من اللامبالاة إلى الترويع

من اللامبالاة إلى الترويع

أحميدة النيفر*

الانقلاب المفاهيمي:
نجد عند مقارنة ما أثبتته شهادات رجال الإصلاح منذ نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن الماضي عند تشخيصهم لحالة المسلمين بما سجّلته مشاهدات الرحالة الأوروبيين عن نفس الموضوع نوعاً من الاتفاق اللافت للنظر. في كتابات رجال الإصلاح تتكرر عبارات الاستسلام والخنوع والجبرية عند بسط الحديث في أسباب "انحطاط الشرقيين". لا يختلف الأمر جوهرياً بالنسبة إلى الرحالة والباحثين الأوروبيين الذين تتركّز في كتاباتهم مسألة سلوك اللامبالاة والاعتقادات الجبرية التي تميّز حياة المسلمين ونسقهم الثقافي.

هناك شبه إجماع بين الذين أرادوا فهم واقع المسلمين منذ قرن على اعتبار الجبرية مكوّناً رئيسياً من مكوّنات الذات الثقافية للمسلمين. أدّى هذا بالبعض ممن لا يعنيه تأسيس وعي بديل إلى القول بأن القصور في الإسلام ذاته لأنه في الجوهر تسليم وانصياع.

اليوم بعد قرن من الزمن يقف الدارس المعتني بتاريخ الأفكار وتطوّرها مذهولاً أمام مشهد جانب من العالم الإسلامي يوحي بأنه تغيير راديكالي في خصوص الذات الثقافية للمسلمين.

لم يَعُدْ في المشهد ما يتعلّق بالرضاء والجبر بل أضحى العنف الترويعي قرين الإسلام وصنيع المسلمين.

كيف حصل مثل هذا الانقلاب المفاهيمي الذي وإن لم يصب عموم القوى الفاعلة لدى المسلمين فإنه يظلّ مؤشر إنذار فاجع بحاجة أكيدة إلى الدرس والتمحيص؟

- ما هي أبرز المراحل التي مرّ بها هذا التغيير المفاهيمي؟

- ما هي العوامل الثقافية والاجتماعية التي ساهمت في تحقيق هذا الانقلاب؟

- هل يمكن تحديد أحداث ووجوه ومواقف أرّخت لهذا التحوّل وسرّعت فيه؟

- هل الظاهرة مرشّحة فعلاً للاستشراء وكيف يتمّ التعامل معها؟

لن نحاول فيما يلي الإجابة عن كل هذه التساؤلات لكننا اخترنا قراءة جانب من معضلة العنف الترويعي المستحدث المتّصل بخيبة النخب والمؤسسات في البلاد العربية- الإسلامية. هذا الجانب لا ينفي أهمية جوانب أخرى لكنه أولى بالمعالجة لصلته بالأساسين اللذين نحسب أن التنازع عليهما شكّلا ساحة الصراع بين نخب تراثية وأخرى تحديثية التقتا- رغم خلافهما- على تركيز قاعٍ ثقافي دعّم فكر الاستئصال والترويع في العصر الحديث.

في فصام الوعي:
منذ عشر سنوات، تبنّت منظمة اليونسكو بمناسبة انقضاء نصف قرن على تأسيسها، إعلاناً محدِّداً للمبادئ التي يقوم عليها مفهوم التسامح، لعل أهم ما ورد في هذا الإعلان هو تعريفه للتسامح بأنه: لا يعني اللامبالاة كما لا يدّل على المسايرة والمجاملة، إنما هو تقدير لما ينطوي عليه التعدد الثقافي في العالم من ثراء. إنه الوقوف على ما يحمله تنوّع طرق التعبير البشرية من دلالات فَرادةِ الذات الإنسانية وتميّزها.

أوّل ما يفيده هذا التعريف هو أن موضوع التسامح يمكن أن يُساء فهمه من أكثر من وجه، لذلك حرص التعريف على الابتداء باستبعاد ما يمكن أن يُفهم من التسامح خطأ. هو موضوع محتاج إلى تصحيح شأنَ جملة من المفاهيم الأخرى ذات مضامين ثقافية أو اجتماعية أو سياسية تطورت خاصة مع تحولات القرن المنصرم واقتحمت فضاءات لم تواكب تلك التطورات فحُمّلت من الدلالات ما لا تعنيه ضرورةً. في هذه الحالات يكون سوء الفهم أمراً متوقعاً يرجع في جزء هام منه إلى أن تلك المفاهيم وفدت على مجتمعات غير ذات صلة فعلية بالفكر والإبداع. فضلاً عن هذا فإن نفس تلك المفاهيم –والتسامح على رأسها- تظل، حتى في المجتمعات المنخرطة في التجديد بنسبة عالية من الوعي والالتزام، مثيرةً للتساؤل والمراجعة.

جانب أول من تساؤلنا يتعلق بالحذر الرافض لمثل هذا المفهوم في عالمنا وكأن سنّتنا الثقافية لم تعرف إليه سبيلاً في أي وقت من الأوقات.

ما يساعدنا في دراسة "مشروعية" توجّس النخب في البلاد العربية والإسلامية من مثل هذا المفهوم الحديث هو الجانب الثاني من تعريف اليونسكو. في هذا الجانب نجد أن أساس التسامح هو الإقرار بحدّ من المساواة بين الصيغ التعبيرية المختلفة على اعتبار أن تنوّعها ينبغي أن يكون حافزاً على إدراك ما تستبطنه كل خصوصية من طرافة وإضافة. انطلاقا من هذا الإقرار يضحي التسامح اعترافاً بحقوق شاملة للذات الإنسانية وبالحريات الأساسية لكل الأفراد.

إذا استبعدنا في مقالنا ما يتذرّع به البعض من تعذر الإقرار الاجتماعي والسياسي بالمساواة إجرائياً وتنظيمياً واقتصرنا على بحث الموضوع من جانبه النظري والتاريخي المقارن فإنه يتبيّن أن رفض التسامح في دلالته المعتمدة في نص اليونسكو يرجع إلى بنية ثقافية خاصة بحاجة إلى الدرس والتحليل.

بماذا تتميّز تلك البنية في رفضها للتسامح إن هو تجاوز حدود المراعاة والمداراة؟

هي بنية امتثالية، واثقة من معارفها لا ترى حاجة إلى طرح أسئلة جديدة فضلا عن أن تتوقع الإفادة مما يمكن أن يقدّمه الآخر من تجاربه وخبرته. هي –في عدم إيمانها بالتكافؤ مع المختلف وفي إعلانها المنطوق أو المكتوم عن عدم حاجتها إلى ثرائه الإنساني الخاص– تكون قد صرّحت بإحدى المعضلات الأساس في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، معضلةٌ تصوّرية للعالم. امتثالية هذا البناء الثقافي والفكري تشي بامتلاء معرفي لا يدرك للمساءلة معنى لكونه يطابق بين ما لديه من "حقائق ومعارف" وبين العالم في مداه البعيد وفي حدوده الدنيا. نحن أمام عائق معرفي منطلقه بنية ثقافية تركزّت فيها ثقتها فيما توصلت إليه من الإجابات الكبرى فضلاً عن الصغرى لأن العالم والوجود، في تقديرها محدودان أمكن الإطباق عليها وضبطها.

المفارقة الجُلّى أن هذه المعضلة التصورية على طرفي نقيض مع أساس من أسس التصوّر القرآني حين صّرح في أكثر من مناسبة أن الكون خاضع لحركة تغيّر دائم يتعذر معها ادعاء أي نوع من إشباع(1). نجد هذا في قوله تعالى:

- ﴿يسأله من في السماوات والأرض كلَّ يوم هو في شأن(2)﴾.

- ﴿يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(3)﴾.

- ﴿نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم(4)﴾.

لا تسمح مثل هذه الأمثلة بقبول أن يكون الكون محدودا أو أن تكون معرفتنا له ولما هو دونه قد بلغت مداها وحدودها النهائية؛ وإذا كان الخطاب القرآني لا يعتبر أن الوجود تطوّر صرف تُفقد معه كل غائية فإنه في ذات الوقت يرفض أن يكون الفكر الديني خصماً للتطور أو استهجاناً لمزيد من المعرفة والمراجعة، شأنه في ذلك شأن المعرفة: تطوّرٌ مع توفر عناصر تنزع إلى البقاء.

من جهة ثانية، فإنّ نفس الخطاب القرآني في خصوص مفهوم المعرفة يؤدي إلى أنّه مفهوم لا يمكن أن يقوم إلاّ على المنهج التجريبي القائل: بأنّ الملاحظة والتجربة هما أساس العلم وأصله. خصوصية الخطاب القرآني في هذا مجال تمثّلت في جعل المحسوس المتناهي نصب العينين من أجل الحصول على المعرفة ومزيد من الاقتراب منها فهي لا تفتأ باحثة ممحّصة(5).

باعتماد هذين الجانبين، التصوري والمنهجي، يمكن القول إن البنية الثقافية السائدة والمتوجسة من كل مسعى بحثي يسائل ويراجع لا يمكنه أن يطمئن أو ينتبه لدلالات الثراء الإنساني الذي يحيل عليه مفهوم التسامح حين ينفصل عن مجرد المسايرة.

ما يُعدّ لافتاً للنظر هو أن النخب العربية في عمومها تتبنّى أحد موقفين من التسامح لا يختلفان من حيـث تعبيرهما عن فصام في الوعي: هي إما رافضة للتسامح وتعتبر في ذات الوقت أن حذرها الرافض ليس إلا اندراجا في صميم اتباعية الخطاب القرآني ووفاء له، وإما أنها معتقدة أن التسامح الذي يعيد الاعتبار للذات الإنسانية متعارض جوهرياً مع الثقافة العربية الإسلامية وقيمها التأسيسية، وهي لذلك تتبنى مرجعية مغايرة ومناهضة لتلك الثقافة. نحن، في الغالب الأعم، بين تمشيتْي يبدوان متناقضين لكنهما متنقان في منهج القطيعة الذي يتبنيانه. قطيعة الفكر التراثي الذي يرى أن الحضارة كامنة بالقوة في ثقافته المحلية، فهو مُعرض عن كل ماعداها، وقطيعة الخطاب التحديثي في إنكاره لإمكانية تفعيل الخصوصيات الذاتية باعتبار أن العلـّة متأتية من تلك الخصوصيات، فلا مناص من "استيراد" ثقافي إذا أردنا استرجاع فاعليتنا.

هذه هي مفارقة النخب العربية التي التحمت جهودها موضوعياً، العنف الذي يذهل العالم ولكنه يظل عقيماً. تلك هي خيبة نخب فوّتت على مجتمعاتها فرصاً تاريخية كان يمكن من خلالها تفعيل قدراتها في الفكر والشخصية الذاتيين بتجديد الوعي الذي يعيد الاعتبار للذات بما تكتسبه من شخصية جديدة تتحقق بتمثل تعبيرات ثقافية مختلفة.

عوض ذلك شرّعت لكل تطاول بالقوة على حق الآخر في الوجود سواء أكان هذا الوجود شخصياً أم اجتماعياً أم ثقافياً.

التسامح وإشكالية المفهوم:

إذا أردنا مزيداً من التشريح للبنية الثقافية الخاصة في موقفها من قيمة التسامح فلا بد أن نقرّ –نتيجةً لما كنا قد بسطنا فيه القول آنفاً– أننا في حالة فصام الوعي. نحن ما نزال-داخلياً– بين منزلتين: منزلة الخطاب التراثي الذي يظن أن الهوية الثقافية - الدينية لا صلة لها بمثل هذه القيم التي يحيل عليها التسامح في صياغته الحديثة، وأنه لا بد من الإصرار على علاقة التصادم مع الآخر، وأن أقصى ما يمكن قبوله هو ما أقرّه رجال الشرع من السلف فيما يتصل بأهل الذمة وأشباههم ممن يخالفون أهل القِبلة. ثم هناك منزلة من يرى ضرورة توطين الحضارة الوافدة واستنبات قيمها تَوقياً خطر التهميش التاريخي واعتباراً لعجز الثقافة المحلية عن استيعاب مطالب الحضارة العصرية.

نحن أمام وجهين لبنية ثقافية واحدة، بنية "التمركز على الذات"، تمركز يصادر التنوّع داخل مجتمعه فضلاً عن علاقته بالمجتمعات الأخرى.

يكشف هذا التمركز زيف ما يظهر من تباين بين أصحاب المنزلتين، إنه يعرّيه فيبديه جزئيا لأنّ المنزلتين كلتيهما لا تُقرّان بأهمية التعدد في أعماق كل مجتمع.

نفس التمركز يفضي بكلتي المنزلتين، التراثية والتحديثية، إلى عدم تقدير أهمية التاريخ، لذلك فهما تظلان قاصرتين عن صناعته مجدداً. هذا ما آل إليه أمر التراثيين: ظلوا ضائقين ذرعاً بعصرهم وقيمه وتوجهاته الفكرية، يحلمون بعصور ذهبية انقضت، لذلك عملوا على إعادة إنتاج أنفسهم معرفياً وما انجبوا اجتماعياً سوى الاحتجاج أو الاستقالة أو العنف في أسوأ الأحوال. التحديثيون من جهتهم لم ينظروا إلى تاريخ الغرب بعقل ناقد فلم يعيدوا النظر في حداثته بل عملوا على استيعابها في منظومتهم الخاصة على اعتبارها مكتسبات إنسانية واكتشافات عقلية نهائية. ذلك ما شوهد في التحديث العربي في العقود الماضية في أكثر من قطر: تحديث هشّ وجزئي صاحبته مصادرة للتنوع وقمع للاختلاف مما جعل الجهود الفكرية والسياسية غير مبدعة.

في تقويم حصاد المنزلتين يمكن القول بأنه ليس هناك بينهما اختلاف في الجوهر لأنهما في تمركزهما لم تعبّرا عن وعي بأهمية الاختلاف ذاته.

إذا أردنا أن نحقق في الأمر بالمثال فإن الفكر التاريخي النقدي يوصل إلى أن التسامح في الغرب بمعناه الحديث وقع اكتشافه تدريجيا. إنطلق مع القرن السادس عشر عبر حركية داخلية وأخرى خارجية وضعت الضمير الأوروبي أمام واقع أفرزته الحروب الدينية وأثبتت من خلاله وجود أطراف داخل المجتمعات الأوروبية لا تشاطر المعتقدات الدينية السائدة. في ذات الفترة وإثر اكتشاف العالم الجديد، أمريكا، اتضح للأوروبيين وجود أعراق ولغات وثقافات لا عهد لهم بها. ثم تركز مع القرن الثامن عشر ما عُرف بعصر الأنوار الذي تنامت معه مفاهيم جديدة مثل الحرية والتسامح والفصل بين السلطات. مثل هذه السيرورة طوّرت قيماً جديدة ومعانٍ كامنة وُضعت لها مؤسسات ترسّخت عبر القرون، وهي ما تزال تنمو مُحدثة في كل طور تحولات نوعية تتطلب وعياً مختلفاً عن شروط الوعي السابق.

كيف تم عندنا تمثّل هذه التجربة التاريخية الهامة؟

ما تمّ من قبل التحديثيين كان عجزاً عن أي تمثّل لتلك السيرورة في الأفق الثقافي الخاص. لقد اختفت من اعتبارهم كل معاني التكريم الإنساني في الثقافة الإسلامية ومعها مضامين خلافة الإنسان في الأرض في المجالات المعرفية والأخلاقية والاجتماعية. كانوا كأنهم ما سمعوا عن قيم الإسلام ومعانيه التأسيسية فضلاً عمّا تمّ إنجازه من علاقة بينها وبين التاريخ الوسيط في جهات عديدة من العالم القديم. أكثر من ذلك، كانوا –وهم الأقدر مبدئيا على معاصرة تقيم نِديّة حضاريةً مع الآخر– يتغافلون عما شهده الغرب الأوروبي في القرن السابع عشر من نقاش تأسست عليه مقولة حرية الضمير التي أفرزت قيمة التسامح الحديثة. من ثَمّ فإنهم لم يلقوا بالاً لِما تحقق مثلاً على يدي البروتستنتي "بيار باييل" (P.Bayle) في حواره مع الكاثوليكي "جاك بوسيي" (J.B.Bossuet) عن كرامة الإنسان وضرورة تحييد الدولة وما يتولّد عنهما من قيمة حرية الضمير والاعتقاد وقيمة التسامح التي تعتبر عندئذ "قيما مركزية لا يمكن بحال التهاون بها لأن مكانة الفرد واختياره الحر من إرادة الله".

لا شك أن هذه الاعتبارات "اللاهوتية- الدينية" تراجعت في القرن الثامن عشر مع "عمنويل كانت" (E.Kant) وغيره تاركة المجال للاعتبارات الوضعية في تأسيس قيمة الكرامة الإنسانية وحرية الاعتقاد والتديّن. ما نرمي إليه بهذا المثال: هو أن التحديثيين في البلاد العربية الإسلامية ظلوا مشدودين إلى ثمرات الحراك الفكري والاجتماعي وأهملوا دينامية التحولات التاريخية التي عرفتها أوروبا والتي انتهت بها إلى تكريس قيمتي الفرد والتسامح. لذلك لم يعوا أن علاقة تلك القيم بالتاريخ الأوروبي كانت علاقة إشكالية أي أنها لم تعرف حلاّ ناجزاً ونهائياً، وأنها لم تكن قطيعة مع الإيمان والتأصيل الديني. لو أنهم أدركوا تلك الدينامية لما مانعوا في بروز توجّه تجديدي ذاتي يبدع سيرورة فكرية لا تتصادم بالدين بل تعمل من أفق الثقافة والتاريخ الخاصين.

الخطاب التراثي من جهته كان قد تبنّى، نتيجة تمركز على الذات، منهجاً إصلاحياً وفق شروط وعي تاريخي سابق هدفه إعادة إنتاج حقب ماضية تُعتبر ذهبية. لذلك لم يكلّف دعاة هذا الخطاب أنفسهم عناء الالتحام بشروط الوعي العالمي الجديد، كما لم يفكروا فيما يجعل من قيم تكريم الله للإنسان وخلافته في الأرض قيماً كونية مالكةً لمشروعيةٍ عابرةٍ للتاريخ وصانعةٍ له.

معضلة هذا النوع من التفكير هو اعتقاده الراسخ أن العالمية التي تحققت ماضياً على أيدي المسلمين إنما تحققت بالسيطرة –العسكرية وبالأخص بالهيمنة الثقافية- الدينية. بهذا الرأي الذي يسهل نقضه - أصبح الفكر التراثي مشدوداً إلى حقبة من الحقب التاريخية بعد أن حوّلها إلى منظومة فكرية واجتماعية مصادراً نتيجة ذلك كل تعدد واختلاف. مثل هذا التوجه المتمركز على الذات، النافي للآخر لا يختلف إلى ما سعى إلى إقراره دعاة تمركز أوروبي مقابل حين اعتبروا أن الإسهام الأهم بل الوحيد للإسلام في الحضارة الغربية يتمثل في القطيعة التي أحدثها بين الشرق والغرب؛ "فلولا محمد(عليه السلام) والغزو العربي- الإسلامي لما اعتمدت أوروبا على نفسها من أجل النهوض والتقدم".

هو وجه آخر لتمركز ثقافي عبّر عنه مثلاً "هنري بيران" (H.Pirenne) في كتابه "محمد شارلمان" الصادر سنة 1937م حين اعتبر أنه لم يكن للثقافة الإسلامية من أهمية إلا بالقدر الذي مكّنت به الهوية الأوروبية من أن تتحدد، ذلك تمّ بفضل قطيعتها مع "الثقافة العربية الغازية".

القراءات التأثيمية المعاصرة
شهد هذا العام نقاشاً أوروبياً حادّاً بين النخب والمفكرين والساسة نتيجة الشروع في مناقشة انخراط تركيا في الاتحاد الأوروبي. أثيرت كل الاعتبارات السياسية والاقتصادية والديموغرافية والقانونية.

إن مقولة المواجهة بين الإسلام والحضارة الغربية حاضرة بقوة يحفزها "خطر الإرهاب" المتربص الذي يعمل عدد من الإعلاميين والساسة على إبرازه لأنه يسهّل فهم الأحداث دون الإقرار بأية مسؤولية فيما حصل ويحصل.

ما يعنينا بصفة دقيقة في هذا المثال القريب منا والموصول بالتسامح والعنف هو ما يبيّنه من طبيعة العلاقة بين الذات والآخر.

كتب "صمويل هنتنغتون" (S. Huntington) في منتصف التسعينات: أن الصراع بين الثقافات والأعراق والمعتقدات لا مناص منه وأن الصدام بين العالم الإسلامي والغرب أمر واقع لا محالة، ثم جاءت أحداث 11/سبتمبر وكأنها تؤكد مقولة الصدام تلك بين ذات مهددة وآخر يمثّل الشر.

في أوروبا الغربية نشرت الصحيفة الإيطالية "أوريانا فيلاتشي" (O.Fellaci) إثر أحداث سبتمبر 2001م كتاباً بعنوان "الغيظ والكبرياء" ثم أردفته بثانٍ إثر أحداث مدريد في مارس 2004م تحت عنوان "قوة العقل". تكمن أهمية الكتابين اللذين روجت لهما بعض وسائل الإعلام الغربية في أنهما يدينان "الإسلام لأنه مصدر شر مطلق في جوهره وتاريخه وحاضره".

هذا العام، وضمن ذات التوجه التأثيمي للإسلام، واصلت المؤرخة البريطانية الجنسية "بات يعور" (Bat Ya’or) مسيرتها القدحية بنشر كتاب تحت عنوان مثير "عرابيا: المحور العربي الأوروبي". يقوم هذا العمل على فكرتين أساسيتين" أولاهما أن عقدة العنف والإرهاب المستحكمة في العالم الإسلامي مصدرها الدين الإسلامي ذاته وليس المجموعات المتطرفة وحدها، أما الفكرة الثانية فهي أن أوروبا غدت مقاطعة عربية بل مستعمرة إسلامية.

لماذا نذكر هذه الأمثلة لقراءات تأثيمية لا تعرف التسامح ولا تسعى لاستيعاب العنف ولا تعتني بدراسة تاريخ الحضارة الغربية دراسة موضوعية؟

نذكرها لأن الغرب فيه هذا النوع من التوجه القوي لكنه يحمل توجهات أخرى مغايرة ينبغي أن ننتبه إليها ونطّلع عليها ونتفاعل معها خاصة في المجالات المعرفية والإعلامية والجمعياتية.

هناك على سبيـل المثـال في المستوى الأكاديمي مدرسـة "مارشـال هودجسـون" (M.Hodgson) في الولايات المتحدة القائلة: بمقولة التاريخ الشامل وأنه لا يستقيم فهم تاريخ النهوض الأوروبي الاقتصادي والتقني والإنساني دون قراءة قرون الإسلام السبعة ما بين العاشر والسابع عشر ودورها في تاريخ العالم وحضارته الحديثة(6).

في المستوى الجمعياتي هناك في الغرب عدد مهم من مؤسسات المجتمع الأهلي التي تعمل من أجل الحوار وترى أن التاريخ الإسلامي تاريخ عالمي وأن حضارته عالمية في ماضيها ومستقبلهـا. من بينها جمعية البحوث الإسلاميـة المسيحية في فرنسـا (G.R.I.C.) التي تعتبر أن حوار أعضائها وما ينشرونه ليس بقصد الدعوة أو السجال. إنها ترى أن كل طرف في تمسّكه بجوهر إيمانه وبنظرته إلى العالم وفيما يقوم به من بحوث في قضايا معاصرة إنما يساعد على توسيع رؤيته ومقولاته كما يساعد الطرف المحاور على اكتشاف القيمة الدينية لتراثه ورؤيته الإيمانية الخاصين. بهذا المعنى يكون الإيمان لدى الطرفين هو الطريق المميزة للقاء بالله(7).

في المجال الإعلامي ما نزال نتقدّم بخطوات محتشمة جدا لأننا لم نفكر بعد في بلورة إعلام يحترم المخاطبين -في الداخل والخارج- ويقدّر تنوّعهم.

ما لا مناص من تركيزه في خصوص قيمة التسامح ومفهوم العنف هو حتمية مراجعتنا لمقولة صراع الشرق والغرب وضرورة تنسيب رؤيتنا لذاتنا وللآخر ولزوم تبيّن أن العلاقة بينهما هي علاقة تفاعلية –إشكالية: تفاعلية لأن الطرفين متلازمان لا يتحققان بالتماثل أو الانكفاء والتنافي لكن بالتدافع والتجاوز الناشئ عن تجديد الفاعلية، وهي علاقة إشكالية إذ لا يمكن أن تُحسَم مرة واحدة وبصفة نهائية بل تظل متجددة وبحاجة دائمة إلى التحيين خاصة بعد أن أصبحنا جميعاً نعيش حضارة واحدة رغم تنوّع مرجعياتنا الثقافية.

*************

الهوامش:

*) كاتب وأكاديمي من تونس.

1) انظر: محمد إقبال في خصوص رؤيته للإنسان والزمان في كتابه: تجديد الفكر الديني في الإسلام، وكذلك دراستنا عن ذات الموضوع المنشور في كتاب: النص الديني والتراث الإسلامي، قراءة نقدية، دار الهادي، بيروت 2000م.

2) سورة الرحمن: 55/29.

3) سورة فاطر: 35/1.

4) سورة يوسف: 12/76.

5) راجع الآيات التي تناولت السمع والبصر والفؤاد ومسؤولية الإنسان إزاءها: مثلاً سورة ق 50/37؛ سورة الملك 67/23؛ سورة الأحقاف: 46/26؛ سورة النحل: 16/78.

6) انظر مجلة الاجتهاد البيروتية عدد: 26-27 السنة السابعة 1415/1995م.

7) راجع كتاب "الكتب السماوية التي تسائلنا" ترجمة احميدة النيفر، نشر مركز الدراسات المسيحية الإسلامية جامعة البلمند، طرابلس - لبنان 2004م.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=212

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك