الاستشراق الألماني مرةً أخرى ترجمةٌ عربية لكتاب نولدكه عن القرآن
الاستشراق الألماني مرةً أخرى ترجمةٌ عربية لكتاب نولدكه عن القرآن
رضوان السيد
فاجأتنا مؤسسة كونراد أديناور العاملة في "التنمية" في الشرق الأوسط، بالإعلان عن صدور ترجمةٍ عربية لكتاب المستشرق الألماني الكبير تيودور نولدكـه (1836-1930م): "تاريخ القرآن". وللكتاب قصةٌ طويلةٌ؛ فقد تقدم نولدكه بأصله للحصول على الدكتوراه عام 1859/1860م، وكان وقتها جزءاً صغيراً لا يزيد عدد صفحاته على الـ200 صفحة، ويحتلُّ قسماً معتبراً منه نقد كتابي غوستان فايل وشبرنغر عن القرآن والنبي. ثم عرضت عليه دار نشرٍ ألمانية إعادة طبعه عام 1898م، ولأنَّ نظره كان قد ضعُف؛ فقد كلَّف بذلك تلميذه فريدريش شفاللي، الذي أعاد صياغته مُراعياً في ذلك ما صدر من بحوثٍ جديدة حول القرآن، وصدر الجزء الأول من الكتاب مرةً ثانية عام 1909م. وتوفي شفاللي قبل أستاذه عام 1919 فصدر الجزء الثاني من الكتاب بتحرير تلميذٍ آخر من تلامذة نولدكه هو أوغُست فيشر عام 1920م. وبإشارةٍ من نولدكه نفسه عمل المستشرق برغشترسّر على إصدار الجزء الثالث؛ لكنه توفّي عام 1934م (كان من عشاّق الجبال، وفيها لقي حتفه)؛ فسارع تلميذه أوتو برتزل لإكمال المخطوط وإصداره عام 1937م. وفي العام 2000م أعادت دار النشر الشرقية (أولمز) إصدار الأجزاء الثلاثة في مجلدٍ واحد.
بيد أنّ الكتاب أشتهر منذ الإصدار الثاني للجزء الأول عام 1909م. ومنذ أواخر الثلاثينات عُرف عن الشيخ أمين الخولي، أستاذ البلاغة بالجامعة المصرية (وزوج بنت الشاطئ لاحقاً) إعجابه بالكتاب، وعزمه على ترجمته إلى العربية. لكننا لا نعرفُ لماذا لم يكتمل المشروع. وقد سألتُ أواخِرَ الستينات من القرن الماضي الدكتور عبدالرحمن بدوي عن المسألة، فذهب إلى أنّ مشروعات الشيخ الخولي كانت كثيرةً، لكنها بقيت في الغالب مشروعات. أمّا بنت الشاطئ فقد تذكرتْ عند سؤالي لها أواخر السبعينات أنّ ترجمة الجزء الأول اكتملت، لكنّ الشيخوخة أدركت الخولي، ثم إنه تردد بعد الضجة التي أثيرت حول كتاب تلميذه محمد أحمد خلف الله عن الفن القصصي في القرآن (عندي منه طبعة صادرة عام 1951م وقد قامت بنشره من جديد دار نشرٍ لبنانية، وقدَّم له الأستاذ خليل عبد الكريم الذي توفي قبل عام). وبدون تطويلٍ؛ فقد عدتُ لقراءة الكتاب بعد أن كنتُ قد نسيته منذ العام 1975م. وقد شعرتُ أنه قديمٌ قديمٌ، وقد لا يكونُ مفيداً بعد تجاوز الدراسات القرآنية له لعقودٍ وعقود أو ما يُقاربُ القرن. لكنْ أذكر أنني عندما قرأتُهُ للمرة الأولى رأيتُ أنه مفيدٌ في تقسيمه للسُوَر المكية، بحسب الموضوعات والأسلوب والأحداث القليلة الواردة فيه، إلى ثلاث مراحل (لكننا نعلمُ الآن ومن نولدكه نفسه أنّ الفكرة ليست له بل لغوستاف فايل في أطروحةٍ صادرة عام 1847م)، وقد جاء إليّ قبل ثلاثة أشهُرٍ ناشرٌ عربيٌ ومعه ترجمةٌ للجزأين الأول والثاني من الكتاب، وأراد مني أن أطّلع على الترجمة؛ فإن أعجبتني فلأكتب مقدمةً للكتاب كلّه، بعد أن يكونَ قد جلب ترجمةً للجزء الثالث كانت قيد الإنجاز. لكنْ قبل أن أبدأ بقراءة الترجمة عمدتُ لقراءة الأصل الألماني كلّه من طبعة أولمز الموجودة بمكتبتي. وقد شهدتُ وخبرتُ عجباً. وجدْتُ أنّ الكتاب الذي تعودُ أصولُهُ للعام 1860م قد تجاوزه الزمن، لامن حيث المعلومات وحسْب، بل وبالدرجة الأولى من حيث المنهج. فطريقة نولدكه هي الطريقة الفيلولوجية القديمة لدى المستشرقين الألمان على الخصوص، وهي طريقةٌ دقيقةٌ لكنها مضنيةٌ و مملةٌ، وتخلط التاريخ بفقه اللغة، وتعتمد الألفاظ والمفردات، وتشبعها تفكيكاً ومقارنةً باللغات السامية، دونما اهتمامٍ بطبائع النص أو بالأسلوب. ولأنّ الأمر كذلك؛ فإنّ أحداً من الفرنسيين أو البريطانيين أو الأميركان ما عمد لترجمة الكتاب إلى الفرنسية أو الإنجليزية. واكتفى بلاشير في مقدمة ترجمته للقرآن إلى الفرنسية بتلخيص النتائج التي توصل إليها نولدكه وأهمُها أمران: المراحل الثلاث للسُوَر المكية، والترتيب الآخر للسُور القرآنية ليس استناداً لأسباب النزول المعروفة؛ بل للموضوعات، في التصور الذي ارتآه الرجل وتلامذُتهُ لتطورها.
قسّم نولدكه (وتلامذته من بعده) الكتاب بأجزائه الثلاثة إلى ثلاثة أقسام كبرى؛ القسم الأول عنوانه: في أصل القرآن، والقسم الثاني عنوانه: جمع القرآن، والقسم الثالث عنوانه: تاريخ نصّ القرآن.
ويعني نولدكه وشفاللي بأصل القرآن نبوة النبي، وطرائق تلقّيه الوحي، وبدايات الرسالة، وما يتصل بأمية النبي، ووسائل كتابة القرآن، والتوازن والتوتُّر بين الشفوي والكتابي، ومسألة المكي والمدني ومعناها وأهميتها. فكما سبق القول فإنه يتصرف إلى تحليل السُوَر المكية وتحقيقها استناداً إلى الموضوعات والمفردات وبعض الأحداث القليلة الواردة فيها. ونولدكه يناقش أثناء ترتيبه الآخر للسُور المكية (وهي ثلثا القرآن تقريباً) آراء السابقين عليه: فايل وشبرنغر وهرشفلد (الألمان)، وميور (البريطاني). وهو يبدو شديد الموضوعية والاعتدال في آرائه تجاه القرآن والنبي؛ وبخاصةٍ مقارنةً بشبرنغر وميور. لكنه ينطلق، شأنه في ذلك شأن سائر المستشرقين حتى الثلاثينات من القرن العشرين، إلى أنّ نبوة النبي والقرآن على حدٍ سواء، مستمدان من مواريث بني إسرائيل، لكنْ ليس من التوراة أو العهد القديم نفسه؛ بل من الهاغادا. لكنه لا يخبرنا لماذا ظهرت بهذه الصيغة المختلفة تماماً عن صيغة العهد القديم، ولماذا لم تهتم بالقصص النسبي والسرديات اهتمام التوارة بها. ثم ما هذا النمطُ البديعُ الظاهر في السُور المكية، وهي السور الأولى، والتي ينبغي (بحسب مقولته) أن تكون أكثر تأثراً بالعهد القديم من تلك التي تزلت بالمدينة بعد أن تعّمقت تجربةُ النبي، وصارت للإسلام جماعةٌ حضريةٌ مستقرة؛ ثم ما معنى هذا الأسلوب المدني الهادئ في السُوَر غير المكية، والاتجاه للاشتراع، والذي يختلفُ تماماً عن الأسلوب التوراتي؟!
إنّ مشكلة نولدكه، وساتر فيلولوجيي الاستشراق أنهم لا يرون الكتابات القديمة باعتبارها "نصاً" أو نصوصاً لها بنيتها وقوامُها؛ بل لا يفتأون يذكرون أنّ أصل هذا المفرد كذا، وذاك الفرد يشبه الكلمة الواردة في سِفر التوراة كذا. وينسون تماماً أن للنص قواماً وانتظاما داخلياً لا يستقيم معه إدعاءُ إرجاع مفردات النصّ إلى أصولِها حتى لو كان النصُّ من كتاب الأغاني، أو من البيان والتبيين للجاحظ؛ فكيف بالقرآن وهو نصٌّ دينيٌ شعائريٌ متلوٌّ فيه الشفوية، وفيه الحفظ، وفيه الإنشادُ والتغني. والطريف أنّ نولدكه يتحدث عن "الوحدة الموضوعية"؛ وقد كانت في مطلع القرن الماضي مسلَّمةً وقع في إسارها عباس محمود العقاد ومدرسة الديوان في ما أخذوه على شوقي وعلى الشعر الغنائي العربي!
في القسم الثاني المسمَّى "جمع القرآن" يعمد نولدكه وتلميذُه شفاللي وبرغشتراسّر لقراءة مسألتين رئيسيتين؛ مسألة التعامل مع الوحي حفظاً وتدويناً، ومسألة جمع القرآن أيام عثمان. ولا يقبل نولدكه الروايات التقليدية الإسلامية على علاّتها لكنه بخلاف زملائه كان يرى أنَّ النبيَّ كان أمياً فعلاً، وهذه خصِيصةٌ بارزةٌ لدى أنبياء بني إسرائيل كما يقول. ثم إنّ القرآن ذا الطابع الشفوي والشعائري، كان مخَّططاً له منذ البداية أن يُدوَّن؛ بحيث يجري الحفاظُ على الأمرين: أمر الشفوية الضرورية في التلاوة والإنشاد، وأمر الحفظ والإثبات والأمن من التغيير أو النسيان بالتدوين. ويطيل نولدكه في مناقشة قصة جمع عثمان للقرآن، ولا يصدّق كثيراً من التفاصيل؛ لكنه واثقٌ من الخطوط الإنسانية، وأنّ القرآن كان مدوَّناً منذ أيام النبي، لكنه كُتب في مصاحف أيام عثمان. ويرى نولدكه في هذا القسم أنّ القرآن مرتبطٌ بسيرة النبي في المدينة، ولذلك يُطيل في المقارنة بين الآيات وأحداث السيرة (ابن إسحاق)، كما يناقش مع غولدزين ولامنس علاقة السيرة بالتاريخ. وهو يشتدُّ في الحملة على لامنس (سلك أكثر المسالك تطرفاً)؛ ويعتبر أنّ المغازي نقاط مهمة للتعرف على نزول الآيات القرآنية؛ سواء من حيث الأخبار التاريخية أو من حيث معالجة موضوعات السيرة والمغازي في القرآن. والواقع أنّ بحثه في السيرة النبوية، ومصادرها العربية، ثم في سِيَر النبي في العصور الوسطى الأوروبية، أمرٌ يستحق الذكر والتقدير؛ لكنّ البحوث في السيرة والمغازي تجاوزت ما توصل إليه نولدكه منذ زمنٍ بعيد؛ وكذا الدراسات الغربية عن تكوينات الرؤية الأوروبية للقرآن والإسلام عبر العصور.
أمّا القسم الثالث وعنوانه: تاريخ نصّ القرآن، فيدورُ في أكثره على القراءات القرآنية. والمعروف أنّ برغشتراسّر وبرتزل عملا لأكثر من عقدٍ من الزمان في مجال القراءات والقراءات الشاذة؛ راجيين من وراء ذلك إثبات أنّ النصَّ الحاليَّ من القرآن إنما هو نصٌّ مشدَّبٌ ومجموعٌ من عشرات النصوص الأخرى التي صارت بالجمع في المصحف هامشية! والمعروف أنّ المسلمين يعللون القراءات بأنها من بقايا لهجات القبائل والأمصار. أمّا نولدكه وتلامذته فيذكرون عدة أسباب: المرحلة الشفوية، وأخطاء الرسم والإعجام، والتوسع في التفسير والتأويل، بقايا المرحلة الشفوية المبكّرة.. الخ. وقد اعترف برتزل في الأربعينات أنّ القراءات لا تدلُّ على أنّ القرآن كان مشرذَماً أو أنَّ نصَّه ما كان منضبطاً.
لقد جرى تجاوزُ كتاب نولدكه منذ عدة عقودٍ باتجاهات السلب والإيجاب. في السلب قال وانسبورو وكرون وتوك وأتباعهم: إنّ القرآن لم يظهر نصه القانوني حتى في أواخر القرن الثاني! وفي الإيجاب جرت دراساتٌ كثيرةٌ عن النبوة والسيرة والقراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث. وكان أكبر الإنجازات ما توصلت إليه الباحثة الألمانية أنجليكا نويفرت من أنّ القرآن إنما هو نصٌّ متلوٌّ يُلقى وينشدُ، وتتجدد حيويته وفعاليته بالقراءة بصوتٍ عال، والتلاوة والإنشاد يعنيان أنّ النصَّ كان مضبوطاً ومرتباً منذ البداية. ولذلك تتضاءل فيه قيمة القراءة الفيلولوجية والتاريخانية، اللتين تجعلانه كأنما هو أكثرٌ من الدرجة الثالثة.
هل كانت الترجمة ضرورية؟ وهل هي مفيدة؟ قام بهذه الترجمة الجميلة الدكتور جورج تامر، وهو لبنانيٌّ يدرّس بجامعة أرلنغن بألمانيا. وكلُّ معرفةٍ وإن تكن متواضعة مفيدة ومؤثرة، لكنّ المنهج الفيلولوجي لا يصلح لقراءة القرآن قراءةً معمقة، ثم إنّ الزمن تجاوز هذا الكتاب بما يجعله غير ذي قيمةٍ لدى المختصين، إلاّ باعتباره أثراً تاريخياً.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=184