الإسلام وضرورة الخروج من دائرة الفتنة: حظوظ المراجعة
الإسلام وضرورة الخروج من دائرة الفتنة: حظوظ المراجعة
تركي علي الربيعو*
في خطابه أمام اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي قال السيد عبد الرحمن اليوسفي رئيس الوزراء المغربي السابق في سياق الأحداث المؤسفة في الدار البيضاء التي شجبها بالمطلق: في الدار البيضاء ضرب المغرب وصدم المغاربة، ولكن هول الصدمة لن يمنع أن تقوم الأحزاب المغاربية بالمراجعة الضرورية التي بدونها قد تتكرر أحداث السادس عشر من مايو/أيار في الدار البيضاء، شرط ألا يجري تبرير الإرهاب والإجرام بحق المواطنين الأبرياء، أو العثور على دوافع موضوعية كما يقول اليوسفي، إذ ليست هناك أية شروط موضوعية تبرر الإرهاب، فمن يبيح لنفسه إراقة دماء الآخرين هو كالذي سمح لنفسه بامتلاك سلطة محاسبة الإنسان على معتقداته وإيمانه، فيكفّر من يشاء وينزّه من يشاء(1).
إن الخروج من دائرة الفتنة كما يرى اليوسفي يقتضي القيام بمراجعة ضرورية، وبخاصة من تلك التيارات السياسية التي عزلت الدين واتكأت عليه، وظلت مشدودة إلى ما يسميها منتصر الزيات في كتابه الجديد "الجماعة الإسلامية:رؤية من الداخل، بـ(النظرية التكفيرية) التي تقوم على تكفير الحكم وأعوانه والمجتمع(2). مراجعة من شأنها أن تطرح على بساط البحث مستقبل الحركات السياسية الإسلامية التي أباحت لنفسها استعمال سلاح الدين في السياسة سعياً وراء مكاسب انتخابية.
على مدى عقود عدة، وبخاصة في العقد الأخير من القرن المنصرم وبداية الألفية الجديدة، تعالت الصيحات من أجل مراجعة حقيقية لدور الدين في السياسة وكذلك دور السياسة في استغلال الدين أو ما سمّاها رضوان السيد بـ"استخدامات الإسلام" التي تكاثرت في الآونة الأخيرة من أجل تحقيق مكاسب سياسية، سواء من قبل قوى المعارضة أومن قبل قوى الحكم التي تدّعي الشرعية أو تلك التي تشعر أن شرعيتها منقوصة فراحت في العقود المنصرمة الأخيرة تكثر من المدارس الدينية ومن معاهد تحفيظ القرآن الكريم لإظهارها بصورة القيم على الدين وحامي حماه. وفي هذا السياق دعا مثقفون وحزبيون عرب مشغولون بهواجس إيديولوجية وشواغل سياسية ظرفية جامحة إلى إعادة الاعتبار للعامل الديني بعد أن جرى إهماله من قبل قادة التيار القومي والتقدمي الذين ظنوا أن لا ثورة ولا نهضة ما لم تتم تصفية الحساب مع القطب الآخر، وذلك على حد تعبير عالم الأديان "مرسيا إلياد"، وذلك انطلاقاً من انطباع خاطئ وقياسٍ خاطئ على النموذج الأوروبي الذي يعشش داخل خلايا دماغ المثقف العالم ثالثي على حد تعبير المثقف والمناضل والطبيب المارتنيكي "فرانتز فانون" الذي ناضل في صفوف الثورة الجزائرية والذي يستحق كل هذا التقريظ من إدوارد سعيد كنموذج للسرديات البديلة المناهضة للاستعمار التي يقدمها المثقف العالم ثالثي، ففي مقابلة حديثة مع كريم مروة المناضل والمفكر والمحاور كما جرى تقديمه، قام مروة بتجديد اعتقاده الذي طالما أهمل، بأن هناك "ضرورة لإعادة صياغة موقفنا من المسألة الدينية، ليس في جانبها الفلسفي البحت، وإنما في وجهها الاجتماعي ـالسياسي"، وذلك انطلاقاً من أن جمهور المؤمنين جمهور أساسي في عملية التغيير لا سبيل إلى تجاهله، وخصوصاً بعد ما تطورت أطره التنظيمية (3).
الموقف السابق من الدين والمسألة الدينية يندرج كما يرى مروة في إطار "مهمة فكرية جديدة" تندرج في المتن من مساعيه إلى "صياغة نظرية ثورية لحركة ثورية جديدة" على حد تعبيره، طال انتظارها، لكنها بقيت شاهداً على الأزمة المستفحلة التي تمر بها الحركة الاشتراكية والفكر اليساري عموماً كما يعترف مروة في محاوراته، ولكن دون أن يتمكن هذا الفكر وأصحابه على الخروج من المأزم (المأزم في اللغة هو الطريق الضيق بين جبلين). فعلى طول المسافة الممتدة في العقود المنصرمة من القرن الأخير وأقصد القرن العشرين لم يمل ولم يكل الخطاب التقدمي العربي من التبشير بالنظرية الثورية وبالموقف الثوري من الدين والتراث عموماً، وما يؤسف له أن هذه التبشيرية لم تتجاوز حدود الخطابة والمزيد من الوعود الخلبية والتي بينت أن هناك إرادة إيديولوجية تتحكم في هذا الخطاب وتستبعد كل إرادة معرفة على حد تعبير ميشيل فوكو(4)
إن كل ما نخشاه هو أن تتوه المراجعات للظاهرة الدينية عن طريقها، لتلج إلى الثقب الضيق لاستخدامات الإسلام، وبذلك نتوه عن عملية الإصلاح المطلوبة، وعندها ستتكرر أحداث السادس عشر من مايو دون أن تجد حلاً لها وأحداث مماثلة أخرى على طول الساحة العربية وعرضها وهذا ما يُحذِر منه اليوسفي؟.
الصراع على الإسلام:
يمكن القول، إنه -وعلى مدى ربع قرن من الزمان- ظل رضوان السيد نموذجا للباحث النشيط، يحارب على جبهتين، على جبهة التأويلات الضيقة والأحكام الجاهزة والمسبقة والتي تستمد رؤاها ومرجعيتها، من ثقافويات سائدة، ينقسم العالم بموجبها إلى دارين وفسطاطين وملتين، وإلى جبهات حرب وصدام، الأولى تعلن عن نفسها بصيغة الجبهة العالمية لمكافحة الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة، في "حربها العادلة " كما جاء في البيان الستيني الذي وقّعه ستون مثقفاً أميركياً(5)، والثانية والتي تأتي من كهوف ومجاهل أفغانستان والتي تعلن عن نفسها باسم "الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين" والتي تجعل من هذا الجهاد فرض عين على كل مسلم؟ وأما الجبهة الثالثة التي يناضل عليها رضوان السيد، فهي جبهة ثقافة المراجعة وذلك بهدف وقف التراجع الذي يسم الحياة الثقافية والسياسية العربية، وبالتالي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة بعد زلزال الحادي عشر من أيلول كما يصفه، الذي زلزل الأرض من تحت أقدام العالم الإسلامي، والذي كان بكل معنى الكلمة "ضربة كبيرة لنا – كما يقول رضوان السيد- أمام العالم وأمام أنفسنا" ضربة هزت الراكد والمسكوت عنه، فحركت صوراً نمطية عنا وعن الإسلام، كما حركت لدينا أيضاً ردود فعل نمطية(6) من هنا أهمية ثقافة المراجعة، التي يراد لها، أن تزحزح هذه الصور النمطية في الجانبين، وتفسح المجال لثقافة نقدية والأهم لإرادة معرفة بالذات وبالعالم.
إن ما يقلق رضوان السيد في كتابه الصادر حديثا والموسوم بـ"الصراع على الإسلام" هو اختطاف الإسلام من الأصولية الإسلامية ومن قبل الغرب عموماً، الذي يريد إسلاماً على هواه، وإصلاحاً على هواه وكما يتصوره صحافيون مبهورون بالعولمة مثل توماس فريدمان في حواره مع الشيخ القرضاوي، ومن قبل مراكز بحثية، تزود كل خبراء الشرق الأوسط بصور نمطية عن إسلام تتملكه جرثومة تخلف أبدي على حد تعبير بريان تيرنر في تعليقه على المآلات الضيقة التي تقودنا إليها بعض الدراسات الاستشراقية عن الإسلام، وغير قابل للتجديد والإصلاح، ويعيش على مسار تاريخي طويل، عقدة النقص تجاه الغرب كما يذهب إلى ذلك برنارد لويس، وأصبح مرجعاً ومرجعية لمنظري صراع الحضارات مثل هنتغتون، والذي يستعير من لويس معظم بواعث التعبير عن أطروحته، خاصة وأن كتابه الأخير "الإسلام والحداثة، ما الخطأ الذي حصل؟".
يلمح رضوان السيد سياسة الهروب إلى الأمام، التي يمارسها الخطاب العربي المعاصر، والتي تمهد القاع إلى تجيير الإسلام لصالح الأصوليات المتصارعة، وما يقلقه أيضاً، أن الخطاب القومي العربي الذي يرتد إلى حالة دفاعية في موقفه من الغرب والعولمة بالأخص، يستعير معظم دوافع التعبير عن نفسه من الخطاب الأصولي المسكون حتى لبابه بـ"فخ العولمة" و"فخ الهويات القاتلة" وهذه حالة نكوصية أخرى لا تبشر بتجاوز ما يطمح إليه رضوان السيد.
يكثر رضوان السيد من الأسئلة والأجوبة معاً، في سعيه إلى الخروج من "مأزق الأصولية" ومن "أزمة فهم الإسلام وحضارته"(8) حيث يسود نزوعان الأول يؤكد على أن الإسلام دين أصولي، قوي وعنيف منذ القدم، والثاني أن النصوص المقدسة مغايرة للتاريخ، وهذا ما يفسر إخضاع القرآن للدراسات التاريخية بهدف تجاوزه وهذا ما يغري الكثيرين. من هنا فإن المطلوب هو الخروج من النفق الذي قادتنا إليه الأصولية والعاجزة كما يصفها، والقيام بإصلاح ديني من ضمن نهوض ثقافي عربي إسلامي شامل، والتأكيد على مبادرة الإصلاح، وإحداث تغييرات في الشأنين الاقتصادي والسياسي.
في المراجعات الجديدة للخطاب الإسلامي:
في كراسهما "عولمة الحركة الإسلامية الراديكالية: الحالة المصرية" والصادر ضمن سلسلة "كراسات استراتيجية" عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام، يرى كل من جهاد عوده وعمار علي حسن رأياً مخالفاً للسائد في تناول الحركة الإسلامية، فمن وجهة نظرهما أنه رغم كثرة ما ينشر ويذاع حول الحركة الإسلامية الراديكالية في مصر، فإن التحقق من المعلومات التي ترشح جراء ذلك ليس أمراً يسيراً، فالمعلومات يغلب عليها التحيز لأنها صادرة عن فرقاء يريد كل منهما أن ينال من الآخر، أضف إلى ذلك أن الكثير من الدراسات التي تناولت أنشطة الحركة الإسلامية دارت حول "المرجوح" والتعبير لهما ولم تقطع بيقين، خاصة وأن الكثير من الأسرار لا تزال مدفونة(9).
ما يلمح إليه الباحثان، هو غياب إرادة المعرفة في هذا المجال وحلول إرادة الإيديولوجيا، وهذا ما انتبه إليه الباحث الفرنسي جيل كيبيل في وقت مبكر عندما دعا الباحثين في الحركات الإسلامية المعاصرة إلى خلع نظاراتهما السميكة وإحلال أخرى محلها تسمح برؤية ما لا يريدون رؤيته. ولكن واقع الحال يشير إلى أن أغلب الباحثين أدمنوا الرؤية الكليانية للإسلام السياسي التي تصفه بالتخلف والجمود التاريخي وغياب الحراك داخل هذه الحركات الأصولية. من هنا مصدر الاعتراض عند عدد من الباحثين الجدد في مصر على الأبحاث التي تطال الحركات الإسلامية والتي هي في أغلبها دراسات انطباعية. من هنا يمكن التمييز داخل الخطاب الفكري الذي يطال هذه الحركات، بين تيارين: الأول ويمثله كل من رفعت السعيد في مواقفه الإيديولوجية المتشنجة من ما يسميه ب "الإسلاموية"، ومن فؤاد زكريا وبالأخص كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل" الذي استفاض فيه بالتهكم على الإسلاميين ولباسهم وسلوكهم المتخلف...الخ، كذلك سعيد العشماوي في كتابه عن "الإسلام السياسي" الذي يندرج في إطار رؤية رسمية وإيديولوجية للحركات الإسلامية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ما يجمع هذا التيار هو الإدانة الدائمة للحركات الإسلامية والأحكام المسبقة الجاهزة التي تقوم على نفي الآخر، وهذا ما يتنافى مع الدعوة إلى الإصلاح والديمقراطية حيث الديمقراطية بأبسط تعريف لها هي الاعتراف بالآخر. أما التيار الثاني فهو يسعى إلى أن ينحي جانباً إرادة الإيديولوجيا لصالح إرادة المعرفة مع أن إرادة الإيديولوجيا تأبى ألا تكون الحاضر الغائب. وهذا التيار يتمركز أغلب باحثيه في إطار مركز الدراسات الاستراتيجية للأهرام، ويجد تعبيره في تقرير "الحالة الدينية في مصر" في جزأيه(10)، الذي أشرف عليه وحرره نبيل عبد الفتاح، ويعبر عن هذا التيار مجموعة من الباحثين الجدد، وأشير إلى نبيل الفتاح وضياء رشوان وجهاد عوده وعمار علي حسن ورفعت سيد أحمد صاحب كتاب "النبي المسلح" وعمرو الشوبكي. وحده نبيل عبد الفتاح يثير إشكالاً إيديولوجياً وحضوراً استشراقياً في قراءاته المتواترة في كتاباته المتلاحقة، وأقصد كتبه "الوجه والقناع"، و"المصحف والسيف" و"النص والرصاص"، ولكنه على الرغم من تحيزه الإيديولوجي إلا أن ما يميزه هو سعيه للانعتاق من أسر الخطاب الإيديولوجي التقليدي وأحكامه الجاهزة، مركزاً لاحقاً على ما يسميه بـ"العنف الدولتي"(11) الذي هو عنف أعمى لا يمهد لا للمصالحة ولا للحوار.
كما أسلفت، فإن كتابات هذا التيار تسعى إلى الانعتاق من الأحكام الجاهزة، كذلك الإيديولوجيات الاقصائية السائدة، وأن تكون بآن محكومة بإرادة معرفة، وفي هذا السياق فهي ترصد حراكاً داخل خطاب الإسلام السياسي يقطع مع تهمة الجمود والسكونية التي يَسِمُها بها التيار الأول. وأن هذا الحراك سابق على الحادي عشر من أيلول، وهو بمثابة نتيجة للهزائم الكبرى التي عانتها هذه الحركات أمام الدولة، وبالأخص "الجماعات الإسلامية" ثاني أكبر التنظيمات الإسلامية في تاريخ مصر الحديثة. فثمة تحول يشي بتحول الجماعة كما يرى رفعت سيد أحمد في الكتاب المشترك عن "مستقبل الحركات الإسلامية، 2005" من جماعة دينية منغلقة إلى جماعة دينية سياسية منفتحة، تطرح رؤى إصلاحية وتطالب بالحوار(12)، وهذا التحول كما أسلفت سابق على الحادي عشر من أيلول. يقول رفعت سيد أحمد: (إن تحولاً بنيوياً رئيسياً في "طبيعة الجماعة" قد حدث، وأن مراجعة حقيقية وكاملة في أطروحات الماضي لهذه الجماعة، قد تمت على امتداد السنوات الخمس السابقة وأنها كانت جادة، وواعية في الوقت ذاته بالمخاطر العالمية الجديدة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وأنه جرى التخلي عن الأطروحات الصدامية والتكفيرية التي عرفتها هذه الجماعة من خلال الكتب الأربعة التي أصدرتها وهي (مبادرة إنهاء العنف، حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، و"النصح والتبيين في تصحيح المحتسبين")(13).
نحو مراجعة عنيفة لفقه العنف الجهادي:
من وجهة نظر ضياء رشوان وعمر الشوبكي، أن ثمة "مراجعة عنيفة" يعيشها الخطاب الإسلامي، تطول أولاً ما يسمى بـ"فقه العنف الجهادي" وأن هذه المراجعة تمثل كما يرى رفعت سيد أحمد تحولاً جذرياً لا يوافقه عليه البعض، تحولاً من شأنه، أن يرسم مساراً جديداًَ لحركية الإسلام السياسي، خاصة وأن فقه العنف الجهادي الذي اعتمدته هذه الجماعة يمثل مرجعاً لأغلبية الحركات الإسلامية، وهذا ما لا يقره عليه منتصر الزيات الذي يشكك في إمكانية تأثير هذه المراجعة على الحركات الإسلامية الأخرى وإن كان لا يستبعد ذلك(14). من هنا أهمية المراجعة التي يشهد بها كثيرون والتي من شأنها أن تقطع مع الإرهاب لصالح السياسة. وبذلك تمثل أولى الخطوات باتجاه الطريق القويم الذي يقطع مع كل غلو وتطرف.
ثمة قناعة عند الكثير من الباحثين في تاريخية ومستقبل الحركات الإسلامية، وفي مقدمتهم منتصر الزيات في كتابه السالف الذكر عن "الجماعات الإسلامية" أن الحادي عشر من أيلول الدامي شكل حدثاً فارقاً في تاريخ تطور حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وأصبح من الصعب النظر إلى مستقبل هذه الحركات بمعزل عن تداعيات هذا الحدث عربياً وعالمياً، خاصة وأن ثمة عداء أمريكي معلن لهذه الحركات السلمي السياسي منها وكذلك العنيف.
يخص رفعت سيد أحمد حديثه عن مستقبل الحركات الإسلامية بالحديث عن "الجماعة الإسلامية" ثاني أكبر تنظيم في مصر. فمن وجهة نظر سيد أحمد أن تغييراً ملحوظاً طال خطاب هذه الجماعة التي اعتمدت لغة العنف، وأن ثمة مراجعة فكرية دقيقة، يسمها هو بالعنيفة تطال "فقه العنف الجهادي" الذي تعتمده، وهو يعتمد في ذلك على أمرين، على الكتب الأربعة التي تندرج في إطار تصحيح المفاهيم التي أصدرتها الجماعة بعد مداولات طويلة.
من وجهة نظر رفعت سيد أحمد "أن تحولاً بنيوياً رئيسياً" في "طبيعة الجماعة" قد حدث، وأن مراجعة حقيقية وكاملة في كل أطروحات الماضي العنيف لهذه الجماعة، قد تمت على امتداد السنوات الخمس السابقة وأنها كانت جادة، وواعية في الوقت ذاته بالمخاطر العالمية الجديدة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول"(15)، وهولا يكتفي بذلك بل يشيد بأن تحول الجماعة من جماعة دينية منغلقة إلى جماعة دينية سياسية منفتحة، تطرح رؤى إصلاحية وتطالب بالحوار، والتطبيع مع المجتمع بآفاق ورؤى أوسع مما سبق وطرحته في أدبياتها القديمة التي كانت في مجملها أطروحات صدامية ترفض الآخر، وتكفر الحاكم والمجتمع. وهذا ما يؤكده الشوبكي مع بعض التحفظ، فمن وجهة نظره أنه على مدى أكثر من عقدين من الزمان بدأت حركات الإسلام السياسي تشهد تحولات كثيرة نتيجة تغيرات عالمية وإقليمية محلية وفي مقدمتها حدث الحادي عشر من أيلول، لكنه يؤكد على أن هذه التغييرات سبقت الحادي عشر من أيلول بكثير وهذا ما يجمعه مع رفعت سيد أحمد.
والسؤال هو: هل تنجح هذه المراجعة العنيفة كما يصفها الشوبكي بوقف التراجع الذي وسم مسيرة هذه الجماعة والجماعات الإسلامية الراديكالية بوجه عام؟ وهل يصلح هذا التحول في مسيرة الجماعة من التكفير إلى تصحيح المفاهيم لأن يكون مدخلاً للبحث في مستقبل هذه الحركات.
من وجهة نظر رفعت سيد أحمد الذي يدعو إلى بناء "فقه للمقاومة" جديد يقطع مع النزعة التكفيرية السابقة، أن لهذه الحركات مستقبل شرط تبنيها لمنهج جديد في الفكر والواقع وهذا هو مكمن رهانه. أما الشوبكي الذي ينتقد بقوة التسطيح الفكري الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية في فهمها لهذه الحركات، فيرى أن انكسار ما يسميه ب "الجهاد النصي" المنزوع الصلة بالواقع الاجتماعي والسياسي المحبط والمفصول عن حسابات السياسة يفسح المجال لانتعاش جديد لاحتجاج إسلامي مشروع وسلمي، وهو يعول في هذا المجال على أهمية التفاعل الكبير بين مشروع الإسلام السياسي السلمي والمشاريع السياسية الأخرى سواء كانت قادمة من داخل المجتمعات الإسلامية أومن الإدارة الأمريكية، ومن ثم دمج تيار الإسلام السياسي الذي سيكون مهيأ لذلك في المسيرة المدنية لبلدان العالم العربي والإسلام وبالتالي تدعيم مسيرة التطور الديمقراطي، وهنا مكمن الرهان وقيمة التحول الذي طال خطاب الجماعة الإسلامية والذي من شأنه أن يدفع إلى تصحيح حقيقي للمفاهيم والأهم إلى تأسيس خطاب إسلامي إنساني جديد؟.
في المقابل العربي الإسلامي، يسعى بعض من النخب الدينية والثقافية إلى التأكيد على أولوية الثقافي على السياسي في صراعنا مع الغرب الإمبراطوري، وهذا ما يفسر القول بالمعادلات المستحيلة الحل التي لا تتصور إمكاناً للنهضة إلا بغياب الآخر والتي تمتد من سيد قطب ومحمد قطب في حديثهما عن "جاهلية القرن العشرين" إلى حسن حنفي الذي لا يتصور إمكاناً لنهضة العالم الإٍسلامي إلا بغياب الآخر عبر دورة سباعية (كل سبعة قرون) تأخذ طابعاً ميثولوجياً(16)، وهذا ما يفسر أبلسة الآخر على صعيد الخطاب السياسي للإسلام السياسي وحتى القومي العربي، بحيث غابت كل إمكانية للحوار، وضاعت كل الدعاوي الداعية إلى مراجعة خطابنا الديني الذي يقول بإفلاس الحضارة الغربية وهذا ما دعا إليه الرئيس الإيراني محمد خاتمي في كتابه "بيم موج" الذي دعا إلى مراجعة معظم مقولاتنا التي تحول بيننا وبين الحوار مع الآخر(17). وهذا ما يفسر العنف الذي لازم الخطاب الإٍسلامي السياسي والذي يظهر أحيانً على أنه ردود فعل لحامية إسلامية تشعر بأن الحداثة الغربية تجتاحها وأن الغرب الإمبريالي والإمبراطوري يهدد بدهسها(18). من هنا فإن كل محاولة تحتمي بالثقافويات السائدة هنا وهناك والتي تقول بالصراع الأزلي بين الإٍسلام والغرب، أو تلك التي تدفع باتجاه القول بصدام الحضارات، فالحضارات لا تتصادم، ما يتصادم هم الأفراد وكذلك الدول. أما القول بصدام الحضارات فهو تأكيد على أن العالم لا يزيد عن كونه فسطاطين ودارين، دار الإسلام ودار الحرب، لنقل دار الغرب ودار الإسلام. من هنا تأكيد معظم المراجعات الحديثة التي طالت خطاب الإسلام السياسي، على أن الصراع بيننا وبين الغرب وليس التصادم، هو صراع مصالح وبالتالي فهو صراع سياسي من سنة الحياة ويحدث داخل المعسكر الواحد والفسطاط الواحد بحسب التقسيم الثقافي للخطاب الإسلامي. وهذا الصراع ينفتح على كل إمكانيات الحوار والتواصل وتبادل المنفعة والمصالح.
*********************
*) كتاب وأستاذ أكاديمي من سورية.
1ـ عبد الرحمن اليوسفي، جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية 7/7/2003.
2ـ منتصر الزيات، الجماعة الإسلامية: رؤية من الداخل، القاهرة، دار مصر المحروسة، 2005م، ص 38.
3ـ كريم مروة، مجلة المستقبل العربي، مقابلة معه تحت عنوان: إعادة صياغة موقفنا من المسألة الدينية، العدد 286، 2002.
4ـ تركي علي الربيعو، أزمة الخطاب التقدمي العربي (بيروت، دار المنتخب العربي، 1995) انظر الفصل الثاني المعنون: الدين فغي الخطاب التقدمي العربي.
5ـ رضوان السيد، الصراع على الإسلام، بيروت، دار الكتاب العربي، 2004، ص 59 إلى 73 وانظر أيضاَ رده على رسالة المثقفين الأميركيين بعنوان: هل يصلح شعار الحرب العادلة لتشكيل مجال مشترك للحوار ة التضامن ص 45.
6ـ رضوان السيد، المصدر نفسه، ص44.
7ـ محمد جابر الأنصاري، مساءلة الهزيمة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001، ص 105.
8- رضوان السيد، الصراع على الإسلام، ص 264.
9ـ جهاد عودة وعمار علي حسن، عولمة الحركة الإسلامية الراديكالية: الحالة المصرية ضمن سلسلة كراسات استراتيجية الصادرة عن مركز الأهرام، 2002، ص 3.
10ـتقرير الحالة الدينية في مصر، صدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، برئاسة نبيل عبد الفتاح وإدارة ضياء رشوان، 1992.
11ـ انظر الجزء الثاني من تقرير الحالة الدينية في مصر، الفصل المتعلق ب "الجماعات الإسلامية الراديكالية " كذلك انظر كتاب نبيل عبد الفتاح، النص والرصاص، بيروت، دار النهار، 1997، انظر من الصفحة 336 إلى الصفحة 340.
12ـ رفعت سيد أحمد وعمرو الشوبكي، مستقبل الحركات الإسلامية بعد الحادي عشر من أيلول، دمشق، دار الفكر، 2005، ص 100.
13ـ المصدر نفسه، ص 99.
14ـ المصدر نفسه، ص 222 وص 218.
15- رفعت سيد أحمد، ص99.
16ـ حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1992) ص495 إلى ص 505.
17ـمحمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، بيروت، دار الجديد، 1998، .
18ـ فرانسيس فوكوياما، نهاية الإنسان، ترجمة أحمد مستجير، القاهرة، دار سطور، 2002، ص 20.