الإصلاح في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية

الإصلاح في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية

جيروم شاهين*

يعالج هذا البحث بالوصف والتحليل حالة الإصلاح في الكنيسة الرومانية، أو الغربية، منذ الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر وحتى حبريّة البابا يوحنا بولس الثاني(1978-2005م) وانتخاب الكاردينال الألماني جوزف راتزينغر حبراً أعظم للكنيسة الكاثوليكية خلفاً للبابا يوحنا بولس الثاني، متّخذاً اسم بينديكتوس السادس عشر وما يتوقّع أن تكون عليه اتّجاهات هذا البابا الجديد في الإصلاح الكنسي.

أولاً: الإصلاح البروتستانتي

كلمة "الإصلاح"، في القاموس الكنسي، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحركة الإصلاحية التي قامت في الكنيسة اللاتينية في نهاية القرن الخامس عشر وطيلة القرن السادس عشر وسمّيت بحركة "الإصلاح البروتستانتي".

في نهاية القرن الخامس عشر ظهرت الأمم العصرية التي تطلّعت إلى الاستقلال عن الدولتين القديمتين، أي البابويّة والإمبراطورية الألمانية. وحدث تجديد ثقافي عميق أُطلق عليه اسم النهضة. وساعد اختراع المطبعة على انتشار مؤلّفات الحضارة القديمة، الدنيوية والدينية، في كل مكان. وأراد بعضهم العودة إلى الجذور، أي إلى نصوص الكتاب المقدّس وآباء الكنيسة، ليطهّروا الكنيسة من الشوائب التي ظهرت على مرّ القرون، إذ إنّ مؤسسات كنسيّة كثيرة لم تعد تلبّي رغبات المسيحيين. فقام، في مطلع القرن السادس عشر، أناس صمّموا على الشروع في إصلاح الكنيسة. ولكن، على أثر سوء التفاهم وأعمال العنف المتبادلة من الطرفين، أدّى ذلك الإصلاح إلى تمزّق الكنيسة الغربيّة. وفي أواخر القرن السادس عشر ظهرت ملامح جديدة لجغرافية دينية ما زالت قائمة إلى أيّامنا.

زعيم الإصلاح في تلك الحقبة هو دون منازع مارتن "لوثـر" تلك(1483-1546م). ورفد الإصلاح اللوثري مصلحان آخران هما زفنغلـي(1484-1531م)، وجان كلفين(1509-1564م).

كان علم اللاهوت في ذلك الزمن يقول على آن الله يعمل ما يطيب له، فيخلّص بعض الناس ويهلك بعضهم الآخر. وذات يوم، اكتشف لوثر جواباً على قلقه النابع من تلك المقولة اللاهوتية في رسالة القديس بولس إلى أهل روما: "إنّ الإنسان يبرَّر بالإيمان بمعزل عن أعمال الشريعة" (روم 3/28). فالانسان لا ينال الخلاص بفضل ما يبذله من جهود، بل الله هو الذي يجعله بارّاً بنعمته وحدها. يبقى الإنسان خاطئاً، لكنّ الله يأتي فيخلّصه من يأسه.

ثم وجد لوثر، في قضية الغفرانات، فرصة ينتزعها لإعلان ما اكتشفه. كان الرهبان الدومينيكان ينادون بالغفران وهو إعفاء من العقوبات الزمنية التي استوجبتها الخطيئة في أنحاء ألمانيا، لتغطية نفقات رئيس أساقفة مايانس، إذ كان عليه أن يدفع رسوماً لأنه يجمع بين ثلاث أبرشيات، وللإسهام في بناء كنيسة القديس بطرس في روما. فقال أحد الوعاظ: "كلّما رنّت قطعة النقود في أسفل الصندوق صعدت نفس إلى السماء". فاستاء لوثر وألصق القضايا الـ 95 (المشهورة) على باب كنيسة قصر فينبرغ. وكان عمله هذا احتجاجاً ودعوة إلى النقاش مع أساتذة الجامعة. رفض لوثر ذلك الاطمئنان الكاذب الذي توفّره الغفرانات؛ لأن المسيحي لا يستطيع أن يشتري النعمة التي يعطيها الله مجّاناً.

وأحرزت القضايا الـ 95 نجاحاً كبيراً في أنحاء ألمانيا وأوروبا. ثم قامت بعد ذلك مشادات مع بابا روما الذي حرم لوثر عام 1521م. وانقسمت ألمانيا بين الذين مع لوثر والذين عليه. ونشأت الكنيسة الغربيّة المسمّاة "بروتستانتية".

في نظر لوثر، يشعر الإنسان بأنه خاطىء في أصله، فيكتشف في الكتاب المقدّس أن الخلاص يأتيه من الله عن طريق الإيمان وحده. فالله يعمل كل شيء، والإنسان لا يعمل أيّ شيء. والاعمال الصالحة لا تجعل الإنسان صالحاً بل الإنسان الذي يبرّره الله هو الذي يعمل الأعمال الصالحة. وبناءً على ذلك، يرفض لوثر كل ما يعارض، في التقليد، أوّلية الكتاب المقدّس والإيمان، وينبذ كل ما يبدو وسيلة يزعم الإنسان أنه يستحق بها خلاصه، كإكرام القديسين والغفرانات والنذور الرهبانية، والأسرار غير المذكورة في العهد الجديد. فلا قيمة لأي شيء لم يرد ذكره صراحةً في الكتاب المقدّس. ولا أهمية إلاّ لكهنوت المؤمنين الشامل. وأمّا الكنيسة، وهي جماعة المؤمنين وحقيقة غير منظورة، فليس من شانها أن تنظّم نفسها تنظيماً ظاهراً وأن يكون لها ممتلكات.

وهكذا أصبحت لفظة "إصلاح" في كنيسة الغرب مرادفاً للقطيعة. كثيراً ما قيل: إن التجاوزات كَثُر عددها في الكنيسة، حتى إن بعض المؤمنين يئسوا من تحسّنها فغادروها. لكنّ أكثر المطّلعين يعترفون بأن الأسباب التي أدّت إلى الإصلاح هي أسباب روحية. ظلّ التحدّث بموضوعية عن رجال الإصلاح -ولا سيّما عن لوثر- أمراً عسيراً لمدّة طويلة. فصرّح البروتستانت بأنه كان "طبيباً قاسياً"، و"الملاك الذي أرسلته العناية الإلهية للقضاء على مسيح روما الدجّال". أما الكاثوليك، فقالوا: إنه رجل فظّ سكّير كذّاب شهواني، لم يترك الكنيسة إلاّ ليكون حرّاً في إشباع غرائزه...

لكنّ نوعاً من المعادلة قد تمّت منذ بضع عشرات السنين. فلقد أخذ جميع المطّلعين اليوم يعتبرون لوثر رجل إيمان لم يتحرّك إلاّ بدافع تديّنه. ولم يعد هناك أيّ كاثوليكي يشك فيما أبدته الكنيسة الرومانية من عدم تفهّم وتقصير في هذه المسألة.

وهكذا انقسم العالم المسيحي القديم في أوروبا إلى عدّة كنائس معارضة لروما: فهناك اللوثرية أو الإنجيلية، والكنائس الكلفينيّة. لقد بترت الكنيسة الرومانية إلى حدّ بعيد، لكنّها ستقوم بنهضة وتحاول أن تصلح نفسها، لا بلّ سيندفع بعض الأمراء الكاثوليك إلى استعادة السيطرة بالسلاح. وهذا ما يسمّى أحياناً "بالإصلاح المضاد".

ثانياً: الإصلاح الكاثوليكي المضاد

المحطة الثانية في "الإصلاح الكنسي" تترافق مع الحركة الإصلاحية البروتستانتية حيث ظهرت في الكنيسة الرومانية رغبة في الإصلاح. وتمّت المبادرات الاولى على يد بعض الرهبان والعلمانيين الأتقياء وأحياناً على يدّ بعض الأساقفة. وفي آخر الأمر توصّل الكرسي الرسولي بمشقّة كبيرة إلى عقد مجمع عام في مدينة ترانتو الإيطالية(Trente) سنة 1545م ويسمّى هذا المجمع بالمجمع التريدنتيني. ولم ينتهِ إلاّ بعد ثماني عشرة سنة(1563م)، تخلّلتها توقفات طويلة، ولم يعمل بقراراته إلاّ شيئاً فشيئاً. ففي فرنسا، على سبيل المثال، لم تدخل تلك القرارات حيّز التنفيذ إلاّ في القرن السابع عشر.

عندئذ تنظّمت الكنيسة الرومانية التقليدية وحافظت على ملامحها حتى الأيام التي سبقت المجمع الفاتيكاني الثاني(1962-1965م). ومع ذلك، لم تخلُ هذه الكنيسة الكاثوليكية من معاناة الأزمات والصعوبات.

البابا بولس الثالث(1534-1549م) هو الذي دعا إلى عقد المجمع التريدنتيني في مدينة ترانتو في شمالي ايطاليا، بتاريخ 13/12/1545م.

لقد وضّح هذا المجمع عدداً كبيراً من الأمور العقدية التي لم تحدَّد صراحة في الماضي، وفرض قيام إصلاحات في جميع مجالات العمل الرعوي. فَوُضِعَتْ نصوصٌ كانت ثمرة تفكير طويل، كالتي تبحث في التبرير والتعاون بين الله والإنسان في الخلاص. كما وُضعت نصوص أخرى كانت أشدّ تأثّراً بمقاومة المذهب البروتستانتي، فشُجبت بعض التصرّفات، لا لشيء إلاّ لأن البروتستانت كانوا يمارسونها، منها على سبيل المثال، استخدام اللغات القومية في الليترجية أو رتبة القدّاس. وعلى الصعيد الرعوي، اتُّخذت قرارات حول إنشاء الإكليريكيات حيث يتدرّب ويتعلّم المدعوون إلى السيامية الكهنوتية. وكانت لتلك القرارات انعكاسات مهمة لمستقبل الكنيسة.

تعاقب الباباوات على تطبيق قرارات المجمع التريدنتيني. فالبابا بيوس الخامس(1566-1572م) جعل في مقدمة اهتماماته محاربة الهراطقة والأتراك(في موقعة ليبانتي(Lepante) 1571م) ونشر على التوالي "كتاب التعليم المسيحي الروماني" و "كتاب القداس الروماني". وأراد هذا البابا أن يكافح الفوضى الطقسية، ففرض نصّاً موحّداً للقداس وطلب إلغاء الليترجيّات التي لم يمضِ على وجودها أكثر من مئتي سنة. وقام البابا غريغوريوس الثالث عشر(1572-1593م) بإصلاح التقويم، فحذف سنة 1582م عشرة أيام من 4 إلى 15 تشرين الأول(أكتوبر) لكي تستعيد الفصول تواريخها المألوفة. وأقام سفراء ثابتين لدى الملوك. أما البابا سِكْستُس الخامس(Sixte- Quint)(1585-1590م) فقد أقام للكنيسة حكماً مركزياًّ يديره 15 مجمعاً رومانياًّ، وهي عبارة عن وزارات تساعد البابا في إدارة شؤون الكنيسة والدولة البابويّة. ووُزّع الكرادلة على تلك المجامع فبلغ عددهم السبعين.

دخل المجمع في حياة الكنيسة بفضل الجهود المبذولة عدد من الشخصيات التي بذلت هي الأخرى قصارى جهودها في سبيل ذلك. وكان المطلوب القضاء على التجاوزات وتثقيف المسيحيين وتكوين كهنة الغد. ولكنهم كانوا، إلى جانب ذلك، يرغبون في مواجهة الإصلاح البروتستانتي واستعادة ما فُقد، ولو باستخدام السلاح إذا اقتضى الأمر. من هنا ورد الحديث أحياناً عن الإصلاح الكاثوليكي والإصلاح المضادّ، بصرف النظر عن اختلاف الأهداف والاتجاهات.

في تلك الفترة تأسس العديد من الرهبانيّات الرجالية والنسائية والتي ستصبح رافداً كبيراً في انتشار الكثلكة خارج أوروبا إبّان الحملات التبشيرية والاستعمارية. فقد تجاوز عدد اليسوعيين الذين أنشأ رهبانيتهم أغناطيوس دي لويولا(1491-1556م) في خدمة الكرسيّ الرسولي الروماني مباشرة، عشرة آلاف سنة 1600م، وخمسة عشر ألفاً سنة 1650م. وفي مطلع القرن السابع عشر أصبح الكبّوشيون عشرين ألفاً...

وفي سياق تطبيق قرارات المجمع التريدنتيني قامت نزاعات وأزمات داخلية، منها طائفية كحرب الثلاثين سنة ما بين الكاثوليك والبروتستانت، ومنها لاهوتية كمجابهة العلم للتقليد الكتابي الذي تمخّضت عنه الثورةُ الكوبرنيكية وذهب ضحيتها جيوردانو برونو(Giordano Bruno) الذي استغرقت محاكمته سبع سنوات ثم أحرق في روما سنة 1600م. وبعد ذلك ببضع سنوات قضية غاليليـو (Galilée) الذي شجبت نظريته سنة 1616م حول مركزية الشمس ثم حكم عليه في العام 1633م بالإقامة الجبرية حتى آخر حياته. كما تفاقم الصراع ما بين التفسير الحرفي للكتاب المقدّس وترجماته والتفسير النقدي. فقد ظهرت القراءات "العلمية" الأولى في مؤلفات الفيلسوف اليهودي الهولندي سبينوزا (Spinoza) والأوراتوري الفرنسي ريشار سيمون(Richard Simon). ويُعدّ سيمون أحد آباء النقد الكتابي. فهو الذي أثار للمرّة الأولى مشكلة طبيعة الإلهام، إذْ أقام مقارنة بين ترجمات الكتاب المقدّس في مختلف اللغات القديمة، وأثبت أنه غير ممكن أن يكون موسى مؤلف التوراة الوحيد. لكنه بقي منعزلاً في العالم الكاثوليكي. وكان نصيب "التاريخ النقدي" لبوسييه(Bossuet) الإدانة والإتلاف كما فُصل ريشار سيمون من جمعية الأوراتوار.

لقد نجح الإصلاح الكاثوليكي أكثر مما يجب. ولم يبقَ في مجتمع مشغوف بالنظام مكان لما يخرج عمّا هو معقول ومحدّد المعالم، حتى شمل الشكّ في التصوّف، كما سبق وشمل التديّن الشعبي.

بعد مرحلة الإصلاح التريدنتيني والإصلاح المضاد، دخلت الكثلكة في مرحلة التبشير في سائر أنحاء العالم بانطلاقة الحركة الإرسالية الكبرى في الزمن المعاصر ومواكبتها حركة استعمار أوروبا للقارات الأخرى. كما دخلت الكثلكة في صراع مع عصر الأنوار والثورة. وشيئاً فشيئاً جُرِّد الباباوات من سلطتهم الزمنيّة. وتمسّكت الكثلكة بهرميتها وبالمركزية الشديدة للسلطة العليا فيها. وجاء المجمع الفاتيكانـي الأَوَّل (1869-1870م) برئاسة البابا بيوس التاسع (1846-1878م). في عهد هذا البابا تمّت الوحدة الإيطالية ففقد الكرسي الرسولي الروماني ممتلكاته، وانعزل في الفاتيكان وكذلك خلفاؤه من بعده. اتّخذ البابا بيوس التاسع موقفاً من أضاليل عصره في وثيقتين. في الأولى شجب تجاوزات العقلانية والاشتراكيـة والليبرالية. والثانيـة، وهي تسمّى "القائمـة" (Syllabus) تضمّ أربعاً وعشرين قضية مشجوبة. بدت القضية الأخيرة وكأنها تتضمّن رفضاً للمجتمع الليبرالي المعاصر بأسره. فابتهج الكاثوليك المتشدّدون، أما المعادون لرجال الدين فسخروا، واستولى الدهش على الكاثوليك الليبراليين. أما المجمع الفاتيكاني الأول المذكور فقد حدّد عقيدة العصمة البابوية، أي أن البابا معصوم عن الخطأ حين يحدّد العقيدة الدينية. جاء هذا المجمع حجر عثرة كبيراً في طريق وحدة الكنائس المسيحية.

وبقيت الكنيسة الكاثوليكية تنتظر مجمعاً آخر يعيد لها حيويتها ويفتحها على العالم وعلى سائر الكنائس، إلى أن جاء المجمع الفاتيكاني الثاني(1962-1965م) ليحقق هذا الانتظار.

ثالثاً: كنيسة المجمع الفاتيكاني الثاني

طيلة القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين، بدت الحياة تتخلّص رويداً رويدا من سيطرة الفكر الديني، ومن ثمّ اتّسعت ظاهرة السعي نحو العلمنة حتى استتبّت هذه الأخيرة في نسيج المجتمع الأوروبي.

وكان من البدهي أن يسعى الحكام في هذا المناخ إلى الهيمنة على مؤسسات الدولة، كالأحوال المدنية والتعليم والصحة. وكانت، فيما سبق، كلّها مؤسسات يسيطر عليها رجال الدين، فشعرت الكنيسة بروح عدائي بدا واضحاً في كل أنحاء أوروبا. وسرى الشعور أيضاً بأن حقوقها في طريق الضياع، وبأنها لن تلبث أن تُمنع من ممارسة رسالتها.

لجأ الكاثوليك إلى موقف الدفاع، في محاولة صدّ التيار السياسي المعادي لهم، كما نشطوا لإعادة بناء مؤسسات تواجه تلك التي سيطرت عليها الدولة، وكأنها حركة لإقامة مجتمع متمسّك بالأمورالدينية في مواجهة مجتمع علماني مناهض لكل نفوذ ديني.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، جاء المجمع الفاتيكاني الثاني لِيُعَصْرِنَ الكنيسةَ ويفتَحَها على العالم المعاصر. فالمجمع هذا يُعَدُّ نتيجة عشرين سنة من الأبحاث الرعويّة واللاهوتية، ونقطة تحوّل في فكر الكنيسة اللاهوتي الذي كان يستوحي المجمع التريدنتيني. فإن المجمع الفاتيكاني قد حقّق تجديد الكنيسة في عالم يتطوّر بسرعة، وأيقظ آمالاً كبيرة. أطلق المجمع البابا يوحنا الثالث والعشرين(حبريته تمتد من العام 1958م حتى العام 1963م) وانجزه البابا بولس السادس (وحبريته تمتد من العام 1963م. حتى العام 1978م).

في 28 تشرين الأَوَّل (أكتوبر) 1958م، خلف بيوس الثاني عشر الكاردينال رونكالّي متّخذاً اسم يوحنا الثالث والعشرين. وكان للبابا الجديد من العمر سبع وسبعون سنة وقد حسبوه بابا انتقالياًّ.

كثيرون كانوا بانتظار ما سيفعل البابا لمّا جاءت الدعوة إلى المجمع. فكانت المفاجأة العامة. كان الكثيرون يعتقدون أن زمن المجامع قد ولّى نظراً لإعلان عصمة البابا في المجمع الفاتيكاني الأول ولسهولة الاتصال بروما. لم يكن لدى يوحنا الثالث والعشرين أفكارٌ واضحة حول محتوى المجمع، فعيّن له هدفين كبيرين: تجديد الكنيسة والرسالة في عالم يتبدّل بسرعة، والعودة إلى وحدة المسيحيين التي كان ينتظرها وشيكة، كما كان المسيحيّون الأوائل ينتظرون عودة المسيح. فَهَمُّ الكنيسة ليس محاربة الخصوم بقدر ما هو إيجاد لغة تُكلِّم بها العالم الذي تعيش فيه والذي يجهلها. "يجب نفض الغبار الإمبراطوري" الذي يغطّي وجه الكنيسة.

في الدورة الأولى من المجمع (خريف 1962م) حضر 2400 من أصل 2800 مدعوّ من أساقفة ورؤساء عامّين. إنه حقاً أول تجمّع كاثوليكي عالمي. كلّ القارّات والأعراق ممثّلون. بيد أن أساقفة عددين من البلدان الشيوعية لم يتمكنوا من الحضور. والتجديد البارز للعيان، بالنسبة إلى المجامع السابقة، هو-وذلك وفقاً لإرادة يوحنا الثالث والعشرين- وجود مراقبين مسيحيين أرثوذكس وإنكليكان وبروتستانت... وقد ازداد عددهم من 31 في بدء المجمع إلى 93 عند نهايته... وفي الدورات اللاحقة كان هناك 36 علمانياً من بينهم سبع نساء.

توفّي البابا يوحنا الثالث والعشرون في 3 حزيران(يونيو) 1963م. وفي 21 حزيران(يونيو) انتُخب بابا الكاردينال مونتيني، فأخذ اسم بولس السادس. وقرّر البابا الجديد سريعاً متابعة أعمال المجمع. وانتهت أعمال المجمع في كانون الأول(ديسمبر) 1965م.

فما هي مكتسبات المجمع الفاتيكاني الثاني؟

أراد المجمع على وجه العموم أن يكون مجمعاً رعويّاً يتوجّه بالكلام إلى إنسان اليوم. وبالرغم من عمق التفكير العقدَّي، فلم يأتِ المجمع بأيّ تحديدات أو إدانات، كما أنه لم يُصدر أيّ حرم كما كانت الحال في المجامع السابقة.

علم اللاهوت يعود إلى الينابيع

يشدّد القرار حول الوحي الإلهي على وحدة الوحي، هذا التقليد الحيّ حيث لا يجوز التمييز بين الكتاب المقدّس والتقليد الشفوي. فالوحي ليس مجمّداً في نصّ، بل إنه محفوظ في الشعب المؤمن الذي يكتشف دوماً غناه الجديد. والعودة إلى كلمة الله تحمل على إعادة الاعتبار، في الكنيسة الكاثوليكية، إلى وجهات نظر تقليدية كادت تُنسى بسبب الجدل ضدّ البروتستانت أو الأرثوذكس: كهنوت المؤمنين العام، الكنيسة شعب الله أكثر منها مؤسسة قانونيّة، عمل الأساقفة الجماعي. هذه العبارة الأخيرة تعني أن الأساقفة يحملون، مع أسقف روما، مسؤولية الشعب المسيحي المشتركة.

انفتاح على سائر المسيحييّن وسائر الديانات

القرار حول "المسكونيّة" يطلب إلى الطوائف المسيحية المختلفة أن تنظر أولاً إلى الأمور المشتركة: المسيح والإنجيل. فلا يجوز اتّهام المسيحيين غير الكاثوليك بخطيئة الانفصال. فليعترف الكاثوليك أيضاً بنقائصهم وبمسؤوليتهم التاريخية إزاء الانفصالات.

القرار بخصوص "الديانات غير المسيحيّة" هو من أجدّ جديد المجمع. حاول المجمع هنا اكتشاف ما تحتفظ به سائر الديانات من معرفة الله، بدءاً بالديانات المسمّاة بدائيّة حتى التي تشترك في تراث الوحي التوحيدي كاليهودية والإسلام. "تأسف الكنيسة للبغض والاضطهادات ولكلّ مظاهر محاربة الساميّة التي مهما كانت حقباتها وفاعلوها، وُجّهت إلى اليهود". هذا المقطع مرّ بصعوبة في إطار الشرق الأوسط الشائك.

كنيسة تحاور عالم اليوم

في قرار "نور الأمم" يُظهر المجمع الكنيسةَ في سرّها: شعب الله مدعوّ إلى القداسة حيث الأساقفة والكهنة والعلمانيون والرهبان يجدون مكانهم المميّز، وتظهر مريم في علاقتها بسرّ الكنيسة. وفي القرار " فرح ورجاء"، الكنيسة في عالم اليوم، وهو أطول نصّ في المجمع، يضع المجمع الكنيسة في حالة حوار مع العالم. عليها أن تأخذ في الاعتبار تغيّرات هذا العالم التي كانت أساس عدّة نزاعات وأخطاء في الماضي. كما يجب اعتبار الإلحاد كما هو والبحث عن أسبابه. بعض مشاكل العصر بُحثت بطريقة مميّزة: الزواج والعائلة، الثقافة، الاقتصاد، المجتمع السياسي، وبناء السلام. إنّ تأسيس أمانة سرّ لغير المؤمنين (نيسان/إبريل 1965م) في دوائر الفاتيكان يعطي جواباً لهذا الإهتمام.

عصر جديـد

تقاسم كثيرون الانطباع بأن عصراً جديداً قد بدأ في الكنيسة: المجمع الفاتيكاني الثاني أنهى عصر المجمع التريدنتيني. وهم يتكلّمون عن "ما قبل المجمع" و "ما بعد المجمع". ويظنّ بعضهم أن الكنيسة التي عاشت أربعة قرون بحسب المجمع التريدنتيني سوف تعيش سنين عديدة بحسب الفاتيكاني الثاني.

رابعاً: يوحنا بولس الثاني بابا الأرقام القياسيّة

تُشكّل حبريّة البابا يوحنا بولس الثاني علامة فارقة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فهو أكثر الباباوات شعبية. تمتّع بكاريزما مميّزة. حاول انعاش الكثلكة ونشرها في العالم في عصر تراجع فيه الدين، أقلّه على صعيد الممارسة. دافع في المحافل الدولية عن قضايا السلام والقيم الأخلاقية وتماسك العائلة. نشط في دفع الحركة المسكونية(حركة توحيد الكنائس المسيحية) إلى الأمام لكنّه لم يحرز في هذا المجال تقدّماً كبيراً حيث بقيت زيارة بطريرك موسكو الأرثوذكسي حلماً لم يتحقق. ويتساءل الكثيرون هل لأنّ البابا يوحنا بولس الثاني هو من الإصلاحييّن في الكنيسة الكاثوليكية أم أنه من المحافظين؟. وللوصول إلى جواب لهذا التساؤل يقيّم بعضهم مدى قرب أو بعد يوحنا بولس الثاني من روحانية المجمع الفاتيكاني الثاني وتوجّهاته ومكتسباته.

وُلد البابا يوحنا بولس الثاني في مدينة فادوفيك البولونية في 18 أيار(مايو) عام 1920م. سِيَم كاهناً في أول تشرين الثاني(نوفمبر) 1946م، وأسقفاً مساعداً لأبرشيّة كراكوفيا في 18 أيلول(سبتمبر) 1958م، ورئيس أساقفة لمدينة كراكوفيا في 13 كانون الثاني(يناير) 1964م، وعيّنه البابا بولس السادس كاردينالاً في 26 حزيران(يونيو) 1967م. وفي 16 تشرين الأول(اكتوبر) 1978م انتخب بابا(وهو البابا الرقم 264 في تسلسل باباوات روما) في الدورة الثامنة لاقتراع الكرادلة. خلف البابا يوحنا بولس الأول الذي لم تدم بابويّته سوى أسابيع، واتّخذ اسم يوحنا بولس الثاني. توفّي في غرفته في الفاتيكان بعد رحلة طويلة مع الألم والعذاب الجسدي بدأت في 13 أيار(مايو) 1981م يوم محاولة اغتياله في ساحة الفاتيكان. ربما يصحّ القول عنه إنه كان "بابا الأرقام القياسيّة":

مدّة رئاسته للكنيسة الكاثوليكية تجاوزت الرقم القياسي الذي سجّله البابا السابق بيوس الثاني عشر.

يمكن تسميته "البابا السندباد الجوّي" الذي -بينما كان أسلافه يقبعون في حاضرة الفاتيكان ولا يخرجون منها إلاّ إلى قصر كاستيل كونديلفو القريب من مدينة روما لتمضية الصيف فيه- جاب أنحاء العالم في زيارات راعوية وانفتاحية على سائر الديانات والمذاهب. وهكذا بلغت رحلاته الخارجية 104 رحلات لأكثر من 127 بلداً.

أعلن قداسة 578 شخصاً. ورفع إلى رتبة "طوباوي" أكثر من 1378م شخصاً متجاوزاً بذلك جميع أسلافه في تاريخ الكنيسة. أقدم على ذلك ليقول للمؤمنين بأن الجميع مدعوُّون إلى القداسة، وليجعل من الطوباويين والقديسين أمثلة حيّة للاقتداء بحياتهم وببطولاتهم الروحية. وبذلك يكون قد ساهم إسهاماً كبيراً في إحياء "التقوى الشعبية" وبالتركيز على المستوى المحلّي لتجذّر الكنيسة على الرغم من أن سلطته البابوية كانت ممارسة بشكل شديد المركزية على الكثلكة جمعاء.

إنه البابا الأول غير الإيطالي منذ القرن السادس عشر(منذ البابا أدريان السادس 1522-1523م). وعلى هذا الصعيد يُسجّل للبابا يوحنا بولس الثاني أنه أسهم في نزع صورة الرجل الأبيض الغربي عن الكنيسة الكاثوليكية وخصوصاً عن مجمع كرادلتها من خلال سيامته عدداً وافراً من الكرادلة الآسيويين والأفارقة ومن أميركا الللاتينية لدرجة أنه حُكي منذ فترة أن البابا القادم سيكون من أبناء اميركا اللاتينية. لكنّه في تعيينه الأخير لكرادلة جدد عدّل نسبة جنسيات الكرادلة بحيث أعاد للكرادلة من أصل أوروبي، وبالأخص إيطالي، رجحاناً عددياًّ.

تميّز بنضاله ضدّ النظام الشيوعي. وبكونه بولونياًّ فقد أسهم إساهما فَعَّالا في إيصال ليش فاليسا ونقابته "التضامن" إلى الحكم.

قدّم صورة عن مسيحية إنجيلية غير متغطرسة بطلب المغفرة عن الإساءات التي قامت بها الكنيسة الكاثوليكية، في حقب مختلفة من التاريخ(الاعتذار عن الحروب الصليبية، عن محاكم التفتيش في القرون الوسطى، عن اضطهاد الكنيسة لبعض العلماء، عن الإبادة التي لحقت بالهنود الحمر، وعن اللاسامية حيال اليهود).

كان البابا يوحنا بولس الثاني من أكثر الباباوات احتراماً للدين الإسلامي لتركيزه الدائم في لقاءاته مع المسلمين وفي أثناء زياراته لبلدان إسلامية عن الجوامع المشتركة بين المسيحية والإسلام. وبذلك يكون قد تابع ما انتهجه المجمع الفاتيكاني الثاني في تعاليمه حول الحوار مع الديانات الأخرى.

وبالنسبة لقضايا الشرق الأوسط فقد وقف البابا يوحنا بولس الثاني موقفاً عادلاً حيث دافع عن القضية الفلسطينية في مطالبها العادلة والمحقة. وكان له موقف شجاع ومميّز في معارضة الحرب الأميركية على العراق.

أما بالنسبة إلى لبنان فقد كان ليوحنا بولس الثاني موقف مُمَيَّز وخاص بالقضية اللبنانية. ففي أثناء الحرب الأهلية أرسل عدّة بعثات بابوية لإدانة الحرب والحضّ على استئناف العيش المشترك. وتوّج مواقفه هذه بإطلاق "السينودس لأجل لبنان" الذي ختمه بإرشاد رسولي(رجاء جديد للبنان) تضمّن وصيتين كبريين، الأولى: "تريد الكنيسة الكاثوليكية أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها. وفي الواقع أن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة". والثانية التي تتردّد على كل الشفاه: "لبنان أكبر من بلد، إنه رسالة".

من جهة ثانية، يأخذ الكثيرون على البابا يوحنا بولس الثاني انتهاجه خطاً محافظاً داخل الكنيسة لا سيما في تشدّده حيال المسائل الأخلاقية والعلمانية التي تطرحها علوم الحياة، كوسائل منع الحمل، والإجهاض، والموت الرحيم(الاوتانازيا) والطرق الطبية الجديدة المتعلّقة بالإخصاب والولادة، وغيرها من المسائل التي خطت بعض الدول الغربية خطوات كبيرة في شَرْعَنَتِهَا وبقيت الأديان تقف بشأنها مواقف تقليدية، لا سيما أن ممارسة المسيحيين في هذه الأمور تناقض بشكل كبير جداًّ تعاليم الكنيسة.

وعلى صعيد الحركة المسكونية التي تهدف إعادة توحيد الكنائس المسيحية، فقد قام البابا يوحنا بولس الثاني بخطوات عديدية لتحقيق تلك الوحدة. من تلك الخطوات المهمّة جداًّ نظرياًّ نشره في 30 أيار(مايو) 1995م رسالة عامّة بعنوان "فليكونوا واحداً" اقترح فيها -لحلّ مسألة أوّلية بابا روما على سائر الكنائس المسيحية وهي العقبة الأساسية في تقدّم وحدة الكنائس- أن يَنْكَبَ اللاهوتيون على دراسة موقع أسقف روما وسلطته كما كانت تمارَس في الألف الأول للمسيحية(أي قبل أن تنقسم الكنائس) والعودة إلى ما كان قائماً في تلك المرحلة. إلاّ أنّ هذا الاقتراح بقي حبراً على ورق، لا بل ازدادت سلطة أسقف روما(البابا) ومركزية تلك السلطة ازدياداً كبيراً حتى إن الكنائس المحلية الكاثوليكية، ببطاركتها وأساقفتها ومجامعها، أصبحت استشارية تحتاج قراراتها إلى موافقة الكرسي الرسولي.

من جهة أخرى تراجع الحوار بين الكاثوليك والأرثوذكس بسبب الحملات التبشيرية التي قام بها الفاتيكان في روسيا ودول أوروبا الشرقية التي كانت تنضوي تحت أنظومة الاتحاد السوفياتي، وذلك بعد سقوط الشيوعية. وسمّيت تلك الممارسات "اقتناصاً"، أي تبشير المسيحيين الأرثوذكس وحملهم على اعتناق الكثلكة. الأمر الذي جعل بطريرك روسيا الأرثوذكسي يرفض أن يزوره البابا يوحنا بولس الثاني. وتوفّي هذا الأخير وبقيت في قلبه حسرة من عدم لقائه بطريرك موسكو وكل روسيا.

على الصعيد السياسي، صحيح أن البابا يوحنا بولس الثاني قد انتقد بشدّة الليبرالية المتوحشة المتمثلة بالعولمة الاقتصادية، ونادى بحقوق الإنسان، وعمل لأجل السلام وضدّ الحروب الاستباقية (كحرب أفغانستان، وخاصة حرب العراق) لكنّه سكت على ما يجري في أميركا اللاتينية من جرّاء الأنظمة العسكرية والديكتاتورية. لا بل شجب مواقف اللاهوتيين الكاثوليك الذين كانوا يبشّرون بما سمّي "لاهوت التحرير" المتعلّق بأميركا اللاتينية وأنزل الحرم بالعديد منهم.

وعلى الرغم من النجوميّة التي تمتّع بها البابا يوحنا بولس الثاني في أنحاء العالم لا سيما في أوساط الشبيبة وعبر "الأيام العالمية للشباب" التي كان يقيمها في قارات العالم، بقيت الكنيسة الكاثوليكية في جمودها وتقليديتها وتراجع عدد المنتمين إلى الكثلكة في أوروبا معقل الكثلكة.

وعند وفاة البابا يوحنا بولس الثاني اجتمع الكرادلة لانتخاب خلف له، وكانت كلّ التوقعات تشير إلى احتمال انتخاب خلف له لا يكون من الإصلاحيين بل يكون من التقليديين حتى يبقى الوضع الذي ساد في الكثلكة لمدة ربع قرن قائماً.

وتمّ ما كان متوقّعاً حيث انتخب مجمع الكرادلة الكاردينال الألماني المتشدّد جوزف راتزينغر خلفاً للبابا يوحنا بولس الثاني.

خامساً: البابا الألماني بينيدكتوس السادس عشر

الكاردينال الألماني جوزف راتزينغر، رئيس مجمع العقيدة والإيمان وعميد مجمع الكرادلة، ومن أقرب المقرّبين إلى البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، خلف هذا الأخير وأصبح البابا رقم 265 للكنيسة الكاثوليكية متّخذاً اسم البابا بينيدكتوس السادس عشر.

وُلد جوزف راتزينغر في نيسان(أبريل) 1927م في ولاية بافاريا بألمانيا، ورُسم كاهناً مع شقيقه عام 1951م، وأمضى سنوات عدّة يعلّم اللاهوت.

اصطدم مع لاهوتيين بارزين في ألمانيا أبرزهم اللاهوتي الليبرالي السويسري هانس كونغ الذي ساعده في الستينات على الحصول على منصب تعليمي في جامعة توبينغن. وفي مذكراته، يقول راتزينغر: إِنه شعر بالافتراق عن زملائه الألمان منذ أوائل الستينات، عندما كان مساعداً شاباً في المجمع الفاتيكاني الثاني في روما. وترك جامعة توبينغن خلال الاحتجاجات الطلابية أواخر الستينات وانتقل إلى جامعة ريجنسبورغ الأكثر محافظة في مقاطعة بافاريا. وتبلغ نسبة الكاثوليك في ألمانيا 34 في المائة أي ما يعادل البروتستانت، لكن بافاريا تقطنها غالبية كاثوليكية.

عام 1977م عُيّن أسقفاً لميونيخ، ورُقّي إلى رتبة كاردينال بعد ثلاثة أشهر بوضع يد البابا بولس السادس. وعيّنه يوحنا بولس الثاني رئيساً لمجمع الإيمان والعقيدة عام 1981م. وهذا المجمع (الدائرة) هو من أهم المجامع الفاتيكانية إذْ يراقب ويصحح ويضبط جميع الاتجاهات اللاهوتية والعقدية في الكنيسة الكاثوليكية الجامعة.

ردود الفعل على انتخابه خلفاً للبابا يوحنا بولس الثاني جاءت متضاربة في العالم الكاثوليكي.

التيار المحافظ ارتاح إلى انتخابه. والتيار الاصلاحي رأى، على مضض، أنه ربما سيخفف تمسّكه بالتقليد معتبراً أنه، في أي حال، لن يكون انتخاب البابا بينيدكتوس السادس عشر سوى مرحلة انتقالية. أما التيار التقدمي في الكنيسة فقد أصيب بخيبة شديدة. اللاهوتي البرازيلي الشهير ليوناردو بوف الناطق باسم "لاهوتيي التحرير" في أميركا اللاتيينة، والذي ألزمه الصمت الكاردينال راتزينغر عندما كان رئيساً لمجمع "العقيدة والإيمان" قال عنه في وسائل الإعلام، قبيل انتخابه: "إنه الكاردينال الذي يحصد أكبر كره من الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، إذ إنه حرم 140 لاهوتياً إصلاحياًّ أو تقدمياًّ، وأذل العديد من المجامع الأسقفية في العالم بطريقته المتصلّبة والمتعصبة في تناول مسائل الإيمان والعقيدة".

فهل يمكن للبابا الجديد أن يبدّل قناعاته وينتهج سياسة كنسية تناقض مسلكه السابق؟ على الأرجح أنه لن يفعل ذلك ولو أنه، بعد انتخابه، صرّح غير مرّة عن رغبته في الحوار والانفتاح ليبدّل الصورة التي شاعت عنه بأنه "أصولي" عنيد.

تنقسم الآراء حياله في موطنه ألمانيا عكس سلفه البابا يوحنا بولس الثاني الذي كان موضع إجماع في مسقطه بولونيا.

وأظهر استطلاع للرأي نشرته مجلة "در شبيغل" الألمانية أن الألمان الذين يعارضون انتخاب الكاردينال جوزف راتزينغر رأساً للكنيسة الكاثوليكية يفوق أولئك الذين يؤيّدونه. وكانت نسبة المعارضين 36 في المائة في مقابل 29 من المؤيدين، ولم يُدلِ 17 في المائة برأيهم.

نذكر، فيما يلي، بعض المواقف التي اتّخذها الكاردينال جوزف راتزينغر والتي تضعه في خانة المحافظين المتشدّدين:

بعد أن كانت الحركة المسكونية، أي الحركة التي تسعى إلى توحيد الكنائس المسيحية، تخطو خطوات إلى الأمام، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، جاءت رسالة بعنوان "إعلان الرب يسوع" أعدّها الكاردينال راتزينغر ووقّعها البابا يوحنا بولس الثاني اعتبرت أن الكنائس التي لا تمارس الأسرار الكنسيّة بكاملها لا يمكن اعتبارها كنيسة حقيقية بكل معنى الكلمة، وأن الكنيسة الكاثوليكية تبعا لذلك هي وحدها التي يمكن اعتبارها كنائس بالمعنى الكامل للكلمة. فالبروتستانت هم "جماعات" مسيحية، والأرثوذكس كنائس "منقوصة" العقيدة لأنها لا تؤمن بأولوية أسقف روما، أو خليفة بطرس الرسول وعصمته. لقد اعتُبر هذا البيان نكسة كبيرة في مسيرة الحركة المسكونيّة، أو حركة وحدة الكنائس.

وتدخّل راتزينغر في الشؤون الأوروبية وأبلغ مجلة "الفيغارو" الفرنسية أن على الاتحاد الأوروبي أن يعيد النظر في مسألة تضمين الدستور إشارة إلى استلهام الإرث المسيحي(وليس الديني) لأوروبا. وفيما يتعلّق بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رأى الكاردينال الألماني أن "على تركيا أن تحاول إقامة رابطة ثقافية مع دول عربيّة مجاورة لها، وأن تحتلّ مقعد الصدارة ضمن منظومة ثقافية تتّفق مع هويتها". فهو، إذاً، يرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لأنها بلد مسلم، ويخشى -إذا ما انضمّت- على الهوية المسيحية لأوروبا.

وفي رسالة عامة أصدرها الكاردينال راتزينغر، حارس العقيدة الرومانية، في تموز(يوليو) من العام 2004م، أرسلها إلى أربعة آلاف أسقف كاثوليكي في العالم، انتقد بلهجة شديدة الحركات النسائية الراديكالية حرصاً منه على عدم تفكك العائلة التقليدي. أحدثت الرسالة صدمة في أوساط اللاهوتيين الليبراليين والتقدميين في أميركا الشمالية وألمانيا وغيرها من البلدان، كما أزعجت الحركات النسوية التي تناضل في سبيل المساواة بين الرجل والمرأة.

اتّهم الحركات النسوية بأنها، من جهة، تعمل على "جعل المرأة خصماً للرجل" وأنها، من جهة ثانية، "تتجاهل الاختلاف الجنسي لتسلط الضوء على الاختلاف الثقافي". ويخلص إلى القول بأن "للمرأة وللرجل الحقوق نفسها، ولكنّ دعوة كل منهما ووظيفته لا يمكن أن تتطابقا".

جاءت رسالة الكاردينال راتزينغر لتؤجج الصراع القائم في الكنيسة الكاثوليكية(وغير الكاثوليكية) منذ مدّة طويلة ما بين خط تقليدي وخط ليبرالي متقدّم حول مسائل مطروحة على الضمير البشري لا سيما فيما يتعلّق بأساليب منع الحمل، والطرق الطبية الجديدة المتعلّقة بالإخصاب والولادة، والإجهاض، والمثلية الجنسية، وغيرها من المسائل التي خطت بعض الدول خطوات كبيرة في شرعنتها، وبقيت الأديان تقف بشأنها مواقف تقليدية.

وبسرعة توالت الردود على مواقف الكاردينال من قضايا علاقة المرأة بالرجل. وتساءل بعض اللاهوتيين الليبراليين وبعض الحركات النسوية لماذا لا تفتح الكنيسة ملفات تواطؤ الكنيسة مع الهيمنة المجتمعية الذكورية على حساب حقوق المرأة؟ فالمرأة لا تزال في الكنيسة -حقوقياًّ وعملياًّ- في دونية. لماذا لا تمارس المرأة وظيفة الكهنوت التي بقيت حكراً على الرجل علماً أن هذا الأمر لا يرتكز على نصوص إنجيلية بل على التقليد؟ لماذا بقي اللاهوتيون الرجال هم الذين وحدهم يصوغون اللاهوت والقوانين الكنسيّة لجميع أعضاء مجتمع المؤمنين؟ لماذا لا يسمع كلام المرأة أقلّه في القضايا التي تتعلّق بها مباشرة كالحمل والإخصاب والولادة وغير ذلك؟

على أيّ حال، وبصرف النظر عن الآراء والمواقف حيال شخصه ومعالم شخصيته وتوجّهاته، تواجه البابا الجديدَ، وعبره الكنيسة الكاثوليكية، تحدّياتٌ جمّة تكوّنت من جرّاء القضايا العالمية الراهنة وموقف الكنيسة الرسمي، حتى هذه الساعة، من تلك القضايا. نذكر من تلك التحدّيات أهمّها وهي أربعة:

1- مركزية السلطة الرومانية: إن كاريزما البابا البولوني الراحل حملته إلى أن يصبح "كاهن العالم بأسره". كما أن إيمانه العميق بأولوية السدّة البطرسية على أساقفة العالم أجمع، وتصوّره لدعوته التبشيرية الجامعة، وحلمه بإقامة نظام اخلاقي شمولي، كل ذلك أفشل مكتسبات المجمع الفاتيكاني الثانـي (1962-1965م) التي فتحت الكنيسة الكاثوليكية على العالم المعاصر، وأبرزت مكانة وسلطة واستقلالية الكنائس المحلّية، وأسست لحوار صادق وفعّال مع الكنائس غير الكاثوليكية ومع الديانات الأخرى.

فعلى البابا الجديد أن يجابه التحدّيات التي تواجه تلك السلطة البابوية الشمولية والشديدة المركزية، والبيروقراطية الرومانية التي تتغاضى عن الأوضاع الخاصة بكل كنيسة محلية. فهناك، على سبيل المثال، تململ شديد من جرّاء تعيين الأساقفة من قِبَلِ البابا(أي الدوائر الفاتيكانية) دون الرجوع إلى المجامع الكنسية المحلية، وغير ذلك من ممارسات سلطوية تبتعد بعداً شديداً عن روح الديمقراطية. صحيح أن الكنيسة لا تعترف بالديمقراطية في إدارتها الذاتية، لكن الديمقراطية أصبحت ضرورة أساسية في عالمنا الراهن.

2- الطلاق مع المجتمع الحديث: لقد حلّ ما يشبه الطلاق ما بين الكنيسة والعالم المعاصر. ومن ظواهر هذا الطلاق تدنّي الممارسة الدينية لدى المسيحيين، وضعف الإيمان بالمعتقدات التقليدية، وعدم التقيّد بالقوانين والأعراف الأخلاقية والأدبية. فعلى سبيل المثال: فيما كان 40 بالمائة من كاثوليك فرنسا يذهبون إلى قداس الأحد بعد الحرب العالمية الثانية تدنّى عددهم اليوم إلى نسبة 10 بالمائة فقط، والإقبال على تقبّل سرّ العماد هبط في فرنسا من 90 بالمائة في الخمسينات إلى 60 بالمائة اليوم. أقلّ من ثلثي الفرنسيين يصرّحون اليوم بأنهم كاثوليك مقابل 81 بالمائة في بداية حبرية يوحنا بولس الثاني.

هناك انتقادات كثيرة تصدر عن المؤمنين الكاثوليك حيال مواقف الفاتيكان من استعمال وسائل منع الحمل، والمساكنة، والإجهاض، والتلقيح الاصطناعي، وغير ذلك... ولا يكتفي المسيحيون بالانتقاد بل يذهبون إلى عدم الخضوع للقواعد الأخلاقية التي تخطها الكنيسة في المسائل المذكورة.

3- عزوبية الكهنة: في التقليد الكاثوليكي الشرقي المتّبع يجوز للرجل المتزوّج أن يصبح كاهناً ولا يجوز لعازب أن يتزوّج بعد أن يصبح كاهناً. أما في التقليد الكاثوليكي الغربي اللاتيني فيحتّم على الكاهن أن يكون عازباً قبل سيامته وبعد سيامته. ولا شيء -من باب العقيدة- يمنع تغيير هذا التقليد. إنها السلطة الفاتيكانية التي تتمسّك باستمرار بهذا الأمر. أصوات كنسيّة عديدة في الغرب تنادي بإبطال هذا التقليد خاصة أن التراجع بالدعوات الكهنوتية آخذ في الازدياد بشكل مقلق. ففي فرنسا كان يتمّ، في الخمسينات، سيامة حوالى ألف كاهن سنوياً، في العشرين سنة الماضية لا تتعدى السيامات الكهنوتية 110 سنوياً. كان عدد الكهنة في فرنسا، في العام 1960م، حوالي 41 ألف كاهن، أما اليوم فعددهم انخفض مقدار خمسين بالمائة، علماً أن ثلثي هؤلاء عمرهم يتعدى الستين عاماً. أما عدم سيامة المرأة كاهناً فهو أمر محتوم ولا يبدو أن الكنيسة يمكن أن تعيد النظر فيه.

4- الحوار مع الكنائس الأخرى: لقد بذل البابا الراحل يوحنا بولس الثاني جهوداً كبيرة في سبيل تحقيق الوحدة مع الكنائس غير الكاثوليكية. لكن جهوده لم تثمر إثماراً كبيراً. فبعد انفراط الاتحاد السوفياتي، تفاقمت الأزمات ما بين الكثلكة والأرثوذكسية من جرّاء اتّهام هذه الأخيرة الأولى بالاقتناص، أي بتبشير الأرثوذكس، كما أن البابا الراحل لم يحقق حلمه بزيارة بطريرك روسيا ألكسي الثاني. كما ترى أن العلاقات مع الأنغليكان متأزّمة. فالعقبة الكبرى في سبيل الاتحاد هي دون شك سلطة البابا الشاملة وعصمته. ومن الصعب جداًّ التفاؤل بأن البابا الجديد سَيُقْدِمُ على إعادة النظر في هذه المسألة، لا سيما أنه هو الذي أصدر رسالة وقّعها البابا اعتبر فيها أن الكنائس غير الكاثوليكية لا يمكن اعتبارها كنائس حقيقية وكاملة الشروط.

في الخلاصة، إن الإصلاح في الكنيسة الكاثوليكية الرومانيّة هو في مدّ وجزر. بعد قرون وسطى ظلاميّة تحجّرت فيها الكنيسة الغربية جاء "الإصلاح البروتستانتي" ليحفّز الكنيسة الكاثوليكية على المباشرة في إصلاح داخلي اتّخذ خطّ المحافظة والتقليدية. وتبرز مرحلة " المجمع الفاتيكاني الثاني " علامة فارقة في تجدد الكنيسة الكاثوليكية. أما اليوم، فالتحدّيات المطروحة على هذه الكنيسة -وغيرها من الكنائس الأخرى- عديدة وكبيرة وشائكة. فهل تستطيع الكنائس الاستجابة لمتطلّبات أبناء زمننا بما يضمن سلامهم الأرضي وخلاصهم الأبديّ؟

**************

*) باحث وأكاديمي من لبنان.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=219

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك