أقنعة إسلامي غير مسلم

لحسن أوزين

 

يحيل مفهوم إسلامي في هذا النّص إلى تمثيل إيديولوجي لممارسة سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة أو عسكرية…، بمعنى أن مفهوم إسلامي في تاريخه الفكري والاجتماعي الصراعي كان دائما غطاء إيديولوجيا لشرعنة القهر والتسلط والإقصاء والغزو…، إنها عملية سطو ممنهجة على معتقد الناس، أو قل بتعبير أدق قراءة إيديولوجية لسردية دينية اجتماعية ثقافية بالمعنى السوسيولوجي لانتظام المجتمع الإنساني، وهذه القراءة، كتمثيل إيديولوجي لشرعية النزوعات نحو السلطة، قد عرفها الواقع التاريخي للمسلمين، كما مارسها لاستبداد ولا يزال، والاستعمار الغربي ولا يزال يجدد شكلها السياسي وفق معطيات المراحل التاريخية وتحولاتها المستجدة. وقد كانت لهذا بعض الجذور في التّحول من الروحي الاعتقادي إلى الاجتماعي السلطوي في كلّ السرديات الدينية، قصد تبرير التحكم باسم الله بوسائل التكفير والعزل والإقصاء والتعذيب والقتل والحرب، فالممارسة أشبه بما تفعله الطبقة السياسية الحاكمة حين تدافع عن مصالحها باسم القيم الوطنية، أو الى درجة أن تحاسب خصومها على عدم التزامهم المبدئي بالقيم الإنسانية والوطنية الّتي يتبنونها في برامجهم الاجتماعية والسياسية، كما لو أنّنا إزاء تحايل لسحب، أو تأسيس بساط الشرعية الشعبية. وانطلاقا مما تتيحه الدراسات الاجتماعية والانتروبولوجية نعرف بأنّه لا يخلو أي مجتمع من الانقسامات السوسيولوجية والثقافية، الاثنية والدينية المذهبية…، وهذا حال العالم إلى اليوم في شرقه وغربه، وفي شماله وجنوبه، الفرق هو في كيفية تأسيس وحدة التناقض الاجتماعي والمعرفي والتقني في التواصل والاتصال لحياة مشتركة تطابق  البنى الاجتماعية الاقتصادية السياسية. وبمعنى آخر كيفية تأطير وتدبير الاختلاف في وطن يشمل الجميع.

فلم هذا الاستثناء والخصوصية في النظر إلى أوضاعنا ومشاكلنا والى التحولات التي تعيشها منطقتنا “شرق المتوسط ” بتعبير منيف؟ لم هذا الانزلاق الخطير في تبني رؤى وتحليل وخطط وسياسات الغرب إلى حد التماهي، والأخطر ان تنزلق المتابعة النقدية للمثقف إلى هذه الحفر عن طيب خاطر، كما لو أنّنا إزاء حصاد الهشيم في كل تراكم للفكر النقدي العربي؟

نطرح هذه الأسئلة ونحن نفكر في مسألة الإسلامي التي يتلبسها نزاع المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة، المحليّة والإقليميّة والدوليّة. والأطراف الغربية توغلت في إسلاميتها هذه إلى ابعد مما يتصور اسلاميو الجماعات الإسلامية “السياسية” الدعوية، أو الدموية القاتلة. فقد تكفلت الدراسات الاستشراقية بهذا الجانب بقرون عديدة، منذ القرن الخامس عشر، في كلّ ما يتعلق بتراث المسلم، بما في ذلك الدراسات القرآنية، وهي معطيات علمية وإيديولوجية قلما اطلع عليها المثقف العربي المهتم، أما الإسلامي المحلي فإن أميته المعرفية والثقافية، وتصلبه الذهني وعنف توتره الانشطاري، يحول بينه وبين هذا الإلمام بمعطيات هذا الوعي في حسن التفكير والممارسة واتخاذ القرار في نجاح الاستجابة للتحديات المفروضة عليه بواقع الهيمنة والسيطرة.

فما الّذي يجعلنا نفكر في أن كل هؤلاء إسلاميون بشكل او بأخر، بمعنى صريح إرهابيون وقتلة، مع تفاوت في التّحكم في بنية قواعد الدور والوظيفة، وفي الدلالات والعلاقات والأهداف، وهم  يحاولون جعل الإرهاب منا فقط في مكوناتنا الاجتماعية والثقافية والتاريخية، بعيدا عما عانته الشعوب المسلمة من ممارسات هؤلاء الإسلاميين عبر التاريخ بمختلف تلويناتهم، وليس أيضا من الوجه الآخر الدموي  للديمقراطية الغربية، أي في النّهب والتراكم الرأسمالي الاستعماري والامبريالي ؟

1/ الأرانب القتلة في ألعاب القوى

غالبا ما يتصدر الأرانب القتلة المشهد الإعلامي والسياسي بستراتهم السوداء، كمواد إعلامية وسياسية تخدم أهدافا خطيرة تصب في مصلحة ألعاب القوى الاستبدادية المحليّة أو الإقليميّة أو الدوليّة، وهم في ذلك أقرب إلى أرانب سباق العدو في ألعاب القوى، لكن سياسات ومصالح تجري من تحت دماء الفظائع والمجازر وحالات الرعب والإرهاب التي يرتكبها هؤلاء ” الأشاوس” في القتل دون رفة جفن أو نبضة قلب إنساني. فتختزل الصورة الإعلامية والسياسية ديناميات  معطيات الواقع الحي إلى مجرد مظاهر لقراءة نمطية إسلامية، همها الوحيد هو الخلط بين تلك المكونات السوسيولوجية الثقافية لأي مجتمع وبين القراءة الثقافوية لسطح الوقائع والأحداث، كما لو كانت تفسيرا لما يحدث، في الوقت الذي هي نفسها تحتاج الى تفسير. خذ مثلا شعارات الحرب على الإرهاب، تجفيف الينابيع، الخطط الاستباقية في التدمير والاعتقال…وما إلى ذلك من العبارات الجذابة التي توجه الصورة الإعلامية والسياسية لمنطق علاقات القوى في التحكم في الإدراك والسيطرة على الوعي، لصناعة الخوف والتهديد، ودفع الحريات خطوات إلى الوراء. وتبعا لذلك تنهار مناعة الكثير من أقلام المثقفين في المشاركة في ورشات وأبحاث علمية وندوات محلية ودولية في تعرية جذور الإرهاب الدينية والثقافية والاجتماعية التاريخية المترسبة في معتقد المسلمين، دون أن تدرك هذه الأقلام خطورة أقنعة الإسلامي غير المسلم في صناعة الانقسامات العمودية داخل المجتمعات المسلمة في محاولة العودة بها إلى ما دون الدولة،(الأهل، العشيرة، الجماعة، الأمة…)، وتذرير مكونات المجتمع المتعدد والمتنوع في طوائفه واثنياته ومذاهبه…، قصد خلق حالة اجتماعية من التشظي في صورة الجماعات الأهلية تبعا لأشكال سياسية من المحاصصة: قبلية مناطقية عشائرية طائفية…، وهما واعتقادا من هذه الطروحات الاستبدادية والغربية في قدرتها على تعطيل وإعاقة الصراعات والتّحولات الاجتماعية، والتضامنات الأفقية بين كلّ هذه المكونات التي أثبتت تلاحمها وتفاعلها(بين المسلمين والمسيحيين، بين السنة والشيعة…) في محطات كثيرة من مواجهة الاستعمار والاستبداد والصهيونية.

لكن بالمقابل أين تختبئ الجذور الحقيقية للإسلامي غير المسلم؟

في البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، في الوضع النيولبيرالي والسياسات الدوليّة، في السيطرة الاقتصادية على الأسواق المحلية لبلداننا، في البنى الطبقية للاستبداد المحلي باقتصادياته الهشة ذات الطاقات الاستيعابية، المحدودة أو المتدنية، للأعداد الكبيرة من العاطلين، في الأمية المنتشرة والإجهاز على التعليم العام، في التصحر السياسي والعداء للفكر الحر النقدي، في اقتصاد الريع العاجز عن تحقيق مردودية إنتاجية تغطي تكلفة الضرائب  والأسعار المحرقة لدخل المواطن، في ضعف الزيادة في الانتاج، في الجمعيات والتنظيمات الإسلامية التي تسيطر على العمق الاجتماعي، بترخيص من الدولة، في خلق تضامنات عمودية خيرية وإنتاج رموز وقيم أخلاقية إيديولوجيّة عنيفة واضطهادية إزاء الذات والأخر.  وأخيرا وليس آخرا نقول في غياب فئة سياسية ساخطة على الوضع مثل الشعوب المسلمة، فئة قادرة على تبني التّغيير السياسي بما يزحزح او يخلخل كلّ هذه العوامل، سيستمر الإسلامي المقنع برداء المسلم ممارسا تغطية لهذه العوامل في تفاعلها الجدلي، وفي ارتباطاتها المتبادلة، ويشتغل منطق وآليات أقنعته، وهو يسعى إلى الهيمنة حتى ولو أدى ذلك إلى الخراب والتّدمير، بوعي من طرف صناع ألعاب القوى، ودون وعي من طرف الأرانب القتلة الذين يجعلون أنفسهم ومجتمعاتهم مجرد فئران بشريّة في مختبرات ألعاب القوى لإسلاميين أكثر خبرة ومعرفة وسيطرة على الميدان و قواعد اللّعبة.

2/  أقنعة الإسلامي غير المسلم

ماذا يمكن انتظاره من بنى اقتصاديّة اجتماعيّة غير إنتاجيّة تسيطر فيها فئة قليلة على الاقتصاد الاستهلاكي التّجاري الّذي يوفر أموالا فاحشة لهم والبؤس واليأس والتّهميش لأغلب فئات المجتمع، كما أنّه اقتصاد لا يستطيع إدماج سيرورة التمدن الّتي تتوسع باستمرار في إحياء تنتشر فيها كل الأمراض الاجتماعيّة والأخلاقيّة والقيميّة، ومرتعا خصبا لمختلف أشكال العنف والتوتر الوجودي العام إلى جانب الجريمة السياسية للاغتيالات؟

وماذا ينتظر من علاقات انتاجية وتركيب اجتماعي يدمر موارده وثرواته البشريّة من الشباب والكفاءات عوض أن يعمل على تفكك وتحلل تلك البنى الاقتصاديّة الاجتماعيّة المولد للإرهاب والتبعية وكلّ أشكال التخلف والانسدادات؟ وماذا ينتظر من السياسات النيوليبراليّة الّتي تتحالف مع الفئات المتحكمة لترسيخ تلك البنى وتشويه الانقسامات الأفقية داخل المجتمع من خلال فتح المجال لكل أنشطة وممارسات الإسلامي غير المسلم المحلي والأجنبي، في التّسرب الى البنيات التحتيّة الثقافيّة والاجتماعيّة، خاصة الدينيّة، تأطيرا وتنظيما وهندسة للإدراك وتوجيها للوعي؟ وماذا ينتظر من نقابات وأحزاب سياسية يساريّة تختزل التبعيّة والتّخلف والتّسلط في الهيمنة والسيطرة الامبريالية فقط دون أن تنتبه إلى أهمية البنى والصراعات الاجتماعية إمّا في تكريس التخلف او مقاومة اقتصاد الريع في ثقافته وولاءاته وشروطه المادية في علاقات إنتاجه الاجتماعية؟ ماذا ينتظر من استبدادات تهيئ شعوبها للموت بالقضاء على التّعليم، كرافعة للتنمية، وإغلاق كل الأبواب في وجه الحراك الاجتماعي بما يساعد على خلق فرص جديدة للعمل والإنتاج، أو ظهور تقسيمات جديدة للعمل بين كل فئات المجتمع، ضمن إطار جديد لعلاقة الإنتاج بالسلطة وبالمواقع الطبقية؟

هذه هي المعطيات الخلفية لجدلية القمع والإرهاب والحرية الّتي يحاول الإسلامي المقنع التستر عليها وتحريف نظر الوعي إليها، أمّا كل ما يحدث على السطح من اختلالات وقتل وتهجير وحروب على الإرهاب هو مجرّد تمثيل إيديولوجي لشرعنة ترسيخ وديمومة تلك البنى والعوامل من اجل استمرار فعل صناع ألعاب قوى الإرهاب الحقيقي في السيطرة والهيمنة. إنّها مقايضة رهيبة ضدّ الأمن والحريّة والإنسان، ليس بالقمع العاري، بل بآليات الرضا والتقبل والاختيار “الحر” لصراع الأقنعة بين إسلاميي الشرق وإسلاميي الغرب، أي بين الإرهاب وأرانبه.

وهذه هي الأرضيّة الّتي نرى بأنّها جديرة بالاهتمام السياسي والبحث العلمي لأنّها تساعد على فهم ما تتطلبه تلك العوامل المتضافرة من ممارسات ثقافية وفكرية سياسية لتقوية النزوعات والاتجاهات الّتي تسعى الى تغيير المعايير الاقتصادية والقانونية والسياسية والاجتماعية مما يشكل نجاحا حقيقيا لمعركة الحريّات الديمقراطيّة والتّغيير الاجتماعي. عوض استنزاف الطاقات في معارك جزئيّة معزولة عن التركيب الاجتماعي وما يفرض من قيود ويتيحه من فرص.

المصدر: https://www.alawan.org/2018/12/31/%D8%A3%D9%82%D9%86%D8%B9%D8%A9-%D8%A5%...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك