أو الستين من عمره حيث يفهمه الشباب الذي يتلقى منه بصورة مغايرة، ولعل هذا ما يدعو إلى الحكمة التي تقول: خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أي بقدر نضجهم ووعيهم للواقع الذي تتناوله تلك الأفكار(14).

وقد ذهب ضحية أعمال العنف السياسي، منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، العديد من الشخصيات السياسية والعلمية والفكرية في العالم، ولعل من أشهر الاغتيالات التي عرفتها هذه الفترة، نوردها على سبيل التذكير، إبراهام لنكولن 1868م في الولايات المتحد الأمريكية، والزعيم الهندي غاندي سنة 1948م، والأرشدوق فردناند سنة 1914م، وكان مصرعه سبباً في نشوب الحرب العالمية الأولـى، والملك عبد الله سنة 1951م، وجون كنيدي سنة 1963م، وشقيقه روبرت بعده، والرئيس المصري أنور السادات سنة 1981م، واللائحة طويلة؛ لأن جرائم العنف السياسي ليست منحصرة في بلد معين أو زمن محدد بقدر ما تشكل حالياً لغة العصر ووليدته المتميزة في جو يشع بالحرية المطلقة وبالمساواة المفرطة، تبرز للوجود لتقف شاهدة على انحطاط قيم واستبدالها بأخرى، تؤمن بالقوة ولا شيء غير القوة، رغم أن الإنسانية "حققت في مسيرتها الشاقة إلى الأمام منجزات اجتماعية وعلمية وسياسية جعلت من التطور التدريجي أداة صالحة للمسيرة الإنسانية، فيما كان هذا الأمر مجرد وهم في الماضي القريب والبعيد على حد سواء. ومن لا يرى هذا التغير النوعي في أدوات التقدم، ونحن في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يكون مستهيناً بالتضحيات التي قدمها الأوائل ومن جاء بعدهم خلال هذه المسيرة. فهل ذهبت هباء؟ إنه من غير الممكن أن تكون قد ذهبت هباء أوضاعت أدراج الرياح، بل قد تكون الإنسانية قد دخلت الآن -أو هي تدخل- في عصر تقترب فيه الدنيوية من الدينية في التسامح، حتى يجتمعا على تحريم وتكفير العنف لا غير(15).

الإسلام ضد العنف

يتعرض الإسلام إلى هجمات عنيفة من طرف وسائل الإعلام الغربية، متهمة إياه بالتطرف والعنف والإرهاب، خصوصاً بعد انهيار الشيوعية، وبروز طروحات ومقولات النظام العالمي الجديد. ولكن ما خلفيات هذه الكراهية الموجهة ضد الإسلام؟ يرى زين العابدين الركابي أنه "مهما يكن من شأن هذا البهتان، فإن "خميرة" التقبيح والتشويه تكونت من مصادر عديدة من العداوة البعيدة الغور، ومن الدس على الإسلام في مناهج التعليم في الغرب، ومن حركات الاستشراق التي تخصصت في التشنيع على أصول الإسلام ومقاصده، ومن أدبيات الشيوعيين في العالم الإسلامي، في حين اصطدم هؤلاء بجدار الإيمان الصلب، ولم يقدروا على الوصول إلى الحكم، تفرغوا لمهمة تشويه الإسلام وتشكيك الناس فيه(16).

ويعترف العديد من مفكري الغرب بما كان للإسلام من دور فعال في التاريخ، ودور الفكر الإسلامي في بناء الحضارة الإنسانية، وحتى فقهاء القانون اعترفوا به كمصدر رئيس في التشريع عندهم. وقد أشار الرئيس الأمريكي السابق "نيكسون" في كتابه "الفرصة السانحة"، إلى أن الإسلام أسهم كثيراً في تقدم العلم والطب والفلسفة، ويؤكد أن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أساس الحضارة الكبرى. ويلح على ضرورة الحذر من الخلط بين تصرف المتطرفين المسلمين والعقيدة الإسلامية(17).

وأمام هذا الطرح المنصف للإسلام، تقف طائفة عريضة من أبناء الغرب متمسكة بطرحها المعاكس والشرس ضد الإسلام، وهدفها في ذلك القضاء عليه. "وبدأ أصحاب هذا الاتجاه المعادي للعروبة والإسلام، يدفعون الرأي العام العالمي إلى الاعتقاد بأن الإرهاب مسلك عربي إسلامي(18).

وهكذا نرى أن الإسلام، أصبح يوصف بأنه دين العنف والإرهاب والتخلف، وهي السمة الغالبة على لغة التخاطب في وسائل الإسلام الغربية بصفة عامة، والإسلام منها بريء. ويرى المفكر المغربي محمد الحبيب الفرقاني أن "الدعوة الإسلامية منذ نشأت، وهي تقوم على التسامح والجدل والإقناع بالحجة والمنطق، وقبل ذلك قامت على القوامة الأخلاقية، وتقديم النموذج السلوكي الإنساني الأمثل: ﴾وجادلهم بالتي هي أحسن﴿، ﴾لا إكراه في الدين﴿، وكلمة "السلام" والموادعة كانت ولا تزال هي تحية المسلمين، والشعار الدائم العام لعلاقتهم(السلام عليكم). واللجوء إلى العنف وممارسته في الإسلام، لا يكون إلا تحت الضرورة، دفعاً لظلم أو مبادأةً بالعدوان، أو حماية لخطر يتهدد العقيدة والشريعة من أعداء الإسلام، أو دفعاً لهجوم أو احتلال لأرض المسلمين. ويضيف أن الالتجاء إلى العنف والإكراه وممارسة الإرهاب الفكري والسياسي والثقافي على المواطنين إلى حد القتل وتهشيم العظام، أمر يخالف مخالفة كاملة المنهج الإسلامي والأسلوب النبوي في الدعوة إلى الإسلام وإصلاح شؤون المسلمين، وتقويم المنحرفين، وإرشاد الضالين... وحملة الغرب المسعورة هذه مفهومة في وسائلها وأهدافها لضرب الإسلام وتشويهه وعرقلة مسيرته الدائبة منذ زمان(19).

ويرى عبد الحليم الجندي، أن الإسلام "يعيش في ظروف صعبة بعد الحملة عليه في الغرب، والتي استهدفت بالدرجة الأولى استعداء الغربيين على هذا الدين، عن طريق تجسيده في تصرفات قلة من الشباب المتطرف الذي ارتكب جرائم عنف يرفضها الإسلام... ويؤكد على ضرورة التعاون والتنسيق بين المؤسسات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية في الغرب، والمؤسسات والهيئات الإسلامية في الدول الإسلامية، من أجل وضع استراتيجية جديدة للعمل الإسلامي في الغرب، وتصحيح هذه الصور المشوهة والمغالطات التي يثيرها الحاقدون على الإسلام وشريعته وحضارته(20).

إن ما يقع في بعض الدول الإسلامية من أعمال للعنف الذي بلغ حد الإرهاب، واحتضان أدواته وأسبابه دون رقيب ولا حسيب - لا يمكن أن ينال ولو أدنى دليل من الإسلام، بل هو في عرفه مذموم، منهي عنه تصريحاً وتلويحاً، منطوقاً ومفهوماً. وإن كان من الطبيعي أن تجد كل مجتمع يحتوي على قدر معين من الأشخاص الذي يسلكون سلوكاً مضادا للمجتمع، وفي الحالات الطبيعية يتوزع أصحاب هذا السلوك بين الخارجين عن القانون، وأصحاب الأفكار الإصلاحية، كما يتوزعون بين خارجين على جهاز القيم، ومتطرفين عن الالتزام به. والإسلام ليس دين عنف ولا عقيدة ضغط وإكراه، ويؤكد هذه المبادئ والقيم التي جاء الإسلام من أجلها، ويعترف بذلك العديد من مفكري الغرب أنفسهم. يقول المستعرب الفرنسي الكبير(جاك بيرك) في استجواب معه: "الإسلام دين لا يعرف العنف أو التطرف؛ لأنه قبل كل شيء دين الوسطية، وتؤكد الآية 143 من سورة البقرة هذه الحقيقة التي جاء بشأنها: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً﴾(21)، وعلى أية حال فالتطرف صفة ليست خاصة بالإسلام وحده من دون الأديان الأخرى، وإنما هو ظاهرة قد نجدها عند المتدينين بديانات أخرى، كما نجدها عند الاشتراكيين أو الراديكاليين. أي أنه صفة خاصة بالإنسان في أي مكان أو زمان... فمن خلال متابعتي الدقيقة لكل ما يكتب أو يقال عن الإسلام والمسلمين في الصحف ووسائل الإعلام الغربية، تبين لي أن هذه الصورة المشوهة للعربي أو المسلم، هي أحد رواسب الماضي، أفرزتها الظروف الحالية لإثارة مخاوف الغرب من الإسلام(22).

*****************

الهوامش:

*) كاتب وباحث من المغرب.

1- انظر: مجلة "المنبر الليبرالي" المغربية، الإنسان بين العنف واللاعنف، محمد وقيدي، عدد 16، ديسمبر 1994م، ص39.

2- انظر: صحيفة، "أنوال" الثقافية المغربية، الجذور النفسية والاجتماعية للعنف، محمد سبيلا، عدد 36، فبراير 1987م. ص16.

3- انظر: صحيفة "الميثاق المغربية"، ظاهرة العنف: أسبابها ونتائجها، صبحي الصالح، عدد 14 – 15 ديسمبر 1986م، ص8.

4- انظر: صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" المغربية، عدد 29 أغسطس 1993م. ص5، الحدث المجرم بين الدوافع وقانون، وانظر كذلك صحيفة "الشرق الأوسط"، عدد 3/9/1994. ص15، جنوح الأحداث لم يتحول بعد إلى ظاهرة في مجتمعاتنا، محمد أمين، الرياض.

5- انظر: صحيفة "اللواء الإسلامي"، عدد 5/3/1987م (استجواب معـه) ص3.

6- انظر: صحيفة "الشرق الأوسط" مرجع سابق.

7- انظر: صحيفة "الشرق الأوسط"، عدد 1/12/1993م. ص10، الجريمة والعنف في الولايات المتحدة، جيمس زغبي.

8- انظر: صحيفة "العلم" المغربية، عدد 25/6/1989م. ص2، خطر العنف في برامج التلفزيون، محمد صوانة.

9- انظر: صحيفة "أنوال" الثقافي، مرجع سابق.

10- انظر: مجلة "المنبر الليبرالي"، مرجع سابق.

11- المرجع السابق.

12- انظر: ملحق صحيفة "الرأي العام" الكويتية، عدد 5/7/1987، ص18، الإرهاب مالئ الدنيا وشاغل الناس، إعداد محمد عبد الحليم.

13- انظر: كتاب "ندوة التيارات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي" منشورات "رسالة الجهاد" الليبية 1986م، العنف السياسي في الحركات الإسلامية المعاصرة، إعداد محمد السعدي. ص498.

14- انظر صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" عدد 9/11/1991م، ملف خاص عن العنف، شارك في إعداده عدد من الباحثين والأساتذة المغاربة.

15- انظر: صحيفة "الشرق الأوسط" عدد 18/11/1994م، ص9، اللاعنف، إميل حبيبي.

16- انظر: صحيفة "الشرق الأوسط"، عدد 31/3/1993م، ص11، الإسلام ليس هو القوة القصوى للإبادة.

17- نقلاً عن صحيفة "الاتحاد الاشتراكي"، عدد 26/4/1992م، ص3، الخطر الإسلامي، عرض لأخطر فصل في كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون.

18- انظر: صحيفة "الشرق الأوسط" عدد 5/5/1993م. ص11، الإسلام أزمة الفكر الغربي، رضا محمد لاري.

19- انظر: صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" عدد 9/11/1991م، وعدد 16/11/1991، ملف خاص عن العنف.

20- انظر: صحيفة "الشرق الأوسط" عدد 7/12/1993م، ص20.

21- سورة البقرة، آية 143.

22- انظر: الاستجواب في صحيفة "الاتحاد الاشتراكي"، عدد 24/4/1993م، ص2.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=222

الأكثر مشاركة في الفيس بوك