الخطاب الإصلاحي عند رفاعة الطهطاوي

الخطاب الإصلاحي عند رفاعة الطهطاوي

أحمد محمد سالم*

عاش العالم العربي تحت حكم الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين حين سقطت الخلافة العثمانية في مارس 1924م، وقد تمتعت هذه الدولة بقوة عسكرية كبرى استطاعت بها أن تسيطر على أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وأن تُخْضِعَ لسيطرتها أجزاءً من أوروبا، ولكن هذه الدولة القوية على المستوى العسكري عاشت عالة في حياتها الثقافية والفكرية على المنتج الفكري والثقافي للحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة، ولهذا عرفت مرحلة الدولة العثمانية في التاريخ الثقافي العربي بأنها مرحلة "الشروح والتلخيصات"، وكان التعليم السائد في مؤسسات هذه الدولة –كالأزهر، وجامع الزيتونة– يعتمد على شرح الأعمال الكبيرة في فترات ازدهار حضارة الإسلام العلمية، وإن المرء ليشعر بالحيرة إزاء وضع هذه الدولة القوي على مستوى الحكم المركزي، والمتدهور على المستوى الفكري والثقافي، وكنت أتساءل ما سبب هذه المفارقة؟ هل ترجع حالة التدهور الفكري هذه إلى الطابع الاستبدادي لهذه الدولة؟! أم هل يرجع إلى عدم وجود خطاب فكري آخر متقدم وضاغط على الحياة الثقافية في هذه الدولة؟! وذلك بمعنى أن الحركة الفكرية في أوروبا كانت في مرحلة تشكل، وتسعى إلى إصلاح أوضاع أوروبا من الداخل، ولم تكن أوروبا قد دخلت في مواجهة مع العالم العربي والإسلامي بعد.

ولكن منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عانت الدولة العثمانية من مرحلة تخلف واضحة، وأسماها المؤرخون بـ(الرجل المريض)، وكان هذا الضعف يوازيه ازدهار وتقدم في أوروبا، وبدأت أوروبا تطمع في أملاك هذا الرجل المريض لكي تمد الحركة الصناعية عندها بالخامات، فكانت الحملة الفرنسية على مصر(1798م– 1801م) هي إحدى البدايات المؤسِّسة لمعرفة الآخر، وقد كانت المواجهة بين البندقية والسيف، هي بالأساس مواجهة بين حضارة ناهضة واعدة، وحضارة آفلة، ومنذ تلك اللحظة بدأ المجتمع العربي يعي أنَّ هناك آخر ناهضاً، وحضارة غربية قوية، وهنالك بدأ البعض يعي طبيعة الانحطاط والتدهور الذي يعيش فيه العالم العربي، وكان بعضهم الآخر يتساءل عن أسباب تأخر المسلمين، وأسباب نهضة غيرهم.

وفى ظل هذا الضعف للدولة العثمانية استطاع محمد علي(1805-1840م) أن يسيطر على حكم مصر؛ وأن يسعى إلى تحقيق أطماعه الاستعمارية والتوسعية، والسعي نحو بناء إمبراطورية قوية تكون مصر مركزها، وكان محمد علي يدرك أن تحقيق أهدافه لا يتم إلا بحكم مركزي يستند على جيش حديث قوي، ومن هنا سعى إلى تحديث وجه الحياة في مصر في كافة المجالات –ليس من أجل رفاهية الإنسان المصري، ولكن من أجل أهدافه هو– فأسس الصناعات، والزراعات الحديثة التي تخدم بناء الجيش، واستعان بالأجانب في ذلك، كما أرسل البعثات العلمية إلى الخارج، وفى البعثة الأولى عام 1826م أرسل محمد علي –أحد وعاظ الدين– رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) مع البعثة لكي يقوم على شؤون البعثة الدينية، ولكنه حين ذهب إلى باريس رأى مدى التقدم الذي يعيشه الأوربيون في كافة المجالات، ومن هنا فقد أخذ على عاتقه البحث في الأسباب التي أسهمت في تقدم أوروبا، سواء كانت هذه الأسباب هي العلم والتقدم العلمي، أو سيادة أشكال الحكم التي تقوم على الحرية والعدل، والتي بدورها تؤدي إلى تهيئة الأجواء للتقدم والرقي.

وفى ظل الجهود المتصلة والمتنامية للطهطاوي يمكن القول بأن عمره الفكري حمل إلينا ملامح شخصية فكرية عظيمة مثلت إحدى الركائز الأساسية لنهضة العالم العربي و الإسلامي في الجوانب الفكرية والثقافية، والواقع أن أي قراءة لجهود الطهطاوي الفكرية لا يمكن أن تتحقق إلا في ضوء المرتكزات الآتية:

1- أن القراءة الفكرية الواعية لجهود الطهطاوي لا يمكن أن تغفل سيادة القوالب اللغوية التقليدية في مؤلفاته، فهو حين ينقل إلينا مصطلحات الفكر السياسي الغربي يوظف في ذلك لغة السياسة الشرعية فهو يرادف بين الشعب/ الرعية، وبين القانون/ الشريعة، وكثيراً ما نجد المصطلحات الفقهية التقليدية زاخرة في مؤلفاته مثل المباح/ المحظور، الكفر/ الإيمان، الهداية/ الضلال، ولا شك أن هذه اللغة ترجع إلى التعليم الديني الذي تعلمه الطهطاوي في الأزهر، وقد أدت سيادة هذه اللغة في خطاب الطهطاوي الفكري إلي تجميد الأفكار الليبرالية الحديثة التي كان يسعى إلى نقلها داخل قوالب لغوية تقليدية، فاللغة ليست مجرد وعاء للفكر، بل اللغة هي الفكر، ولهذا فالطهطاوي لم يسع إلى تجديد اللغة التقليدية السائدة في خطابه الفكري، بل تعامل مع المكتسب الليبرالي بلغة الفقيه، وعِالم الدين، وقد نلتمس له العذر لأنه كان يمثل أحد الرواد الذين شكلوا الجسر الذي عرفنا أوروبا من خلاله.

2- وقد ترتب على سيادة اللغة التقليدية في خطاب الطهطاوي الفكري أَنْ طبع فكره بالطابع المعياري –الأخلاقي والديني– وهذا الطابع سائد إلى حد بعيد في معظم إنتاج الطهطاوي الفكري، فهو حين ينظر إلى الأفكار، والنظم المعرفية الغربية فإنه يحكم عليها من خلال الطابع المعياري، فحين يتحدث عن أمريكا قبل اكتشافها من قبل الأوروبيين يقول: "وأما أمريكا فهى بلاد الكفر"(1)، وحين يتحدث عن العِلم يقول: "ولهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية"(2)، وحين يتحدث عن موقفهم من القضاء والقدر يقول: "ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر"(3)، فالطهطاوي يتعامل مع الغرب من خلال علومه الدينية.

3- ويمكن إرجاع الطابع المعياري الديني عند الطهطاوي إلى سيطرة العقيدة الأشعرية على فكره – وهو النمط السائد في الأزهر ومصر في تلك الفترة وإلى الآن– ولهذا وجدنا الطهطاوي ينكر على الفرنسيين استخدامهم للعقل، واعتباره المعيار الأساسي في كل شيء فيقول: "إن الفرنساوية من الفِرق التي تأخذ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً"(4)، ولا يعنى إقرار الطهطاوي لعقلانية الفرنسيين أنه يطالبنا بأن تكون هذه الميزة سائدة في مجتمعنا، ولكنه نظر إلى الوجه السيئ لهذه الميزة، واعتبرها وسيلة للإباحية والإلحاد، والتحرر من الدين فيقول: "إن أكثر أهل باريس إنما لهم من دين النصرانية الاسم فقط ولا غيرة لهم عليه، بل هم من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، وأن هناك فرَقاً من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب"(5)، ومن الواضح أن الطهطاوي حين يكشف عن المثالب القليلة لفكرة الحسن والقبح العقليين- فإنه يواري الميزات الكبرى للفكرة، ودورها في تحرير العقل البشري من سيطرة رجال الدين، والتحرر من سلطة الفقه، وإتاحة الحرية للعقل البشري في ممارسة الخلق والإبداع، فقد كان تقدير العقل والعقلانية أولى الركائز الأساسية التي أسهمت في تقدم أوروبا، منذ أن أرسى دعائمها عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر.

ويتضح انتماء الطهطاوي الأشعري من قضية الحسن والقبح، حين نجده يتبنى معتقد الأشاعرة نفسه في القول بأن الحسن والقبح شرعيان مؤكداً بذلك على أولوية النقل على العقل، فيقول: "ليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه"(6)، وبدا للطهطاوي أن تمدّن الممالك الإسلامية مؤسَّس على التحليل والتحريم الشرعيين دون دخل للعقل في ذلك، ولا يجوز للحاكم عنده التدخل في مسألة التحريم والتحليل بما يوافق مزاجه، ويخالف الأوضاع الشرعية المنقولة عن أئمة المجتهدين، والطهطاوي حين يرتكن إلى التراث الأشعري في مسألة التحسين والتقبيح يتناسى أن هناك بعض الفِرق الإسلامية التي قالت بالحسن والقبح العقلي –كالمعتزلة– ولا شك أن تبنيه العقيدة الأشعرية جعلته -دون أن يشعر- يقيم الفواصل والحدود بين تركته وتراثه هذا -لأنها تعطي القيمة المحورية(للـه) - وبين دعوته للمكتسبات الغربية الليبرالية -التي تعطي القيمة المحورية(للإنسان)-، ولهذا كان من المستحيل أن يلتئم الوافد مع المورث في خطاب الطهطاوي، وكانت العلاقة بينهما علاقة توازٍ أكثر من كونها علاقة اندماج وانصهار، ولو كان الطهطاوي تبنى المنظومة الفكرية للمعتزلة في أطروحاته لكان هذا أكثر فاعلية في نقله للمكتسب الليبرالي الغربي، لأن المعتزلة أعطت للعقل والإنسان قيمة محورية في نسقها الفكري، ولعل هذا ما أدركه الإمام محمد عبده(1845- 1905م) حين تبنى عقيدة المعتزلة في نظريته عن العدل في مؤلفه "رسالة التوحيد".

وعلى الرغم من الميل الكامل للطهطاوي لتغليب الشريعة على العقل في كل شيء فإنه حاول أن يقدم رؤية عقلية للشريعة من خلال التقريب بينها وبين القانون والنواميس الطبيعية، فرأى أن " أغلب النواميس الطبيعية لا تخرج عنها الأحكام الشرعية فهي فطرية خلقها الله -سبحانه وتعالى- مع الإنسان"(7)، ولكنه يعود ويغلّب الشريعة فيقول: "إن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا قرره الشرع"(8).

وثمة نتيجة مهمة يمكن أن نصل إليها من سيادة التراث الأشعري على خطاب الطهطاوي في تعامله مع المكتسب الليبرالي الغربي وهي: إعطاء الأولوية للنقل على العقل، وللشريعة على القانون، وهنا نجد بعض التساؤلات الملحة تطرح نفسها وهي: إذا كان الطهطاوي قد أعطى الأولوية للنقل والشريعة في تعامله مع الغرب، فبماذا كان يهدف الطهطاوي من وراء ترجمته لمواد الدستور الفرنسي في كتابه(تخليص الإبريز)؟! هل كان الهدف من ذلك بيان ما عندهم لكي أقارنه بما عندي وكفى؟! ولماذا ترجم أفكار روسو، ومونتسكيو، وفولتير طالما أنه أعطى الأولوية الكبرى لجهود الفقهاء حول الشريعة؟! هل كان الغرض من ذلك التعريف بما عند الغرب؟! أم هل كان الهدف من ذلك بيان أن التقدم الذي حدث في أوروبا في مجالات العلم والتقنية حدث في ظل منظومة فكرية، ونظام سياسي يقوم على الحرية؟!! ونحن لا نجد سوى إثارة بعض التساؤلات حول مواقف الطهطاوي الفكرية؛ لأنه في الكتاب نفسه(تخليص الإبريز) الذي يصور فيه الحياة الغربية في فرنسا نجده يقدم رفضاً واضحاً لمعظم جوانب حياة الفرنسيين فيقول: "إن أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخرى أغلبها سياسي، وهى مخالفة بالكلية للشرائع، ويلحق بهذا الرأي بيتين من الشعر يعبر فيهما عن وجهة نظره إزاء القانون الفرنسي فيقول:

من ادعى أن له حاجة تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكونن له صاحبا فإنه ضرر بلا نفـع(9)

4- وقد ترتب على سيادة الروح التقليدية على فكر الطهطاوي، ورغبته في نقل الأفكار الحديثة إلى وطنه أن عمد إلى التقريب بين الوافد والموروث، والتقليدي والحديث، معتمداً في ذلك على منهجية القياس والمماثلة بين الوافد والموروث، وقد وظَّف في ذلك أدوات لها أصول تراثية مثل الدعوة إلى الاجتهاد، والقول بأن باب الاجتهاد مفتوح، وأن على الفقيه أن يقدم اجتهادات تتوافق مع روح العصر، وذلك في كتاب " القول السديد في الاجتهاد والتقليد" وقد وظّف الطهطاوي أيضا آلية التأويل لكي يوفق بين الوافد والموروث فيقول: " إنه قد لا تقتضي الأوضاع الشرعية المتأدب بها في المملكة عين المنفعة السياسية إلا بتأويلات للتطبيق على الشريعة"(10).

وإذا أردنا إيضاح منهجية القياس والمماثلة في خطاب الطهطاوي نجده يماثل بين علم أصول الفقه وبين طريقة استنباط الأحكام في الغرب فيقول: "من زاول علم أصول الفقه، وفقه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قلّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم الأصول يسمى ما يشبه عندهم بالحقوق الطبيعية، وهى عبارة عن قواعد عقلية تحسيناً وتقبيحاً يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما أسميه بالفروع الفقهية يسمى عندهم بالحقوق المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية"(11). ومن هنا نلاحظ مدى المماثلة الواضحة عند رفاعة الطهطاوي بين ما عندهم وما عندنا، بين تكوين الذات الفكري وبين تكوين الغرب، فكان منهج القياس والمماثلة هو المنهج المتبع في طريقة تعامل الطهطاوي مع كل المكتسبات الغربية، ومع الأفكار الليبرالية، وتتضح هذه المنهجية بصورة أوسع في دعوة رفاعة إلى تأصيل العلم، والمواطنة، والحرية، والعدالة، والمساواة، ... إلخ.

العلم: عاشت الحياة الثقافية والعلمية في عهد الدولة العثمانية على الشروح والتحشية للمتون القديمة في الحضارة الإسلامية، وكان التعليم السائد يرتكز على دراسة العلوم اللغوية والدينية، ولم تحتل دراسة العلوم المدنية مساحة واضحة في هذا التعليم، ولكن مع محاولة محمد علي إحداث نهضة تواكب أطماعه أدرك أن نقل التقنية الحديثة في الجيش لا يمكن أن يتم من غير بدون تعلم العلوم المدنية الحديثة التي أنتجت هذه التقنية، ولهذا أرسل محمد علي البعثات، وجلب العديد من العلماء الأجانب، وحاول الطهطاوي تصوير أهمية هذا الأمر وتبريره من الناحية الشرعية فيقول: "سارع الوالي –محمد علي– في تحسين بلاده، فأحضر فيها ما أمكنه إحضاره من علماء الإفرنج، وبعث ما أمكنه بعثه من مصر إلى تلك البلاد، فإن علماءها أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية، وفى الحث على ذلك وجدنا مثل: (الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أهل الشرك) وفي الحديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين) ومن المعلوم أن أهل الصين وثنيون، وإن كان المقصود في الحديث السفر إلى طلب العلم، وبالجملة حيثما أمن الإنسان على دينه، فلا ضرر في السفر خصوصاً لمصلحةٍ مثل هذه"(12). وهنا نلاحظ مدى إبراز الطهطاوي للطابع المعياري في النظر إلى وثنية أهل الصين، ولكنه في النهاية يغلّب المصلحة والمنفعة في نقل ما نحتاجه عنهم، بصرف النظر عن دينهم وملّتهم.

ويحاول الطهطاوي من خلال منطلقاته الدينية، وعقيدته الأشعرية تبرير النقل عن الآخر، من خلال النص الديني – القرآن – فيذهب إلى أن القرآن يقـول: ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً﴾ وقد فسر العلماء الحكمة بأنها العلم النافع، والأفعال الحسنة الصائبة، والعلم بهذا المعنى يشمل العلوم النظرية والعلمية.

وأظهر الطهطاوي أن نظام التعليم في الأزهر يعتمد على إتقان العلوم الشرعية واللغوية، وبالمقابل فإنه " لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية، والتي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر"(13). ويذهب الطهطاوي مبرراً لأصحاب العقول الدينية أهمية النقل عن الغرب بالقول بأننا كنا أساتذتهم في العلوم، وقد نقلوا عنا، ويجب علينا الآن أن ننقل عنهم فيقول: "إذا نظرت بين الحقيقة رأيت أن سائر العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة، ومجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئاً فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر عن تعلمه شيئاً مات بحسرته"(14). ولهذا كان الطهطاوي يطالب بضرورة تكريم العلماء المشتغلين بجملة العلوم المدنية والحكمية لأنه ينتفع بهم في بناء دعائم الدولة.

وعلى الرغم من سعي الطهطاوي الحثيث إلى نقل مكتسبات العلوم الغربية والتعلم منهم، إلا أنه كان ينظر دوماً إلى الغرب بنظرة معيارية دينية، فهم ليسوا أهل هداية ونجاة، ولكن ينبغي أن نتعلم منهم العلم المدني وفقاً لمنطق المصلحة، وهذا يكشف عن نظرة استعلائية لدى رفاعة تجاه الغرب، فهم على ضلال وكفر، ونحن أهل الإيمان في حاجة إليهم لكي نتعلم هذه العلوم فيقول: "البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية، وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها، ولكنهم لم يسلكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق، كما أن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية، والعمل بها، وفى العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية بجملتها، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه"(15). وتجاوز الطهطاوي رؤيته المعيارية إلى الحد الذي ذهب إلى الحكم بالرفض والضلال على أجزاء من المنتج العلمي الغربي فيقول: "إن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماويـة"(16)، والواقع أن ثمة تجاهلاً واضحاً لدى الطهطاوي بأن حركة العلم في أوروبا لم تتقدم إلا من خلال فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة، وفصل العلم عن الدين، ولكنه يؤثر أن يتعامل مع العلم بمنطق العقلية الدينية التي تقيم كل شيء وفقاً لمنطق الكفر/الإيمان، والهداية/الضلال.

وتكشف الرؤية الدينية المعيارية لدى رفاعة الطهطاوي عن إعلاء جانب العلوم الدينية على العلوم الدنيوية، وهى نظرة تقليدية تراثية تنظر إلى العلوم الدينية على أنها أرفع العلوم، من منطلق إعطاء الأولوية للنقل على العقل، وللديني على المدني، وللروحي على الزمني، ولعل هذا ما يفسر مدى التقدم الكبير الذي أحرزته الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الدينية واللغوية، بما لا يقارن بالإسهام المحدود الذي قدمه العرب في مجال العلوم المدنية، وهذا ما يفسر لنا أيضاً كيف أن الدولة العثمانية حين عاشت على شروح العلوم الدينية لم تقدم لنا أي إنجاز يُذْكَرُ في مجال العلوم المدنية، وهذا ناتج عن أن المسلمين كانوا ينظرون إلى هذه العلوم على أنها تحتل مرتبة لاحقة على العلوم الدينية، بل إن قيمة هذه العلوم تتحدد فقط بما يخدم الأغراض الدينية، فكان تقدم علم الفلك مرهوناً بتحديد مواقيت الصلاة، كما كان البحث في الرياضات مرتبطاً بتوزيع المواريث... الخ، وهذا الخلل ناتج من إعطاء الحضارة الإسلامية القيمة المطلقة (للألوهية)، والنظر إلى الإنسان والطبيعة يكتسب قيمته بما يمكن أن يؤدي إلى معرفة الله وطاعته.

ولقد تقاطع مع دعوة الطهطاوي إلى نقل العلوم المدنية دعوته إلى بيان ميزات النظام الليبرالي الغربي في الحكم، والدعوة إلى بيان محاسن الحرية، والمساواة، والنظم الدستورية النيابية، والعدالة... إلخ من القيم التي أسهمت في تقدم أوروبا ونهضتها الحضارية، فهل كان هناك وعي واضح لدى الطهطاوي بأن تقدم العلم في أوروبا ارتبط بازدهار النظم الليبرالية الغربية وهو ما يكشف عن أن تقدم الثقافة والمعرفة مرهون بازدهار النظام السياسي أم كان ذلك مجرد مصادفة؟ وإنني حين أعمد إلى إثارة بعض التساؤلات حول خطاب الطهطاوي الفكري فإنني لا أسعى إلى تقديم إجابات، بقدر ما أحاول وضع دوائر حول بعض أفكار الطهطاوي لكي تضيء لنا فهم خطابه الفكري بعد مرور ما يقرب من قرن ونصف على جهوده.

المواطنة: إننا إذا تتبعنا الحقل التداولي للغة العربية فلا نجد لكلمة(وطن) و(مواطنة) ذكراً في القرآن الكريم، وكذلك في(القاموس المحيط) للفيروز آبادى، ولكننا بالمقابل نجد لكلمة(وطن) معنى في(القاموس الوسيط) الصادر عن مجمع اللغة العربية، وتعني "وطن واستقر في المكان"، والمعروف أن(القاموس الوسيط) قد تم تأليفه بعد نقل مصطلحات الفكر السياسي الغربي، ومع ذلك لم نجد لكلمة مواطنة معنى واضح في (القاموس الوسيط)، ويمكن القول بأن الطهطاوي كان أول مفكر عربي في العصر الحديث يتكلم عن الوطن، والمواطنة بالمعنى السياسي فيرى أن "الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته، وغذاؤه، وهواؤه، ورباه نسيمه"(17).

ونجد الطهطاوي يتكلم عن "المواطنة" بأنها تعني أن ثمة حقوقاً وواجبات متبادلة بين الإنسان ووطنه، فحين يقال: "وطني" فمعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التآنسية، ولا يتصف "الوطني" بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن، ومعنياًّ على إجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم تباعاً ضمانة وطنه التمتع بالحقوق المدنية، والتمتع بالمزايا البلدية فبهذا المعنى هو وطني، وبلدي(18). فالطهطاوي يرى أن المواطنة تستلزم على المواطن أن يؤدي واجباته تجاه وطنه، وبناء عليه يحصل على حقوقه كمواطن، أما إذا لم يؤدِّ ما عليه تجاه وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها من وطنه ومن ثم فعلى "المواطنين الذين يجمعهم وطن واحد التعاون على تحسين هذا الوطن، وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن، وإعظامه، وغناه، وثروته؛ لأن الغنى إنما يتحصل من انتظام المعاملات، وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن الواحد على السوية لانتفاعهم جميعاً بمزية النخوة الوطنية، فمتى ارتفع بين الجميع التظالم، والتخاذل، وغاب كذب بعضهم على بعض، والاحتقار- ثبت لهم المكارم والمآثر"(19).

وفي بعض المواضع نجد الطهطاوي يتكلم عن الوطن والمواطنة ويرادف بينهما وبين العائلة الواحدة، وهو ما يعكس مدى التأثير الواضح للثقافة التقليدية على فكره في التعامل مع مفاهيم الحداثة، فلم يكن الطهطاوي يستطيع أن يتخلص من تراثه التقليدي، وخاصة أنه كان في بواكير عصر النهضة العربية حيث نجده يقول: "قد اقتضت حكمة الملك القادر الواحد أن أبناء الوطن دائماً متحدو اللسان، وفى الدخول تحت استرعاء ملك واحد –لاحظ كلمة استرعاء– والانقياد إلى شريعة واحدة وسياسة واحدة، فهذا مما يدل على أنه -سبحانه وتعالى- إنما أعدهم للتعاون على إصلاح وطنهم، وأن يكون بعضهم بالنسبة إلى بعض كأعضاء العائلة الواحدة، فكأن الوطن هو بيت آبائهم وأمهاتهم، ومحل مَرْبَاهُمْ، فليكن أيضا محلاّ للسعادة المشتركة بينهم"(20).

وحاول الطهطاوي في موقفه من المواطنة أن يقدم تبريراً دينياًّ للأفكار التي يدعو إليها، مبرهناً على إحساسه العميق بانتمائه الديني، وكذلك فإنه قد أدرك أن نفاذ أفكاره من خلال التراث التقليدي للمجتمع يمكن أن يجعلها أكثر قبولاً وفاعلية في المجتمع فيقول: "حسب المؤمن بحب الوطن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة على مطيته، واستقبل الكعبة قال: والله لأعلم أنك أحب أرض الله إلى الله -تعالى-، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منك ما خرجت(21).

الحرية:

لقد تأثر الطهطاوي بأجواء الروح الليبرالية التي عاشها في فرنسا، وتأثر بحديثهم عن الليبرالية، من خلال قراءته لأفكار مونتسكيو، وروسو، وفولتير...إلخ من المنتج الثقافي الفرنسي في تلك الفترة، ولكن رغم هذا التأثر فقد حاول أن يصيغه في قوالب لغوية تقليدية، تقع ضمن القوالب اللغوية في علم أصول الفقه، والسياسة الشرعية الإسلامية، وهذا ما يظهر في تعريفه للحرية فيقول: "إن الحرية من حيث هي رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح – لاحظ ازدواجية مباح/غير مباح – ولا معارض محظور، فحقوق جميع أهالي المملكة المتمدنة ترجع إلى الحرية، فتتصف المملكة بالنسبة للهيئة الاجتماعية أنها مملكة حاصلة على حريتها، ويتصف كل فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية بأنه حر يباح له أن يتنقل من دار إلى دار، ومن جهة إلى جهة، وأن يتصرف في وقته ونفسه كما يشاء فلا يمنعه من ذلك إلا المانع المحدد بالشرع أو السياسة مما تستدعيه أصول مملكته العادلة، ومن حقوق الحرية الأهلية ألا يجبر الإنسان أن ينفى من بلده، أو يعاقب فيها إلا بحكم شرعي أو سياسي مطابق لأصول مملكته، وألا يضيق عليه في التصرف في ماله كما يشاء، وألا يحكم عليه إلا بأحكام بلـده"(22). فالطهطاوي لا يتكلم عن حرية بلا قيود، ولكنه يتكلم عن حرية محددة بقيود شرعية، وسياسية وقانونية، وكلما توفر العدل في القوانين كان وسيلة لإعمار الممالك وتمدنها فيقول: "إذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية كانت واسطة عظمى في راحة الممالك، وإسعاد أهلها في بلادهم، وكانت سبباً في حبهم لأوطانهم، وبالجملة فحرية أهالي كل مملكة منحصرة في كونهم لهم الحق في أن يفعلوا المأذون شرعاً، وألا يكرهوا على فعل المحظور شرعاً في مملكتهـم"(23). وهنا نلاحظ كيف سادت اللغة التقليدية في تعريفات الطهطاوي للحرية في ضوء ازدواجيات فقهية مثل المباح/غير المباح، المحظور/غير المحظور، ولا شك أن هذه اللغة التقليدية قد أسهمت في تجميد حيوية الأفكار الليبرالية التي يحاول أن يدعو إليها.

وكان الطهطاوي معجباً إلى حد بعيد بحرية الاعتقاد السائدة في أوروبا فرأى أن من الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره، ويكون تحت حماية الدولة، ويعاقب من تعرض لعابد في عبادتـه(24).

ورغم إعجاب الطهطاوي بحرية المعتقد في فرنسا، ورفضه أن يكون للملوك سلطة فرض معتقدات معينة على رعاياهم إلا أنه يمدح بلغة الفقيه أهمية الجهاد من أجل حرية الدين –يقصد الإسلامي– وإعلاء كلمة الله فيقول: "إن الملوك إذا تعصبوا لدينهم، وتدخلوا في قضايا الأديان، وأرادوا قلب رعاياهم المخالفين لهم، فإنما يحملون رعاياهم على النفاق، ويستعبدون من يكرهونه على تبديل عقيدته، وينـزعون الحرية منه فلا يوافق الباطن الظاهر، فمحض تعصب الإنسان لدينه لإضرار غيره لا يعد إلا مجرد حمية، وأما التشبث بحماية الدين لتكون كلمة الله هي العليا فهو المحبوب المرغوب، ولهذا كان الجهاد الصحيح لقمع العدوان إنما يتحقق القصد منه في إعلاء كلمة الله -عز وجل-"(25).

يدعو الطهطاوي في تصوره الليبرالي إلى حرية المطبوعات والنشر بشرط ألا يؤدي هذا عنده إلى الإخلال بوضع الحكومة، ويرى أن هذه الحرية تسهم في تمدن الممالك لأن "ما أعان على سعة التمدن في بلاد الدنيا ترخيص جميع الملوك للعلماء، وأصحاب المعارف في تدوين الكتب الشرعية، والحكمية، والأدبية، والسياسية، ثم التوسع في حرية ذلك بنشره طبعاً وتمثيلاً، وذلك بقانون حرية إبداء الآراء بشرط عدم وجود ما يوجب الاختلال في الحكومة بسلوك سبيل الوسط بغير تفريط ولا شطط"(26).

ونتيجة لإعجاب الطهطاوي بالقيم الليبرالية في فرنسا قام بترجمة أجزاء من الدستور الفرنسي والتي تقرر قيم الحرية والمساواة في كتابه(تخليص الإبريز) ورأى أن أهم ما يميز هذا الدستور تحديده لواجبات وحقوق كل من الحاكم والمحكوم، وتأكيده على أهمية تقييد سلطة الحاكم "فإن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن للسياسة الفرنساوية قانوناً يقيد الحاكم، بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين، والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن ويتخذونه أساسا لسياستهم هو القانون الذي ألفه ملكهم: لويس الثامن عشر، ولا يزال متبعاً عندهم، ومرضياً لهم، وفيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل"(27).

والطهطاوي حين يصيغ إعجابه بقيم الحرية في لغة تقليدية فقهية يتأرجح بين الإعجاب والحديث والتمسك بالتقليدي، ولهذا نجده في تبريره للحرية –موظفاً منهجية القياس والمماثلة– إلى المماثلة بين الحرية عندهم والعدل والإنصاف عندنا فيرى "أن ما يسمونه عندهم الحرية، ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية، هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور حاكم على إنسان بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة"(28).

العدل – المساواة:

ومن المفاهيم المتداولة في خطاب الطهطاوي الفكري مفهوم العدل، وقد ماثل الطهطاوي بينه وبين الحرية، ويماثل أيضا بين العدل في الدستور الفرنسي والعدل في الشريعة الإسلامية، فحين يتحدث عن الدستور الفرنسي يرى أنه قائم على العدل رغم مخالفته للشريعة الإسلامية، وهذا العدل هو سبب عمار المدن والبلاد فيقول عن الدستور الفرنسي "وغالب ما فيه ليس في كتاب الله ولا في سنته -صلى الله عليه وسلم-، ولنعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك، وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك –لاحظ الرعايا– حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهـم"(29). وبالمقابل يبرز الطهطاوي كيف أن الشريعة الإسلامية سوت بين الجميع في العدل والإنصاف ولهذا أصبحت الشريعة هي معيار المملكة والسياسة، وميزان السلطنة؛ لأن الحكم بهذا معناه الفوز بسلامة الدنيا والآخرة، وتحقيق قسطاس العدل في صيانة النفس والمال والعرض"(30). وينتهى الطهطاوي إلى الإعلاء من قيمة الشريعة الإسلامية على أي قانون وضعي، ويرى أن تحقيق العدل لا يحدث إلا بمعرفة الحاكم للشريعة، وذلك لأن سعادة الممالك وشقاوتها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما يتيسر لملوكها من المعرفة بالشريعة، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل، ومعرفتها، واحترامها من رجالها المباشرين لـها.

وإذا كان الطهطاوي يدعو في خطابه الفكري إلى قيم العدالة والمساواة فإننا نجده من ناحية أخرى يكرس في خطابه التصور الشرقي عن الحاكم(المستبد العادل)، فيطالب الملك في حالات العفو والعقاب ألاّ يتجاوز في ذلك الحد حفظاً لناموس الشريعة، وصونا لحدود الله من التعطيل، ومحافظة على إبقاء قوة السياسة الشرعية الضامنة للأمن العام، ومنعاً لتعدي الناس بعضهم على بعض"(31). وما يؤكد تقرير الطهطاوي لفكرة المستبد العادل هو إقراره لمبدأ توارث السلطة، بل تجاوز ذلك إلى حدود نقد النظم الديمقراطية الانتخابية، ولعله بذلك يقدم تبريراً فكرياًّ للنظام السائد في الدولة العثمانية ودولة "محمد علي" القائمتين على توارث السلطة فيقول: "لما ترتب على أصل الانتخاب ما لا يحصى من المفاسد والفتن والحروب، والاختلافات اقتضت قاعدة كون(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، اختيار التوارث بين الأبناء وولاية العهد على حساب كل مملكة بما تقرر عندها، فكان العمل بهذه الرسوم الملكية ضامناً لحسن انتظام الممالك"(32). وهنا نلاحظ مدى مغازلة المفكر للسلطة السياسية، حين يقدم تبريرات بقواعد فكرية على حسن نظام توارث السلطة، فكان رفاعة الطهطاوي ينظر دوماً إلى محمد عليّ على أنه (صاحب النعم)، وتلك أزمة كبيرة يعيشها المفكر بين رغبته في الاقتراب من أضواء السلطة من ناحية، وبين قناعاته الفكرية من ناحية أخرى، فالمشكلة دائماً في الثقافة العربية –عبر التاريخ– أنها أرست مبدأ أولوية السياسي على الثقافي، وأولوية السلطة على المعرفة، ولهذا قام السياسي بتوظيف الثقافي والمعرفي من أجل خدمة أغراضه، وأطماعه، وهذا ما بدا واضحاً في مشروع محمد علي التحديثي، فلم تملك الثقافة – في أغلب الأحيان– القدرة على مواجهة السياسي وإصلاحه إلا في فترات قليلة في التاريخ العربي كله.

ومن جانب آخر فقد اهتم الطهطاوي في حديثه عن المساواة أن يماثل بينها في الشريعة، وبينها في الدستور الفرنسي، فيقول: "إن المادة الأولى في الدستور الفرنسي تذهب إلى أن سائر الفرنسيين مستوون قدام الشريعة –لاحظ الشريعة كمرادف للقانون– وهذا معناه أن سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون حتى إن الدعوة الشرعية –لاحظ الشرعية– تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة فإن لها تسلطاً عظيماً على إقامة العدل، وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم في نظر إجراء الأحكام"(33).

ويتحدث الطهطاوي عن المساواة بلغة شرعية، فيرى أن التسوية في الحقوق ليست إلا عبارة عن تمكن الإنسان شرعاً من فعل، أو نيل، أو وضع جميع ما يمكن لسواه من إخوانه أن يفعله، أو يناله أو يمنع منه شرعاً... ومن المعلوم أن استواء الإنسان في حقوقه شرعاً يستلزم استوائه مع غيره في الواجبات التي تجب للناس بعضهم على بعض؛ لأن التسوية في الحقوق ملازمة للتسوية في الواجبات"(34).

حقوق المرأة:

احتلت قضية المرأة مكانتها البارزة في فكر رفاعة الطهطاوي، حيث تأثر بحالة المرأة الفرنسية، ولهذا فقد طالب بضرورة تربية المرأة وتعليمها لأن هذا سيعود بالفائدة على أبنائها، وسيحسن من وضع أسرتها، ولكن الطهطاوي حينما طالب بضرورة تعليم المرأة لم ينظر إلى ذلك على أنه سيرفع من إنسانيتها، ولكنه سيرفع من قيمتها في أعين الرجال، لذلك فقد سيطر على الطهطاوي التصور الذكوري الشرقي في نظرته للمرأة، وكذا فقد ركز الطهطاوي –كعادة الاتجاهات السلفية– على بيان الفوارق البيولوجية بين الرجل والمرأة، والقول بأن طبيعة المرأة الجسمانية أضعف من الرجل، ولهذا لا يمكن أن يوكل إليها العديد من الأعمال التي لا تتوافق مع طبيعتها. وسار الطهطاوي على درب القدماء في القول بعدم استطاعة المرأة أن تسهم في إدارة شؤون الحكم فيقول: "معرفة شؤون الحكم على الوجه الأكمل لا يكون غالباً إلا من خصائص الرجال، فلهذا تعين أن تكون السلطنة فيهم دون النساء اللاتي في الغالب لا يستطعن أن يتعلمن هذه المعارف الحكمية المهمة في المملكة، والسلطنة، والخلافة، حيث إن الخلافة هي الإمامة العظمى، فخلافة النبي -صلى الله عليه وسلم- من خصائص الرجال"(35).

ومن ناحية أخرى فقد رفض الطهطاوي تولِّي النساء مناصب القضاء والإمامة؛ لأن الإمامة والقضاء قد يكون فيهما الاجتهاد وهو مرتبة عليا، وقلّ أن توجد امرأة فيها الأهلية، كما أن أبواب الشريعة والسياسة التي تخص الملوك واسعة لا تطيقها عقول النساء على ما فيهن من كونهن جميعاً عورات يتعذر مخالطتهن للموظفين"(36)، وهنا يبدو مدى سيطرة الأفكار التقليدية على فكر رفاعة الطهطاوي في موقفه من قضية المرأة، ولهذا وجدناه يردد أفكار التوجيهات السلفية المحافظة، ولم يأخذ من رحلته إلى باريس سوى ضرورة تربية المرأة وتعليمها، وإن كان قد وظفها برؤية ذكورية تجعل من تربية المرأة وتعليمها وسيلة للعلو في أعين الرجال.

الركون إلى التقليد:

انتهى رفاعة الطهطاوي في آخر كتبه(نهاية الإيجاز في سيرة أهل الحجاز) إلى الركون إلى التقليد في الحكم، وهو نمط الخلافة –السائد في عهد الدولة العثمانية، ودولة محمد علي– ولهذا فقد خصص في كتابه أحد المباحث للحديث عن الخلافة فرأى أن "الإمامة العظمى بالأصالة: هي منصب رسول الله -عليه السلام-، وهي استحقاق التصرف العام على المسلمين، وحيث أطلقت الإمامة فإنما تنصرف إلى الخلافة، وهي بهذا رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا خلافة عن النبـي -صلى الله عليه وسلم-"(37). فمنصب الإمامة العظمى واجب على الأمة بالشرع وجوباً كفائياًّ لهم، لتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وتفرُّق صدقاتهم، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش، وقهر المتغلبة، والمتلصصة، وقطاع الطريق، وفصل المنازعات بين الخصوم"(38). والملاحظ أن الطهطاوي يتكلم عن الإمامة والخلافة بطريقة التراث الأشعري نفسه في علم العقائد، بل باللغة نفسها في هذه المصنفات الأشعرية، فلا يختلف كلامه عن كلام أبي حامد الغزالي في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد"، أو جل هذه المصنفات الأشعرية الكلامية.

وخلاصة القول أن الطهطاوي قد ارتكن إلى البناء التقليدي للمجتمع، وارتحل في نهاية حياته إلى هذا البناء، رغم محاولاته المتقدمة في الدعوة إلى المكتسبات الليبرالية الغربية في نظم الحكم. ولقد أرسى الطهطاوي بردته الفكرية هذه ظاهرة في الفكر العربي الحديث، وهي ظاهرة(الترحال الثقافي) أي الارتحال من أفكار التنوير والتقدم والحداثة إلى الأفكار التقليدية بكل إيجابياتها وسلبيتها، وهي ظاهرة تحتاج إلى البحث والدرس، وهي تنم –من وجهة نظري– عن عجز المفكرين العرب في التعامل مع البناء التقليدي للمجتمع بكل فعالية، ومحاولة تفكيك هذا البناء، والكشف عن مواطن الضعف والجمود والتخلف، وأيضاً مواطن القوة والتنوير، وذلك حتى يتم إرساء قيم التقدم، والتنوير والحداثة... إلخ، ولا شك أن هذه الظاهرة نجدها عند معظم المفكرين العرب أمثال طه حسين، وإسماعيل مظهر، ومحمد حسين هيكل، وزكي نجيب محمود... إلخ، من أعلام الثقافة العربية، وهي ظاهرة تحتاج إلى البحث والدرس لأنها تكشف بوضوح عن عجز الفكر العربي في إحداث تغيير في وجه الحياة العربية، وركون هذا الفكر إلى التقليد، ومجاراة الأوضاع السائدة، وفقدان القدرة على التمرد ورفض الأوضاع المتخلفة في عالمنا العربي، بما يمكن أن يؤدي إلى إحداث تغيير هذه الأوضاع، ومن ثم إحداث التقدم والتنمية.

ماذا تبقى من رفاعة الطهطاوي؟ إننا إذا توقفنا عند حد القراءة المعاصرة لفكر الطهطاوي نتبين سيادة اللغة التقليدية في خطابه الفكري، تلك اللغة التي أسهمت في تجميد مصطلحات الفكر الليبرالي المعاصر، ووجدنا أن سيادة العقيدة الأشعرية لديه قد أسهمت فيه زيادة الحدود والفواصل بين تراثه الفكري وبين الوافد؛ لأن التراث الأشعري له لا يمكن أن يلتئم بأي حال من الأحوال مع المكتسبات الليبرالية الغربية، وذلك لأن القيمة المحورية في هذا التراث هو(الله) في حين أن القيمة المحورية في التراث الفكر الليبرالي الغربي هو(الإنسان)، ومن خلال القراءة المعاصرة نتبين أيضاً سيادة الطابع المعياري -الديني والأخلاقي- في فكر الطهطاوي، وهذا الطابع يرجع في معظمه إلى طبيعة علومه الدينية، ولكن انتماءه الأزهري، والذي غلب على تكوينه الفكري جعله يقيّم الغرب ومنتجاته الفكرية بمعايير دينية صرفة مثل الكفر/الإيمان، الهداية/الضلال، المقبول/المحظور، والمباح/وعدم المباح....إلخ، ويتبين لنا كذلك من سيادة منهجية القياس والمماثلة في فكر الطهطاوي بأنها أدت إلى تسكين المكتسب الليبرالي داخل السياق التقليدي للمجتمع، بصرف النظر عن إمكانية انصهار الوافد مع الموروث، وهو ما أدى إلى قيام علاقة أشبه بالخطوط المتوازية بين الوافد، والموروث، وكذلك أخفق الطهطاوي في عدم إدراكه لأهمية تفعيل المصطلحات الليبرالية الحديثة داخل السياق التقليدي للمجتمع حتى يمكن تغيير ملامح الحياة المصرية.

ولكن رغم ذلك فإننا نظلم الطهطاوي كثيراً إذا رأيناه فقط في حدود الزمن الراهن، فإن الطهطاوي يكتسب قيمته التاريخية من أنه شكّل أحد أهم الجسور الأولى بين العرب والغرب، وبطبيعة اللحظة التاريخية التي كان يعيش فيها، فلم يكن يستطيع التمرد على البنية التقليدية للمجتمع، وكان من الضروري عليه رؤية الغرب في إطار النسق التقليدي الذي كان يعيش فيه، فالظرف التاريخي، وكونه أحد رواد الجيل الأول كان يفرض عليه الطريقة التي يتعامل بها مع الغرب.

ويبقى من رفاعة الطهطاوي أنه المفكر الرائد الذي نقل إلينا في حقل الثقافة العربية مفاهيم ومصطلحات الفكر السياسي الغربي حول الوطن، والمواطنة، والحرية، والمساواة، والديمقراطية، والحقوق المدنية، وكان أحد الجسور المهمة في تعريف العرب بالثقافة الغربية، ومفردات الحضارة الأوروبية.

*********

الهوامش:

*) باحث وأستاذ أكاديمي من مصر.

[1] - رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م ص86.

2 - المرجع نفسه، ص259.

3 - المرجع نفسه، ص154.

4 - الموجع نفسه، ص154.

5 - المرجع نفسه، ص90.

6 - رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين، المجلس الأعلى للثقافة 2002م ص131.

7 - المرجع نفسه، ص133.

8 - المرجع نفسه، ص139.

9 - رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص192.

10 - رفاعة الطهطاوي: مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، المجلس الأعلى للثقـافة 2002م، ص34.

11 - رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص124.

12 - رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص72.

13 - رفاعة الطهطاوي: مناهج الألباب، ص372.

14 - رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص76.

15 - المرجع نفسه، ص68.

16 - المرجع نفسه، ص259.

17 - رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص90.

18 - المرجع نفسه، ص259.

19- رفاعة الطهطاوي: مناهج الألباب، ص99.

20- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص94.

21- رفاعة الطهطاوي: مناهج الألباب، ص15، 10.

22- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص128.

23- المرجع نفسه، ص128.

24- رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص189.

25- رفاعة الطهطاوي: مناهج الألباب، ص46.

26- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص124-125.

27- رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص173-174.

28- تخليص الإبريز: ص185، وأيضا المرشد الأمين، ص129.

29- تخليص الإبريز: ص174.

30- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص99.

31- رفاعة الطهطاوي: مناهج الألباب، ص358.

32- المرجع نفسه، ص354.

33- رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص120.

34- رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين، ص130.

35- المرجع نفسه، ص104.

36- المرجع نفسه، ص119-120.

37- رفاعة الطهطاوي، نهاية الإيجاز في سيرة أهل الحجاز، مكتبة الآداب، القاهرة 1986، ج3، ص17.

38- المرجع نفسه، جـ 3، ص20.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=215

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك