الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه بحل مشاكل الناس

 

أن يُذكر النبي صلى الله عليه وسلم داعيا إلى الله ، دالًّا على صفات جلاله وجماله، معرِّفا بحقوق الله على العباد، مذكِّرا بما ينبغي في حقه تعالى من الإنابة والضراعة وتوحيد العبادة… هذا كله ليس بغريب ولا مستنكر، فهذه هي الوظيفة الأولى للأنبياء عليهم السلام، قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

لكن أن يُذكر النبي صلى الله عليه وسلم ساعيا في حل المشكلات الاجتماعية لأصحابه ولأفراد المجتمع عموما، فهذا هو الذي ربما يبدو عجيبا بعض الشيء!

لكن سيرته تظهره صلى الله عليه وسلم في مجامع الناس يبحث عن حلول لمشاكلهم كما تظهره إمامًا لهم مبلغا إياهم ما يتنزل عليه من وحي، ليدل ذلك على أن وظيفته الاجتماعية جزء من الدين نفسه.

البلاغ المدني الأول

بل إن أول بلاغ  له صلى الله عليه وسلم على أرض المدينة كان إنسانيا بحتا؛ وحلًّا لمشاكل اجتماعية واقتصادية، فعن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة …كان أول ما قال: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» .[ رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي، وصححه الألباني.]

أربعة أوامر، ثلاثة منها اجتماعية بحتة ( إفشاء السلام، صلة الأرحام، إطعام الطعام) وواحدة منها فقط دينية، ( صلوا بالليل).

فلم يكن ليسعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفوف في المحاريب، والأيادي الضارعة، وبعض أفراد أمته لا يجدون الطعام، أو يحمل بعضهم لبعض الِإحَن والبغضاء، أو تفشو بينهم جفاف المشاعر من قلة التواصل وإفشاء السلام.

الزوج الحاضر الغائب

عن عائشة رضي الله عنهما قالت: ” دخلت علىَّ خويلة بنت حكيم ، وكانت عند عثمان بن مظعون ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لى: يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة!

فقلت يا رسول الله، امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل ، فهى كمن لا زوج لها، فتركت نفسها، وأضاعتها .

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى عثمان بن مظعون ، فجاءه فقال: يا عثمان أرغبة عن سنتى؟ ! قال: فقال: لا والله يا رسول الله ، ولكن سنتك أطلب .

قال: فإنى أنام وأصلى ، وأصوم وأفطر ، وأنكح النساء ، فاتق الله يا عثمان ، فإن لأهلك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، فصم وأفطر ، وصل ونم .

فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس ، فقلن لها : مه ؟ قالت : أصابنا ما أصاب الناس .” [رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني. ]

يقول الشيخ خالد محمد خالد :[ ” بالأمس لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمر صبرا حين رأى أمامه زوجة يؤرقها هجر زوجها، وتضنيها مرارة الحرمان، فأسرع لنجدتها، وذكَّر زوجها بما لها عليه من حق، فما أن جنَّ عليه الليل ثم طلع عليها صباح يوم بهيج حتى كانت تزهو فرحة مطمئنة تقول لصاحباتها : “أصابنا ما أصاب الناس” ].

بريرة ومغيث

عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها في سكك المدينة يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة؟ ومن بغض بريرة مغيثا؟»

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو راجعتِه» فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: «إنما أشفع» قالت: لا حاجة لي فيه. [رواه البخاري.]

في هذا الحديث أن مغيثا كان عبدا فتزوج من بريرة وهي أمة مثله، ثم منَّ الله عليها فأعتقت، فاختارت فراقه، لكنه كان قد شغفته حبا، فظل يسترضيها ويتودد إليها ألا تتركه، وهي ترفض، فما عاد يليق بها، فضلا عن أنها لا تبادله حبه.

فكان يسير وراءها في سكك المدينة يسترضيها وهي ترده، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المشكلة الشخصية التي يتعرض لها مغيث، رقَّ له، وتعاطف معه، فتوسط له عن بريرة فرفضت لمَّا علمت أن الأمر وساطة اجتماعية من الرسول وليس وحيا أو أمرا نبويًّا.

وفي القصة من إنسانياته صلى الله عليه وسلم، اهتمامه بمشكلة شخصية جدا، تخص شخصا واحدا، وهي مشكلة عاطفية، فكل مشكلة مغيث أنه يحب بريرة، ويريد أن يبقى معها، فلا يحمله أن يكون معها احتياج مادي، أو احتياج عائلي، بل هو احتياج عاطفي محض، إنه يحبها، وقد بلغ حبه لها أنه يسترضيها ويبكي من شدة رفضها له، فلا ينهره النبي صلى الله عليه وسلم آمرا إياه بالتصلب وكبح مشاعره، فإنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن المشاعر لا سلطان للنفس عليها.

تمعر وجهه صلى الله عليه وسلم

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في صدر النهار، فجاءه أقوام حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، وليس عليهم أزر ولا شئ غيرها، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر  وجه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وصلى ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه،….

ثم قال : تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من شعيره، من صاع تمره، حتى قال: ولا يحقرن أحدكم شيئا من الصدقة ولو بشق تمرة، فأبطؤوا حتى بان في وجهه الغضب، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة من ورق كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت فناولها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وهو على منبره، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله، فقبضها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ثم قام أبو بكر فأعطى، ثم قام عمر فأعطى، ثم قام المهاجرون والأنصار فأعطوا، ثم تتابع الناس في الصدقات، فمن ذي دينار، ومن ذي درهم، ومن ذي، ومن ذي، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، و مثل أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه وزرها و مثل وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ، ثم تلا هذه الآية: {ونكتب ما قدموا وآثارهم}،فقسمه بينهم” ] رواه مسلم.

في هذا الحديث يقدم قوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضر على هيئة من الفقر، بحيث إنهم لا يلبسون إلا العباءات الممزقة، التي تظهر أكثر مما تستر، فضلا عن خشونتها وغلظها، فقد كانت من الصوف ليس تحتها شيء، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم ؟

أولا : تَمَعّر وَجْهه – صلى الله عليه وسلم – أي تغير من شدَّة احتياج هؤلاء القوم مع عدم مواساة الأغنياء لهم مما يدفع ضررهم.

والعجيب أنك إذا ذهبت تعد الأحاديث التي ذكرت تمعر وجهه  صلى الله عليه وسلم فستجدها قليلة جدا، بل ذكرت عائشة مرة تمعر وجهه صلى الله عليه وسلم تمعرا شديدا ثم قالت : ” فتمعر وجهه صلى الله عليه وسلم تمعرا ما كنت أراه منه إلا عند نزول الوحي، وإذا رأى المخيلة حتى يعلم أرحمة أو  عذاب ” فقد بلغ الغضب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منتهاه حينما رأى هذه الأجسام العارية والبطون الضامرة.

ثانيا : حضَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الصدقة، وغضب صلى الله عليه وسلم حينما رأى تباطؤا في  التصدق.

ثالثا :  استنار وجهه صلى الله عليه وسلم حين جمع لهم ما يسدّ فاقتهم، وذلك يدل على أن حل مشكلات الناس الاجتماعية كانت من دواعي سروره واستنارة وجهه، ولم يكن ذلك مقصورا على النواحي العبادية المحضة.

رابعا :  هذا هو الحديث الذي تدور حوله معركة قديمة متجددة حول مفهوم السنة والبدعة، وهل هناك بدعة حسنة أولا؟  ويتناسى طرفا المعركة  ما هو أهم من ذلك، وهو أن إقامة المشاريع الخيرية، وإيواء المشردين، وإطعام الجائعين وإغاثة الملهوفين من السنن الحسنة  بنص هذا الحديث. وأن  مفهوم السنة لا يقتصر على العبادات المحضة، بل يتجاوز ذلك إلى المشروعات الاجتماعية النافعة، وصدق الشيخ خالد محمد خالد حينما قال :  كانت مشاكل الناس جزءا من عبادته صلى الله عليه وسلم .

المصدر: https://islamonline.net/28255

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك