درس الفلسفة الحزينة

وفاق القدميري

 

لربّما كان أبيقور قد لامس غور المرتجى عندما قال: “لكي نعيش سعداء، فلنعش في السّر والخفاء”. وهذا ما يُتحصّل نقيضه إذا اقترَنَ عيش الإنسان بالإفراط في المجاهرة والشيوع. والمخالطة يشتد بُؤسها وجلْبُها للأحزان إذا ما تلازمت بشرط المحادثة والكلام؛ فمقاسمة الحديث مع كلّ من نطق ورطن لهو لعمري ممّا يجلب شدائد الآلام وأعصاها؛ خصوصا إذا ما كان غالب القوم من الجهّال المنغلقي العقل والمكتملي الحقائق؛ عمليُّها ونظريُّها على حد سواء.

ليس في المهام والمهن ممّا يُستحصل فيه أقصى ما أسلفناه أكثر من مهنة التدريس عموما. فالتدريس مهنة تجعلك مفضوح الوجود بدء؛ تقتات على الثرثرة والكلام، مُكرها أو راغبا؛ ثرثرة لا منتهية، تغزلها معبّأة في دروس ومحاور. والفلسفة هي ممّا يكتمل فيه غبن القلب ووجعه إذا ما اقترنت بتدريسها، فالفلسفة في أصلها ليست درسا، بل مُقاسمة؛ مقاسمة لفكرة لها أصل وامتداد، مشاركة لموُجعات العقل، دون إكراه ولا أي إلزام بالاسترجاع. الفلسفة هي مُشافاة لمعضلات الوجود والإنسان، مشافاة لا يستطيعها من لم يتخلص من جذوره الغابوية، ومن لا يرى أهمية للتفكير في العالم، ولا حتّى عيشه؛ يكفيه فقط الاستمناء على نتوءاته.

الفلسفة في أصلها جاءت ضد المشاعية، تحارب التعميم. فالفيلسوف قد يحارب فكرة شائعة بنقيضها المعزول، وحين ينهار السائد ويسود المقصي، يعود لتقليب ما كان يحاربه علّه يُبقي على ما يستحق الاستبقاء فيه. وقد يحارب ما كان يدافع عنه سابقا ليس لشيء سوى أنّه صار شائعا، فالمعمم غالبا ما يكون قائما على بلقنات خفية هي ما جعلته سائدا. وهي هكذا الأفكار تعيش في جدلياتها المستمرة، تطفو حينا وتخبو أحايين أُخر، ولا يمكن رصدها إلاّ في سياقاتها المتحركة، وليس باعتبارها تحنيطات جافة وجاهزة للتلقين.

والدرس الفلسفي اليوم -المقصود هنا تدريس الفلسفة في سلك الثانوي- من معاطبه الأساسية نجد ثلاثة معاطب، إحداها حضاري عام، والاثنين الأخريين تقنين :

1- خصومة ثقافيّة:

أ- الإنسان المنتمي للسياق التداولي النّاطق بالعربية عموما هو إنسان يغلب عليه التبرم من كلّ ما هو نظري تجريدي، فثقافته بهوى مباشر وتبسيطي اختزالي، لغته لغة حكي ومرويات لا تحاليل وتقليبات فكر.

ب- ثقافة ترى في اللّغة مبتغى ومنتهى، وليست حاملة لمخبوء نظري يجب الحفر نظريا لتحصيله، لهذا استنفذت ضمن تاريخها وقتا طويلا للوقوف عند اعجازات البيان والبلاغة، ولكنّها همّشت الجانب الفكري للغة، باعتبار هذه الأخيرة هي حامل لنظر.

ت- أضف أنها ثقافة لاهوتية بامتياز، الله فيها أنهى الحقائق وأتمّها، الله أنهى وحيه وأشاع حقائقه، لهذا فكل بحث بشري عن الحقيقة هو بالضرورة منازعة لله في سلطانه، والسؤال محرم بنص شرعي، والإنسان موكول بالطّاعة والسير على طريق الاستقامة، لا صنع طرق جديدة.

2- تحنيطات ديداكتيكة:

لربّما ممّا يجعل الدرس الفلسفي في بلد كالمغرب درسا لا يحقّق الاختراقات اللاّزمة داخل الذهنيّة الجمعيّة للمتعلمين المنتمين للسلك الثانوي التأهيلي، هو الخلط الشنيع بين الاكتساب والتثوير، فالفلسفة ليست حسابا، ولا هي ضوابط لغوية، أو معارف ثقافية، فالفلسفة لا تكتسب. الفلسفة هي في أصلها تثوير لإمكانات النظر العقلي، هي انعطافة أساسيّة في النّظر للعالم، هي عملية تثوير هادئة على سابق المعارف واليقينيات، وهذا لا يقوم إلاّ بالحوار الحرّ المفتوح الجريء، حوار يقوم على التنقيب والتّحفيز، تحفيز للأفكار، وتنقيب في أصولها. والفلسفة ليست أبدا مفاهيم تُحفظ، ودروس تراجع. وهذا للأسف ما جعل الدرس الفلسفي اليوم في سياقنا درساً جافا ثقيلا، أو بالضرورة درسا حزينا.

3-إجبارية التّفلسف:

الفلسفة ليست أبدا فكرا إلزاميا، ولا يمكن بأي وجه من الأوجه أن نصنع عالما أو شعبا من الفلاسفة، ولا حتّى من المتفلسفين. فالفلسفة هي عظيمة، كما باقي الأشياء العظيمة، لأنّها استثنائية، نخبويّة، ومن الخطأ أن يرجى تعميمها، فمثلا لا يمكن أن نتصوّر قرارا يلزم النّاس بأن ينصتوا لموسيقى معيّنة لمدّة ساعتين يوميا، اقتناعا منّا بمقدرة الموسيقى على تهذيب النّفوس. فالأشياء العظيمة تكون عظيمة بالنسبة لنا لأنّنا نختارها بحريّة لا إكراها. والفلسفة تكتسب قيمتها وعظمتها من كوننا نأتيها أحراراً راغبين، لا مكرهين. ومن هنا فقط يمكن أن يزداد الشّغف للتّفلسف وللنّظر، وهو جعله متاحا لا ممنوعا، ولكن أيضا عدم جعله إجباريا في أي لحظة من اللّحظات، أو في أي عمر من الأعمار. ومن هنا فأفضل صيغة ممكنة لتدريس الفلسفة هو جعلها رزنامة إختيارية للرّاغب فيها، دون إلزام من هو متخوف أو غير آبه بها، أو الغير حامل لشروط منادمتها بأن يلتقي بها. قد يظن أن هكذا أمر قد يقلص جمهور المتعرفين على الفلسفة، ولكن ما يمكن أن نرد به على احتمال كهذا، أن الشّغف ومنطق الاختيار غالبا ما ينتصر على الإلزام.

في الأخير يمكن القول أن الفلسفة، الفلسفة الحقة، لا التظاهر بها، لا تقوم أبدا على مهادنة الوثوقيات الشائعة. ولا هي أيضا تحنيطا لأشياء العالم الحيّة. وهي شرط قبلي في الحريّة. فلا تفلسف دون أن نكون أحرارا. أحرارٌ في لقائها، وفي الالتزام بمصاحبتها، أو إن شئنا في التّخلي عنها، دون هذا فلن تغدو الفلسفة، أو حتّى تدريسها أو دراستها سوى شيئا حزينا ينتج بالضرورة فلسفة حزينة.

المصدر: https://www.alawan.org/2018/11/11/%D8%AF%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك