الإصلاح في إطاره الوحدوي عند الإمام إبراهيم بيوض الجزائري

الإصلاح في إطاره الوحدوي عند الإمام إبراهيم بيوض الجزائري

عز الدين جلولي*

لم ينقطع التواصل الثقافي بين أجيال المغاربة عرباً وبربراً، مّمن يقطنون شمال إفريقية منذ الفتح الإسلامي الأول وحتى عصرنا الحديث، وإن كان قد انحصر مدّه إلى حدوده الدنيا إبّان الاحتلال الفرنسي للمنطقة، في أطول فتراته بين عامي 1830 و 1962 للميلاد.

كانت الذكرى المئوية الأولى، والأخيرة طبعاً، في عمر ذاك الاحتلال، عام 1930م مناسبة ملائمة ليقيم المستعمرون احتفالاً بطراً، أعلن فيه الكاردينال "لافيجري" صراحة: "إنّ عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وإن عهد الصليب قد بدأ، وإنه سيستمر إلى الأبد"(1).

وكان لهذا الاحتفال الاستفزازي تداعيات على نفوس الجزائريين موالين ومعارضين، وجد فيها الإمام عبدالحميد بن باديس ظرفاً مناسباً لإعلان مشروعه النهضوي، الذي خطط له بعناية وحكمة مع رفيق دربه الإمام محمد البشير الإبراهيمي منذ أن التقيا في مدينة الرسول-صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك بسنين.

تقدم ابن باديس بطلب الاعتماد لجمعية العلماء المسلمين لدى الحاكم الفرنسي المسؤول عن الشؤون الدينية، فنال الموافقة على عجل، لحاجة المستعمر إلى خطوة تلطيفية تجاه الشعب الذي ثارت حفيظته جراء تلك الاحتفالات. وكان من حكمة المؤسسين للجمعية إدراجهم ضمن قائمة الأعضاء التي قدمت فيها أسماء تمثل كل الأطياف الدينية العاملة على الساحة الجزائرية: الزيتونيون، والطرقيون أرباب الزوايا، والإباضيون ممثّلين بكبيرين من أعلامهم: الشيخ إبراهيم أبي اليقظان، والإمام إبراهيم بن عمر بيّوض.

قبيل وفاة الإمام بيوض بِحَوْلٍ واحد، أي في عام 1980م، أقيم مهرجان تكريمي بمناسبة إتمام الشيخ تفسير القرآن الكريم، الذي دامت حلقاته خمساً وأربعين سنة بالتمام والكمال. وفي أثناء المهرجان قام هذا الرجل خطيباً في الجموع المحتشدة مستشهداً بكلام للإمام عبدالحميد بن باديس قاله هذا الأخير أيضاً في حفل اختتام تفسير الكتاب العزيز عام 1938م، والنص الذي وجد فيها الرجلان تعبيراً عما يختلج في نفسيهما من شعور بالواجب، يعكس كذلك روح الألفة والوحدة في طريق واحد جمعهما، رغم الأعراق المتباينة، والمذاهب المختلفة: "إنني أعاهدكم على أنني سأقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما، وإنها لواجبات، هذا عهدي لكم... وأطلب منكم شيئاً واحداً، وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن، ولغة الإسلام والقرآن"(2).

سأحاول النفاذ عبر تاريخ الإباضية في الجزائر، لعلّي أصل في آخر المطاف إلى فهم أعمق لشخصية العلامة بيّوض، وما قدمه من أعمال ومواقف رضي عنها الجميع وعُدّ بها مجدِداً في قرنه، وذلك من خلال يد تتلمّس نفسه الجمعوي، وعين تتبصّر آثار جهاده على مخالفيه من عشيرته، وعلى غالبية أمته ممن تتبع مذهباً يخالفه؛ لنخلص من ذلك كله إلى تمثل حياة اصطبغ فيها صاحبها بروح الإسلام وحده، واستنكف عما يزجّ بتلك الروح في سراديب الضيق المذهبي، لتنطلق، بمريديها ومخالفيها على حدّ السواء، إلى صفاء القلب وسعة الصدر ورحابة العقل والخلق الحسن.

ينتهي مذهب الإباضية، أو الأباضية، عند التابعي الجليل جابر بن زيد (18-96هـ) أحد علماء البصرة في زمانه، ونُسبوا إلى تلميذه عبدالله بن إباض لإسهامه الكبير في رفع قواعد هذا المذهب الإسلامي، الذي يعدّه أغلب الكتّاب فرعاً معتدلاً من حركة الخوارج(3)، التي يرفض الإباضيون نعتهم بها؛ لكون مدلول الخروج في الفكر الإسلامي هو المروق من الدين، لا الخروج على حاكم رأوا فيه اعوجاجاً.

انتشرت المذاهب الكلامية في القرون الهجرية الأولى انتشار الإسلام في بقاع الدنيا، ووصل الاعتزال إلى شمال إفريقية فاعتنقه الكثيرون، كان من بينهم بنو ميزاب البرابرة، الذين لم يتبعوا مذهب عبدالله بن إباض إلاّ في بدايات القرن الخامس الهجري(422هـ/1031م)، بعد أن اقتنعوا بعلم أبي عبدالله محمد بن بكر النفوسي الإباضي، الذي استطاع النفاذ إلى عقول مشايخ بني ميزاب فآمنوا بدعواه، فاعتنقوا المذهب الذي دعاهم إليه، وأدخلوا معهم العشيرة بأكملها. ولم تستطع محاولات الدولة الرستمية في المغرب الأوسط(الجزائر حالياً) احتواء بني ميزاب في مذهبها الإباضي، ولا قدر مالكية الأغالبة في المغرب الأقصى، ولا الشيعة الفاطمية في مصر- جرّهم إلى مذاهبهم رغم المحاولات المتكررة؛ لأنّهم أتوهم بسلطان القوة، واستخدموا معهم منطق العصا، الذي لا يلين أمامه بنو مازيغ عادة، إلى أن ظهر أبو عبدالله النفوسي، فأخذهم باللين والمحاورة، فدخلوا في مذهب(أهل الحق) أفواجاً(4).

ترى، هل كان بنو ميزاب سينخرطون في مذهب آخر، غير الإباضي، لو أن دعاته جاؤوهم بالحسنى كما فعل أبو عبدالله النفوسي؟ الجواب: ربما. وتلك ظاهرة تطرد في نشأة كل المذاهب تقريباً؛ فالظروف التاريخية غير الموضوعية كانت عاملاً مساعداً وأحياناً أخرى عاملاً رئيسياً في اعتناق مذهب أو التبدّل عنه إلى غيره. وشأن المعطيات الموضوعية -رغم أساسيتها- بسيط، إذا صفت لها النيّات وانفتحت لها القلوب. إنّ الحوار بالتي هي أحسن، في إطار القبول بالآخر على أساس الوفاق والكلمة السواء، كان وسيظل السبيل الأوحد للوصول إلى القناعات، بل إنه المفتاح السحري لكل من أراد النفاذ إلى عقول الآخرين وقلوبهم. إذا أدركنا هذا، عرفنا بوضوح كم نحن متعصبون، وكم هي الجدر سميكة عالية بيننا وبين الرعيل الأول قبل اختلاف أتباعهم. وفي مقابل ذلك أيضاً علينا واجب ينتظرنا تجاه بعضنا، وأقّله إلحاحاً طيّ هذه الرواسب التاريخية، وإلقاؤها عنا بعيداً، لنخلص أمّة واحدة تسير على منهج الرسالة والوحي.

قلّما نجد أبناء ميزاب يقطنون خارج واديهم من شمال الصحراء الجزائرية، ومردّ ذلك حدث في التاريخ، عقب الهجرة الهلالية في القرن الخامس الهجري 11م، التي زحزحت الميزابيين من المناطق الشمالية فألجأتهم إلى تخوم الكثبان الرملية، بواد غير ذي زرع، يطوف نهره موسمياً بمياه الأمطار، فيجدون فيها مورداً عذباً وكدراً. وربّ ضارّة نافعة، فلعل هذه العزلة قد أسهمت في المحافظة على مذهبهم الاعتزالي، علاوة على تحقيق حلمهم في الاعتزال والتميز عن غيرهم، وظل حبّهم للتميز عن غيرهم هدفهم المنشود عبر العصور، وما انضمامهم إلى الإباضية دون غيرهم من المذاهب إلاّ دليل واضح على هذا التوجّه"(5).

ولم يقتصر انحصار الإباضية في شمال الصحراء فحسب، بل وجدوا حواضر لهم –بعد أفول نجم دولتهم الرستمية- في كل من جزيرة جربة بتونس، وجبل نفوسة بليبيا، وسلطنة عمان شرقي الجزيرة العربية، وفي بعض الجزر الشرقية لإفريقيا مثل زنجبار(6).

ولئن كانت ظروف العزلة والانعزال هذه قائمة في تاريخ النشأة، فإن دواعيها منتفاة أو تكاد في هذه الأيام؛ فلم يعد للصراع الكلامي وطأته اليوم ولا للدولة القائمة مذهب تدعو إليه الآن؛ مما يتطلب هجرة معاكسة وانفتاحاً مقابلاً، تعود بمقتضاه المياه إلى مجاريها، والأمّة إلى لحمتها؛ وذلك مقصد ديني متفق عليه لدى الجميع.

في مثل هذه الظروف التاريخية، وفي مثل تلك البيئة الصحراوية، وُلد الإمام عمر بن بابه بن إبراهيم بيّوض في القرارة، من مدن بني ميزاب، الواقعة جنوب العاصمة الجزائرية على مسافة تقدر بنحو ستمائة كيلو متر، حيث تدرّج في حفظ القرآن الكريم حتى استكمله دون أن يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ليواصل بعد ذلك بناءه الروحي والعقلي على أيدي علماء منطقته من الإباضية، كان على رأسهـم الإبريكـي(1329هـ/ 1911م) والمليكـي(1339هـ/1921م)، وأبو العلا (1882هـ/1960م) وبكير بن إبراهيم العنق (1353هـ/ 1934م). ولأن لسانه كان أعجمياًّ، فقد اهتم بالعربية وعلومها مدخلاً لدراسة علوم الدين(7)، فكان تأثره بالقطب الإباضي أمحمد بن يوسف اطْفيَّـش(1332هـ/1914م) تأثراً جعله يعتبره الأصل وهو له فرع مكمل، كما أبدى تأثره بالإمام محمد عبده من خلال تفسيره وكتاباته في مجلة "العروة الوثقى". ولعلّ بيئته الصحراوية الصافية، وعشيرته الأصيلة المحافظة، والمحيط العربي المالكي من حوله، والأسلوب المتميز في الدعوة باللسان الناصح الذي انتهجه مربّوه، والارتباط التاريخي للمنطقة بجامعي الزيتونة والأزهر، والصراع اليومي مع المستعمر الجاثم على صدر بلاده – لعلّ كل ذلك أسهم في بنائه الفكري والوجداني، ففتح عقله على الآخرين، وصفّى نفسه من كدر المذهبية العمياء، وجعلها تتطلع إلى وحدة الأمّة جذوراً وأصولاً، فأثرى عطاءه وأغناه، وبوَّأه رمزاً من رموز الإصلاح في شمال إفريقية بلا منازع.

ترجم الإمام بيوض –رحمه الله- إيمانه بمفهوم الأمّة الواسع، من خلال مراسلاته مع أعلام معروفين من مذاهب مختلفة، فراسل الدكتور مصطفى الزرقاء، والإمام موسى الصدر، والشيخ أحمد الخليلي، وما ذلك إلاّ دلالة واضحة على عمق الانتماء إلى هذا البعد الأممي المتأصّل في وجدانه، فلم ينكفئ على ذاته ويغلق بابه على مذهبه ويطلب الدعوة بين ذويه وعشيرته، بل كانت مقالاته وكتاباته ومشاركاته تتحرك على مستوى الوحدة، وترقى إلى مستوى الحدث، ولو تعارض ذلك مع موروث رضع لبانه صغيراً، أو تقليد قدسته بيئته حتى كادت تتخذه صنماً.

توحي الكتب التي تولى تدريسها في المسجد بهذه الروح العالية، فقد درّس مسند الربيع بن حبيب مدّة ثلاثة أعوام، تلاه "شرح فتح الباري على صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني واستمر الأمر معه أربعة عشر عاماً. وكان، علاوة على نشاطه الدعوي هذا، ينظم البعوث العلمية إلى جامع الزيتونة في تونس، وهو جامع معروف بأنه يعتمد المذاهب السّنيّة في مناهجه. وكان لتلك البعوث العلمية شأن آخر، فقد كانوا يرحلون في طلب العلم وحده، من دون أن يكون لهم همّ في الظفر بالشهادة، التي قد تخدش نقاء الإخلاص في الطلب، فيعودون بوافر المعرفة وإن لم تكن ممهورة بخاتم الإدارة. وهذا أسلوب راقٍ في التربية والتعليم لا نعلم مدرسة انتهجته سبيلاً حتى الآن.

وما أكثر ما كان الإمام بيوض يخرج في فتواه عن المذهب الإباضي الذي تفقّه فيه، ليفتي الناس بما يراه أيسر في الدين، فقد "سأله رجل ظاهر من زوجته بأن قال لها: "أنت عليّ كأختي"، وكان في حالة غير عادية أصيب فيها بضيق في صدره حتى ظنّ أنّ به سحراً، فأفتاه بعض أهل العلم أن ذلك ليس ظهاراً، فعاد إلى زوجته ومسّها دون أن يكفَّر.

"ولكنّ الشيخ بّين أنّ الظهار ثابت، والكفارة واجبة قبل المسيس بنصّ القرآن، ومن أفتاه بغيره ذلك فقد أضلّه وأخطأ في فتواه، وعمل الرجل هذا يحرِّم زوجته عند بعض أهل العلم، وذهب آخرون ومنهم الإمام مالك إلى أنه يعتزلها، ثم يكفّر ثم يستغفر الله، وأضاف الشيخ قائلاً: "ولما كان هذا الرجل لم يقع فيما وقع فيه إلاّ بعد الاستفتاء، فصار له بذلك شبهة تقتضي التخفيف عنه والترخيص له، ولذلك فإني أفتيته بما اختاره الإمام مالك أعلم علماء المدينة في عصره"(8).

ومن ذلك أيضاً فتواه بعدم وجوب العدّة على المتوفى عنها زوجها من دون دخول، عملاً بمذهب عبدالله بن عباس، خلافاً لجمهور الإباضية القائلين بوجوب تلك العدّة(9).

وما كان خروجه هذا على المشهور في مذهبه لِيَمُرَّ بسلام في أوساط شانئيه ومناهضيه من أولئك الجامدين على الموروث المذهبي، فنعتوه بما لا يليق، وشنعوا عليه حتى أخرجوه من المذهب، وأوشوا به السلطات الاستعمارية وبعدها الجزائرية، وضايقوه حتى كادوا يغتالونه مرات عديدة، وكان أشدّ تلك الضروب من الأذى "إعلان البراءة منه في أغلب مساجد ميزاب في أوائل الثلاثينات، من قبل الهيئات الدينية المشرفة عليها، وهي لا تُطبّق إلاّ على المجاهرين باقتراف الكبائر من الذنوب، ومن آثارها عدم التعامل مع المحكوم عليه بها أو مجالسته أو التحادث معه، قبل أن يعلن توبته في المساجد التي أعلنت فيها البراءة منه"(10). ولكنه، رغم تلك الابتلاءات، ظل صامداً شامخاً كالطود العظيم، صابراً أمام التيار السابح ضده وضدّ ثوابت الأمّة ووحدتها، حتى استطاع كسب خصوم ناصبوه العداء إلى صفّه، وتحجّم آخرون، وفتح الله عليه ببراعم فتية أنشأهم في معهد الحياة، استعان بها على تمكين الحق في النفوس، وتجديد الدين في عقول اعتزلت فكادت تنعزل لولا أن الله سلّم.

ومن ألطف ما صنع الشيخ ومناصروه، ما حدثني به عديله وتلميذه، فضيلة الشيخ بالحاج سعيد شريفي، من أن بعض الإباضية الجامدين من وادي ميزاب كانوا إذا سمعوا اسم الإمام عليّ (كرم الله وجهه) لم يُرضوا عنه، فضلاً عن أن يتخذوه إماماً، ولكن الشيخ بيوض ومدرسته أعادت له مكانته في القلوب، وحُصِرَ الخلاف فيه حول قضية التحكيم التي قبل بها مع معاوية(رضي الله عنه)، وكان الأولى ألاّ يفعل لأنه الإمام الذي بايعه المسلمون خليفة بحق واستحقاق.

لم يكن جهاد الإمام بيوض ليبدأ مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رغم أنّه كان من أعضائها المؤسسين سنة 1931م، بل إن أعماله كانت امتداداً لتراث ثقافي عظيم استمر لقرون، زادتها نصاعة ظروف الاحتلال الفرنسي، ذي الطابعين العسكري والثقافي.

بدأ الإمام حربه على الاستعمار إثر قانون التجنيد الإجباري إبّان الحرب العالمية الأولى(1914-1918م)، الذي كاد الإمام ينخرط بموجبه في صفوف الفرنسيين لمحاربة المسلمين في أكثر من موقع في هذا العالم، ولولا أن جهوداً حثيثة انتشلته من ذلك المأزق لتغّيرت محطات كثيرة من ملامح حياة هذا الرجل(11).

اتخذ الإمام بيوض، في نضاله التنويري التربية والتعليم طريقاً لمكافحة الاستعمار، وهو الطريق نفسه الذي سلكته نخبة أخرى من علماء الجزائر، جمعت بينهم رسالة عالية وشعور حاد بالمسؤولية في ملتقى تلاقت فيه الأهداف والغايات، والأسس وتعانقت فيه المنطلقات، والمشارب والثقافات، فأسسوا كياناً عزّ نظيره في العالم بشهادة ابن باديس نفسه، فاستطاعوا بوحدة الكلمة والتفاني في العمل أن ينجزوا للجزائر استقلالها في غضون ثلاثة عقود.

أسس الإمام بيوض معهد الحياة في 21/5/1925م برفقة صديقيه إبراهيم أبي اليقظان(393هـ/1973م) والشيخ عدّون إمام الإباضية في الجزائر اليوم، وكان شعار هؤلاء الثلاثة مقولة للإمام محمد الغزالي قالها بعد ذلك، مفادها: ألاّ خلاص لنا إلاّ من خلال الاهتمام بالمعاهد اهتمامنا بالمساجد، فَلْنَبْنِ بجانب كل مسجد معهداً، ولنَبْنِ بجانب كل معهد مسجداً(12).

كان المنهاج التربوي في معهد الحياة شاملاً للمعارف كلها، وعمدتها القرآن الكريم وعلوم الدين، وكان يؤمّه الطلاب بربراً وعرباً، إباضية ومالكية. ولم يكن الاهتمام بالبرامج أولى من الاهتمام بالمربين، الذين كانوا ينتقون بعناية فائقة، تلحظ فيهم السلوك القويم والكفاءة العلمية على حد سواء، ومن أعجب ما قرأت في هذا الموضوع عن هذا الإمام المنفتح دعوته الشيخ محمد البشير الإبراهيمي السنّي المالكي، رئيس الجمعية بعد وفاة مؤسسها الأول، كي يتولى التدريس في هذا المعهد، فاستجاب الشيخ وهمّ بالرحيل لولا أن السلطات الجزائرية الحاكمة أجبرته على الإقامة في بيته، وظل تحتها إلى أن وافته المنية عام 1965م(13).

بلغت نشاطات الإمام بيوض ذروتها عندما أسس مع ابن باديس وآخرين جمعية العلماء، فزادت إلى أعبائه المحلية وطنية، شغل فيها منصب النائب لأمين صندوق المال، وهو تكليف له دلالته في حسّ أفراد الجمعية؛ فالأمانة التي عرف بها الإباضية الميزابيون والطابع التجاري للأعمال التي يزاولونها في أنحاء شتى من القطر الجزائري، والخصال الحميدة التي اشتهرت عنهم كالجود والتبرّع- رشّحت الإمام بيوض لأن يتولى هذا الموقع الحساس بين أفراد الجمعية.

كان قد بدأ الإمام بيوض عام 1935م تفسيراً متواصلاً لكتاب الله –تعالى- لم يتمّ ختمه إلاّ بمرور خمس وأربعين سنة، أي في أوائل عام 1980م، وتبدّت روحه المتأثرة بالإمام محمد عبده على صفحات تفسيره "في رحاب القرآن"، فاتخذ شعاره في التفسير شعار الإمام محمد عبده: "إنّ مقصدي من هذه الدروس وغيرها هو مقصد الشيخ محمد عبده، أن أصنع عقولاً تتذوّق بلاغة القرآن، ونفوساً فيها طهر القرآن، وتلاميذ مصلحين يكونون جند القرآن(14). وفضلاً عن هذا العمل التربوي الجليل، شارك الإمام في عمل آخر عسكري مع المجاهدين في الجبال والفيافي والقفار؛ فأمدّهم بالمال والعتاد واللباس، وآواهم ونصرهم وأرسل إليهم تلاميذه يقاتلون في الجبهات صفاًّ واحداً. كما وقف حجر عثرة أمام فرنسا في مشروعها لتقسيم الجزائر إلى إقليمين: صحراوي تابع لها وشمالي مستقل عنها، وناضل من أجل ذلك عام 1952م، في أثناء عضويته في المجلس الجزائري المشكّل من قبل الفرنسيين عام 1947م وكابد حتى انتصر؛ مما جعل المستعمر يلغي المشروع كلّه، فيعود القطر الجزائري واحداً موحداً كما كان وقت أن دخلته جيوشها، وكما ستخرج منه بعد عشر سنين من تاريخ ذلك المشروع.

ولم يقتصر جهاد الإمام في أثناء الثورة التحريرية فقط، بل أسهم في الدولة المستقلة كذلك، فانتدب للشؤون الثقافية في الهيئة التنفيذية للحكومة الجزائرية المؤقتة، بعد وقف إطلاق النار في 19/3/1962م عقب اتفاقيات "إيفيان". والتقى في أثناء عمله ذلك مع رفيق دربه في الجمعية الشيخ عبداللطيف سلطاني، وتباحثا في أمر هذه الجمعية بعدما أنجزت الاستقلال بدفعها الشعب إلى الثورة على المستعمر، فكان رأي الإمام بيوض أن يكون العمل داخل مؤسسات الدولة وخارجها في الوقت نفسه؛ فدعا أبناءه إلى ولج السلك الوظيفي، وتَبَوُّأ مناصب رسمية"(15)، ولولا أن عواصف مقصودة ابتليت بها الجمعية فهدّت كيانها وجمّدت نشاط أعضائها لكان أثرها لا يقل أهمية عما فعلته إِبّان الاحتلال.

ولا يهمّنا من تلك الابتلاءات سوى ما سلكه الإمام بيوض حيالها كي يتخطاّها من جديد، فركزّ عمله خارج مؤسسات الدولة بعد أن دفع بجيل الإصلاح إلى كل مرافق الدولة الفتية، التي ضاقت ذرعاً بدعاة الإصلاح فناصبتهم الخصومة والعداء.

اقتنع الإمام بيوض بأن للمجتمع حاجات ملحّة لا تسدّها معاهد التربية والتعليم وحدها، فَفَعَّلَ دور "مجلس العزّابة" عندما انتخب رئيساً له بالإجماع عام 1940م، واستمر على ذلك حتى وافته المنية في 1981م. والمجلس نظام اجتماعي تميّز به بنو ميزاب عن سواهم، مهمته القيام بواجب الوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحماية أخلاق الناس من الفساد والانحراف. ولهذا المجلس سلطة أدبية نافذة في نفوس الناس(16).

وهنالك مجلس العشيرة، مهمته الحفاظ على العلاقات النسبية بين أفراد المجتمع، فيقوِّم سلوكات التلاميذ في المدارس، ويرعى اليتامى والسفهاء والمجانين، ويعين البالغين على الزواج، ويسعى إلى الحدّ من البطالة بين صفوفهم.

ومن مؤسسات المجتمع المدني التي عني بها الإمام بعدما حاصرته السلطة الجزائرية الجديدة "جمعية الشباب"، التي تتكفل بتأطير الشباب في المجتمع الميزابي، وتعمل على تكوينهم تكويناً عملياًّ تترسخ بموجبه صفات الرجولية فيهم، فتراهم يسهرون على أمن المدينة ويراقبون الجوّ الأخلاقي فيها. وهذه الجمعية تعمل تحت إشراف "مجلس العزَّابة".

كما عني الإمام بالجمعيات الحديثة التي تهتم بالمجالات الاجتماعية والتجارية والسياسية داخل وادي ميزاب وخارجه، مستفيدين قدر مستطاعهم من الأشكال التنظيمية الحديثة.

كما عني الإمام بالجمعيات الحديثة التي تهتم بالمجالات الاجتماعية والتجارية والسياسية داخل وادي ميزاب وخارجه، مستفيدين قدر مستطاعهم من الأشكال التنظيمية الحديثة.

ولم يكن الشيخ معقداً مما يتطلبه العصر وتطور العمران، بل كان يدعو طلابه والمجتمع إلى تعلّم اللغة الفرنسية، والرحلة من أجل طلب العلم الدنيوي؛ لأن الفرنسية لغة المستعمر ولغة الإدارة الجزائرية من بعده وكثير من الحرف والمهن لها معاهد بعيدة عن الديار وتتطلب سفراً وشدّ الرحال(17).

كان هذا الرجل الكبير ينظر برؤية مستقبلية ثاقبة مفادها أن مصالح المسلمين لا تتحقق إلاّ بتولي الأَكْفَاء المناصب والقيادات، وفق خطة شاملة يتوزعون من خلالها وفق حاجات الناس كي تتحقق لهم الكفايات؛ فمكّن لعشيرته بين الآخرين، وانفتح على باقي أبناء الحركة الإصلاحية من الجزائريين، فدعاهم بالمنطق نفسه فاستجاب لدعوته بشر كثيرون.

تلك هي شخصية الإمام بيوض، وذلك هو جهاده من أجل أمته في أصالتها ووحدتها.

**********

الهوامش:

*) باحث وكاتب من الجزائر.

1 - محمد الطاهر عزوي: "الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض: عمدة من أعمدة الحركة الإصلاحية في الجزائر لمدة نصف قرن من 1931م إلى 1981م، ص186، الملتقى الأول لفكر الإمام الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض، القرارة (8-9 محرم 1421هـ/13-14 إبريل 2000م)، منشورات جمعية التراث، غرداية 2002م.

2 - محمد ناصر، في رحاب القرآن للإمام الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض، القسم الأول، ص23، منشورات جمعية التراث، نقلاً عن الملتقى الأول لفكر الإمام، ص186.

3 - عمرو خليفة النامي، دراسات عن الإباضية، مجلة "الحياة"، تصدر عن معهد الحياة بالقرارة، ع1، غرداية 1418هـ/ 1998م، ص113، 118.

4 - بحاز إبراهيم، "الميزابيون المعتزلة: قراءة جديدة لنصوص قديمة، مجلة الحياة، ص133.

5 - المرجع السابق، ص126- 131.

6 - محمد أرزقي فراد، إبراهيم بيوض: الإباضية أو الوجه الآخر للديمقراطية، الملتقى الأول لفكر الإمام، ص335.

7 - محمد بن موسى باباعمي، الإمام الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض، ص6، 7، منشورات الكشافة الإسلامية الجزائرية، غرداية 1417هـ/ 1996م.

8 - محمد الشيخ بلحاج، فتاوى الإمام الشيخ بيوض، ج2 ص436-438، المطبعة العربية، غرداية 1988م، نقلاً عن: مصطفى بن صالح باجو، منهج الاجتهاد عند الشيخ بيوض إبراهيم، مجلة الحياة، ص32.

9 - المرجع السابق، ج 2 ص368.

10 - محمد لعساكر، جهاد الإمام الشيخ بيوض بين الإنصاف والإجحاف، الملتقى الأول لفكر الإمام، ص52و 54.

11 - محمد بن موسى بابا عمي: الإمام الشيخ، ص10، 13.

12 - المرجع السابق، ص13.

13 - ابن عمور محمد، جملة من الملاحظات والإضافات، الملتقى الأول لفكر الإمام، ص342.

14 - محمد علي دبوز، أعلام الإصلاح في الجزائر، ج2 ص30، مطبعة البعث، قسنطينة، 1974-1980م، نقلاً عن: محمد بن موسى باباعمي: الإمام الشيخ، ص90.

15 - محمد لعساكر، جهاد الإمام بيوض بين الإنصاف والإجحاف، الملتقى الأول لفكر الإمام، ص69 و70.

16 - محمد بن موسى باباعمي: الإمام الشيخ، ص11.

17 - نور الدين سوكحال، منهج الشيخ بيوض في الإصلاح الاجتماعي، الملتقى الأول لفكر الإمام، ص148-164.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=216

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك