الدول النامية.. ومشكلة هروب رؤوس الأموال

 

تعد مشكلة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج من المشاكل الخطيرة التي تعاني منها معظم الدول النامية، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن الأموال الهاربة من هذه الدول تفوق مديونيتها. وتبرز خطورة هذه الظاهرة فيما يترتب عليها من آثار اقتصادية واجتماعية خطيرة.

ويعتبر هروب الأموال من الدول النامية إلى الخارج نتيجة طبيعية للخطط الاقتصادية والظروف الأمنية في هذه الدول. وتخرج الأموال بطرق شرعية خوفا من المخاطر وطمعا في الأرباح. كما تخرج بطرق غير شرعية، وهو ما يحدث في حالة الفساد والإداري والمالي والاتجار غير المشروع، ويكون الهدف حينئذ تأمين هذه الأموال وإخفاؤها عن عين المراقبة وإفلات أصحابها من الملاحقة والعقاب.

آثار سلبية

تبرز خطورة هذه الظاهرة فيما يترتب عليها من آثار سلبية على المجتمع وعلى الاقتصاد القومي، حيث أن هروب هذه الأموال يعني فقدان الدول النامية لأحد عوامل الإنتاج النادرة وهو رأس المال؛ وبالتالي عجز المدخرات الوطنية عن توفير التمويل للاستثمارات المحلية وانخفاض معدلات النمو، وزيادة البطالة وتدهور المعيشة.

من ناحية أخرى فإن هروب هذه الأموال من أسباب انخفاض الإيرادات الضريبية للدولة وهو ما سيؤدي للعجز في الميزانية، ولتمويل هذا العجز ستلجأ الحكومة لزيادة الضرائب أو للمديونية أو للتمويل التضخمي، ولا شك أن هذه الخيارات ستزيد الطين بلة، وستؤدي لهجرة المزيد من الأموال، لأنها تزيد شروط الاستثمار صعوبة وسترفع من مخاطره.

وإذا هاجرت الأموال للخارج في شكل عملات صعبة فإن ذلك سيؤدي لتدهور قيمة العملة المحلية وسيؤثر على الواردات وقد يسبب عجز الدولة عن الوفاء بأقساط ديونها التي يتم سدادها بالعملات الصعبة. ومن المعلوم أن تراجع قيمة العملة المحلية مزعج بالنسبة للمستثمرين، وأن تراجع الواردات من السلع الأولية والوسيطة يؤدي لتباطؤ النمو، وأن عجز الدولة عن الوفاء بأقساط الديون سيؤثر على سمعتها وربما يكلفها دفع فوائد إضافية مستقبلا.

ومن منظور اجتماعي فإن كل هذه الآثار وغيرها ستزيد من التفاوت في توزيع الموارد بين المواطنين، وهو ما سينعكس على حالتهم المعيشية، الأمر الذي قد ينذر باضطرابات اجتماعية تهدد تماسك المجتمع.

قنوات تهريب الأموال

تعد التجارة الخارجية من أهم القنوات غير المشروعة التي يعتمد عليها البعض لتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، سواء كانت هذه الأموال عامة أو خاصة؛ فعن طريق التصدير يمكن للجهات المختصة أن تتمالأ مع الطرف الآخر وتقدم فواتير بأقل من القيمة الحقيقية للصفقة، على أن تستلم المبالغ المتبقية في الخارج ويتم الاحتفاظ بها هناك. كذلك عن طريق الاستيراد يمكن لتلك الجهات أن تستلم فواتير بأزيد من القيمة الفعلية للصفقة وتحتفظ بالمبلغ الزائد بالخارج. وتلعب صفقات الأسلحة هنا دورا مهما من خلال إخفاء الحقائق وتهريب الأموال العامة.

من ناحية أخرى يمكن تهريب هذه الأموال عن طريق الحدود على شكل عملات صعبة أو معادن ثمينة أو غيرها. هذا عدا عن نقل الأموال واستثمارها بالخارج بالطرق المشروعة والقنوات الرسمية المعروفة، بداعي البحث عن الفرق في العوائد أو في المخاطر أو بهدف تنويع المحافظ الاستثمارية.

أسباب هروب الأموال

يلعب الوضع الاقتصادي والأمني للدول النامية دورا مهما في هروب الأموال للخارج؛ فأغلب هذه الاقتصادات عاجزة عن استيعاب الأموال، بسبب غياب التكنولوجيا المتطورة والكادر البشري المدرب والبنية التحية الضرورية وغيريها من العوامل التي يحتاجها الاستثمار، وذلك ما ينعكس على العائد ويجعله هزيلا وهو ما يجعل أصحاب الأموال يفكرون في نقلها إلى بيئة مختلفة.

كذلك فإن الكثير من الدول النامية تفتقر إلى القوانين والنظم التي تشجع على الاستثمار، وتغيب فيها العدالة الضريبية، وترتفع مستويات التضخم، ويتم التحكم في معدلات الفائدة وسعر صرف العملات المحلية بشكل مجاف للحقيقة، وهي أمور تشكل مخاوف حقيقية لأصحاب الأموال لأنها قد تعرضهم في أي لحظة لفقدان جزء مهم من ثروتهم، وتشجعهم بالتالي على استثمار هذه الأموال في أصول أجنبية أقل مخاطر وأكثر ربحية.

من جهة أخرى فإن معظم الدول النامية تعاني من الفساد الإداري والمالي وعدم الاستقرار الأمني وهي مخاطر طاردة لرؤوس الأموال، مما جعل أصحاب الأموال الخاصة يفضلون الاستثمار في البلدان الأكثر استقرارا، أما المفسدون من أكلة المال العام في هذه البلدان ومن يشتغلون بتبييض الأموال والاتجار في المجالات المحظورة فيلجؤون لتهريب الأموال التي حصلوا عليها بطرق غير شرعية إلى أماكن يصعب اكتشافها خوفا من الملاحقة في المستقبل.

هل من سبيل لعودة هذه الأموال؟

قبل التفكير في إيجاد حل لإعادة هذه الأموال من الخارج، لا بد أولا من التفكير مليا في وسائل من شأنها أن توقف هذا النزيف المستمر لأموال الدول النامية للخارج في الوقت الذي تتجاوز فيه المديونية الخارجية لهذه  الدول كل العتبات المحرجة، وترزح معظم شعوبها في الفقر والجهل والتخلف وتكثر فيها الحروب والنزاعات.

إن توقف هروب هذه الأموال للخارج يحتاج إلى وقت ليس بالقصير لأنه ببساطة يتطلب التغلب على أسباب الظاهرة  من جذورها؛ والأسباب – كما أسلفنا- اقتصادية وأمنية في معظمها. فالمطلوب إذن هو طمأنة أصحاب الأموال من خلال توفير المناخ الذي يشجعهم على الاستثمار في أوطانهم، وذلك عن طريق إدخال الإصلاحات التي تضمن حصول الاستقرار، وكذا تطوير المنظومة الاقتصادية واتباع سياسة عقلانية واقعية فيما يتعلق بسعر الفائدة والتضخم وصرف العملة المحلية والعدالة الضريبية وتسهيل إجراءات الاستثمار.

لابد كذلك من إدخال الإصلاحات القانونية الضرورية خاصة في الجانب المالي وفرض إجراءات صارمة وقوانين رادعة تجرم الفساد المالي والاتجار غير المشروع وتوقع أقسى العقوبات على مرتكبي الجرائم المالية بمختلف أشكالها.

إن القيام بالإصلاحات الضرورية كفيل بإعادة جزء من الأموال الهاربة خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأموال الهاربة بطرق شرعية، نظرا لكثرة الفرص الاستثمارية في الدول النامية مقارنة بدول الغرب التي وصلت لمرحلة النضج ولم تعد فيها فرص استثمارية مغرية.

أما بالنسبة للأموال الهاربة بطرق غير شرعية فيصعب استرجاعها نظرا لتعقد طرق تهريبها، والتكتم الذي تحاط به عادة من قبل بعض المؤسسات المصرفية في الدول الغربية المستقبلة لها، مستعينة بقوانين تسمح لها بذلك. ورغم ذلك فما من شك في أن الدول النامية تستطيع استعادة كل أو بعض تلك الأموال عن طريق التعاون وتكاتف الجهود وممارسة مختلف وسائل الضغط على الدول الأوروبية والدفع من أجل البدء بتطبيق الاتفاقات الدولية الخاصة بالفساد المالي وغسيل الأموال والاتجار غير المشروع بمختلف أنواعه.

المصدر: https://islamonline.net/27506

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك