الاعتدال والتطرف وخطورة الموضوع دينيا وسياسيا وأخلاقيا

ضياء الشكرجي

 

عندما يختار أن يكتب موضوعا ما، لا يعني أنه يضع نفسه معيارا لتطبيق ذلك المفهوم بشكل تام. هكذا عندما يكتب الإنسان عن التقوى، عن العدالة، عن الصدق، عن أية قيمة أخلاقية، وكذلك عن الديمقراطية، عن العقلانية، ونفس الشيء يقال عندما يكتب الكاتب عن الاعتدال واجتناب التطرف. فالكاتب يكتب عن قناعاته، فيما هو الصواب، دون دعوى أنه من حيث التطبيق في مستوى الحد الأقصى؛ نعم لا يجوز له أن يوقع نفسه في الازدواجية.

فإنك عندما تؤمن بحرية التعبير عن الرأي مثلا، وتتبنى بقوة عدم سلب حق ممارسة هذه الحرية أي إنسان، لا تكون على تناقض مع نفسك، عندما لا تتحمل سماع رأي من ينظـّر لإلغاء حرية التعبير، بل بالعكس فحبك لحرية التعبير عن الرأي يولد عندك بالضرورة مقتا للفكر الذي يدعو إلى منع هذه الحرية. وكذلك لا يعني الإيمان بحرية الرأي أنك تقبل كل رأي يقال، فلا تمارس نقدا، بل أحيانا هجوما على رأي لتضعفه، أو تخطئه. فكما إنك آمنت بحرية صاحب الرأي الضعيف، أو الرأي الخاطئ - حسب وجهة نظرك – في طرح رأيه رغم موقفك منه، من حقك أن تمارس أنت أيضا حقك في حرية الرد على ذلك الرأي وتخطيئه. وبالتالي فمن الخطأ الاعتقاد أن الذي يدعو إلى الديمقراطية، عليه ألا يختلف بالرأي مع أي طرف. نعم هناك كلام عن الحكمة فيما هو نافع وما هو ضار، وفيما ينبغي أن يقال وما ينبغي أن يسكت عنه، وهذا مما أكون في أغلب الظن قد وقعت شخصيا فيه، ولو أن القضية نسبية، فلعل هناك من يرى ضرورة وأهمية الطرح لما يرى غيره وجوب السكوت عنه.

وإنك عندما تؤمن بعقيدة، أو خط فكري، أو قيمة أخلاقية، وتدعو إلى كل ذلك وتروج له، وتحاول أن تلتزم بأسس تلك العقيدة أو الخط الفكري أو المنهج الأخلاقي، لا يعني ذلك أنك تدعي لنفسك الانسجام كليا وبالمطلق مع كل تفاصيل ومفردات ما تتبناه وبالمستوى المطلق، وكذلك لا يعني ذلك أنك ومن يتفق معك بالإيمان والتبني والدعوة والالتزام، متفقان في كل التفاصيل، بحيث تفهمان على حد سواء مدى انطباق مفهوم ما أو رأي ما أو موقف أو سلوك ما منسجما كليا مع ذلك الخط الفكري والمتبنى العقيدي أو الإيديولوجي أو الأخلاقي.

هكذا الأمر عندما تختط لنفسك أن تكون إسلاميا، أو تكون ديمقراطيا، أو أن تكون ممن يتبنى انشراح الصدر أمام الرأي المخالف، أو تحاول أن تكون حكيما فيما تقول وتفعل، لا يعني أبدا إنك تطبق كل ذلك على نحو الكمال والتمام ومن غير أي نقص أو أي تفاوت، وإلا فإنك تكون قد تبنيت عقيدة الخمسة عشر معصوما، والتي مفادها أن كل فرد يعتقد ضمنا ومن خلال سلوكه في تبرئة نفسه من كل خطأ، بأن هناك خمسة عشر معصوما. فالمعصومون – عند مذهب أهل البيت (ع) – أربعة عشر، النبي (ص)، وفاطمة والأئمة الاثنى عشر علي وأولاده (ع)، ويكون القائل - بلسان الحال لا بلسان المقال - بعقيدة المعصومين الخمسة عشر يكون هو نفسه المعصوم الخامس عشر كمحصلة لطريقة تعامله. فإني أستجير بالله تعالى أن أكون من هؤلاء، وأحمده سبحانه إذ عرفني على مواطن ضعفي كما عرفني على مواطن قوتي أكثر مما عرفها غيري.

نعم نحن نميز بين من يحاول أن يعيش منسجما مع متبنياته الفكرية والأخلاقية، فيفلح بنسبة ما ثم تكون لديه بعض الإحباطات، ولكن لا تمثل تلك الإحباطات إلا حالات مفردة استثنائية، وإن بلغت نسبة الـ 30%، وبين من يعيش الازدواجية بين ما يؤمن وما يفعل، أو بين ما يقول وبين ما يفعل، وهذه الازدواجية هي التي عبر الله سبحانه عن مقته لها مقتا كبيرا، عندما قال جل من قائل: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" أجارنا الله من ذلك. وبما يشبه ذلك كان الله قد خاطب بني إسرائيل بقوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب؟ أفلا تعقلون؟"

من ملامح التطرف والمتطرفين

من ملامح ظاهرة التطرف والمتطرفين هو ما يلي:

دعوى احتكار الحق والصواب: وهذا يعني أن أصحاب ذلك الخط يعتقدون بالمطلق وليس بشكل نسبي، وبالقطع واليقين وعلى نحو القناعة النهائية، وليس على أساس إمكان مراجعة الأفكار والقناعات وإعادة النظر فيها، بأنهم على حق، وأن كل من سواهم على باطل، فهم وحدهم يمثلون دولة الحق ومنهج الحق وحزب الحق وفكر الحق، وكل من سواهم يمثل دولة ومنهج وحزب وفكر الباطل. بينما يؤدبنا القرآن على الدخول في الحوار من موقع احتمال الوقوع في الخطأ وإصابة الطرف الآخر للصواب، فيأمر الله نبيه أن يدعو الآخرين الذين كذبوه لحوار موضوعي هادئ ينطلق من هذا الاحتمال بقول الله تعالى: "قل إنا أو إياك لعلى هدى أو ضلال مبين". أما أنا على هدى وأنتم في ضلال، أو بالعكس أنتم على هدى وأنا ومن اتبعني على ضلال. ولو أن الحوار لا ينطلق – من زاوية الفهم القرآني - دائما وبالضرورة من وجوب إثبات من يكون على هدى أو في ضلال، بل يكون هدف الحوار في كثير من الأحيان البحث عن المشتركات وتجميد الخلافات: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء".

اعتقاد المتعصبين والمتطرفين بأنهم وحدهم الذين اكتشفوا على يد رموزهم وقادتهم ومفكريهم المنهج الصحيح والفكر النقي، بحيث ينسبون إلى أنفسهم وتيارهم ومفكريهم ورموزهم حتى الكثير من الرؤى والمتبنيات الإصلاحية التي سبقهم إليها غيرهم وغدت من أمد بعيد من بديهيات الكثير من المثقفين والمغيرين والحركيين والإصلاحيين، فيظنون خطأ أن تلك الأفكار هي من اكتشافات تيارهم ووليدة خطهم، أما لجهلهم بوجودها قبلهم، أو تعصبا منهم لأنفسهم ومصادرة لغيرهم

عدم إمكانية الحوار مع المتعصبين، مما يجمد الفكرة، ويعطل دور العقل في الحوار والبحث عن الصواب. لأنهم يعيشون حالة التوتر وعدم الاستعداد لفتح عقولهم وقلوبهم لسماع رأي آخر، ولا يعتقدون بإمكان صواب أي رأي غير رأيهم ومتبناهم.

بالنسبة للمتعصبين والمتطرفين في الدائرة الإسلامية خصوصا تجد ظاهرة اعتبار مقولات مفكريهم ورموزهم وقادتهم بدرجة من الصواب تساوق النصوص الشرعية المعصومة، أي نصوص القرآن والسنة، لا من حيث التبني العقيدي لذلك، بل من حيث التعاطي والتعامل. فهم وإن كانوا لا يقولون من الناحية المبدئية النظرية وعلى مستوى التبني العقيدي بعصمة مفكريهم ورموزهم وقادتهم ومراجعهم، إلا أنهم لا يقبلون مجرد طرح احتمال تخطئة رأي من آرائهم ولو تخطئة نسبية، ولا محاولة مناقشة أفكارهم مناقشة نقدية علمية موضوعية، بل يتوترون ويتشنجون من سماع أي نقد لتلك المقولات والأفكار، بل وتكون تهمة الكفر والانحراف وغيرها جاهزة في كثير من الأحيان ليرموا بها مخالفيهم تصريحا أو تلميحا. أما إذا أراد مفكر أو كاتب أن يناقش الأفكار من زاوية فهم غير إسلامية، فهو مرتد حتما ومن غير أي شك، فتمارس تجاهه حرب نفسية بإشهار سيف الارتداد المرعب وما يترتب عليه، بدل الدخول معه في حوار فكري موضوعي عقلاني علمي هادئ، يعتمد على الدليل مقابل الدليل. ولا يلتفتون بأن الدين الذي يرعب ويخيف الآخرين، لا يمكن أن يلقى أذنا صاغية لسماع فكره، فالمرعوب لا يسمع، بل يبحث عن وسائل حماية نفسه من الخطر، أو الاستعداد لردة فعل عنيفة تجاه ما يمكن أن يوجه إليه من فعل عنيف. ثم حتى الذي لا يريد أن يحاورك، دعه يطرح فكره، واطرح أنت فكرك، إن كنت واثقا من صوابه، فالعنيف والمتعصب المتطرف يعيش أزمة ثقة بصواب منهجه، وهو لذلك يمارس عنف الكلمة وعنف الممارسة، والذي يعيش الثقة العلية بقناعاته وفكره لا يخشى حري الفكر أبدا.

ومن النقطة الآنفة نجد أن من ملامح التطرف العنف، الذي يبدأ بعنف الكلمة وينتهي بتفجير دوامة عنف الفعل في المجتمع.

التعصب والتطرف يخلق ضوضاءً وجوا متشنجا مما يعيق مسيرة الإصلاح في المجتمع، ويربك أجواء التعايش السلمي، ليس بالضرورة من خلال تبني الاقتتال، وإنما من خلال بعث أجواء من الاقتتال البارد، الذي - لا قدر الله - يختزن في داخله قابلية التحول إلى اقتتال ساخن.

يكون منهج التحزب - بالمعنى السلبي لا المعنى الإيجابي للتحزب – لدى المتطرفين بشكل صارخ جدا، حتى لو لم يتبوا الأطر التنظيمية الحزبية المألوفة، بل يتحزبون ويتعصبون غالبا لفكرة اللاحزبية لتتحول إلى أمقت صور التحزب، أما إذا كانوا حزبيين بالمعنى المعروف فيحولون الحزب إلى صنم معبود. ومن ملامح التحزب – حزبيا أو لاحزبيا – أن المتطرفين يحاولون مصادرة أي نشاط شعبي أو ديني أو اجتماعي أو سياسي أو غيره، لتيارهم وطبعه بطابع ذلك التيار من صور ولافتات وهتافات، ومصادرة توجهات وخصوصيات المشاركين الآخرين في ذلك النشاط، بحيث يتحول مثلا موكب تشييع لشخصية اجتماعية أو فكرية أو وطنية أو علمائية مرموقة في المجتمع إلى تظاهرة إعلان الولاء لذلك التيار، دون احترام مشاعر عامة الناس الذين خرجوا لتشييع ذلك الفقيد، وغير مكترثين بأن كل المشيعين يعتبرونه فقيدهم جميعا. ومثل هذه المصادرة تحصل في كثير من النشاطات بأنواعها المختلفة.

التطرف وعلاقته بكل من الفكر والعاطفة

الإنسان مركب في محتواه الداخلي من بعدَي الفكر والعاطفة. والفكر يمكن أن يكون فكرا مستقيما، ويمكن أن يكون فكرا منحرفا، كما إن العاطفة يمكن أن تكون مستقيمة أو منحرفة.

التطرف والتعصب هو حالة عاطفية أكثر من كونه حالة فكرية، حتى لو كان التعصب تعصبا لفكرة، لأن الفكر والتعصب «ضدان لا يجتمعان ويرتفعان» على حد تعبير المناطقة. أي إننا يمكن أن نتصور إنسانا بلا فكر ولا تعصب بارتفاع كلا الضدين، لكننا أينما وجدنا الفكر، لا يمكن أن يجتمع معه التعصب، وأينما وجدنا التعصب، لا يمكن أن يجتمع معه الفكر. والقناعة العميقة بفكرة أو عقيدة، والالتزام بما تستلزم القناعة من تبعات عملية شيء، والتعصب شيء آخر تماما، فالتعصب لا انتماء له لا لفكر ولا دين، بل هو عبارة عن مرض ذهني أو نفسي.

وعندما أقول أن التطرف والتعصب هو حالة عاطفية، فمن غير شك أعني العاطفة بمعناها السلبي لا بمعناها الإيجابي. فإنني عندما أتكلم عن العاطفة لا بد من أن أشير أن لا قيمة للإنسان من غير عاطفة، ولا قيمة للدين من غير عاطفة، ولا قيمة للفكر ولكل الفلسفات من غير عاطفة، فالعاطفة الإنسانية هي التي تعطي للإنسان إنسانيته، والفكر المجرد يتحول إلى حالة أكاديمية تنظيرية باردة حتى التجمد في قوالب التنظير غير النابض بالحياة، ولذا فهي لا تملك طاقة دافعة تدفعها للنزول إلى ميادين الحياة، بل تبقى حبيسة الخزانات الثلجية، ما لم تتدفأ بعاطفة يمنحها دفؤها طاقة حركية تنزلها من عالم النظرية إلى ساحة الحياة. لذا لا بد من التمييز بين العاطفة المنضبطة الإيجابية والحماس المطلوب في وقته من جانب، وبين التطرف والعاطفة الانفعالية المنفلتة. فكل من الإنسان، والحياة، والدين، لا بد أن يشتمل على كلا البعدين، الفكر والعاطفة، ولا بد من إيجاد حالة الموازنة المطلوبة بينهما. ولا تعني الموازنة أن يأخذ كل من البعدين حصة الـ 50% في كل الأحوال، بل أن يأخذ كل بعد حصته التي يجب أن تكون في تلك كل حالة من الحالات. فقد تكون الموازنة أحيانا بأن يلعب العقل دور الـ 90%، أو أن تلعب العاطفة دور الـ 90%. فالاختلال لا يكون في تجاوز الـ 50% دائما بل بتجاوز النسبة المناسبة لكل حالة من الحالات، أو التخلف عن تلك النسبة المطلوبة. وإننا عندما نقول أن التوازن بين الفكر والعاطفة يكون بأن تحتل العاطفة نسبة الـ 90%، فتتقدم إلى الأمام ليتراجع دور العقل إلى الخلف، لا يعني أن هذا التقدم للعاطفة والتراجع للعقل هو قرار خارج عن إرادة وتحكم العقل، بل إنه قرار العقل نفسه في ذلك الموقف الذي يجب أن تتقدم العاطفة فيه إلى مقدمة المسرح، أن ينسحب هو إلى ما وراء الكواليس، ليضبط حركة العاطفة، ويضع لها حدودها. وكذلك عندما يتقدم العقل ويأمر العاطفة بالتراجع إلى ما وراء الموقف والسلوك الخارجي، لا يعني أن صاحب الموقف قد تجرد عن العاطفة، فلعل العاطفة متفاعلة في أشد درجات التفاعل، ولكن طبيعة الموقف تتطلب أن يتقدم العقل على خشبة المسرح، ويأمر العاطفة أن تبقى مضغوطة في ما وراء الموقف في عالم الشعور.

ومنهج التطرف يعوّل بالدرجة الأولى على إبقاء العواطف ملتهبة، فيمدها دائما بوقود تحفظ لها سخونتها وتوقــّدها، من خلال الشعارات النارية والمصطلحات التي توحي بوجود خلفية فكرية، إلا أنه في الواقع لا يوجد شيء من الفكر، إلا ما هو سطحي يعتمد إطلاق الشعارات والنعوت، حيث يكون هناك حشد من نعوت للتيار المتطرف المتعصب، تضفي عليه هالات القداسة، ويكون بعكسه حشد من نعوت ضد الخصوم أو المختلفين مع التيار، ضمن حملة من حرب نفسية سلاحها الشعارات.

الاعتدال والتطرف في نصوص القرآن والسنة

هناك الكثير الكثير من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، مما يتناول موضوعة الاعتدال والتطرف. ودون أن أستقصي جل ناهيك عن استقصاء كل النصوص التي تتناول هذه الموضوعة، أسلط الضوء هنا على بعضها، وذلك مما أسعفتني ذاكرتي على نحو السرعة. وحيث أني تركت بعض مصادري في العراق، ولم يتوفر لي الوقت لاستحصال مصادر بديلة، لا سيما "المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم"، أعتذر عن الإشارة إلى أرقام الآيات المشار إليها والسور المشتملة على تلك الآيات، كما أعتذر عما إذا كان في النصوص من الحديث الشريف والروايات الشريفة ما فيه تفاوت ضئيل جدا في حرف أو ما شابه مما لا يخل بمعنى النص. سأبدأ بنصوص القرآن الكريم، ثم أتبعها بنصوص السنة.

نصوص القرآن:

1. «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». القـَوام حسب معاجم اللغة هو العدل أو الاعتدال، وهنا يراد به الاعتدال كما هو واضح. فتطرح الآية مصداقا من مصاديق الاعتدال في مسألة الإنفاق. ومن غير أدنى شك، ومن خلال الإحاطة بموقف الإسلام عموما من مسألة الاعتدال، أنه يمكن أن يشمل المعنى معظم ما يتعلق بالفكر والعاطفة والسلوك. ففي مواقف المواجهة يمكن القول "لم يجبنوا ولم يتهوروا وكان بين ذلك قواما"، وفي التعامل فيما هو التوسط بين الصلابة والمرونة "لم يتحجروا ولم يتميعوا وكان بين ذلك قواما"، وفي القناعات "لم يتعصبوا ولم يتراجعوا وكان بين ذلك قواما" وهكذا في كل قضايا الفكر والعاطفة والسلوك. 
2. «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس». صحيح أنه قد قيل الكثير في تفسير معنى الوسطية في هذه الآية الكريمة، إلا أن معظم المفسرين، لم يستبعدوا بل وكثيرون منهم رجحوا أن يكون أحد المعاني، الذي لا يتعارض بالضرورة بوجود معنى آخر إلى جانبه، هو معنى الاعتدال، بل لعل هذا المعنى هو أهم وأبرز تلك المعاني. والجعل هنا ليس جعلا تكوينيا أو تشريفيا بمعنى أن المسلمين فعلا وكلهم يمثلون حالة الوسطية، من خلال (حقيقة) أن الله قد جعلهم أمة وسطا، بل هو جعل تشريعي وتكليفي، بمعنى أن الله يريد للمسلمين أن يشكلوا الأمة المعتدلة التي تتوسط في مفاهيمها والتعبير عن مشاعرها ومواقفها وسلوكياتها بين طرفي التطرف من إفراط أو تفريط. ولذا فإنهم إذا حققوا هذا الشرط استحقوا أن يكونوا أمة شاهدة على بقية الأمم، بمعنى أنهم يتحولون إلى معيار ومقياس توزن وتقاس عليهم بقية الأمم في مقدار إصابتها للصواب، أو وقوعها في الخطأ. فالمعتدل فقط يمكن أن يقاس عليه، وهو وحده يستحق أن يكون شاهدا على الآخرين، بمعنى آخر للشهادة ألا هو الرقابة والتصحيح والتوجيه والقيادة. وخطأ يتصور البعض أن القول بالاعتدال يراد به التنازل عن المبادئ والتسامح في الالتزام، فإن الاعتدال هو عين التوسط على الصراط المستقيم. ولكن هذا لا يعني التعامل مع الآخر على أساس أنه في ضلال بالضرورة، فهنا يطرح الاعتدال أو التوسط بين الصلابة في إلزام الذات، والمرونة في إلزام الغير، فيما يراه الإنسان من صواب وحق.
3. «لا تغلوا في دينكم»: هنا تحذير واضح من الوقوع في الغلو في الدين، أي التطرف والتعصب، حيث أن الغلو في الدين هو من أخطر أنواع الغلو، لأن التعصب والتطرف يُلبَسان لـَبوسا من القداسة التي تمنع مناقشتها ناهيك عن تصحيحها. وقد تناولت في مقالة سابقة نشرتها على كتابات ومن ثم في صحيفة البيان مخاطر الغلو الديني في أبعاده الثلاثة العقائدي والشعائري والسياسي، والأخير أخطرهم جميعا.
4. «لا تبخسوا الناس أشياءهم»: هذه الآية وما بعدها ذات علاقة بالعدل، وقد عرفنا العلاقة بين العدل والاعتدال، فالعدل لا يتحقق إلا بالتوسط بين الإفراط والتفريط أو بين الاستيفاء والإخسار حسب تعبير سورة المطففين، وكذلك عرفنا العلاقة ما بين الاعتدال والاستقامة، وما العدل إلا غاية الاستقامة في التعامل. فالآية تحذر من بخس الناس أشياءهم على مستوى الحقوق المادية والمعنوية، من أجل ألا نظلم الناس في حقوقهم مادية كانت أو معنوية. من هنا يمكن أن يكون أحد مصاديق النهي عن بخس الناس أشياءهم هو النهي عن غبنهم في حقهم المعنوي عندما يجري تقييمهم. وهذا البخس والغبن ينتج على الأعم الأغلب عن التعصب والتطرف، المقترن بالتعميم والإطلاق في التقييم والانطلاق من الأحكام المسبقة لا النظرة التقييمية الموضوعية، وذلك من خلال أن التطرف والتعصب يجعل صاحبه يتعامل مع الآخرين من موقع الحساسية المفرطة والمشاعر العاطفية السلبية تجاههم، فيخضع تقييمه لتلك المشاعر.
5. «ليسوا سواء»: وهذه الآية تنبه بشكل مباشر إلى خطأ التعميم وجعله أساسا لتقييم الآخر بمجرد انتمائه إلى دين أو قبيلة أو شعب أو قومية أو حزب أو مذهب أو تيار سياسي آخر، ولكون المتطرف يملك حكما مسبقا تعميميا على تلك الجماعة دون تمييز. من هنا فأهل الكتاب ليسوا سواء، والمسيحيون ليسوا سواء، واليهود ليسوا سواء، والإسلاميون ليسوا سواء، والعلمانيون ليسوا سواء، والشيوعيون ليسوا سواء، والشيعة ليسوا سواء، والسنة ليسوا سواء، والعراقيون ليسوا سواء، والعرب غير العراقيين ليسوا سواء، والعرب من العراقيين ليسوا سواء، والأكراد ليسوا سواء، والغربيون ليسوا سواء ... وهلم جرى من حالات النهي عن التعميم والإطلاق.
6. «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»: وهذه الآية هي الأخرى لها علاقة بالعدل، بما فيه العدل المعنوي، أي بما فيه التقييم. فحتى أولئك الذين تكون طبيعة العلاقة معهم في غاية العداوة وفي غاية الكراهية، وفي غاية التنافر والصراع الحاد، الذي تعبر عنه لفظة "شنآن" لا ينبغي أن نقيمهم تحت وطأة الحساسية والمشاعر السلبية ضدهم، أو بسبب المشاعر والمواقف السلبية من قبلهم ضدنا، بل لا بد أن نعدل معهم فيما هي الحقوق المادية، وفيما هو التقييم لإيجابياتهم وعناصر القوة لديهم، وفي سلبياتهم وعناصر الضعف لديهم، فلا ننكر عليهم الإيجابيات التي لديهم، ولا نبالغ ونضيف في سلبياتهم مما ليس فيهم.
7. «اعدلوا ولو كان ذا قربى»: وهنا عكس المعنى السابق. فكون الذي تريد أن تقيمه من جماعتك، من حزبك، من طائفتك، من مدينتك، لا ينبغي أن يجعلك تغمض عينيك في تقييمه أمام سيئاته ولا ترى منه إلا الحسنات، بعكس ما تفعل مع خصومك، إذ تغمض عينيك أمام حسناتهم ولا ترى منهم إلا السيئات. كن عادلا في التقييم حتى لو كان قاسيا تجاه من تربطك به ثمة علاقة قربى، قربى الرحم، الفكر، القبيلة، أو ما غيره من أنواع القرب والانتماء.
8. «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». وهذه الآية من أروع ما تحدث عنه القرآن في جعل العلاقة في غاية الإنسانية وفي غاية اللطف، وفي غاية الأخلاق، وفي غاية التودد مع من يختلف معك – هنا في الدين – أو في أي شيء، كأن يكون في السياسة أو الفكر، إذا لم يكن موقفه منك موقف العداء والمواجهة الحادة والاضطهاد، مما عبر عنه بالمحاربة بسبب عقيدتك أو التشريد من الأوطان هنا. فالبر هو أقصى أنواع التعامل الإنساني الودود، فالبر في معاجم اللغة هو "حسن المعاملة عن حب" و"سعة الإحسان"، و"الصدق والوفاء والصلاح في المعاملة"، و"عدم الكذب والخيانة"، و"السلوك المقبول"، و"العطية"، و"اللطف"، و"الشفقة"، و"الكلمة الطيبة". أما المتعصبون والمتطرفون فإنهم يتصورون أن اختلاف الآخر عنه يعطيه مبررات أن يعامله بالجفاء والكراهية والإساءة والكذب والخيانة والكلام الخشن المهين، وهذا ليس خلاف البر بل فقط (المستوى الأخلاقي الأعلى في التعامل)، بل خلاف القسط (المستوى الأخلاقي الأدنى في التعامل)، الذي هو واجب شرعي حتى مع الخصوم. ولكن الكثيرين قد لا يتعاملون على هذا النحو السلبي مع الآخر بالضرورة، بل لا يرون أنفسهم ملزمين في التعامل على النحو الإيجابي فيما تعبر عنه مفردة البر، إذا لم يجدوا أنفسهم ملزمين في عدم التعامل السلبي على نحو ما ذكر، أي دون أن يعني استبدال التعامل الإيجابي بالتعامل السلبي بالمطلق كما مر. المهم إن الله يقول لنا لا تتصوروا أن عقيدتكم والتزامكم وتدينكم يمنعكم من تجسيد إنسانية الإسلام في التعامل مع الآخر.
9. «قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين». حتى في القتال الذي هو أعنف أنواع الاختلاف والمواجهة عندما تتوفر شروط وجوبه، إذ الأساس هو الصلح والسلام، إلا ما اضطر إليه الإنسان اضطرارا من خلال وقوع خيار الخصم على المواجهة بالقتال والحرب. حتى عندئذ لا يجوز التطرف بتعدي حدود مستلزمات القتال الدفاعي.

الاعتدال والتطرف في نصوص القرآن والسنة

بعد أن تناولنا بعض نصوص القرآن الكريم، نتناول في هذه الحلقة بعض نصوص السنة المطهرة من أحاديث وروايات شريفة، تعالج مسألتي الاعتدال والتطرف:
1. «خير الأمور أوسطها»: هذا الحديث الشريف يقرر أن في كل أمر من الأمور، في كل شأن من شؤون الحياة، سواء على صعيد الفكر، أو العاطفة، أو السلوك، هناك وسط يمثل اعتدالها، وعلى طرفيه مساحة إلى اليمين ومساحة إلى الشمال، تمثلان التطرف النسبي أو القريب والمقبول تارة، فيما يمثل عدم الإصابة الدقيقة والمعصومة تماما من أي خطأ ثمة اقتراب نسبي من الوسطية، مما لا يسمح بنسبته إلى التطرف، أو التطرف البعيد، إلم نقل الكلي، مما يمثل ابتعادا كبيرا عن الوسطية. فالوسطية أي الاعتدال هي التي تمثل الحالة المثلى (خير الأمور)، والخير النسبي، أو المقبولية النسبية يكون خيرا وحسنا ومقبولا بمقدار اقترابه من الوسطية. فالوسطية التامة تمثل غاية الاستقامة، وما يقترب منها يمثل استقامة بنسبة ما، والابتعاد عنها يمثل انحرافا بنسبة ما.
2. «أحبب حبيبك هونا فلعله يكون بغيضك يوما، وأبغض بغيضك هونا فلعله يكون حبيبك يوما»: في هذه الرواية عن علي (ع) إشارة إلى جعل العواطف، الإيجابية منها، أو السلبية في حدود الاعتدال، وعدم التطرف فيها. وهكذا يجب أن تبقى العاطفة دائما في حدود الاعتدال، والاعتدال لا يعني أن تكون العاطفة على نمط واحد وبدرجة واحدة دائما، بل أن تكون متناسبة مع القضية والظرف والحالة المتعلق بها، وأن لا تخرج عن حدودها وإطارها المعقول والمقبول، حتى عندما يراد لها أن تنطلق بقوة وعنفوان. لكن البعض تراه يعيش حالة انفلات الانفجارات العاطفية غير المنضبطة، بحيث تتحول انفعالاته العاطفية إلى هيستيريا، فيعيش هيستيريا الغضب، هيستيريا الرضا، وهيستيريا الحماس، وهيستيريا الحزن، وهيستيريا الفرح، وهيستيريا الحب، وهيستيريا البغض. فللعاطفة صمامات أمان توقـفها عند حدود الاعتدال، وصمامات الأمان هذه هي العقل والشرع والأخلاق.
3. «ليست الجاهلية والعصبية أن يحب المرء قومه، بل الجاهلية والعصبية أن يرى المرء شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين»: وهذا الحديث الشريف يريد أن يضع ضوابط الاعتدال في عاطفة الانتماء والولاء للجماعة (القوم)، حزبا كانوا أو قبيلة أو قومية أو طائفة أو ما إلى ذلك. فالتعصب للجماعة الذي هو لون من ألوان التطرف يفقد الإنسان المعايير الصحيحة في التقييم وتحديد الموقف، ويحول الحب المقبول والمطلوب تجاه القريبين إلى عصبية وجاهلية وتخلف، ويحول الولاء إلى صنمية ووثـنية.
4. «إن لمن شيعتنا لأشد علينا من الناصبين لنا العداء؛ إنهم يقولون فينا ما لم نقله في أنفسنا»: في هذه الرواية للإمام الباقر (ع) على ما أتذكر إشارة إلى الغلو في الحب، الذي يجعل المحب مجانبا للموضوعية والاعتدال في العاطفة والعقيدة. وكما أن من محبي أهل البيت (ع) من هم أشد عليهم، وأكثر إضرار بخطهم من أشد الأعداء لهم عداوة، هكذا يمكن أن يسيء المتطرف إلى الفكرة أو الخط أو الجماعة التي ينتمي إليها بأشد مما يحققه الأعداء من إساءة وإضرار. ولذا فإن ظلم أهل البيت (ع) من الداخل أشد عليهم من ظلمهم من الخارج، وظلم الإسلام من داخله، من لدن جهلة المسلمين، ومتطرفي ومتعصبي الإسلاميين لأشد على الإسلام من كل خصومه.
5. «إن أخشى ما أخشاه على أمتي الحمقى»: من هنا كانت خشية رسول الله (ص) على الإسلام من حمقى وجهلة المسلمين أشد من خشيته من كل أعدائه وخصومه الخارجيين، فالأحمق لا يسمع لنداء العقل الذي يطالبه بالتوازن والاعتدال والنأي عن الصخب الذي يربك الواقع كله من حوله.
6. «نازعني العالم فغلبته ونازعني الجاهل فغلبني»: فالجهل حسب قول علي (ع) يعطل العقل ويستنزف الطاقات من غير نتيجة، فإنك إن حاورت الخصم العاقل الموضوعي، فلا مشكلة لك معه، أنتصرت عليه في الحوار أم انتصر عليك، بقطع النظر عن كلام أمير المؤمنين (ع) هنا في غلبته تجاه العالم في كل الأحوال، فهذه تتعلق بملكاته الخاصة به عليه السلام.
7. «كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا»: هذه الوصية لأهل البيت الموجهة إلى أتباعهم، تحمل أكثر من معنى، ومنه أن لا يعيش الموالي لهم حالة من الازدواجية، بحيث يظهر الحب والولاء لهم، دون أن يتخذهم قدوة في سلوكه واستقامته وخلقه وعدله وإنسانيته وتقواه، وهذا ما عبروا عنه بقولهم «ليس منا من لم يقتد بنا». ولكن هناك معنى آخر في تحول الموالي إلى شـَين ووبال عليهم، ذلك من خلال تطرفه وغلوه. والقضية من حيث المفهوم شاملة لكل صاحب خط ومدرسة وانتماء يحب أن يعرضه عرضا جميلا محببا جاذبا، فالاعتدال هو الذي يجعل نفوس وقلوب وعقول الآخرين تنفتح على الإنسان. فلنكن – إن كنا إسلاميين – زَينا لإسلامنا، لا شـَينا عليه، ولنكن – إن كنا وطنيين - زَينا لعراقنا لا شـَينا عليه، وليكن كل صاحب خط فكري وقناعة يحترمهما زَينا لهما لا شـَينا عليهما، من خلال خط الاعتدال والنأي عن التطرف والتعصب واللاموضوعية.
8. «يا علي هلك فيك اثـنان؛ محب غال ومبغض قال»: هذا الحديث الشريف يبين كيف أن التطرف يمثل هنا الهلاك، فالمتطرف يَهلك هو ويُهلك المحيط من حوله بتفجير الأزمات وتأجيج الانفعالات وتثوير الهيجانات المنفلتة. هذا بقطع النظر عن المعنى الخاص بشخص علي (ع)، فإني أردت تناول هذه النصوص بمقدار علاقتها بموضوعَي الاعتدال والتطرف، وبقطع النظر عن المعاني والأبعاد الأخرى التي تشتمل عليها النصوص التي سقتها كأمثـلة توضيحية للموضوع.

من ملامح المتطرفين

من ملامح ظاهرة التطرف والمتطرفين هو ما يلي:

دعوى احتكار الحق والصواب: وهذا يعني أن أصحاب ذلك الخط يعتقدون بالمطلق وليس بشكل نسبي، وبالقطع واليقين وعلى نحو القناعة النهائية، وليس على أساس إمكان مراجعة الأفكار والقناعات وإعادة النظر فيها، بأنهم على حق، وأن كل من سواهم على باطل، فهم وحدهم يمثلون دولة الحق ومنهج الحق وحزب الحق وفكر الحق، وكل من سواهم يمثل دولة ومنهج وحزب وفكر الباطل. بينما يؤدبنا القرآن على الدخول في الحوار من موقع احتمال الوقوع في الخطأ وإصابة الطرف الآخر للصواب، فيأمر الله نبيه أن يدعو الآخرين الذين كذبوه لحوار موضوعي هادئ ينطلق من هذا الاحتمال بقول الله تعالى: "قل إنا أو إياك لعلى هدى أو ضلال مبين". أما أنا على هدى وأنتم في ضلال، أو بالعكس أنتم على هدى وأنا ومن اتبعني على ضلال. ولو أن الحوار لا ينطلق – من زاوية الفهم القرآني - دائما وبالضرورة من وجوب إثبات من يكون على هدى أو في ضلال، بل يكون هدف الحوار في كثير من الأحيان البحث عن المشتركات وتجميد الخلافات: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء".

اعتقاد المتعصبين والمتطرفين بأنهم وحدهم الذين اكتشفوا على يد رموزهم وقادتهم ومفكريهم المنهج الصحيح والفكر النقي، بحيث ينسبون إلى أنفسهم وتيارهم ومفكريهم ورموزهم حتى الكثير من الرؤى والمتبنيات الإصلاحية التي سبقهم إليها غيرهم وغدت من أمد بعيد من بديهيات الكثير من المثقفين والمغيرين والحركيين والإصلاحيين، فيظنون خطأ أن تلك الأفكار هي من اكتشافات تيارهم ووليدة خطهم، أما لجهلهم بوجودها قبلهم، أو تعصبا منهم لأنفسهم ومصادرة لغيرهم

عدم إمكانية الحوار مع المتعصبين، مما يجمد الفكرة، ويعطل دور العقل في الحوار والبحث عن الصواب. لأنهم يعيشون حالة التوتر وعدم الاستعداد لفتح عقولهم وقلوبهم لسماع رأي آخر، ولا يعتقدون بإمكان صواب أي رأي غير رأيهم ومتبناهم.

بالنسبة للمتعصبين والمتطرفين في الدائرة الإسلامية خصوصا تجد ظاهرة اعتبار مقولات مفكريهم ورموزهم وقادتهم بدرجة من الصواب تساوق النصوص الشرعية المعصومة، أي نصوص القرآن والسنة، لا من حيث التبني العقيدي لذلك، بل من حيث التعاطي والتعامل. فهم وإن كانوا لا يقولون من الناحية المبدئية النظرية وعلى مستوى التبني العقيدي بعصمة مفكريهم ورموزهم وقادتهم ومراجعهم، إلا أنهم لا يقبلون مجرد طرح احتمال تخطئة رأي من آرائهم ولو تخطئة نسبية، ولا محاولة مناقشة أفكارهم مناقشة نقدية علمية موضوعية، بل يتوترون ويتشنجون من سماع أي نقد لتلك المقولات والأفكار، بل وتكون تهمة الكفر والانحراف وغيرها جاهزة في كثير من الأحيان ليرموا بها مخالفيهم تصريحا أو تلميحا. أما إذا أراد مفكر أو كاتب أن يناقش الأفكار من زاوية فهم غير إسلامية، فهو مرتد حتما ومن غير أي شك، فتمارس تجاهه حرب نفسية بإشهار سيف الارتداد المرعب وما يترتب عليه، بدل الدخول معه في حوار فكري موضوعي عقلاني علمي هادئ، يعتمد على الدليل مقابل الدليل. ولا يلتفتون بأن الدين الذي يرعب ويخيف الآخرين، لا يمكن أن يلقى أذنا صاغية لسماع فكره، فالمرعوب لا يسمع، بل يبحث عن وسائل حماية نفسه من الخطر، أو الاستعداد لردة فعل عنيفة تجاه ما يمكن أن يوجه إليه من فعل عنيف. ثم حتى الذي لا يريد أن يحاورك، دعه يطرح فكره، واطرح أنت فكرك، إن كنت واثقا من صوابه، فالعنيف والمتعصب المتطرف يعيش أزمة ثقة بصواب منهجه، وهو لذلك يمارس عنف الكلمة وعنف الممارسة، والذي يعيش الثقة العلية بقناعاته وفكره لا يخشى حري الفكر أبدا.

ومن النقطة الآنفة نجد أن من ملامح التطرف العنف، الذي يبدأ بعنف الكلمة وينتهي بتفجير دوامة عنف الفعل في المجتمع.

التعصب والتطرف يخلق ضوضاءً وجوا متشنجا مما يعيق مسيرة الإصلاح في المجتمع، ويربك أجواء التعايش السلمي، ليس بالضرورة من خلال تبني الاقتتال، وإنما من خلال بعث أجواء من الاقتتال البارد، الذي - لا قدر الله - يختزن في داخله قابلية التحول إلى اقتتال ساخن. 
يكون منهج التحزب - بالمعنى السلبي لا المعنى الإيجابي للتحزب – لدى المتطرفين بشكل صارخ جدا، حتى لو لم يتبوا الأطر التنظيمية الحزبية المألوفة، بل يتحزبون ويتعصبون غالبا لفكرة اللاحزبية لتتحول إلى أمقت صور التحزب، أما إذا كانوا حزبيين بالمعنى المعروف فيحولون الحزب إلى صنم معبود. ومن ملامح التحزب – حزبيا أو لاحزبيا – أن المتطرفين يحاولون مصادرة أي نشاط شعبي أو ديني أو اجتماعي أو سياسي أو غيره، لتيارهم وطبعه بطابع ذلك التيار من صور ولافتات وهتافات، ومصادرة توجهات وخصوصيات المشاركين الآخرين في ذلك النشاط، بحيث يتحول مثلا موكب تشييع لشخصية اجتماعية أو فكرية أو وطنية أو علمائية مرموقة في المجتمع إلى تظاهرة إعلان الولاء لذلك التيار، دون احترام مشاعر عامة الناس الذين خرجوا لتشييع ذلك الفقيد، وغير مكترثين بأن كل المشيعين يعتبرونه فقيدهم جميعا. ومثل هذه المصادرة تحصل في كثير من النشاطات بأنواعها المختلفة.

المصدر: http://www.nasmaa.com/ArticleShow.aspx?ID=140

الأكثر مشاركة في الفيس بوك