الاستشراق السياحي والصحافي
الاستشراق هو دراسة الغرب لغيره من الحضارات الغرب ذاتٌ، والحضارات الأخرى موضوعٌ، الغرب ملاحِظ والحضارات الأخرى ملاحَظ
الغرب دارس، والحضارات الأخرى مدروس واكب في نشأته صعود الغرب الحديث واحتلاله مكان الصدارة في العالم بعد سقوط غرناطة، آخر مدن الأندلس، وطرد المسلمين واليهود من أسبانيا إلى المغرب العربي من حيث أتوا
تمثلت فيه منذ البداية روح العنصرية والعداء و»الاسترداد« أي العودة إلى احتلال أراضي الغير بحراً، التفافاً حول القارات، فيما سمي بـ »الكشوف الجغرافية«، بعد أن فشل براً عن طريق التوجه إلى القلب في فلسطين، والحضارة الإسلامية في آخر مرحلتها الأولى في القرن السادس الهجري
فظهرت فيه منذ البداية أهداف الاستعمار ورؤيته للعالم بدأه المبشرون والقادة والحكام والمغامرون والمسحورون بالشرق من المغرب حتى الصين
وأنشأوا مجالات للدراسات الحضارية للصين والهند وفارس ومصر والمسلمين وأخيراً العرب والشرق الأوسط
وقد تطور الاستشراق في الغرب الحديث
تنوعت أهدافه، وتعددت مناهجه وأساليبه طبقاً لتطور مناهج البحث العلمي ومدارس العلوم الإنسانية في الغرب
بدأ بالاستشراق الديني الذي صاغه بعض المبشرين بعد أن زاروا الشرق أثناء الحروب الصليبية وتعرفوا على لغات الشرق وثقافاته وعادات شعوبه
وظهر فيهم العداء لهذه الثقافات والشعوب التي أتاها مصاحباً للغزوات العسكرية أو لحملات التبشير، ولما كان الإسلام هو السائد في الشرق فلم يُعترف بالوحي الإسلامي كاستمرار للوحي منذ إبراهيم حتى عيسى، واعتُبر هرطقة ظهرت في بلاد العرب
تقوم على الحس والجنس والتعصب والعنف والانغلاق والعبودية والحريم
ثم تحول إلى الاستشراق التاريخي عندما سادت مناهج البحث التاريخي، وانتشرت المدرسة التاريخية، وسادت النزعة التاريخية في الغرب
كان الهدف هو جمع أكبر قدر من المعلومات عن الشعوب والثقافات غير الأوروبية لجمع المعلومات واستخدامها من أجل إحكام السيطرة عليها بعد الغزو العسكري المباشر، وخلق طبقات جديدة متعاونة معه باسم »التحضر«، و»التمدن«، و»الحداثة«، و»التثقيف«، اعتناق المسيحية أولاً ثم الثقافة الغربية ثانياً حتى ينسلخ المواطن عن دينه وثقافته وشعبه، ويصبح موالياً للغرب وممثلاً لثقافة »الرجل الأبيض«، داخل الشعوب السوداء في إفريقيا، والسمراء في العالم الإسلامي، الشرق الأدنى، والصفراء في الصين واليابان وكوريا والهند الصينية والفلبين، الشرق الأقصى، بالنسبة لمدى قربها أو بعدها عن القوى الاستعمارية في الغرب الحديث، إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولندا وأخيراً إيطاليا
ثم تحول الاستشراق التاريخي إلى استشراق لغوي بالتركيز على اللغة لمعرفة التراث المدوَّن ولحسن المخاطبة مع الشعوب شفاهاً، ثم قادت اللغة إلى الأدب، والأدب إلى الثقافة، والثقافة إلى الحضارة بوجه عام
ووُضعت القواميس والمعاجم وكتب قواعد اللغة للحضارات الإفريقية والآسيوية، فانتشرت ثقافاتها داخل المركز الأوروبي وأثرت في أدبه وثقافته كما يظهر ذلك في الحركة الرومانسية الألمانية
ثم تحول الاستشراق اللغوي إلى الاستشراق الأنثروبولوجي والاجتماعي بالتركيز على الإنسان الإفريقي الآسيوي، عاداته وسلوكياته ومنظومات قيمه، وذاكرته، ورؤيته للعالم حتى يمكن الاستيلاء عليه إلى الأبد بعد حركات الاستقلال الوطني، والتحول من الاستعمار العسكري والاقتصادي المباشر الوقتي إلى الاستعمار الثقافي والحضاري الأبدي عن طريق الفرانكفونية والأنجلوفونية والهسبانوفية والبرتغافونية
حدث ذلك في كندا والمكسيك ودول أميركا اللاتينية والهند والفلبين ومعظم دول إفريقيا
ثم تحول الاستشراق الأنثروبولوجي الاجتماعي إلى الاستشراق السياسي بعد تمامي حركات الإسلام السياسي والثورة الإيرانية، وانتشار الإسلام في أوروبا، وظهور دول إسلامية مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك في شرق أوروبا، فبدأ التعامل مع الظاهرة الإسلامية والحركات الإسلامية الممثلة لها، ومستقبل الإسلام السياسي
وانضم الجيل الجديد إلى المستشرقين التقليديين علماء السياسة
وتم التحول من دراسة الماضي إلى الحاضر من أجل التنبؤ بمستقبل هذه المنطقة، وإعداد سيناريوهات المستقبل للسيطرة عليها حتى لا يؤخذ الغرب على غرة كما حدث في إيران
وانتشرت المؤلفات عن الإسلام السياسي وعقدت مئات المؤتمرات الدولية والندوات المحلية والإقليمية في الموضوع لمعرفة ماذا يجري في العالم الإسلامي الآن
وهل هي »صحوة« تريد العودة إلى الخلف؟ وكيف يمكن إجهاضها وهي في بدايتها حتى لا تكون في مواجهة القطب الأوحد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية باسم العولمة، والقضاء على المصالح الغربية على حدودها الجنوبية والشرقية، النفط وعوائده، والمواد الأولية والأسواق، والموقع الاستراتيجي، وإسرائيل إذا ما عادت الحرب الباردة، وعاد الاستقطاب؟ ثم تحول الاستشراق السياسي إلى الاستشراق الصحافي عندما تحول الإسلام إلى بضاعة رائجة، وأصبح على كل لسان
حدث ذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لإشباع نهم الغرب لمعرفة ما هذا الإسلام الذي استطاع تنظيم يزعم الانتماء إليه، تدبير مثل هذا الهجوم المباغت على أهم مدينتين، نيويورك وواشنطن، في أقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، وتدمير رموزها، مركز التجارة العالمي، ووزارة الدفاع أي المجمع الاقتصادي والعسكري؟ واختلط الاستشراق بالإعلام، وأصبح الإعلاميون وكبار المستشرقين يملأون الصحف والأعمدة الخاصة، وافتتاحيات رؤساء التحرير بمقالات وأحاديث، ومقابلات عن »الإسلام«، و»المسلمين«، وعلاقة الإسلام بالغرب و»خطر الإسلام«، والعنف و»الجهاد« في الإسلام، وتحول الاستشراق من قراءة النص إلى تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي للمسلمين، من وصف التاريخ إلى وصف منظومة القيم الإسلامية ورؤية الإسلام للعالم، وإصدار الأحكام المُطلقة على جوهره وحقيقته
وانتشرت مناهج الملاحظة والمقابلة بدعوى الرغبة في معرفة »الإسلام الحي« الذي يعيشه الناس
يحدد تصورهم للعالم، ويعطيهم قواعد للسلوك والأخطر من ذلك كله، تحول الاستشراق الصحافي إلى الاستشراق السياحي، فقد انضمت إلى جوقة الصحافيين جوقة أخرى من الأساتذة الشباب بل وطلاب الدراسات العليا للحضور إلى العالم الإسلامي وملاحظة ما يدور فيه والحديث مع بعض علمائه ومثقفيه وقادته وسياسييه، ولو أمكن بعض رموز جماعات الإسلام السياسي وأعضائها لحكاية تجاربهم وقصص حياتهم
هي دراسات حية أكثر تشويقاً من الاستشراق التاريخي اللغوي القديم، بل تحول معظم أقسام الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الغربية إلى أمثال هذه الدراسات المعاصرة، وتم الانتقال من المتنبي إلى سيد قطب، ومن ابن سينا إلى محمد عبدالسلام فرج، ومن ابن رشد إلى أربكان، ومن المعتزلة إلى القاعدة، ومن الأشعرية إلى جماعات الجهاد
وانضمت دور النشر إلى المهرجان، تدعم الباحثين الشباب بالمال، وتحدد لهم موعد إنهاء الدراسة بستة أشهر سنة على أكثر تقدير لإعداد أنجح كتاب عن الإسلام والمسلمين وأوسعها انتشاراً، فتربح الملايين، لا فرق بين المنطق الإسلامي والبساط السحري، بين مؤلفات الفارابي وعالم الحريم، بين رسائل »إخوان الصفا« وألف ليلة وليلة، وهرع الأساتذة الشباب من جميع التخصصات من العلوم السياسية والاجتماعية والأدبية واللغوية والدينية وتاريخ الأديان لملء فراغ السوق بعد أن راج »الكتاب الإسلامي«
وصدرت عشرات الطبعات له وكسب المؤلف والدار، وعمت الأفكار المسبقة، وأطلقت الأحكام النمطية وضم إلى الكتاب بعض الصور المثيرة هجر معظم الباحثين الشباب العلم
تركوا الجامعات وعملوا في دور النشر وبعض مؤسسات الرأي العام، يتطلعون للشهرة والكسب بعيداً عن الكتب العلمية غير الرائجة وبطالة العلماء وأساتذة الجامعات
العصر عصر الإعلام، والاتصالات، والثقافة الاستهلاكية، والوجبات السريعة
وتدخلت رؤوس الأموال الأميركية والصهيونية و»المحافظون الجدد« لنشر مثل هذه الكتب تحقيقاً لمقولة »صدام الحضارات«، وإخراجها من عمل الخاصة إلى شغل العامة، وجرى تم الترويج لبعض الصور النمطية عن الإسلام والعنف والإرهاب والتخلف وتهميش المرأة وانتهاك حقوق الإنسان والتسلط والقهر، فيزداد العداء للإسلام والمسلمين، ويُسخر من رموزه وشعائره كل يوم في أجهزة الإعلام، ويُثار غضب المسلمين ويتظاهرون ويحتجون
و
يكسب الغرب من جديد، وينصب نفسه حامياً لحرية التعبير والرأي أمام فتاوى قتل الروائيين والسينمائيين والإعلاميين، التي يصدرها بعض علماء المسلمين تأكيداً لسلطتهم الدينية والسياسية، والقدس لاتجد من يدافع عنها أو يفتي بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة كما أفتى القدماء، فيبتعد المسلمون عن قضاياهم الوطنية ويصبح الإسلام محاصراً بين أعدائه وجهل بعض علمائه وعجز أبنائه