التوظيف السياسي لمفهوم "الفتنة" في التاريخ الإسلامي

التوظيف السياسي لمفهوم "الفتنة" في التاريخ الإسلامي

رضوان زيادة*

إذا كانت العلاقة بين المعرفة والسلطة متداخلة ومتشابكة بحيث يصعب الكشف عنها وجلاءها، وإذا كانت السلطة تُمارس فعلها وتأثيرها ضمن حقلها ومجالها التداولي، فإن المعرفة وبما تملكه من سلطةٍ لا تكون أبداً بمنأًى عن هذا الحقل، بل هي فاعلة فيه ومشكّلةٌ لحدوده ومكوّنةٌ لمستوياته الدلالية(1). وإذا كانت السلطة أولية على المعرفة كما يقرر فوكو، فإن علاقات المعرفة تظل متداخلة أو كامنة إن لم تكن مندمجة في العلاقة التبادلية مع السلطة(2).

وهنا تغدو أهمية المحاولة في إعادة النظر في أهم جانب من تاريخ المعرفة في الإسلام. هذه المعرفة التي يجب أن يُنظر إليها لا كإنتاجات فردية محضة أو كجزرٍ ثقافية معزولة، مقطوعة الصلة بمحيطها الاجتماعي والتاريخي، وإنما يجب النظر إليها انطلاقاً من وظيفية المعرفة الأصولية داخل جمهور المجتمعات الإسلامية، فالعلاقة جدليةٌ بين إنتاج المعرفة عند رجل العلم في الإسلام وبين معاناته اليومية لمشاكل ذلك الجمهور(3).

فدَرسُ علم الأصول وإعادة تقويم بنية خطابه وطبيعة تشكّله ضمن الهموم والمشاغل المعرفية والاجتماعية لظرفيته التاريخية يجعل من تاريخ إنتاج المعرفة وتدوينها في الإسلام تاريخاً للمجتمع بأكمله بشكلٍ من الأشكال، والوقوف من جديد على بنية الخطاب الأصولي، وخاصة على طبيعة المقاصد الشرعية الكلية، من شأنه تجنيب الفكر الإسلامي المعاصر مزالق الوقوع في الغلّو والتقصير معاً، وذلك بفضل ما يتضمنه منطق تلك المقاصد من مراعاةٍ لطبيعة الوقائع، والعمل بالتدريج على تطويعه.

لقد تداخل الأخلاقي والسياسي في العلوم الإسلامية، إذ نلاحظ أنه بقدر ما تتعين أسماء المؤمن والفاسق والكافر بقدر ما تتحدد أحكام كلِّ واحدٍ منهم في المجتمع السياسي قبل الآخرة، وهو ما يعني أن التحديد الميتافيزيقي، لكلٍ من الإيمان والفسق والمكر يتخذ بالضرورة بعداً سياسياً، يؤدي مباشرةً إلى مسألة الحقوق والواجبات المجتمعية والسياسية(4).

تجلّت هذه الظاهرة أيضاً "ظاهرة التداخل المعرفي" في الآداب السلطانية(5)، و في خطاب أبي الحسن الأشعري الكلامي. الذي يبني حكماً على واقعٍ سياسي تعيشه الأمة، حكماً يتخذ صفة الأبدية لما بعده والإلزام لمن يليه، إذ ما دام "الفساد" قد ظهر في البر والبحر، فلا يجوز الحديث عن ميثاقٍ يربط الحاكم بالمحكومين، والراعي بالرعية، بل حتى لو جاز الحديث عن ميثاق في بداية تأسيس السلطة السياسية وعقدها، فإن هذا الميثاق يفقد كل مصداقيته عقب ذلك (العقد) حيث إنَّ الأشعري يُوحي (وجوب الطاعة) من جانب الرعية، حتى لو أخلّ الإمام بكل التزامات عقده تجاهها، وحين قيامها بمطالبته بالالتزام بمضمون ميثاقه، وموجب عقد بيعته «وهو العدل والحكمة ورعاية المصلحة العامة» فإنها في رأي الأشعري تكون هي الضالّة والظالمة.

يقول في كتابه (الإبانة في أصول الديانة)(6) "ومن ديننا أن نصلي خلف كل بر وفاجر ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم (أي الأئمة والحكام) تركُ الاستقامة"، هذه شهادة واضحة عن انزلاق الأشعري من المستوى المعرفي والكلامي إلى مستوى النظرية السياسية، فالسلطان الجائر ليس جائراً إلا من منظار الذين يقيسون مفاهيمهم على عدالة الراشدين، بينما الطاعة واجبة للسلطة أو الإمام فحسب، وذلك بحكم حق تصرفه في ملكه، وبحكم تحلّله من كل التزامٍ سوى حفظ البيضة، ومراسيم الدين، بل إنه رغم استبداده وتغلبه، وفجوره وظلمه، واجب الإتباع، دون أن يقدح كل ذلك في عدالته التي تنحصر في كونه مدافعاً عن حوزة البلاد وحياة العباد، تماماً كما لا يقدح في الحكمة الإلهية وعدالتها إمكانية تصور عدم الوفاء بمضمون الوعد والوعيد، أو عدم الالتزام بمنطق الأمر والثواب.

إن الأشاعرة في موقفهم هذا، يعرّفون السلطة السياسية بما عرّفوا به العدل الإلهي، وكأن منصب الإمامة يقتضي هو الآخر التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم.

هذا الانزلاق عند الأشاعرة من النظرية الكلامية إلى الموقف السياسي يعود إلى وجود بنيتين أساسيتين في الخطاب الأشعري تتجلى أولاهما في كثرة لجوء الأشاعرة إلى الحديث عن الإمكان العقلي كتصورٍ مقبول ومعقول في ذاته، بجانب الإمكان الوجودي، حيث يتداخل الممكن مع الواجب، إلى درجة إلغاء ذلك الممكن لهذا الواجب دون أدنى شعور بالتناقض من جانب المفكر الأشعري(7).

أما الثانية فتظهر في حرص جُلِّ الأصول الأشعرية على التوفيق بين المواقف المتناقضة والمتعارضة، واتخاذ "موقف وسط"، الشيء الذي تبدو معه تلك الأصول أحياناً كثيرة، وكأنها لا تتحرج من الجمع بين المتناقضات.

لقد صارت الرغبة في التوفيق والجمع بين المتقابلات سلوكاً ثابتاً في بنية الفكر الأشعري ـ المتأخر منه خاصة ـ حتى أصبحت لديه قابليةٌ للجمع بين المتقابلات، وبالتالي التعامل على مستوى الحياة الاجتماعية، مع نماذج واختيارات سياسية متباينة، مع الإسراع في التبرير وإضفاء الشرعية على العديد ممن يفتقدها ولا يستحقها، استناداً إلى تبرير نظريات عديدة، خصوصاً منها دفع الفتنة، وحفظ وحدة الأمة.

وهكذا تلتقي البنيتان المعرفيتان الكلاميتان في الفكر الأشعري، بنية الإمكان والوجوب، وبنية التوفيق بين المتقابلات، تلتقيان معاً على المستوى السياسي، حين تعتبر أن المالك للسلطة السياسة منصرفاً في ملكه على مقتضى مشيئته، رغم ما يطرحه مالك السلطة هذا عند انتقاله من الإمكان إلى الوجوب، من مشاكل نظرية وعملية متناقضة، يعمل المفكر الأشعري جاهداً على التوفيق بينها ومعالجتها، وترتيب درجات المصلحة والمفسدة فيها، وسبل التكيّف معها.

وهو ما يؤكد عمق ارتباط علم الكلام بالمشاكل النظرية والسياسية المصاحبة لنشأة الظاهرة الإسلامية الأولى، وما تولّد عنها من أحداث سياسية، مما يدفع إلى الاقتناع بأن الموقف الكلامي في الإسلام، منذ نشأته ورغم تناقضات مواقفه، لم يكن كلاماً في اللاهوت، بقدر ما كان كلاماً في السياسية خاصةً فيما تولّد عنها من قضايا وتبريرات نظرية ومواقف عملية.

وأسبق من ذلك، فإذا استحضرنا نصاً لأحمد بن حنبل يقول فيه: "من غَلَبَهَم بالسيف حتى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين لا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيتَ ولا يراه إماماً عليه، برَّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين" فعبارة "لا يحلُّ" في هذا النص تضعنا حيال حكمٍ شرعي بالتحريم، ليس فقط على من يُعلن الخروج والعصيان، وإنما كذلك على من ينفي في تصوره الداخلي صفة الشرعية عن الحكومة الفاسدة الجائرة، ليس ذلك فحسب، بل إن الإثم يلحق بمن لا يُثبت لهذه الحكومة صفة الشرعية، أو بعبارة ابن حنبل "بمن يبيت ولا يراه إماماً عليه" وهو ما يعني في عبارةٍ مكافئة، وجوب اتخاذ موقف إيجابي باعتقاد الشرعية، لا مجرد موقف سلبي بالامتناع عن الاعتقاد(8).

إن مكمن الخطر هنا، أن ابن حنبل لا يُؤرخ حدثاً أو يُقدم رأياً، ولا حتى يُفتي بصدد واقعةٍ مخصوصة يمكن الحديث فيها عن الضرورةِ والإكراه، وإنما هو يُنظرُّ نظريةً ويؤصل حكماً ويشرّع تشريعاً له صفة التأبيد والدوام.

فهل يسهل علينا أن نرى إلى أيّ مدى بلغت هيمنة "الواقع"؟ وإلى أيّ مدى كانت النظرية انعكاساً للتاريخ، أي لجبروت الواقع السياسي المفروض بالقوة؟ وإلى أيِّ مدى كان النص يتأخر حين يُراد له أن يتأخر؟.

ولذلك يمكن القول أن المبادئ النظرية للسلطة ليست أصيلةً في نسيج النص الخالص، وهو ما يُؤكد الدور التشكيلي الطاغي للتاريخ، تاريخ السلطة السياسية على وجه الخصوص، ويقودنا إلى القول بأن النظرية السلفية في الإمامة، أو نظرية الخلافة لدى أهل السنة والجماعة ليست نتاجاً مباشراً لنصٍ إلزاميٍ خالص، وإنما هي من صناعة التاريخ أو هي بعبارة أخرى من صناعة السلطة. وتعد أحاديث الفتنة والملاحم دليل واضح على مدى استحكام السياسة في النص، فمثلاً يُورد البخاري النص التالي:

"إنكم سترون أثرةً وأموراً تنكرونها، قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال أدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم"، والمعنى كما هو واضحٌ أن حق الحكام معجلٌ في الدنيا، وحق المحكومين مؤجلٌ إلى الآخرة، وهو المعنى الذي سيتكرر بإلحاح في أربعة من الأحاديث الخمسة الباقية في الباب، ويأتي دور الشرّاح ليكرسوا في العقل المسلم مفهوم الانهزام والقهر المتواصلين حيال السلطة، فيجعلون من حق الحكام الذين ينبغي أن يؤدى إليه "بذل المال الواجب في الزكاة، والنفس في الخروج إلى الجهاد عند التعيين ونحو ذلك"، بينما يُفسرون قوله "وسلوا الله حقكم"، بأن "يلهمهم إنصافكم أو يبدلّكم خيراً منهم".

وهكذا ينحصر دور المحكومين في الدعاء إما بأن يُلهم الله الحكام أن ينصفوهم، وإما بأن يبدلّهم الله تعالى بقوته وجبروته، فهل يُمكن لهذا المعنى أن يكون أصيلاً في الدين الإسلامي؟ هل يُمكن لهذه السلبية أن تكون نداء الإسلام إلى العالم كما يقول عبد الجواد ياسين؟ هل يمكن لتلك الروح الانسحابية أن توافق مضمون الكتاب، وهو يهيب بالأمة أن تدعو إلى الخير؟، أو وهو يدعوها إلى مجافاة الاستبداد ليكون الأمر شورى بينهم؟، وهل يمكن للاستبداد أن يجد مناخاً أنسب من ذلك حتى يشتد ويقوى؟.

وبناءً على ذلك كله يكون من الصعب إرجاع الاستبداد المترامي الأطراف في البلاد العربية إلى مجرد أوضاعٍ خارجية وإقليمية معظمها حديثٌ وناشئٌ، فظاهرة الاستبداد تملك جذوراً اجتماعية وسياسية وتاريخية لا تتجاوز هذه الأوضاع فحسب، بل وتضعها في طي الإهمال والنسيان، ولطالما اتهم المستشرقون والباحثون الغربيون الدولة الشرقية بأنها دولة استبدادية وأن النموذج الحديث للدولة في العصر الحالي إنما يضرب بجذوره في تاريخٍ قديم شكَّل ما يشبه الخلفية المعرفية لهذه الدولة الحديثة.

وقراءة المتن السياسي في الإسلام يكشف عن الكثير من ذلك، فالآداب السلطانية كما ذكرنا تسهل علينا الكشف عن المرجعيات الفكرية المحدّدة والمؤطرة للخطاب السياسي المعاصر، لقد هدفت هذه النصوص إلى بناء نظامها عن طريق استثمار رأسمال الحكمة والتاريخ لتحقيق ما يمكن تسميته بدولة الخطاب التبريري الذي يهبها الحاضنة الضرورية لوجودها فتصبح مجسدةً في واقعين: واقع التاريخ وواقع الكلمات، كلمات الآداب السلطانية التي تعكس أبّهة السلطة الملكية ومجدها وطغيانها، وتعمل كلَّ ما في استطاعتها لتستمر كذلك، وواقع التجربة التاريخية التي عرفتها الدولة السلطانية عبر مراحل التاريخ الإسلامي وخلال حقبه المتتابعة(9).

وبناءً على ذلك فإن لخطاب الآداب السلطانية مظهرا تقنيا واضحا ومُعلنا، إنه خطاب يُعنى بتفصيل القول في تقنيات الممارسة السياسية، كما يُعنى بالنصح والتوجيه، وتشكّل العبرة مرماه وذلك لإصلاح وترتيب الأوضاع السياسية التي يتم إنشاء الخطاب لمواجهتها، ولذلك فالخطاب السلطاني لا علاقة له بالنظر الفقهي الذي يُعنى بحقيقة الملك وانقسامه إلى خلافة وسلطنة وولاية وإمارة، ولا يهتُّم لا بالمدينة وآرائها، ولا بسلّم الفضائل ومطلب الخير والسعادة كما بلورته سياسة الفلاسفة المسلمين، إن مجال الآداب السلطانية هو التفكير في الأبّهة الملكية، في كيفية المحافظة على السلطة القائمة واستمرارها، وهو مجالٌ مرتبطُ بما هو عملي وواقعي، إنه خطابٌ يُواكب سلطةً فعلية قائمة، ويتوخى بناء القناعات والمسوّغات السياسية التي تكفل لها ما يرعى دوامها في كلِّ الأحوال، لذلك فهو يهدف إلى تكريس تصورات معنية للسلطة، وإبراز حتمية القهر كخاصيةٍ ضرورية لكل سلطةٍ في التاريخ ولزوم الولاء والطاعة والصبر، والتي هي أخلاق العامة المطابقة لإرادة التاريخ ومقتضيات الزمن.

وبذلك يعمد التاريخ السلطاني إلى ترسيخ مبادئ معيّنة تتجلى في التأكيد على مراتبية المجتمع، تبدأ بالملك أو السلطان ثم طبقة الرعية التي تتعدد إلى طبقات، كلُّ طبقةٍ بحاجة إلى كيفية خاصة في تدبير أمرها بما يناسب مكانتها، فالطبقة العليا في حاجةٍ إلى رأفة بالملك، والوسطى ترغب في إنصافه، أما الطبقة السفلى فلها الخوف، ففيه تنظيم أحوالها، وبذلك تكون بنية المجتمع في الخطاب السلطاني هرمية يقع الملك في قمتها، وتتسع القاعدة بالتدرج لتستوعب خاصة الخاصة من المحارم والأعوان، ثم الخاصة الفاعلة في مستويات التدبير المتنوعة، ثم العامة وهم قاعدة المجتمع العريضة وموقعهم أسفل الهرم، وهم قاعدة الإنتاج المادي.

أما المبدأ الثاني فيقوم على ميتافيزيقا الشر، إذ يعمد هذا الخطاب إلى تأصيل الشر في الإنسان وهذا يقتضي دور السلطة في الحدِّ منه عن طريق تأسيس الملك، وذلك من أجل عمارة الدنيا وحراسة الدين، وهذا يقتضي بدوره أيضاً ويستدعي صياغة مبادئ ملازمة للحد من هذا الشر، مبادئ تقنية وعملية، تقوم على الحزم كآليةٍ سياسية، وعلى الحذر كمظهرٍ ملازم لمبدأ المحافظة على السلطة، فلا ثقة في الرعية، التي تحتل في هذا الخطاب منزلةً لا تحسد عليها عندما تصبح معدناً لكلِّ شر وسبباً لكلِّ بلاء(10).

أما المبدأ الثالث فيقوم على ثنائية الملك والدين أو التشريع للاستبداد المطلق، حيث تتم مرادفة الدين بالملك بالأساس والأس ووظيفة الحراسة، إضافةً إلى الاستعارة البيولوجية القرابيّة، ممثلةً في كونهما توأماً، كذلك مسألة الهدم والضياع والعماد، إذ يتحول الملك إلى حارسٍ للدين.

تتكون الصورُ إذاً من مشهد الملك الذي هو «البهاء والعزة والأبهة» وهي لذلك لا تفكر في ميثاق السلطة ولا تشترط له القواعد والقوانين، فالملك مكانةٌ وموقع، إنه صورةٌ قائمة ترعى الحدود، وتمنع الفتنة، وبذلك تتم المماثلة بين الملك والإله، فالملك كالإله واهب المراتب ومحدَّدها، وهي الحاصلةُ بأمره، ووظائفها تدور في فلكه، وتستجيب لنظام الترتيب القائم انطلاقاً من إرادته وإشارته وأمره وتدبيره(11).

وتبدأ الصور بالأسماء التي تحتكر كل الصفات الفضلى كالعزِّ والنصر والولاء والإعانة والفخر.. إذ لا تشير إلى أسماءٍ فقط، بل تعكس حالات و مواقف، إنها تُشكلُّ رسالةً، وتحدد توجهاً معيّناً في موضوع الوظيفة الملكية، أما المشهد الآخر فعندما يتحوّل الملك إلى امتيازٍ إلهي فهو كالغيث والشمس والقمر، فلولا الملوك لأكل الناس بعضهم بعضاً كما عبّر الثعالبي، أما الطرطوشي فيخصص باباً كاملاً للحديث عن حكمة كون السلطان في الأرض، إن استعراض المشاهد والصور في الخطاب السلطاني يسمح لنا بالحديث على أن هذا الخطاب يحصر مشاهده في التفكير بالصور والتفكّر من خلالها، وهذا ما يستحضر آلية الانعكاس، حيث تروم الصور إلى إيصال رسائل متتالية تُبرز درجة الامتياز القصوى التي يحتلّها الملك في سلّم البشرية.

وتستكمل الصور مشهديتها مع تحقيق المماثلة بين الملك والإله، فالملك هو الحارس الأكبر للدين، بل إنه حافظ الدين وحامي البيضة ومُقيم الحدود ومُحصّن الثغور كما عبر الماوردي، وترمي هذه المماثلة إلى رسم صورةٍ مكبّرة للنموذج الإلهي وإسقاطها على الملك، وذلك كما يحفظها الخيال الديني الشعبي ويرعاها، وهي صورةٌ تُضيف إلى قداستها المفترضة والمقدّرة صوراً لا حصر لها، تحمل مختلف التناقضات في كمالاتها القصوى، فالملك يجمع عندئذٍ بين الصفح والعقاب، والعدل والطغيان، والموت والحياة، وكذلك فهو العادل والجبار والواحد القهار... إلى غير ذلك من الصور التي تهدف من ورائها إلى إخضاع الرعية وإقناعها بوجوب الطاعة بوصفها قيمةً خُلقية مُثلى على الرعيّة الامتثال لها، وهذا ما جعل مفهوم الطاعة يُشكل المبدأ السياسي الملازم للسلطة في تاريخ الإسلام كما تشهد على ذلك نصوص الآداب السلطانية، التي تؤكد باستمرار على الإعلاء من شأن الطاعة ولزومها، وذلك من أجل المحافظة على المراتب المجتمعية والقواعد السياسية السلطانية، وهكذا تُصبح الطاعة في هذا الخطاب معقل السلامة وتمثلُّ أرفعَ منازلِ السعادة وهي الطريقة المثلى والعروة الوثقى، وهي العاصمة من كل فتنة، والأداة المناسبة لاستمرار السلطة حارسةً للدين في الدنيا، ومدبّرةً لشؤون العامة بما يضمن الاستقرار والأمن.

يمكن العودة بمجل "فقه التبرير" الذي أنتج فيما بعد الآداب السلطانية إلى فترة "الفتنة" وطريقة انتقال الخلافة إلى معاوية، فمعاوية كان الإمام الشرعي الأول الذي حلَّ التناقض الجذري لمرحلة صدر الإسلام لصالح الاتجاهات التطورية الجديدة، متمثلاً في رفع ونسخ أولوية المنظومة القيمية والعرفية القبلية في تدبير مصالح الأمة، وتثبيت بناء فوقي سياسي وروحي جديد يتلاءم مع التطورات الاجتماعية.

إذ جعل معاوية من الخلافة مؤسسةً سلطوية فوقية، ذات كيان خاص بها، مفصولةٍ عن الارتباطات القبلية، واعية لنفسها، لها مصالحها الخاصة، مستقلة في قرارها ومالكة لجميع الأدوات اللازمة لتحقيقها بغض النظر عن التوازنات والمصالح القبلية؛ هذه المصالح القبلية التي أخذت تعبّر عن سلوكية جديدة بعيدة عن أطر ومعايير النسب المحض، إذ كانت إفرازاً مباشراً للفتوحات ونتائجها من جانب، إضافة إلى أنها لعبت دوراً لا يُستهان به في تقرير مصير الحركات السياسية والمواقف الحزبية لهذه المرحلة من جانبٍ آخر، فضلاً عن ذلك فإن سياسة معاوية هذه كان لها خطرٌ كبير، إذ لأول مرة في التاريخ الإسلامي يتم نسخ الجماعة أو الأمة عن كونها المصدر الأول لشرعية الحاكم والحكم، فمعاوية كان لا يفهم نفسه على أنه خليفةٌ للمسلمين، بل على أنه خليفة الله على الأرض في عباده، وبذلك فقد كفّت الأمّة في عهد معاوية عن أن تكون الحامل والرافع لشرعية الحكم من خلال إجماعها وإرادتها العامة الجمعية(12)، فإذا لم تعد الأمة مصدر الشرعية، فمن أين يأتي هذا المصدر إذاً؟.

واستتبعت تلك الصياغة الجديدة لشرعية الحكم أمراً آخر لا يقلُّ أهميةً عن ذلك، فإن كانت الخلافة خلافة الله، فإن الطاعة مفروضةٌ مسبقاً، ولازمةٌ سلفاً على المسلمين، وبهذا يكون معاوية قد نسخ طابع العقد الاجتماعي للحكم، كما فهمه ومارسه عمر وعلي، وأسّس لعلاقةٍ سلطويةٍ فوقية، عبّر عنها واليه على البصرة زياد بن أبيه في خطبته سنة 53هـ حين قال: "أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما وليّنا.... فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون...".

وإذا كانت مسألة الشرعية قد تحولت إلى هذه الصيغة، فإن علاقة الإدارة السياسية المركزية بالقبائل أصبحت في جوهرها علاقة حكم، أي تدبير الشؤون العامة للأمة، وإدارة مصالحها وأمورها ومعاملاتها الجماعية العامة المشتركة، وأصبح قطاعاً اجتماعياً خاصاً تابعاً لصلاحيات الدولة وحدها، لا دخل للقبائل به، ويتميز تميزاً واضحاً عن قطاع العلاقات القبلية العامة، وانعكاساً لهذه السياسة العامة فقد أصبحت المعايير والاعتبارات القبلية ثانويةً تماماً، وفسحت المكانة الأولى لمعايير النظام السياسي الجديد، الذي أصبح صاحب الأولوية المطلقة في تركيب أمور الأمّة.

ولذلك يعتبر رودنسون أن آليات الفكر السياسي خلال مراحل التاريخ الإسلامي انعكس على الحياة اليومية المعاشية، إذ يرى أن «النصوص الشرعية توحي كقاعدةٍ عامة بالخضوع لطاعة الإمام حتى ولو كان غير عادل، وسوف يعاقبه الله على ظلمه ويجزي المؤمنين على طاعتهم»، فالأمر إذاً معلقٌ بورعِ ولاة الأمر وعدلهم وقيمهم الأخلاقية، طريقةُ التفكير هذه خلقت لدى عامة الناس شعوراً بالغَلَبَة والتواكل وعدم الرغبة في التغيير(13).

غير أن البحث في الجذور السلطانية داخل التربة الإسلامية يستمد مشروعيته من كون المفاهيم السلطوية التي راجت في تلك الفترة هي خارج سياق النص القرآني والحديث النبوي، وهذا ما يُؤكده العديد من المستشرقين والباحثين الذين يعتبرون أن التراث الهيلنيستي لعب دوراً بارزاً في تسريب مثل هذه المفاهيم إلى الثقافة السياسية السائدة في تلك الفترة(14)، إلا أن عبد المجيد الصغير يخالفهم في ذلك معتبراً أن التراث الفارسي كان له التأثير الأكبر، بل وتحوّلت هذه المفاهيم إلى الضابط الذي يضبط علاقة الخليفة أو السلطة بقاعدة الجماهير الإسلامية المحكومة، هذه العلاقة التي تقوم على نفي كل ضابطٍ بين الحاكم والمحكوم، ما دام الملك أو السلطان هو الدولة نفسها، هو مبدؤها وغايتها، وهذا ما نجده واضحاً في أدبيات نصائح الملوك(15).

لقد أدرك الشافعي مبكراً طريقة استغلال النص الديني، وآلية استثماره لصالح السلطان، فإنه ندب نفسه لتصحيح المفاهيم، وجعلته يُدافع بحرارة عن وجوب اتخاذ السنة الصحيحة في نفس مستوى ومرتبة النص الأول (القرآن)، إذ هي مفسّرةٌ له وضابطةٌ لتأويله ولمفاهيمه ومصطلحاته، ومفوّتةٌ الفرصة، بالتالي على كلِّ من يُضمر طموحاً في جرّ النص إلى تأييد مواقفه تأييداً مطلقاً وتحويله بذلك إلى نصٍ حمّال أوجه، ولنأخذ مثالاً على ذلك قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من فارق الجماعة أو خلع يداً من طاعة، مات ميتةً جاهلية).. «فنُصح الإمام، ولزوم طاعته، واتباع أمره ونهيه، في السرِّ والجهر، فرضٌ واجبٌ وأمرٌ لازم، ولا يتم إيمانٌ إلا به، ولا يثبت إسلامٌ إلا عليه»، إنَّ في مثل هذا الكرم المطلق حول مفهوم الطاعة، وأخطر ما فيه صيغته المطلقة البعيدة عن التقييد والضبط والبيان والشروط، فالطاعة للسلطان يجب أن تكون مطلقة مهما كانت طبيعة أوامره وفروضه واختياراته السياسية، وهذا بالضبط ما تنبهت رسالة الشافعي إلى خطورته(16)، وكأنها قصدت مواجهته بتأسيس الكلام على البيان والعلم.

وهنا ينبع الاهتمام الذي أبداه الشافعي بالجانب اللغوي في التأصيل للسلطة العلمية(17)، وإيلاء عنايةٍ كبيرة للقواعد اللغوية وتحديد دلالاتها على الأحكام والأوامر، وتبعه في ذلك الأصوليون الذي عملوا على تقييد تأويل الظاهر بشروطٍ وقوانين لغوية ومعنوية إذا فُقدت بطل التأويل.

ولعلَّ من النماذج الدالّة على إمكانية ذلك الاستغلال السياسي للمفاهيم الشرعية والأصولية المتداولة، ما تمثّل في عزم الخليفة الوليد بن يزيد (88 ـ 126هـ) على إلزام الناس بالبيعة لابنيه اللذين لم يبلغا الحلم، بعد أن عرف إجماع فقهاء عصره على إبطال مثل تلك البيعة، فلم يجد لتبرير تدبيره السياسي هذا سوى اللجوء إلى ذات المفاهيم التي طالما أكّد عليها أولئك الفقهاء، فأرسل بذلك رسالةً إلى الأمصار تتحاشى كلَّ ردٍ على حجج الفقهاء في عدم البيعة لقاصر، ولكنها في آن واحد تؤكد شديد التأكيد على معنى "طاعة الله هي رأس الحكمة" بعد أن تجرد ذلك المفهوم من كلِّ قيدٍ أو ضابط من ضوابطه الأصولية، هكذا سرعان ما تتحول الطاعة إلى مفهومٍ فضفاض يتسع ليشمل طاعة أولي الأمر، ثم لا يلبث المفهوم أن يضيق بسرعةٍ لينحصر في طاعة الخليفة في تدبيره الجديد بالتحديد، هذا التدبير الذي من ترك الطاعةَ فيه أضاع نصيبه وعصى ربه، وخسر دنياه وآخرته(18).

بل لم يكتف رجل السياسة بتوظيف واستغلال المفاهيم والقواعد الأصولية ووسائلها الناجعة، ولا بإبعاد رجل العلم عن ممارسة سلطته داخل الجمهور، بل إنه صار يُمارس الاستغلال نفسه، ولكنه هذه المرة استغلالٌ لذات العالم محاولاً توظيف سمعته وصيته العلمي، ومُبدياً حرصاً على تزيين مجالسه بالعلماء عاملاً بذلك على إبعادهم عن مجال سلطتهم بين الجمهور.

غير أنَّ هذا التقريب لم يكن إلا ليزيد عمقاً شعورُ العالم بأزمة الولاء المزدوج، بين رجل السياسة والسلطة وبين الجمهور والوفاء للمعرفة التي يحملها، خاصةً بعد أن أدرك أنه مرادٌ فحسب لتزيين المجالس، وأنَّ رجل السلطة لا يتأخر في الاستنجاد به واللجوء إليه كمنظّرٍ للسلطة وللسياسة ذاتها، ومدبّرٍ لقواعدها ومؤسّسٍ لشرعيتها مع كونه ممنوعاً من ممارستها.

إن وعي الفقهاء والعلماء لأزمة الولاء هذه خلقت لديهم طريقةً خاصة في التعامل مع مفاهيم المقاصد الشرعية، طريقةً تقوم على الإضمار وإخفاء الأهم وراء المهم أو الأقلِّ أهمية، مراعاةً لظروفٍ محكّمة واعتباراً للتدرج في إلقاء الأحكام، وهو شيءٌ تشترطه وتتضمنه المقاصد الشرعية ذاتها، مما يجعل من أسلوب الإضمار المشار إليه وكأنه يُشكل سلوكاً فكرياً ثابتاً، دائراً بين منطقتي الشعور واللاشعور، وممارساً لعمليتي الإظهار والإخفاء، وذلك حسب منطق المقاصد الذي يقضي بضرورة إتقان فن إبراز مقاصد وإخفاء أخرى.

ويبدو أن كثرة مراعاة الفقيه "للظروف المحكمة" وهلعه من "الفتنة" قد جعلاه دون وعيٍ منه يخرج عن منطقه الأصولي ذاته، فهو بحكم منطق التعليل بالمناسب الذي دَرَجَ عليه في علم الأصول يربط ربطاً ضرورياً بين جريان العاهات ووجوب العزل والخلع، إذ معها تفتقد وتُرفع المقاصد المنوطة بالإمام ولا سبيل للجمع بين تلك العاهات وبين إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين.

وبذلك نتبين سهولة جرّ المقاصد العامة في السياسة الشرعية لتنقلب إلى عكس مقصودها الأساس، أي جرّ العلماء المنظرّين لتلك المقاصد إلى تبرير السياسة القائمة، بدلَ نقدها، ومن ثم وتحت ضغوط الممارسات السلطانية، يُقام أكثر من جسرٍ واصل بين السياسة الشرعية وبين سياساتٍ عقليةٍ مختلفة بل ومتناقضة، وكأن المقاصد الشرعية ووسائلها الناجعة قد تحوّلت إلى مجرد قوالب فارغة غير مضبوطة الهوية، يُمكن ملؤها بأيِّ محتوىً كان، وتوظيفها لتبرير كلِّ المواقف والاختيارات، ويصدق هذا على مفهوم الإجماع أو المصالح المرسلة أو الاستحسان، مثلما يصدق على مختلف الوسائل الناجعة الأخرى كرفع الحرج ومراعاة الضرورات المبيحة للمحظورات، وارتكاب أخفِّ الضررين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعموم البلوى والمشقة تجلب التيسير، والأمور بمقاصدها... إلخ، بل حتى حينما نقرأ أن مقاصد الشريعة بُنيت على مراعاة المصلحة في الحفاظ على أشياءٍ خمسة، تُذكر دائماً على الترتيب الآتي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال، فنُدرك كم هو سهلٌ التضحية بالمصالح الأربعة الأخيرة رغم ضرورتها بمجرد زعم رجل السلطة بأن مصلحة الدين وهو المقصد الأول والأعم، في خطر، وسوف يتكررُ مثل هذا الزعم بتكرار أسبابه إبّان عصور الانحطاط عند ازدياد ضغوط الفرنجة على الدولة السلطانية.

وهذا ما دفع رجل العلم إلى عدم الاهتمام بإقامة جسورٍ قوية بين النموذج والواقع المعيش، ويُفسر تسامح القائمين على الدولة السلطانية تجاه مثل هذا الأدب السياسي، حتى ما كان منه مطبوعاً بنزعةٍ راديكالية كما عند المعتزلة، وذلك اعتباراً لكون المضمون السياسي لذلك الأدب يكاد يكون سياسةً للحلمُ، والتخفيف من وطأة الواقع، أكثر مما هو مضمونٌ سياسي للتغيير الفعلي لذلك الواقع، هذا فضلاً عن كون رجال العلم ورجال السياسة على السواء، قد وجدوا في القواعد العامة للخطاب الأصولي وفي وسائلها الناجعة المطيّة التي ركبوها جميعاً لتبرير كون المصلحة الراجحة تكمن في استمرار الوضع القائم أو لتوضيح "المفسدة المرجوحة" في كل دعوةٍ لتغييره، ولولا هذا الضمان الذي كانت دولة الواقع تجده في ذلك الأدب السياسي بجانب القواعد الأصولية والمقاصد الشرعية، لما سمحت للعلماء بترويج بضاعتهم ونشر نماذجهم السياسية.

ليأتي بعد ذلك زمن الانحطاط وليفتح إشكالية القول بـ"علم مقاصد الشريعة"، فإذا كانت تجربة الفقيه السياسية قد انتهت به إلى القول بشرعية المتغلب على أن يكون "مستبداً عادلاً"، فإن ظروف الانحطاط وتراكم أسبابه وتزاحم مظاهره، ستُرغمه أن يعدّل من موقفه وتضطره مرةً أخرى إلى الفصل بين ذلك الوصف التركيبي الغريب الجامع بين الاستبداد والعدل، حيث أصبح الإلحاح على ذلك الوصف في عصور الانحطاط ضرباً من الخيال، وطمعاً في محالٌ ما دام الهدف الذي صار يَطمح إليه الجميع ينحصر في مجرد التوفر على رجل السلطة «المستبد» القادر على حفظ البيضة ومواجهة المخاطر العسكرية المتلاحقة، داخلياً وخارجياً، أما العدل فإن ظروف الانحطاط والتراجع لم تعد تسمح بالحديث عنه كقاعدةٍ سلوكية أو شرطٍ لا يتخلف في الممارسة السياسية.

وبذلك انتقلت الشرعية، وانتقل معها ولاء الفقيه من ولاء للخليفة إلى ولاءٍ للسلطان "المتغلّب" المُظهر للطاعة، ثم إلى ولاءٍ "للمستبد العادل" فولاءٍ "للمستبد" بإطلاق، وهو ما يعني على صعيد القيم الانتقال من الولاء للعدل المطلق إلى الولاء للاستبداد المطلق.

لقد خلّف هذا الفصل بين العدل والسلطان أثراً سلبياً على إنسان عصر الانحطاط، بحيث صار أكثر خنوعاً وقبولاً للأوضاع المعيشية المتردية قانعاً بأقل من لقمة العيش، يائساً من الإصلاح، معتقداً مع أبي محلّي أن "لا حيلةَ لأحدٍ من الخلق مع ما نزل بهم من بؤس"، وحيث ذلك فقد عَمِلَ كثيرٌ من فقهاء العصر على إنتاج "تأويلٍ" يُبرَّر به، على المستوى النظري، ذلك الفصل بين العدل والسلطان، ويُفسَّرُ به إمكانية وكيفية التعايش معه وقبوله على المستوى العملي، ولعل في هذا ما يفسر شيوع الدعوة إلى رفض التعامل مع السلطان والفرار ولا سيما في الأدب الصوفي(19).

تجلى هذا النشاط التأويلي الزائد في ابتكار وسائل التكيّف مع المحظورات وإيجاد تبريراتها الشرعية، فإذا كانت المبادئ والمفاهيم الفقهية والأصولية لم تكن غائبة عن هذا العصر، إلا أنها لم تُنجز بحكم الضرورة من تأويلاتٍ إسقاطية ابتعدت كثيراً عن روح تلك المفاهيم وقواعدها الضابطة لها، فعلى الرغم من أن مفهوم المقاصد الشرعية ظلَّ مُتداولاً رغم صورته الباهتة بجانب مفهوم المصالح، إلا أن تحديد فقهاء عصر الانحطاط لأنواع تلك المقاصد والمصالح كاد يُفرغها من مضمونها المعروف بتحويل تلك المقاصد إلى مجرد وسائل تستهدف في النهاية النموذج المرغوب فيه في هذا العصر.

وإذا كنّا قد رأينا ميلَ بعض فقهاء السنة إلى تبرير المعاملات في ظل حكم المتغلّب، فإنّ ذلك لم يكن يتضمن في ذاته تزكيةً لنظامه أو تفضيلاً له على غيره، في حين أن الجديد في عصر الانحطاط أنّه كادت تغيبُ فيه هذه التحفظات في الولاء السياسي بل إنه بعكس ذلك قد عُرِفَ ذيوعاً لتصورٍ حول رجل السلطة انتهى إلى إضفاء طابعٍ من القداسة عليه، واعتبار الخروج عليه في سائر الأحوال مساوياً للكفر وخروجاً عن المقدّس، والجدير بالذكر هنا أن رُسُلَ السلطة القاهر بسيفه في هذا العصر لم يعد كما كان سابقاً يُمثل "مشكلة" تحتاج إلى تبريرٍ شرعي، ما دام العصر كلّه قد أصبح يتنفس ويتغذى من التغلّب والسيف والعنف المستمر والشامل، وما دام مفهوم الزمان نفسه قد صار معادلاً لمعنى التراجع الحتمي والابتعاد عن نموذج السلف الصالح.

*******************

الهوامش

*) كاتب وباحث من سورية.

1- عبد العزيز العيادي، ميشال فوكو: المعرفة والسلطة، بيروت، المؤسسة الجامعية، ط1، 1994م.

2- جيل دلوز، المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1987م.

3- انظر: إرنست غلنر، مجتمع مسلم، ترجمة أبو أحمد باقادر، مراجعة د.رضوان السيد، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2004م.

4- عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، بيروت، دار المنتخب العربي، 1994م.

5- انظر: كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد، قراءة في نظام الآداب السلطانية، بيروت، دار الطليعة، 1999م.

6- أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق فوقية حسن محمود، القاهرة، دار الأنصار، 1977م.

7- سعيد بنسعيد العلوي، الخطاب الأشعري، بيروت، دار المنتخب العربي، 1991م.

8- عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام ـ العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1998م.

9- كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد وشرعية السلطة في نظام الآداب السلطانية، [م، س]، ص125 وما بعدها.

10- انظر: عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، [م، س]، ص225.

11- كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد وشرعية السلطة في نظام الآداب السلطانية، [م، س]، ص 145 وما بعدها.

12- أيمن إبراهيم، الإسلامي والسلطان والملك، دمشق، دار الحصاد؛ دار الجندي، ط1، 1998م.

13- مكسيم رودنسون، الإسلام سياسة وعقيدة، ترجمة أسعد صقر، بيروت، دار عطية، ط1، 1996م.

14- انظر: محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2001م، ص257 وما بعدها.

15- عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، [م، س] ص 412.

16- انظر: محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق وشرح أحمد شاكر، القاهرة، مكتبة دار التراث، ط2، 1979م.

17- انظر: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط5، 1996م، ص22 وما بعدها.

18- عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، [م، س]، ص 365 وما بعدها.

19- المصدر نفسه، ص 534.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=194

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك