أسئلة الإصلاح والمصالحة قضايا التاريخ والدولة

أسئلة الإصلاح والمصالحة قضايا التاريخ والدولة

محمد نور الدين أفاية*

1- الإصلاح وآفة الفساد

أصبح الإصلاح حديث المرحلة، لكن يتأتَّى هذه المرة انطلاقاً من خطابات تتميز بكثير من التوتر والاحتقان. فالاستبداد العربي الداخلي - خوفاً على وجود نظامه من بعض مظاهر انتفاضة الداخل، ومن الأشكال المتنوعة لضغوطات الخارج اضطر إلى رفع شعار الإصلاح طمعاً في مرور العاصفة بسلام. لكن الظاهر أن مسار الاستبداد في الدول العربية يعرف منعطفاً تاريخيّاً ستكون له، من غير شك، تداعيات يصعب التكهن بأبعادها ونتائجها.

لقد كُتب الكثير عن موضوع الإصلاح، لأنه طُرِحَ، ويُطرح في كل الأزمنة، وعلى كل البلدان. ونشأت دول وتقوّت بفضل مشاريع إصلاحية، وسقطت أخرى لأن الفساد دبَّ في أوصالها ومؤسساتها. غير أنه يتعين التفريق بين الإصلاح والاتجاه الإصلاحي. فإذا كان الإصلاح قد ارتبط بوقائع تاريخية وسياسية، وحتى عقدية في فترات سابقة من التاريخ البشري - فإن النزعة الإصلاحية حديثة، نسبيّاً؛ لأن نشأتها تساوقت مع الحركة الاجتماعية والسياسية التي ميّزت القرن التاسع عشر في أوروبا، أي في الوقت الذي تكونت فيه أحزاب سياسية تَتَغَيَّا الوصول إلى السلطة اعتماداً على مشروع واضح ومحدد(1).

فالمصلح يكون مصلحاً حين يدعو إلى تغيير واقع فاسد، وتعديل علاقات غير متكافئة. وهو في هذا الأمر لا يختلف عن "الثوري" من حيث المبدأ؛ لأن كليهما يرفض الأمر الواقع. ويتمثل الفرق في الأساليب التي يريد انتهاجها كل واحد منهما. فإذا كان "الثوري" -كيفما كانت مرجعياته الأيديولوجية- يعطي الأولوية للاستيلاء على السلطة السياسية، بكل الوسائل الممكنة، وإدخال تغييرات جذرية على بنية الدولة- فإن الإصلاحي يتميز بكونه يؤمنُ بإمكانية تغيير الاقتصاد والمجتمع بالتأثير في المؤسسات السياسية القائمة. وبينما يدعو الثوري إلى التغيير الجذري بإحداث قطيعة في المسار السياسي يقول الإصلاحي بضرورة التغيير التدريجي، وتوجيه المؤسسات السياسية الموجودة لإنجاز الإصلاحات المناسبة دون تهديد التوازنات القائمة بالضرورة.

حصلت مشاحنات لا حصر لها بين النزعة الثورية والاتجاه الإصلاحي، وتبادلت الاتهامات والأحكام. "فالثوري" عند الإصلاحي مغامر، وحالم ورومانسي. "والإصلاحي"، في نظر الثوري، مهادن، ومحافظ، ومتصالح مع وقائع يستحيل عليه تغييرها من داخلها، بل إنها تحوز قدرة كبيرة على احتوائه أكثر مما يملك، هو من الإمكانات لإصلاحها. غير أنّ وقائع تاريخية كبرى دلّت على أن الثورات ذاتها ليست أكثر من مشاريع إصلاحية جرى تطبيقها بوسائل مغايرة، بل عندما يحتك الثوري بالواقع، وتتبدد النزعة الرومانسية، ويواجه تعقيد التدبير المؤسسي والاجتماعي، يلتجئ إلى منطق تبريري، ويحول صعوبات التغيير إلى إسقاطات على أعداء داخليين وخارجيين. وأما الاصلاحي الحديث فقد اقترن مساره بالنظام البرلماني قَصْدَ إحداث تغييرات عن طريق الانتخابات العامة. فهو يؤمن بأن الديمقراطية السياسية توفر إمكانية إنجاز إصلاحات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وتغييرات في أوضاع الفئات المتوسطة والصغيرة. ولن تتأتَّى هذه الإصلاحات إلا بواسطة الانتخابات العامة، واعتماداً على مرجعيات قانونية توفر شروطاً أفضل لتعزيز الديمقراطية السياسية والاجتماعية.

ليس من الضروري أن ترتبط النزعة الإصلاحية بهذا الاتجاه السياسي أو ذاك بشكل حصري، إذ نجدها لدى الليبرالي، والقومي، والإشتراكي. غير أنّ لكل اتجاه مقاصد وحسابات دقيقة في عملية الإصلاح. قد تسمح معطيات الواقع لهذه المقاصد بالتحقق، كلاًّ أو جزءاً، وقد يضطر الإصلاحي إلى التفاوض مع هذه المعطيات، والتنازل لضغوطاتها حتى تتوفر شروط الإنجاز والتغيير. فالامر، في الأول والأخير، مرهون بأوضاع تاريخية تتحدد بتوافر العوامل المشجعة على التغيير، أو الكابحة والمقاومة له. فمهما كانت النزعة الإرادية التي تحرك الإصلاحي، ودعوته إلى التخليق، والترشيد، والعقلنة، فإن للتاريخ مَكْرَهُ الخاص الذي لا يستجيب، بالضرورة، لإرادة وانتظار الإصلاحي، لأن التاريخ يتحرك، بشكل تظافري، من طرف القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفاعلة في المجتمع، كما تتحقق بعض مراميه جراء جدلية متموجة بين جاذبية الداخل وإكراهات الخارج.

إِنَّ لمفهوم الإصلاح حضوراً بارزاً في المجال العربي، سواء في الماضي أو في الثقافة الحديثة. فالمصلح هو الذي يقوم بعمل صالح، يدعو إلى السلام والوئام، إلى الرقي وخلقِ شروط أفضل في حياة الناس. لذلك فإن "مفهوم الإصلاحية ليس غريباً عن التراث الأصولي في الإسلام"(2). بل إنه "يبدو كمعطى دائم في التاريخ الديني والثقافي للإسلام"(3). فالنبي يمثّل في الوعي واللاوعي الإسلامي "المصلح الأعظم"، واكتسبت هذه الفكرة صفة النموذج الذي حاول -ويحاول- المصلحون المسلمون اتباعه والاهتداء بهديه. لذلك فإن "الإصلاح في القرن التاسع عشر لا يمثل قطيعة، أو حادثة في التاريخ الديني في بلاد الإسلام"(4). والمصلح، بالمعنى الإسلامي، هو ذلك الشخص الذي يسعى إلى الخير ويتطلع إلى ما هو أفضل، لأن "الإصلاح يقوم على الاعتقاد بأن هناك خللاً داخلياً أصاب مجتمعاً تغرّب عن أصله، أي عن إسلامه"(5)، ويتمثل فعلُ الإصلاح في "تصويب ما اعوج في ممارسة أمور الدين والدنيا عند المسلمين، والعودة بها إلى "الأصل" الذي لم يلحقه فساد الزوائد والمحدثات"(6).

وبدون الدخول في تفاصيل النزعة الإصلاحية العربية، فقد كُتب عنها الكثير من المصنفات والكتب والدراسات، بحكم المكانة المركزية التي احتلتها في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، فإن الدعوة الإصلاحية في الماضي، ولا سيما في الحاضر، تؤكد ضرورة التطوير، والتجديد، والتصحيح، والتطهير، والتنظيم، والعقلنة، وخلق دينامية إصلاحية تنسجم مع معطيات الهوية الثقافية، ومع شروط الحياة الحديثة في الوقت نفسه.

وفي الغالب الأعم فإن النزعة الإصلاحية تشكلت، في معظم البلدان العربية، كرد فعل على الإنحطاط الداخلي، والخطر الخارجي، غير أنها خضعت، وما تزال تخضع لجاذبية خاصة ضمن جدلية الداخل والخارج. فالنخب الإصلاحية التي تعاقبت على التاريخ العربي المعاصر، دعت، دوماً، إلى إصلاح الدولة لمواجهة تردي الأوضاع الداخلية من جهة، ولمعاندة إصلاح مفروض من الخارج من طرف الاستعمار التقليدي أو "برامج التقويم الهيكلية" أو إملاءات المؤسسات المالية الدولية، أو بواسطة ما يسمى بـ "برامج التأهيل" التي على الإدارة والتعليم والقضاء إنجازه حتى تستجيب لشروط يحددها الآخرون من جهة ثانية.

وضمن الجدلية نفسها تبرز الآن مشاريع دولية لإصلاح أحوال العالم العربي، وإخراجه من التكلس المؤسسي السياسي والثقافي، بل العمل على إدراجه ضمن تصور جيوستراتيجي تعمل أمريكا على إملائه بأساليب متنوعة.

2- السياسة ومفارقاتها

ينتعش الخطاب السياسي كلما واجه المجتمع ضرورات الإصلاح والتغيير. وينخرط الفاعل السياسي في المعمعة، طمعاً في احتلال مواقع منادية بالإصلاح أو كابحة لحركته حسب إرادات القوة المختلفة التي تعمل داخل المجتمع. وتواجه الدعوة إلى الإصلاح رهانات فكرية، وسياسية، واقتصادية، وتفترض اقتراح مشروع لتجاوز التأخر والانحطاط أو تخطي وضعية الاختلال والفساد.

يعمل السياسي، من منطلق الدعوة الإصلاحية على المساهمة في تعديل وضع قائم، أو وضع حد للفوضى. ويستوجب في الحالتين، خلق صراع لمحاصرة النظام، باعتبار أن الإصلاح يتمثل في تغيير نظام ما قصد الحد من النظام، أو اختلاق صراع بهدف تجنب نزاع أكثر دموية. لهذا السبب يعرف الإصلاح مفارقات عديدة، منها ما يعود إلى عوامل خارجية، تؤكد على دور النزاع لإعادة بناء النظام، أو إلى اعتبارات داخلية تعطي أهمية للوضع القائم بتكييفه من جديد وترتيب أحواله. ويتعين على المصلحين، في الحالتين، أن يكونوا على بينة من تجارب الماضي، ومما يقومون به، ومما يمكن أن يترتب تدخلاتهم من مضاعفات(7).

لم يتمكن "علم" السياسة بعد من إيجاد قانون أساسي يوجهه ويضبط قواعده، نظراً لكونه يعبر عن عالم متناقض بين النزاع والنظام. لقد حاول الانتهال من أساليب الاقتصاد، ومناهج علم الاجتماع، لوضع "نظرية مؤسسية" للسياسة تستطيع اقتراح بعض قواعد اللعب القادرة على خلق نوع من التوازن في المصالح، أو من الاستقرار. لذلك برزت فكرة التوافق بين جماعات مختلفة لا تملك وسائل إفناء بعضها بعضاً، ولا سيما أن السياسة ليست تعبيراً عن الخير المطلق، ولا هي تتحرك لخدمة من يدّعي تجسيد قيمه. إنها تسعى، في حركيتها التاريخية، إلى الحفاظ على الهدنة الاجتماعية، ومحاصرة بؤر التوتر، وفرز عناصر التفاهم والتوافق(8).

يأتي الإصلاح للعمل على ترتيب قواعد اللعب، والتوافق على أساليب تسيير المؤسسات في سياق مناخ من التراضي، قصد الحفاظ على النظام ومراعاة توازن المصالح. وهذا ما يحصل في أكثر الأنظمة الديمقراطية. أما الموقف الميكيافيلي فإنه يلحُّ على التحكم في السلطة بأي ثمن كان بالاتكاء على مرجعيات رمزية تجعل من الفاعل السياسي ماسكاً بأمور السياسة، باسم الماضي، أو القوة أو باسم نظام قيمي وأخلاقي(9). غير أن تغييب آليات التوافق -باسم هذا المنطق- كثيراً ما يؤدي إلى نتائج كارثية على الجماعة الوطنية. ولنا في الخريطة العربية ما يكفي من الأمثلة للتدليل على هذه الحالة التي أدت إلى وضعيات انسداد سياسي، واحتقان اجتماعي تنتهي بمآسٍ، وتوفر للخارج مبررات التدخل.

غير أنه إذا وجدت السياسة إمكانات لتسيير التناقضات دون مضاعفات سلبية على الجماعة، فكيف يمكن إصلاح المجتمع والدولة والقيم من الناحية الواقعية؟ وهل تستطيع السياسة إنجاز هذه المهمة التي قد تتجاوز قدرات المجتمع السياسي المنشغل بصراعات السلطة، ومراقبة تطورات التوازن؟

لا يبدو الجواب عن هذين السؤالين سهلاً. فالنزعة الإصلاحية العربية، مثلاً، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الآن، تأرجحت بين إيلاء الأهمية للقرار السياسي، وبين الانشغال بأمور التربية، والأخلاق، والقِيم. وقد عمل المصلحِون العرب، باختلاف حساسيتهم الفكرية وانتماءاتهم الإيديولوجية، على جعل الإصلاح بديلاً للانحطاط، ومخرجاً للتأخر التاريخي قياساً إلى التحدي الأوروبي. إنشغال المصلح العربي بشؤون الداخل عبّر عن نوع من رد فعل إزاء مشروع الإصلاح المفروض من الخارج. لذلك اهتم بكل الأمور، إصلاح الجيش والإدارة، والتعليم، والاقتصاد، إلى المطالبة بإصلاح النظام السياسي والحد من التسلط والاستبداد. غير أن هناك من المصلحين من عوَّل على العامل الخارجي في إنجاز الإصلاح، خصوصاً في ظروف الحماية، أو الانتداب، أو الاستعمار المباشر. ذلك أن ضعف السلطة المركزية، وفساد مؤسساتها أدى ببعض عناصر النخبة التقليدية والحديثة إلى القول بإمكانية إنجاز فعل الإصلاح اعتماداً على العوامل الخارجية.

ونجد في التاريخ القريب لبعض الأقطار العربية مثالاً على دور العامل الخارجي في تكييف سياسات "الإصلاح" الداخلية، بل أصبح لهذا العامل، في بعض الحالات، دور مقرر في الشؤون السياسية. فبرامج ما يسمى بـ "التقويم الهيكلي" لبعض البلدان العربية، تمثل تدخلاً خارجياً لإعادة بناء الوضع المالي والاقتصادي، وأحياناً السياسي. ولا يتعلق الأمر بمجرد الانفتاح على السوق، بالضرورة، وإنما بعملية إملاء سياسات محددة تعبر عن إرادة خارجية تتمثل في البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والدول الكبرى التي توجه سياساته واختياراته، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أفضت سياسة "التقويم الهيكلي" إلى إصلاحات مالية واقتصادية، لكنها أضرت بالجوانب الاجتماعية، مما أدى بشعوب بعض البلدان العربية -في الثمانينات والتسعينات- إلى الخروج إلى الشوارع احتجاجاً على انهيار الأوضاع الاجتماعية وغلاء المعيشة.

غير أن هذه الانتفاضات مكّنت السلطة السياسية من التحكم أكثر في المجال السياسي، وأعطتها فرصاً للضبط. وإعادة ترتيب ممارسة السلطة قصد الحفاظ على التوازنات. وهذا ما حصل، بكيفية أخرى، مع ظاهرة الأعمال الإرهابية في بعض البلدان العربية مؤخراً. أي أن الانتفاضات بوصفها تعبيراً عن احتجاجات غير منظمة، أسعفت السلطة في إعادة بناء النظام وفق المعطيات الجديدة.

لقد برهنت التجارب على أن قاعدة التعاقد بين الأطراف الفاعلة في المجتمع، في العملية الإصلاحية، هي ما يوفر شروط التوازن والاستقرار، وأن مبدأ التوافق -داخل فضاء ديمقراطي فعلي- هو ما يسمح للمتنافسين على السلطة بإبراز قدرتهم على التفكير في بدائل إصلاحية تخلخل الانسداد والتسلط.

3- انهيار العمل السياسي وسؤال الدولة

يتجدد السؤال عن الدولة باستمرار، ولا أحد يمكنه الإدِّعاء أنه قادر على تقديم تعريف شامل، مانع، ونهائي لها. يتداخل فيها ثقل الماضي بإكراهات الحاضر، وبحسابات المستقبل. كل "تفكير حول الدولة يدور على محاور ثلاثة: الهدف، التطور، الوظيفة"(10)، ومن منطلق هاجس البحث عن "هدف الدولة يسبح في المطلقات ويصرف نظره عن الظروف الزمنية والمكانية، فينظر ويتفلسف، ومن يتساءل عن التطور يصف أطوار الدولة، أي أشكالها المتتابعة: فينطق بمنطق المؤرخين. ومن يتساءل عن وظيفة الدولة يحاول أن يحلل آليتها بالنظر إلى محيطها الاجتماعي، فيتكلم كلام الاجتماعيات. إذا ألحقنا بهذه المحاور القانون.. الذي يسجل التجربة الفردية الأولية، أمكن لنا أن نقول: إن الدولة تُدْرَسُ حسب أربعة مناهج: القانون، والفلسفة، والتاريخ والاجتماعيات"(11).

ولأن عبد الله العروي، في كتابه المرجعي المهم "مفهوم الدولة" تعرض لظاهرة الدولة بأسلوب دقيق، ومن اهتمامات متعددة الأبعاد، في التاريخ الأوروبي كما في التجربة العربية الإسلامية -فإننا سنقتصر هنا على بعض الإشارات الدالة على التحولات التي تشهدها الدولة، أو تتعرض لها جراء الضغوط المختلفة التي يمارسها عليها الرأسمال المالي، لدرجة أن الأزمة المالية للدولة، في المرحلة الحالية، أصبحت تطرح وكأنها أزمة مشروعية، بل ذهب بعضهم إلى القول بأن مظاهر الإعياء باتت بادية على الدولة في ضوء ما تواجهه من مطالب وضغوط(12).

ليس هناك نموذج واحد للدولة، حتى ولو عمل قادة العولمة، بكل ما يملكون من قوة، على فرض مناهج وقواعد وشروط يريدون تعميمها على العالم. فالليبرالية الجديدة التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى القطع مع المرجعيات السياسية التي جعلت من الدولة-الأمة إطاراً تنظيميّاً ومؤسسّياً قادراً على خلق التوازن بين حسابات السياسة، وتحولات الاقتصاد، ومطالب المجتمع. كما تتطلع إلى تقليص مفعولات العمل السياسي، والرفع من شأن الاعتبارات الاقتصادية التي يتحكم فيها الرأسمال وتقلبات الأسواق.

وإذا كانت الدولة عبارة عن مجموعة أجهزة، حسبما قال به الفيلسوف لوي ألتوسير: فيها ما يتكلف بالردع والعنف والمراقبة(مثل الجيش، والشرطة، والقضاء، والسجون.. إلخ)، وما يختص بالدعاية والتعبئة والتوجيه والترويض (مثل نظام التعليم، والإعلام، والمؤسسات الدينية، والأحزاب... إلخ)، فإن الدولة إضافة إلى هدفها وتطورها ووظيفتها، تتقوى بفضل إقامة مؤسسات عصرية تكثف، بطرق مختلفة، العقلانية الاجتماعية، وأجهزة "بيروقراطية" تسعفها على التحكم في المكان والإنسان. فسلطة الدولة تتمثل في قدرتها على الحكم والتحكم، وذلك مهما كانت طبيعة الدولة، ديمقراطية، شمولية، قمعية.. إلخ؛ لأن المهم هو الاختيارات الكبرى التي تقوم بها الدولة في علاقاتها بالمجتمع، وبالأهداف التي تتحرك من أجل تحقيقها. والفارق بين الدول يظهر في قدرة كل دولة على الاستجابة لانتظارات مختلف الفئات المكونة للمجتمع. لذلك فلكل دولة مساوئها ومحاسنها، والحكم عليها يتحدد حسب الموقع الذي يحتله الشخص، أو الفئة في التراتب الاجتماعي القائم.

يشهد العالم، الآن، ما ينعته بعضنا بانهيار "التفاؤل التاريخي"(13)، أي أنه في الوقت الذي عملت فيه فلسفة التنوير والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، على فتح مرحلة جديدة في التاريخ السياسي امتدت قرنين من الزمان يبدو، من خلال مؤشرات عدة، أن هذه المرحلة استنفذت إمكاناتها فيما يتعلق بالدولة وبالديمقراطية.

أمام انهيار العمل السياسي، وسطوة العوامل الاقتصادية، ولا سيما الاعتبارات المالية، ولاستقطاب الاستثمارات، يفرض الرأسمال المالي شروطاً على الدولة تحت شعار ضرورة إدخال إصلاحات على مؤسساتها الاقتصادية وأجهزتها المالية والإدارية والتعليمية، وعلى اختياراتها الاجتماعية والثقافية.

من بين هذه الشروط توافر ما تسميه المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، القواعد الأساسية المتمثلة في الاستقرار الماكرو-اقتصادي، والاستقرار السياسي، والتوازنات المالية الكبرى، ثم خلق مناخ جاذب للاستثمارات الخاصة، والخارجية منها على وجه الخصوص، وذلك بتحرير الاقتصاد، ورفع المراقبة على الأسعار، والتبادل، والرساميل، ومعدل الرواتب، وإدخال المرونة في علاقات الشغل، وإقامة نظام جمركي غير حمائي يشتغل بشكل ناجع، ونظام جبائي محفز، تخصيص المنشآت الاقتصادية التابعة للدولة، وإصلاح الإطار القانوني والجهاز القضائي، والتخفيف من ثقل الإدارة، واحترام الالتزامات بالسرعة المطلوبة، وإلغاء كل الإجراءات الكابحة للمبادرات الاستثمارية، وتأهيل النسيج الاقتصادي لبناء مقاولات قادرة على المنافسة... إلخ.

هذه هي الوظائف الجديدة التي يتعين على الدولة الآن القيام بها كما تتصورها المنظمات المالية والتجارية والإعلامية المرافقة لحركة العولمة. وليس يهم، بالنسبة للآخذين بهذه التوجهات الجديدة، طوعاً أو بالرغم منهم، أن تكون لهذه الإجراءات القاسية انعكاسات اجتماعية ومضاعفات سياسية؛ لأنه لا أحد يستجيب لشروط اقتصاد السوق من أصحاب القرار، يتوهم بأنه يمكن تحقيق أكثر ما يمكن من مكاسب لأكبر عدد ممكن من الناس، وفي كل الميادين. فكل فكر يقبل بأسس اقتصاد السوق ممنوع عليه "أن تكون له تطلعات شاملة".

صحيح أن قادة العولة اهتدوا، متأخرين، إلى أهمية الحفاظ للدولة على بعض صلاحياتها التقليدية، وتعزيز ما يسمح لها بتوفير شروط الاستقرار السياسي، ولكن دون التنازل عن المبادئ الموجهة لليبرالية الجديدة. وهنا تطرح أسئلة جديدة حول صدقية العمل السياسي، ودور النظام الديمقراطي التمثيلي. هل ما تزال للإرادة الشعبية من خلال الاقتراع والانتخاب دور في تقرير مصير الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى للدولة؟ كثير من الباحثين والمختصين يلاحظون أن الديمقراطية التمثيلية تتعرض للطعن والانتقاد. سواء من طرف تيارات شعبوية لها قدرة كبيرة على تعبئة الناقمين والساخطين من الفئات الشعبية التي تجد نفسها على هامش المجتمع، أو لا يسمح لها المجال السياسي بالتعبير عن أسئلتها ومشاغلها، كما يأتي هذا النقد من المنظمات الكبرى الداعمة لحركة العولمة حين يصبح الرأي الآخر، والقرار المستقل، والإرادة الشعبية الحرة، عوامل تزعج شروطها ومقاييسها، حتى ولو لم تتوقف عن التبجح بشعارات حقوق الإنسان، والاهتمام بالأطفال، والمرأة، والبوادي.. إلخ.

إن هذا الذي يحصل الآن على صعيد السياسة العالمية، وفي ظل نزوع هيمني لدولة لا تؤمن بحدود لسياستها، لم تعد هناك مثاليات كبرى ترتبط بمسألة الدولة، أو التعويل عليها لتحقيق الخير والسعادة لجميع المواطنين. فكل مجتمع يبحث، اعتباراً لشروطه الاقتصادية والسياسية والثقافية المميزة، عن "دولة معقولة". فالانتظار التاريخي للرأسمالية، فرض على كل رجالات الدولة درجة كبيرة من التعامل النسبي مع المطالب المتصاعدة للمجتمعات، ومع الضغوط القاهرة للسوق، وذلك لتجنب الأخطار المهددة للاستقرار، والأشكال المختلفة للعنف الناتجة عن الفوارق الصارخة التي يولدها الاقتصاد المعولم.

اعتباراً لذلك تطرح رهانات كبرى على دول مثل الدول العربية، ولا سيما الفقيرة منها وغير النفطية. فالمجتمع ما يزال في حاجة إلى دولته.ولا شيء اكتمل بالشكل المطلوب، مؤسسياًّ، وسياسياًّ، وثقافياًّ. فوظائف الرعاية، والتعليم، والتنظيم، والتأطير... إلخ ما زالت لم تستنفد بعد. والدعوة إلى تقليص دور الدولة وانسحابها من المجهودات التنموية والتربوية والاجتماعية، دعوة تحتمل مخاطر لا أحد يمكنه أن يتكهن بمداها وبمضاعفاتها. وليس المرء في حاجة إلى نصائح قادة العولمة، أو إلى مشاريع خارجية حتى يهتدي، إن كانت تحركه فعلاً إرادة حقيقية، إلى الأدوار التاريخية للدولة، شريطة إصلاح مؤسساتها، ودمقرطة حياتها السياسية، وتنمية مجتمع مدني مستقل، والاعتراف بحقوق المساواة والعدالة، والتوزيع المعقول للثروة الوطنية، والإعلاء من شأن المرأة والشباب، والانفتاح الدائم على الجديد، وعلى العالم.

4- وإذا الدولة عجزت...

مفارقة عجيبة تلك التي تعرفها الدولة الوطنية في العالم العربي: تضخمت بعد الاستقلال، بشكل مهول، على حساب المجتمع، وانتفخت أجهزة المراقبة لديها بكيفية شلّت المبادرات المستقلة، والحرة، وقدمت نفسها وكأنها الضامنة للحقوق والمصالح العامة، والمدافعة عن كرامة "المواطن" -دون الإقرار الفعلي له بصفة المواطنة- والحامية لصحته وأولاده ومستقبله، والمحاربة للعدو الذي يحتل أرضه... إلخ. إلا أنه منذ أواسط الثمانينات إلى الآن، اضطرت هذه الدولة إلى المراجعة القَسْرية لبعض التزاماتها. ذلك أنه مع ثقل المديونية الداخلية والخارجية، وفشل النماذج التنموية السابقة، وسقوط الشعارات التعبوية التي تمكنت من الاستمرار لبعض الوقت، وعرقلة أي جهد توحيدي أو حتى تعاوني عربي-عربي... إلخ، تطالب الدولة الآن، من مواطنيها ألاَّ يُعوِّلوا عليها في كل شيء. وأحيانا حتى على صعيد الأمن الشخصي والجماعي. تطالب المواطن بدفع كل ضرائبه، لكـن أن يتكفل، هو، بصحته، وبنقله وبسكنه وبتعليم أبنائه وبتشغيلهم وبحمايتهم. كل ذلك تحت تبريرات من نوع: ضغط "التوازنات المالية"، ونقص الموارد، وتضخم القطاع العام وانعدام مردوديته.

ولأن هذه الدولة تضخمت على حساب المجتمع، فإنها عملت طيلة أكثر من أربعة عقود على التشويش على أشكال التنظيم المحلية، وأنماط التضامن والتعاضد، والصيغ التعاونية المختلفة التي عرفتها المجتمعات عبر تاريخها، خوفاً من نموها وتحوّلها إلى سلطات قد تفرز بؤر اعتراض أو تململ ممكن. وحاصرت بموازاة ذلك، التنظيمات السياسية، ومنعتها أو دجّنتها، وحدّت من انتشارها لتحتل، هي، كل المجال العمومي، وتفرض الرأي الوحيد، وأفكار الزعيم الوحيد، والإيديولوجيا الوحيدة... إلخ. حتى ولو تركت هوامش محسوبة لحرية الرأي أحيانا، هذا في الوقت الذي لا تكف فيه عن التبجح بالديمقراطية، وسلطة الشعب، وبالتعددية، وحرية الرأي والتنظيم!

جو الاحتقان والرقابة دفع بعناصر من النخبة السياسية والثقافية إلى إطلاق مبادرات ذات أهداف مدنية، وذلك بتأسيس جمعيات ومنظمات وهيئات تنشط في المجالات الاجتماعية والثقافية والإنسانية، التي أسقطتها الدولة من حساباتها أو كانت تحتاط منها.

فانغلاق المجتمع السياسي على نفسه، حكومات وأحزاباً، شجع هؤلاء الناشطين على الدفع ببعض فئات المجتمع إلى التعبير عن نفسها، والمطالبة بحقها في أخد الكلمة، والعمل على تنظيم شؤونها في استقلال نسبي عن تدخل أجهزة الدولة.

المثير في هذه الظاهرة، أن الخطاب عن المجتمع المدني، في بعض الساحات العربية، غدا متضخماً قياساً إلى حجم النشاط المدني ومردوديته، وتحول الحديث عنه إلى موضوع للمزايدات والمساومات، وذريعة للاستقطابات السياسية. لكن هل يمكن للعمل المدني تحقيق نتائج ملموسة دون تحليل لآليات اشتغال المجتمع وفهم مكوناته وعاداته؟

لا شك أن الدولة كانت -وما تزال- همَّاً مركزّياً لكل الفاعلين في التاريخ، إما من زاوية التمكن في مقدراتها وأجهزتها، وإما من منطلق الحد من جبروتها وسلطتها، لدرجة أن التأريخ للدولة كثيراً ما تداخل مع تاريخ الحضارات والأمم. وهل بالوسع الاهتمام بالمسائل الحضارية من دون الإحالة على الدول التي كانت وراء إنتاجها ورقيّها، أو انحسارها واندحارها؟

وفي ضوء التضخم الخطابي اللافت الذي يصاحب التحولات الجارية في الاقتصاد والتواصل، وما يفترضه من إعادة النظر في مفاهيم الحدود، والسوق، والمقاولة، والعمل، والسيادة، تظهر موضوعية الدولة وكأنها تمثل قطباً جاذباً للمؤرخين والسياسيين ورجال الاقتصاد. ففي هذا السياق التاريخي العالمي-الموسوم بالأزمة ومحاولات إعادة البناء- أصبحت الدولة قضية كبرى في الحقل التاريخي. فالأزمة الاقتصادية التي تشهدها أكثر من منطقة في العالم، يُنظر إليها وكأنها أزمة دولتية، واستفحال الانحسار الاقتصادي كثيراً ما ينظر إليه وكأنه تعبير عن أزمتها، وعن عجز أجهزتها عن مواكبة اختلالات الاقتصاد، وضعف آليات اشتغاله. وهكذا بدت الدولة وكأنها مشكلة، بل قضية مزعجة. وبقدر ما هي ضرورية، أصبحت في الوقت نفسه، قياساً إلى الضغوط الجديدة، ثقيلة، وغير متكيفة مع التحولات العميقة التي تشهدها المجتمعات.

لا يتعلق الأمر بإعادة هيكلة إدارية ومالية لجهاز الدولة، وهي عملية ضرورية للحفاظ على دورها التنظيمي على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، وإنما بتحديد وظائفها وأدوارها الجديدة. ونجد من يطالب بكل بساطة بتحجيم هذه الأدوار، وتقليص فعاليتها، وانسحابها من مجالات حيوية عدة. وكأن من ينعت بالعولمة معناه الحد من سلطات الدولة، وتطويق تحركاتها لمصلحة المبادرة الحرة والمنطق المتموج للسوق. ويبدو أن الأمر يعود إلى مسألة فهم مرحلة انتقالية من نمط للتراكم إلى آخر، يفترض إعادة هيكلة للعلاقة بين السياسي والاقتصادي، بين العدالة وإنتاج الخيرات.

غير أن الأمور ليست بالسهولة التي تظهرها بعض الكتابات المتحمسة للمنطق الاقتصادي الجديد. فالدعوة إلى تحجيم دور الدولة، في مناطق بعينها، يصعب تعميمها على العالم، على اعتبار أن للدولة تاريخاً يتحكم في نمو وتطور بلدان عدة في العالم، لدرجة أن بلداناً محددة تنظر إلى هذه المناقشة وكأنها لا تعنيها في شيء حتى ولو خضعت لكل أصناف الضغوط. فالنموذج الفرنسي للدولة يصعب فصله عن مفهوم الأمة، وعن الاقتصاد والمجتمع، إذ العلاقة بين المواطنة والجنسية -في الثقافة السياسية الفرنسية- تمثل تكثيفاً رمزياً لاحتواء الدولة من طرف الأمة.

إذا كانت الدولة، عموماً، في حاجة إلى إعادة تحديد لأدوارها ومجالات تدخلها، فلا يعني ذلك اقتصارها على التدبير الإداري، أو الانسحاب إلى الثكنات ومراكز الشرطة والدرك، وترك المجال لهذه الفصيلة الجديدة من المبادرين يتصرفون بمقدرات الأمة. كما أنه لا يجوز، بالمقابل، اختزال السياسة إلى الفعل الإداري، فما زالت للدولة وظائف تاريخية في أكثر من بلد. ففي زمن معولم ومتشذر، على الدولة أن تتجنب انفجار الهويات، وأن توفر شروطاً مؤسسية لتعزيز الروابط الثقافية والاجتماعية. فالحرب في يوغوسلافيا السابقة نموذج صارخ على التفجير العنيف للهويات، والتراجيديات الجزائرية مثال مؤلم على انتقام شرائح اجتماعية من العسكرة القاهرة للمجتمع والدولة. والمأساة العراقية بفعل الاحتلال الأمريكي مؤشر على خطورة ما تنتظره المنطقة من تطورات وارتباكات لا أحد يمكن استشراف أبعادها. ثم هل يجرؤ "الفاعلون الاقتصاديون الجدد" ومن معهم من "المنظّرين السياسيين" على مطالبة الدولة الصينية بالانسحاب من دورها التنظيمي والتنموي حتى ولو كانت تحت إدارة حزب شيوعي؟ كيف سيكون مشهد المنطقة لو ضغط الرأسمال العالمي على الدولة الصينية لكي ترفع سلطتها عن بليون وأربع مائة مليون من البشر؟ ولماذا يستمر تدفق الرساميل على الصين سواء من طرف المؤسسات المالية العالمية، أو من أمريكا، حتى لو لم تستجب الصين للضغوط المتعلقة بحقوق الإنسان، أو بالحقوق السياسية والثقافية؟

على رغم هيمنة الفكر الوحيد على حركة العولمة، فإن استراتجييها يعرفون كيف يدخلون بعض النسبية على مطالبهم كلما تعلق الأمر بـ "المصالح الحيوية". ولهذا السبب، يعلن أحد كبار المضاربين الماليين على الصعيد العالمي "جورج سوروس"، خشيته من توسع آليات اقتصاد السوق على جميع المستويات، وأن يؤدي ذلك إلى تدمير المجتمعات. فهو يرى أن عملية خلق أسواق مالية لا تراعي الطبيعة الخاصة للمال. وكأن الحركية التي ينتجها ستفضي، لا محالة، إلى إيجاد التوازنات الضرورية. هذا المنطق، في نظر سوروس، هو ما يمثل خطراً حقيقياً على العالم؛ لأن للمجتمع المفتوح الذي يدعو إليه "الفاعلون الجدد"، بما يفرض من إعادة تحديد دور الدولة في اتجاه التقليص من تدخلها، يتعرض -أي المجتمع- إلى خطر الدوغمائية الاقتصادية، والأصولية، والفوضى. لأن التنافس الشمولي تطور لصالح الرأسمال، وعلى حساب العمل والاستثمارات المنتجة. والنتيجة هي أن غالبية سكان العالم لا تستفيد من الاقتصاد العالمي، حتى ولو أننا نشهد اليوم ازدياداً مطّرداً للثروة.

ومع ذلك، فما زالت للسياسة هوامش للمناورة. وما زالت للدولة وظائف لم تستنفدها بما فيه الكفاية خصوصاً في مجتمعات عوّدتها دولها على أخلاق الحَجْر والوصاية. لا شك أن مضموناً جديداً للدولة العربية يفرض ذاته. بعد عقود من الاستبداد الداخلي، وقياساً إلى ما يجرى عالمياًّ، لكن الدعوة الساذجة إلى الحد من الأدوار الاجتماعية والتربوية للدولة على أساس منحها أبعاداً ومضامين تحررية وتنويرية، سيما في أوضاع هشة ومتوترة، تخفي وراءها دعوات للفتنة لا أحد يدرك كيف ستكون مضاعفاتها وتداعياتها. وبقدر ما يتعين استنكار التضخم المهول للدولة على حساب المجتمع، يجب الاحتراس من مخاطر "لغة السوق"، وإعطاء الأفضلية للخاص على العام، أو الدخول في عملية "إصلاح" سياسي سطحي تحت عنوان "الديمقراطية" أو إعادة الاعتبار للمرأة وللمجتمع المدني.. إلخ وإفراغ هذه المبادئ من مضامينها التاريخية.

5- خطاب الديمقراطية: حدود والتباسات

للكلمات أهمية خاصة في النظام الديمقراطي، منذ اليونان إلى الآن. وتتعرض الديمقراطية للتهديد كلما تعرضت دلالات الألفاظ للفساد والتشويه. لهذا يعمل الديمقراطيون، دوماً، على الدفاع عن المعاني الجوهرية للكلمات، بمقتضى الوعي بأن التنازل عنها يتضمن تخلياً عن ماهيتها، وقبولاً بتحويلها إلى ديمقراطية شكلية، لا روح فيها ولا حياة. غير أن المهتم بدلالات الكلمات -في الديمقراطية- ليس ديمقراطياًّ بالضرورة؛ لأن أساس الديمقراطية، فضلاً عن أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، يتمثل في الشفافية والإعلام والاستشارة، والمناقشة العمومية وأخد الكلمة بحرية، وبعبارة أخرى ممارسة حرية النقد والرقابة الشعبية.

وكثيراً ما يقع "المتكلمون الجدد" عن الديمقراطية في السياق العربي في التباس كبير بين الديمقراطية والليبرالية السياسية. وإذا كانت هذه الأخيرة عبارة عن نظام سياسي يضمن إجراء انتخابات "حرة ونزيهة"، ويفترض دولة للحق يفصل فيها بين السلطات، ويحمي الحريات الأساسية، فإن جماع هذه الشروط، في واقع الأمر، يحيل على "الليبرالية الدستورية" التي قد لا تعبر عن الاختيار الديمقراطي الذي يستدعي مراعاة حقوق تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لذلك نلاحظ ازدهاراً للخطاب الليبرالي، ذي النزعة الدستورية، وتراجعاً للديمقراطية، حتى داخل بعض البلدان الغربية التي جربتها، وما تزال فئات عدة تعمل على تطويرها وتحسين أدائها.

ومع ذلك، كثيرة هي المفاهيم التي تجد نفسها في حاجة إلى إعادة صياغة، ولا سيما في ضوء ما يعرفه العالم من تقلبات تراكب حركية العولمة. تنتصب أسئلة حول نجاعة الفكر السياسي، ووظائف الآليات الديمقراطية، وأهمية الفاعل السياسي في توفير شروط ملائمة لاتخاذ وتنفيذ برامجه وتدبير الشأن العام. بدأ هامش المناورة يضيق يوماً بعد يوم نظراً للضغوط المتنوعة التي باتت تحاصر العمل السياسي، بل بدأت الهوّة تتعمق بين عالم الاقتصاد ومؤسسات اتخاذ القرار السياسي.

اعتباراً لذلك كيف يمكن فهم الحديث المتضخم الآن عن الإصلاح السياسي أو استنبات الديمقراطية في المجال العربي؟ وما هي التمظهرات الجديدة للعمل السياسي؟ وكيف يمكن الانخراط في إيقاع العالم دون تقديم تنازلات اجتماعية وثقافية كبرى؟ وما حظ الديمقراطية التمثيلية في مقاومة تدخلات فوق دولية تشوش على آليات اشتغالها، بل على عوامل مشروعيتها؟

أسئلة عديدة تعبر عن قلق فعلي يساور الديمقراطيين حول واقع الديمقراطية، ومستقبلها، في أكثر من جهة في العالم، بما فيها البلدان ذات التقاليد الديمقراطية، فما بالك في حالة الأنظمة الاستبدادية. ذلك أن مفاهيم الميثاق الاجتماعي، والتقدم، والإصلاح، والعمل الإرادي.. إلخ تبدو في حاجة إلى إعادة تحديد في ضوء تنامي "الرأسمالية السلطوية" بفعل العولمة.

لا شك أن هناك مصادر متعددة ومتنوعة للثقافة الديمقراطية، وذاكرة تعددية للديمقراطية يصعب، في ضوئها، فرض نموذج جاهز. لكن قلقاً حقيقياً بدأ ينتشر في الأوساط الديمقراطية في شأن الحقوق، والرأي العام، والتمثيلية، أو على صعيد التحكم في الصراعات، واقتراح أساليب جديدة لتدبير قواعد العقد الاجتماعي..إلخ. فالديمقراطية ليست مكسباً نهائياًّ لأيٍّ أحد كان؛ لأن الديمقرطيين هم الفاعلون الحقيقيون للديمقراطية، شريطة عدم السقوط في اعتبارها مجرد واجهة لحماية التقنية والرأسمال، أو لتبرير "الأوتوقراطية الليبرالية" والتقليد. البادية للعيان والصادمة للعباد، لا تتمثل في الاقتصاد والاجتماع فحسب، بل تتمثل في التفاوت في المشاركة والاقتدار أيضا. لذلك يصعب إعادة النظر في العقد الاجتماعي دون أفق جماعي، أو الدخول في مشروع إصلاحي دون تنشيط سياسي للديمقراطية في إطار تمثيلي حقيقي.

ومن المؤكد أن المعطيات العالمية الجديدة تفترض إعادة طرح سؤال الديمقراطية. لسببين اثنين على الأقل. يتمثل الأول في تحريك الحياة السياسية، وإطلاق الحريات للتنظيمات الحزبية والمدنية، ووضع تعاقد تأسيسي يؤطر الانتخابات وآليات التداول على السلطة. وأما الثاني فيتجلى في هيمنة "التقنيين" على مجالات اتخاذ القرار السياسي. فإذا كان النظام الديمقراطي يتمثل في مجموع القواعد والقوانين والمؤسسات المعبرة عن إرادات جماعية، فإن دور التقنيات والتقنيين بدأ يطرح أكثر من سؤال في تدبير النظام الديمقراطي، لا سيما وأن عقلانية جديدة بدأت تتكون بطريقة تتنافى مع مبدأ التمثيل، وتكشف عن التباين الواقعي الصارخ بين الخطاب التقني وعيش المواطنين. وهذا ما يدفع المرء إلى القول بوجود أزمة مشروعية، وإلى الانتباه إلى الهشاشة التي بدأت تظهر على النظام الديمقراطي، وعجزه عن حل مشاكل التشغيل والتربية والمالية العمومية والسكن.. إلخ، الأمر الذي ولّد نوعاً من الكفر بالخطاب الرسمي، سواء كان من وضع سياسيين محترفين، أو من إملاء خبراء تقنيين. مما يطرح قضية جوهرية تتعلق بأزمة المرفق العام، والمصلحة العامة، وبالتبرم من سلطة العقلانية التقنية على مقدرات السياسة خصوصاً في البلدان الغربية، وما ينجم عن ذلك من مخاطر على الديمقراطية، وعلى مسألة التمثيلية واتخاد القرار. صحيح أن لا وجود للحقيقة في الديمقراطية. فهي بقدر ما تنظم المجال العمومي تسهم كذلك في تفكيك الحقل السياسي وما يحمله من صراعات. فاللعبة الديمقراطية تخلق مجموعة من الممكنات من دون أن تعرف ما الممكن القابل للتحقيق بالضرورة، إذ ليست هناك قواعد مطلقة في هذا الشأن؛ لأن هناك حالات تتوقف فيها المناقشة، ويتأزم فيها الخطاب السياسي، ولا سيما أن السياسة لا تستجيب دائماً لما هو عقلاني. وقد أنتجت عمليات تعميم الممارسة الانتخابية في بعض البلدان، أو اللجوء إلى استخدام تقنيين في بلدان أخرى، ردود أفعال أغلبها سلبي لا يساعد على تعزيز العمل السياسي الديمقراطي منها شعور شرائح واسعة من المجتمع بالغربة عن المجال السياسي المركزي، وعزوف عدد كبير من الناس عن المشاركة في العمليات الانتخابية.

فهل يمكن الدخول في تنفيذ إصلاحات من غير مشروع إصلاحي يدرك تعقد الواقع العربي المتميز بالاستبداد المركب، والفقر والأمية، وسيطرة الثقافة الدينية السطحية، ويعي أبعاد جدلية الداخل والخارج، ويفهم مزالق الديمقراطية مع فئات غير ديمقراطية، ويراعي التحولات الملتصقة بآليات التمثيلية؟

******************

الهوامش:

*) كاتب وأكاديمي من المغرب.

1) - Ali Merad, le Réformisme musulman en Algérie, de 1925 à 1940, Ed, Moutan et co, Paris, Le Haye, 1967, PP 29-30.

2) - Ali Merad, Islah, Encylopedie de Islam, TIV, P14.

3) - Ali Merad, Islam contemporain, Ed, P.U.F. Paris, 1984, PP19-20.

4 )- علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، دار التنوير، بيروت، 1985م، ص15.

(5 - عبد الإله بلقزيز، الخطاب الإصلاحي في المغرب، التكوين والمصادر، دار المنتخب العربي بيروت1997م، ص15.

6) - Alain Roussillon; Réforme sociale et identité, essai sur l’émergence de l’intellectuel et champ politique modernes en Egypte, Ed, La Fennec, Casablanca, 1988, PP 85-86.

7) - John Rawls, Justice et démocratie, Ed, du Seuil, Paris, 1998, P 243

8) - Jean Noel Férrié. Réformisme, renaissance et contingence entre réforme sociale et mouvement national, sous la direction d’Alain Roussillon, Ed. CEDEJ, Le Caire, PP189-190.

(9 - عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 1981م، ص7.

10) - عبد الله العروي، المرجع نفسه، ص7.

11) - Jacques Julliard, Réformisme, Encyclopedia Universalis, T19, PP678-679.

12) - Blandine Barret-Krigel, Etat et ses esclaves, Ed. Payat, Paris, P22.

13) - Alian Minc, L’ivresse démocratique, Ed. Gallimard, Paris, 1995, P9.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=210

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك