في نقد الرّجعيين الجدد

محفوظ أبي يعلا

 

لا أعرف رجلاً حالماً إلاّ وتطرّف في فكره وسلوكه»

ع.العروي، أوراق

 

نودّ في هذا المقال [*] أن نتناول بالنقد تياراً فكرياً بدأ ينتشر بين الشباب العربي بشكل كبير في السّنوات الخمس الأخيرة على منصات التّواصل الاجتماعي. هذا التّيار الفكريّ يسِمُ نفسه ب”الرجعيّة الجديدة” (Neoreactionary) .

سنعمل في هذه المقالة الموجزة على سرد بعض أفكار الرجعيين الجدد وبعض الفلسفات الّتي تنهض عليها أطروحاتهم. وعليه، فإن السّؤالين الذين سنحاول الإجابة عنهما فيما سيأتي من مدارسة هما السؤالين التّاليين:

ما هي الفلسفة الّتي تتأسس عليها أطروحات الرجعيين الجدد؟ ما هو سبب تبني الفكر الرجعيّ؟

لا يمكن أن نتحدث عن الرجعيين الجدد باعتبارهم تياراً فكرياً كبيراً ومؤثراً، بل على العكس من ذلك، فإن هذا التّيار محدود الانتشار؛ إلا أنّه يعبر عن فكرة ظهرت بعد انتكاسات الربيع العربيّ.

التّيار الفكريّ إذن حديث الظهور في المجال العربي إذْ يتزامن مع مظاهر ” ما بعد الربيع العربيّ “. ويمكن أن نلاحظ أن أغلب المنتسبين إلى الرجعيّة الجديدة والمعجبين بأطروحاتها والمنظّرين لها كانوا ماركسين أو ليبراليين أو حداثيين في الماضي القريب، غير أنّهم انقلبوا على توجهاتهم الأيديولوجيّة القديمة. وقد يظنّ البعض أن هؤلاء الرجعيين الجدد كهول أو شيوخ ـ على افتراض أن هذه الفئة العمريّة أكثر ميلاً إلى أن تكون محافظة ورجعيّة ـ بيد أنهم مازالوا شباباً لم يبلغ معظمهم منتصف الثلاثينات!

حين نطّلع على الأفكار الّتي يروج لها الرجعيون الجدد نجد أنّها أفكار معاديّة لكلّ قيم النّزعة الإنسانيّة والحداثة، فهم أعداء لفكرة التقدم والدّيمقراطيّة والنّسويّة والمساواة..إلخ. ومرجع بعضهم في معاداة الحداثة والدّيمقراطية هو الكاتب والفيلسوف الكولومبي المغمور “نيكولاس كوميز دافيلا” Nicolás Gómez Dávila    (1913/1994) الّذي كان من كبار المناهضين للحداثة. ودافيلا هذا لم تشتهر أفكاره إلا قبل وفاته بسنوات معدودة، وذلك بعد أن ترجمت مؤلفاته إلى اللّغة الألمانيّة، ولكن مع ذلك ظلّت أفكاره محدودة الانتشار في العالم، كما يمكن أن نذكر الفيلسوف الإيطالي “يوليوس إيفولا” Julius Evola   (1898/1974) الذي يُعتبر من أبرز المنظّرين للفاشيّة والمفتخرين بتراثها.

والمتابع لما ينشره الرجعيون الجدد يجد أنّهم متأثّرون بالفلسفة الرواقيّة الّتي ظهرت في فترة انهيار وانحلال الرّوح اليونانيّة، هذا الانهيار الّذي أوشك أن يقضي على جوهر الفلسفة وطبيعتها كما رآها سقراط وتلامذته[1]. فالرواقيّة انصرفت إلى الذّات ورأت أن المثال الأعلى في الأخلاق هو الحياة بمقتضى الطبيعة. والأخلاق الرواقيّة ليست بأخلاق إيجابيّة، كأخلاق سقراط وأفلاطون وأرسطو، بل إنّها أخلاق تقوم على الانعكاف على الذّات وتنشد السّلام الداخلي كأخلاق الصوفيّة تماماً[2]. ولعلّ المقولة الشائعة ” عندما يقترن الشكّ بالمعاناة تظهر الصوفيّة ” تنطبق على الرواقيّة والرواقيين عموماً، وعلى الفترة الّتي عاشوا فيها، وهي فترة معاناة.

لقد ظهرت الرّواقيّة في العصر الهلينستي، وهو عصر تميز بتراجع الفلسفة اليونانيّة القديمة الّتي كان يُنظر إليها كمغامرة تحتاج إلى يقظة وشجاعة [3]، على عكس هذه الفلسفة، ظهرت فلسفة العصر الهلينستي، التي تقوم على أخلاق الاستسلام والتحمل والصبر. يقول برتراند راسل:

«فقد أصبح النّاس في ذلك العصر [العصر الهلينستي] الّذي تهاون فيه أركان المجتمع القديم يلتمسون الأمان وإذا لم يتيسر لهم الحصول عليه بسهولة جعلوا من الصمود أمام الصعاب الّتي لا يمكن تجنبها فضيلة» [4].

بهذا المعنى؛ يمكن أن نفهم سرّ تأثر الرجعيين الجدد بالفلسفة الرواقيّة، فبعد أحداث الربيع العربيّ عمهم اليأس والإحباط، وشعروا أن القيم الّتي كانوا يطالبون بها لم تتحقق، بل أكثر من ذلك، ظهرت جماعات مناقضة كلّ المناقضة لتوجهاتهم الفكريّة الحداثيّة تسلمت السلطة والحكم. فما كان منهم إلا وأن انقلبوا على مبادئهم كردة فعل على ما حدث. وبعبارة أخرى: إن الرجعيين الجدد يعبرون عن روح عصرهم، كما عبر الرواقيون عن روح المرحلة الهلنستيّة.

فضلاً عن ذلك، يجد المتابع لمنشورات الرجعيين الجدد إعجابهم الشديد بنيتشه وبفلسفته، وهذا الفيلسوف، كما هو معلوم، من منظري العدميّة الغربيّة، إلا أن فلسفته على الرغم ممّا يظهر فيها من رغبة في القوّة وفي الصراع من أجل الوجود، إذا نظرنا إليها من منظور المنهج النّفسيّ، هي فلسفة رجل هزمته الحياة، فواجهها بالحدية وبالأخلاق الّتي سماها بأخلاق السّادة [**]!

في الواقع، وكما أكدنا في بداية هذا المقال، إنّ الرجعيين الجدد لا يمثلون تياراً فكرياً قوياً، غير أنّهم، وفق وجهة نظرنا، يعبرون عن اليأس والإحباط الّذي أصاب بعض أفراد النخبة المثقفة والمستنيرة في العالم العربيّ، خاصّة بعد أن فشلت  هذه الأنتلجنسيا في تحقيق مطالبها التّقدميّة والحداثيّة.

والظاهر أنّ المجتمعات العربيّة بعد الربيع العربيّ عرفت مجموعة من الظواهر الاجتماعيّة ومن التّغيرات الفكريّة الّتي لم يكن من بينهما فقط، ظهور الفكر الأصوليّ السّلفي العنيف والمتطرف؛ بل أيضاً ظهور تيارات راديكاليّة إلحادية وعدميّة تعبر عن أفكار معاديّة لكلّ أفكار الحداثة، ممّا يجعلنا نفكر في مدى احتمال ظهور تيارات عنيفة في المستقبل، لكنها ليست تيارات دينيّة، بل تيارات رجعيّة تؤمن بالقوّة وبالاستبداد وبالقهر وبالرقابة.

قد يبدو هذا الاحتمال بعيد الحدوث اليوم، لكن التّساؤل عن امكانية حدوثه مستقبلاً يظلّ مشروعاً في نظرنا، لاسيّما وأننا نعرف غياباً لتوجه حداثي يهدف إلى خدمة الإنسان بدلاً من توجهات تستغل قيم الحداثة من أجل أغراض غير إنسانيّة[5].

في الختام، يوجه الرجعيون الجدد نقدهم الكبير للديمقراطيّة ولجميع القيم الحداثيّة، ومنطلقهم أن الدّيمقراطيّة لا تصلح كنظام سياسيّ، وهنا نختم بالقول إن الدّيمقراطيّة ليست أفضل الأنظمة، ” ليست أفضل السياسات الممكنة “، بيد أنّها الأقل سوءا اليوم. ثم إننا حين نتحدث عن الدّيمقراطيّة، فنحن لا نتحدث فقط عن صناديق الاقتراع، بل عن نظام حداثي يبدأ بالتعليم وينتهي بالانتخابات وبحقّ التّصويت. وهكذا فنقد الديمقراطيّة يعني نقد الحداثة الّتي تظل مهددة باستمرار إما من فلسفات تنبثق منها أو من أصوليات دينيّة تعاديها.

إنّ الحفاظ على الحداثة يتطلب كفاحاً متواصلاً، كفاحاً ضدد أعدائها الأيديولوجيين، وضدّ النكوص وتفشي الروح العدميّة الّتي تقوض كلّ شيء ولا تبني شيئاَ.

المراجع والحواشي

* أشكر الصديق والباحث التونسي ياسين عاشور على مراجعته لهذا المقال.

1 ـ عبد الرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفيّة، الجزء الثاني، المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنَّشر، ط ص: 171.

2 ـ نفسه، ص: 193

3 ـ برتراند راسل، حكمة الغرب، الجزء الأوّل، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد:364، ص:188.

4 ـ نفسه.

** عادة يساء فهم عدمية نيتشه، بحيث ينظر إلى عدميته كعدمية سلبيّة، في حين أنه يمكن قراءتها كعدمية إيجابية متفائلة.

5 ـ للتوسع أكثر في هذا الموضوع انظر:  مصطفى بن تمسك، الحداثة الأوروبية مسارات التفكيك ونهاية الريادة، مؤمنون بلا حدود، ط: 1، 2018

المصدر: https://www.alawan.org/2019/01/05/%D9%81%D9%8A-%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك