البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر

بسم الله الرحمن الرحيم 

يُعَدٌّ الحوار - بمعناه الواسع - مع الآخر المنتمي لثقافة مختلفة ونائية من أصعب ما يواجه المفكر المسلم من مهام، بل هو من المعضلات الفكرية والبلاغية التي تواجه المفكرين المهتمين بالحوار الفكري بين الثقافات بوجه عام. تنبع هذه الصعوبة من محاولة المفكر المسلم الجمع بين شيئين مختلفين أو متناقضينº بين محاولة تقريب المفهومات والأفكار والقيم ودلالاتها السائدة في الثقافة العربية والإسلامية إلى القارئ أو المثقف الغربي والأمريكي، والذي ينتمي إلى ثقافة مختلفة بمفهوماتها الخاصة وأفكارها وقيمها، وهذا لا ينفــي وجود قدر مشـترك مـن التــشابه - وليس التطابق - في بعض المفهومات والقيم ودلالاتها بين الثقافتين.

إن أحد أكبر العقبات والتحديات التي تواجه هذا النوع من الحوار «عبر الثقافي»، والتي تحدد بشكل كبير مدى تأثيرهº تكمن في مدى اختراق الخطاب الموجه وانتشاره (الخطاب هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل جميع استخدامات اللغة) في الفضاء المعرفي الذي يملكه الآخر ويحيطه بثقافته ولغته وإيديولوجيته وطريقة تفكيره. إن أي اختراق معرفي ناجح هو بمثابة احتلال مساحة معرفية في فكر الثقافة المتلقية ووعيها، لكن هذا التأثير الخطير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى معرفة الكاتب المفكر بالآخر، ومراعاته لخصوصية القراء الفكرية والثقافية، ومحاولة محاكاة طرائق تفكيرهم قدر الإمكان، مع استخدام الأساليب البلاغية والجدلية المقبولة والمنتشرة في خطابهم الفكري بشقيه التحليلي والنقدي.

وسوف أتناول في هذا المقال - وبإيجاز - بعض الجوانب النظرية والعملية للحوار الفكري مع الآخر الغربي:

القسم الأول: أبدأ به مستهلاً ببعض أهم مقومات الخطاب الفكري الغربي المعاصر، والتي منها الاعتماد على الجدل والمنطق الاستنتاجي، ومركزية المفهومات، وأهمية النظرية والتنظير في العلوم الإنسانية، واعتماد بُناها وأنظمتها المعرفية على التحليل والنقد.

أما القسم الثاني: فأناقش فيه بعض القضايا أو الجوانب المتعلقة بكتابة الحوار الفكري، وهي خيارات التأليف والترجمة وإعادة الصياغة.

أما القسم الثالث والأخير: فسوف أركز فيه على بعض المقترحات والحلول العملية والممكنة، والتي أرى أن تجمع بين الاستفادة من الأساليب الفكرية والبلاغية السائدة في الخطاب الفكري الغربي، وبين التفكير والنظرة الاستراتيجية لمستقبل حوار الثقافات الفكري، ومحاولة التقريب بينهما قدر الإمكان.

* ثانياً: الحوار الفكري بين التأليف والترجمة وإعادة الصياغة:

من الأفضل في حال الحوار مع الآخر استخدام لغته مباشرة دون اللجوء للترجمة، مع المعرفة العميقة بفكره وتاريخه وثقافته، ليس المعرفة النظرية فحسب، وإنما المعرفة المقترنة بكثرة ممارسة الكتابة التحليلية والنقدية بلغته، والتفكير بطريقته. فإن تعسر هذا ـ والحال غالباً كذلك ـ فالأفضل إعادة صياغة ما كُتب بالعربية، سواء كان مقالاً أو بياناً أو كتاباً، وليس ترجمته فقطº لكي يناسب أحوال المخاطبين وأفكارهم وثقافتهم، مع المحافظة على جوهر النص الأصلي ولبه. وليس بالضرورة أن تطال «إعادة الصياغة» جميع ما كُتب في النص الأصلي (أي جميع الجمل والعبارات والمفهومات)، ولكن تكون بالقدر المطلوب الذي يراه المترجم أو الكاتب، والذي لا يذهب بلب أفكار النص الأصلي ولا يشوّه النص الجديد أيضاً.

وبسبب تشابه بنى اللغات البشرية، وتشابه طرائق التفكير ذات الطابع الكوني أو «عبر الثقافي»، وكذلك تداخل الثقافات واتصالهاº فإن المترجم سيجد قدراً مشتركاً بين اللغتين والثقافتين والفكرين لا يحتاج فيه إلى إعادة الصياغة بالمعنى المقصود هنا، وإنما تكفي فيه الترجمة الجيدة بالمعنى المعروف.

وعادة ما يتفاوت الكتاب المفكرون في مدى قربهم أو بعدهم عن فكر اللغة أو الثقافة المقابلة الأخرى وأسلوبها (أي مقدار وجود القدر المشترك بين اللغتين والثقافتين)º وذلك حسب اختلاف تأهيلهم ومعرفتهم بالموضوع المطروح، ومعرفتهم بالآخر المخاطب وفكره وتاريخه وثقافته، واستحضار ما أمكن من ذلك أثناء الكتابة.

ومما يدخل في عملية «إعادة صياغة» المفهومات أو المصطلحات أو العبارات أو التراكيب أو الفقرات: التقديم والتأخير، والتبديل، والحذف والإضافة، ومراجعة العلاقات المتعددة بين المفهومات والاستنتاجات المنطقية الرئيسة العامة والفرعية التفصيلية، وإبراز بعض الجوانب المهمة التي اختصرها المفكر، إلى غير ذلك.

ويدخل في مراعاة خصوصية القراء الغربيين أيضاً استخدام المصطلحات والمفهومات المعروفة عندهم، ليس عن طريق نقل المصطلحات والمفهومات والعبارات والتراكيب الواردة في النص الأصلي أو العربي وترجمتها حرفياً، والذي غالباً ما يسبب اللبس والغموض في المعنىº ومن ثم تثبيط القارئ وصرفه عن الاستفادة أو التأثر بالمكتوب، أو الاكتفاء بترجمة معانيها فقط وفق ما يراه المترجم، وإنما عن طريق استخدام ما يقابلها في اللغة والثقافة الأخرى لكي يسهل تصورها وفهمها، مع إبراز الفروق الجوهرية في دلالات المفهومات والقيم الإيديولوجية بين الثقافتينº لكي يظهر تميز الفكر الإسلامي وأصالته وشموله وعمقه.

أما المصطلحات أو المفهومات التي لا مقابل لها في اللغة والثقافة الأخرى فلا ينبغي أن يركّز عليها كثيراً، وإنما تترجم معانيها باختصار عند الحاجة (هذه هي الطريقة المثلى في الإيضاح والتبيين في مثل هذا المقام الذي لا يقصد منه بيان دلالات المصطلحات الشرعية بدقـة، كـما هــو الحـال فـي مخاطبـة المـسلمين الذين لا يتحدثون العربية).

ومن مفارقات الترجمة بين اللغتين والثقافتين المتباعدتينº أنه كلما حاول المترجم المحافظة على معالم النص الأصلي والاقتراب منه كان ذلك على حساب النص الآخر، وتسبب في حدوث التشويش والغموض أثناء القراءة، ومن ثم تثبيط القارئ عن إكمال قراءة النص والتفاعل معه والاستفادة منه.

إن العلاقة التبادلية بين الكاتب والقارئ والتي تنشأ عن طريق النص تكون ـ أو تتكون ـ أثناء كتابة النص لا بعدهاº إذ هي تشكل الخطاب وتحدد معالمه وأبعاده وجوانبه المتعددةº المعرفية والأسلوبية على حد سواء. بمعنى آخر: إن إيديولوجية القارئ ومعرفته الخاصة عن الموضوع، أو العامة عن المفكر والثقافة الأخرى، وأفكاره وقيمهº ينبغي أن تسهم بشكل كبير في صياغة النص ـ وخصوصاً النهائي ـ أثناء الكتابة. ولأن هذا الشرط البلاغي ينبغي توفره في الكتابة أحادية اللغة والثقافةº فإن الحاجة إليه في الحوار والتخاطب «عبر الثقافي» أشد والاهتمام به أولى. وهذا ما يجعل الكتابة الفكرية بالعربية (أي مخاطبة الآخر بلغة المتحدث) أولاً ثم ترجمتها (بالمعنى السائد للكلمة) إلى لغة المخاطب إخلالاً بهذا الشرط المهم في الغالب. والأولى أن يأخذ النص المكتوب بلغة المخاطبين ـ سواء أكُتب مباشرة أو صِيغ من النص الأصلي ـ جل العناية والمراجعةº حيث يجب أن يعامل النص المترجم خصوصاً كنص مستقل يخضع لقواعد لغته وفكره ومنطقهما، وليس للغة النص الأصلي وفكره (عادة تأتي هذه المرحلة من المراجعة النهائية الدقيقة المنبتة عن النص الأصلي، بعد مرحلة انتقالية من الترجمة يكون فيها النص المترجم أقرب إلى لغة النص الأصلي ومنطقه وفكره).

*المصدر:http://midad.com/article/213598/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك