تولستوي و محمد عبده..صداقة على مستوى الفكر الإنساني

 

يعتبر ليو تولستوي أحد عمالقة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ومن أعظم الروائيين على الإطلاق، لما يمتاز به أدبه من نظرة إنسانية شاملة. ويعتبر الشيخ محمد عبده أحد رموز التجديد في الفقه الإسلامي ومن دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي. فما الذي يجمع هاذين الرجلين وما الذي يفرقهما؟ وعن أي مقام سنتحدث في هذا المقال؟

لعل الكثير من الناس لا يعلمون بأن هناك علاقة صداقة جمعت بين الرجلين في عهد ما، على الرغم من تباعد المسافات والاختلاف في الدين واللغة والمعتقد، لكن ذلك لم يمنع شخصية إسلامية متنورة مثل محمد عبده من التواصل مع شخصية مثل ليو تولستوي الذي رفض الكنيسة لأن له فلسفة مسيحية خاصة.

لم يحدث – في حدود علمي- أن التقى الرجلان وجها لوجه في مكان ما من هذا العالم، لكنهما التقيا مرارا في فضاءات الفكر الإنساني الذي لا ينضب، فكر صاحب روائع “الحرب والسلام” و”البعث” و”أنا كارنينا”، وفكر كاتب “رسالة التوحيد”و” شرح نهج البلاغة” و”العروة الوثقى”.

فكر تولستوي الذي أبان عن احترام خاص للثقافة العربية، فعرف الحكايات العربية منذ طفولته، وعرف حكاية “علاء الدين والمصباح السحري”، وقرأ “ألف ليلة وليلة”، وأعجب بحكاية “علي بابا والأربعون حرامي”، وحكاية “قمر الزمان بين الملك شهرمان”، و ذكر هاتين الحكايتين ضمن قائمة الحكايات التي تركت في نفسه أثرا كبيرا.

وفكر محمد عبده الذي يُعد واحدا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة، وهو الذي ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.

وقد تأثر به العديد من رواد النهضة مثل عبد الحميد بن باديس ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي. وتأثر هو أيضا بعلماء مسلمين وغير مسلمين وفي مقدمتهم المصلح الاجتماعي والمفكر الأخلاقي وداعية السلام تولستوي، فقد كان المفتي محمد عبده على معرفة بالأدب الروسي، والنشاط الاجتماعي الخاص بتولستوي، الأديب والحكيم، وأفكاره المستنيرة، وذلك من خلال الجهود المتواصلة للمستشرقين الروس.

وعلى الرغم من هذا التلاقي والتواصل الفكري، كانت الرسائل فقط هي جسر التواصل بين محمد عبده وتولستوي، لكن الرجلان توفيا قبل أن يكملا مسيرتهما القصيرة في التحاور، ولو استمرت هذه المسيرة لسنوات قليلة فقط لانتجت لنا عصارة فكر من أنقى وأرقى وأفيد فكر في هذا الزمن الذي اختلط فيه الحابل بالنابل.

رسائل تولستوي ومحمد عبده

لقد أعجب الشيخ محمد عبده والذى كان مفتى الديار المصرية فى ذلك الوقت  بكتابات تولستوي الروسي الإنساني، وبعد أن حرم المجمع الكنسي تولستوى عام 1901 من الكنيسة لنقده لها، أرسل الإمام محمد عبده عام 1904 إلى الفيلسوف تولستوى رسالة يقول فيه:

“أيها الحكيم الجليل.. مسيو تولستوي، لم نحظ بمعرفة شخصك..وكلنا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك.. وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك.. ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة الفطرة التى فطر الناس عليها ووفقك إلى الغاية التى هدى البشر اليها فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويتم بالعمل ولأن يكون ثمرته تعبا ترتاح بها نفسه.. وسعيا يبقى به ويرقى به جنسه وشعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة.. واستعملوا قواهم ـ التى لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها ـ فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم.

وأضاف محمد عبده في رسالته قائلا: “لقد نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد.. ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه.. وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه.. فكما كنت بقولك هاديا للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم.. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى بها كان مثالك فى العمل..إماما يقتدى به المسترشدون.. وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء.. كان مددا من عنايته للفقراء.. وأن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك فى النصح والإرشاد.. هو هذا الذى سموه “بالحرمان” و “البعاد” فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أْعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم. هذا وان نفوسنا الشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك وإنا نسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك.. ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول.. ويسوق الناس إلى الاقتداء بك فيما تعمل والسلام”.

ورد تولستوي على رسالة محمد عبده، وقال: صديقى العزيز، لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح وها أنذا أسارع بالرد عليها مؤكدا لكم أولا السعادة الكبرى التى أعطتنى إياها إذ جعلتنى على اتصال برجل متنور.. حتى ولو كان ينتمى إلى إيمان يختلف عن إيمانى الذى ولدت فيه وترعرعت عليه.. ومع هذا فإنى أشعر بأن ديننا واحد ـ لأنى أعتقد أن ضروب الإيمان مختلفة ومتعددة.

وأضاف تولستوي في رسالته: “وإنى لآمل ألا أكون مخطئا إذ أفترض ـ عبر ما يأتى فى رسالتكم ـ بأننى أدعو إلى الدين نفسه الذى هو دينكم.. الدين الذى يقوم على الاعتراف بالله وبشريعة الله التى هى حب القريب ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر أن يبادرنا به.. إننى مؤمن بأن كل المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر والأمر ينطبق على كل الديانات.. وإننى لأرى أنه بمقدار ما تمتلئ الأديان بضروب الجمود الفكرى والأفكار المتبعة والأعاجيب والخرافات.. بمقدار ما تفرق بين الناس بل تؤدى إلى توليد العداوات فيما بينهم.. وفى المقابل بمقدار ما تخلد الأديان إلى البساطة وبمقدار ما يصيبها النقاء تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للإنسانية ووحدة الجميع. وهذا هو السبب الذى جعل رسالتكم تبدو لى ممتعة وفى النهاية ارجو أن تتقبلوا يا جناب المفتى تعاطف صديقكم.. تولستوى”.

ولا تزال لحد الآن في متحف تولستوي الشهير في العاصمة الروسية موسكو، رسالتان موضوعتان في صندوق زجاجي أنيق، إحداهما مكتوبة باللغة العربية، بتوقيع مفتي الديار المصرية، محمد عبده، والأخرى باللغة الفرنسية، بتوقيع الأديب الروسي العالمي ليو تولستوي، لتكونا شاهدتين على الروابط الثقافية القديمة التي جمعت بين الرجلين.

تولستوي يكتب عن النبي محمد

مع بداية القرن العشرين، أصبح للروائي الروسي شهرة عالمية وصلت إلى الوطن العربي، وأثرت في كبار الأدباء والمفكرين العرب. ومع النشاط الذي عرفته حركة الترجمة من الروسية إلى العربية، ازدادت مسألة تعرف الأدباء والمفكرين العرب على الأدب الروسي وتأثرهم به، وكان لكتابات تولستوي مكانة خاصة ومميزة، وذلك بسبب تأثر هذا الكاتب الكبير بالتراث العربي، فالمجموعة الكاملة لأعمال تولستوي تضم حوالي 40 كتاباً تخص التراث العربي، من بينها ما يشتمل على آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

فلم يكتف تولستوي بقراءة التراث العربي والإسلامي، حيث كان يتقن اللغة العربية التي أصر على تعلمها، بل عكف على ترجمة عدد كبير من الأحاديث النبوية الشريفة من الإنكليزية إلى الروسية، بعد اطلاعه عليها في ترجمة عبد الله السهرودي، وكتب في هذه الترجمة مقدمة تتصف بالإنصاف والإعجاب بالنبي محمد، كما صدر له كتاب بعنوان “حكم النبي محمد” في العام 1909، أي قبل وفاته بعام واحد، يتحدث فيه عن الإسلام وقيمه السمحة ويضم مجموعة من أقوال الرسول الكريم، مع العلم بأنّ تولستوي كان معروفاً بفكره المحايد تجاه الأديان جميعها.

وقد كتب تولستوى في هذا الشأن كلاما جميلا عن النبى محمد عليه الصلاة والسلام قائلا فيه:”لا ريب أن النبي محمد كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنسانى خدمة جليلة ويكفيه فخرا وخلودا أنه هدى أمة بأكملها إلى نور الحق وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام وفتح لها طريق الحياة الكريمة.وضمن تولستوى كتابه بعضا من أقوال الرسول الكريم”.

هل مات تولستوي مسلما؟

وقد نشرت تقارير إعلامية روسية مؤخرا فقط، رواية تقول إن الكاتب الروسي تولستوي اعتنق الإسلام في آخر حياته. و لا يزال الجدل بهذا الخصوص مستمرا. فأين تكمن الأفكار الإنسانية لتولستوي ؟ وإلى أي مدى تعتبر هذه الأفكار حيوية وفعالة في أيامنا هذه، وكيف يمكنها أن تكون مسموعة بالنسبة لإنسان القرن الواحد والعشرين. ماذا كانت معتقدات تولستوي الدينية؟ وكيف كانت نظرته للإسلام؟ فمعتقداته الاجتماعية والفلسفية والأخلاقية والدينية، ونزعته الروحية لا تزال تحظى باهتمام كبير، وتدور حولها نقاشات عاصفة وضارية أحيانا، كما يُلاحظ اهتمام كبير بتراث تولستوي خلال السنوات الأخيرة في العالم الإسلامي، الذي يتذكره في الـ 20 من شهر نوفمبر بمرور 108 سنوات على رحيله.

المعروف عن تولستوي أنه في سن الثالثة والعشرين من عمره انغمس في و تأثر بطراز وأسلوب حياة الشعب الشيشاني في القفقاس وظهر ذلك  في روايتيه “الحاج مراد” و”الكازاك”، وكان لديه أصدقاء من الشيشانيين المسلمين. وقد كتب في دفتر مذكراته بعد أسبوعين من وصوله إلى الشيشان هذه العبارات “لقد رعتني يد الله عز و جل، وأنا أشكره جدا على ذلك. إنني على يقين جدا، بأنه لن يحدث لي أي مكروه هنا، وكل شيء لي سيكون بخير، لأن ذلك هو نصيبي وتلك هي إرادة الله”.

وبالنسبة للذين قاموا بتحليل مذكرات ورسائل تولستوي في تلك الفترة ، أثبتوا بأنه قد سعى بشكل دائم لفهم البناء الروحي لحياة الشعوب المحلية، وعاداتها وتقاليدها، وتكوين انطباعاته الشخصية عنها. حيث أولى اهتماما كبيرا لجمع الفن الشعبي الشفهي والترويج له ونشر فولكلوره. وكتب في عام 1852 أغنيتين شعبيتين شيشانيتين من كلمات أصدقائه المسلمين الشيشان.

ولما شارف تولستوي على الخمسين من عمره حدث تغيّر كبير في حياته، انقلاب روحي هائل لم يستطع النقاد تفسيره لأن تلك الفترة من حياته كانت زاخرة بالنجاحات المتلاحقة. وشملت قراءاته الكثير من العقائد الدينية، وكان على يقين تام بأن أهم أعمال حياته هو محاولة تركيب حكمتي الشرق والغرب في جملة واحدة، وأدّت دراسته الشرقية هذه لاسيما مبادئ الزهد في الإسلام إلى زيادة مقته للمادية القاتلة.

دفن كمسلم ولا وجود للصليب على شاهد قبره

إن أبرز مسألة في إنتاج تولستوي الإبداعي هي مغزى الحياة، ورسالة الإنسان ودور المعايير الخلقية في نشاطه. وقد تبوأ الإسلام مكانة مرموقة بين العقائد التي أقبل تولستوي على دراستها، وقد أشار بنفسه إلى ذلك. واستحوذت معاني القرآن الكريم على اهتمامه، كما استأثرت أحاديث الرسول “صلى الله عليه وسلم” بحبه وعنايته، لأنه وجد فيها الكثير من أفكاره التي كان يؤمن بها ويدعو إليها، ومن ثمّ وجد لزاماً عليه التعريف بالإسلام، وكان له ذلك من خلال كتيبه “حكم النبي محمد” صلى الله عليه وسلم ،الذي يشير في مقدمته إلى عقيدة التوحيد في الإسلام وإلى الثواب والعقاب والدعوة إلى صلة الرحم.

في العشرين من نوفمبر عام 1910، توفي ليو تولستوي عندما أصيب بالتهاب رئوي في الـ 82 من العمر، ورفض الكهنة دفنه وفق الطقوس الأرثوذكسية الدينية، وبعض الباحثين الروس يقولون إن هناك احتمالا قويا بأنه اعتنق الإسلام، وذلك حسب رأي مترجمة القرآن إلى الروسية الأديبة الروسية فاليريا بروخافا، التي تقول إن تولستوي قد أسلم في أواخر حياته بعد قيامه بدراسة الإسلام، وأوصى أن يدفن كمسلم، وتستدل على ذلك بعدم وجود إشارة الصليب على شاهد قبره. بل تردد بعض الأوساط الأدبية أنه أسلم فعلا، وهذه الحقيقة غير معروفة في العالم العربي والإسلامي، حيث إنه في السنوات الأخيرة من حياته كان دائم التفكير والتأمل في معنى الحياة، يبحث عن الطرق الموصلة إلى الله.

المصدر: https://islamonline.net/27637

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك