النسق السياسي العربي بين الفساد والإصلاح: الأسس والمرجعيات- مقاربة سوسيو أنثروبولوجية

عياد أبلال

 

إن البحث الأنثروبولوجي في السياسة هو بحثٌ في النسق الثقافي، حيث إن طبيعة النظام السياسي في كل البلدان والمجتمعات هو انعكاس أنثربو رمزي لثقافته، ونتيجة لأركيولوجيا السلطة والاجتماع.

والديمقراطية نفسها، باعتبارها أرقى أشكال إدارة الحكم والسلطة لا يمكن اختزالها في الفعل الاقتراعي البسيط، بقدر ما هي خلاصة تركيبية للثقافة السياسية التي تتفكك أثناء التشريح الأنثروبولوجي إلى رموز ودلالات لمشمول التمثلات والصور التي يكونها الأفراد والجماعات عن السياسة والسياسيين.

ضمن هذا الأفق، لا يستقيم بناء المعنى السياسي إلا باستحضار كل العلوم ذات الصلة، خاصة وأن الفساد بمختلف تجلياته هو نتاج الخلل الوظيفي في أداء النسق السياسي. لذلك، سنحاول استدعاء كل المصادر والموارد المعرفية الممكنة لتفكيك مفهومي الفساد والإصلاح السياسي في المجتمعات العربية، وإعادة بناء المعنى السياسي من خلال الأنثروبولوجيا التأويلية الرمزية كمنهج يتعالق مع باقي الحقول المعرفية، في وقت اللا معنى واللا سياسة الذي ينتجه تضخم الفساد في الأحزاب والحكومات، وكافة المؤسسات ذات الصلة.

إن تعدد تمظهرات الفساد وتجلياته في السياسة العربية، يقتضي تحليلياً استدعاء مفاهيم: المحاسبة، المسؤولية، النزاهة، الحق، القانون

1- النسق السياسي العربي بين الفساد والإصلاح:

إن تعدد تمظهرات الفساد وتجلياته في السياسة العربية، يقتضي تحليلياً استدعاء مفاهيم: المحاسبة، المسؤولية، النزاهة، الحق، القانون، وكلها مفاهيم مؤسسة للدساتير الديمقراطية، حيث حكم الشعب بالشعب من أجل الشعب، ولهذا فإن كل خلل وظيفي يصيب النسق السياسي على مستوى تدبير وإدارة الحكم هو وجه من وجوه فساد اللعبة السياسية، حيث يختل المعنى الاجتماعي والثقافي، وتختفي القيم الديمقراطية، باعتبارها رموزاً وسيلية لتحقيق العدالة الاجتماعية لتحل محلها قيم: المحسوبية، الرشوة، الزبونية، الريع، الظلم والاستبعاد الاجتماعي... إلخ، وهو ما بات يميز المجتمعات العربية مع اختلاف درجات الفساد السياسي، ولذلك يقتضي الإصلاح إعادة بناء المعنى السياسي ديمقراطياً بشكل يعمل على تفكيك الأنظمة الأوتوقرطية والثيوقراطية على حد سواء. وفصل اللبس الحاصل بين المقدس والمدنس في السياسة العربية، وهو ما يقتضي فصل الزمني عن الإلهي، خاصة وأن الأنظمة العربية تستغل اللبس الحاصل بين الزمنين بشكل يمنحها الشرعية لإضفاء القداسة على منهجها السياسي الاستبدادي.

1-1- الفساد الانتخابي ومؤسسة البطل الأسطوري:

لاشك أن الانتخابات في المنظومة الديمقراطية تبقى الأداة الحاسمة المؤدية إلى اختيار الشعب لممثليه وترجمة مفهوم المواطنة في مختلف أبعاده ومستوياته،([2]) ومن ثم يضطلع الاقتراع بوظائف مباشرة، منها إضفاء الشرعية على الحاكمين، خاصة في الاقتراع العام المباشر الذي يرمز إلى" سيادة الشعب" وتفعيل الإحساس بالانتماء وجعل القوى السياسية أمام حقيقة تمثيليتها. وتطرح في هذا السياق الانتخابات التنافسية كمحدد محوري لديمقراطية الاختيار، إذ إن الطابع التنافسي للاقتراع يجد سنده في حرية الناخبين من خلال نزاهة العملية الاقتراعية والتنافس بين المرشحين، فضلا عن الرهانات السياسية المتصلة بطبيعة الاقتراع. على هذا الصعيد تعتبر نزاهة الاقتراع شرطا تأسيسياً لبلورة أي توجه ديمقراطي وإتاحة مؤسسات تمثيلية حقيقية تنال ثقة الشعب، ناهيك عن الاعتبارات السوسيولوجية التي تعد وازنة في تحديد معالم الخريطة الانتخابية شريطة أن يكون ذلك في سياق تنافسي أصلا. غير أنه بالوقوف على مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي شهدها العالم العربي منذ الستينيات سواء كانت رئاسية، تشريعية أو جماعية، يتضح أنها اتسمت بميل حاد إلى التشكيك في مصداقيتها واتهام السلطات الإدارية من طرف الأحزاب المعارضة بتزييفها والوقوف وراء التجاوزات المؤدية إلى الإجهاز على شرعيتها، وهو الواقع الذي اكتسى طابعا هيكليا أصبحت معه الاستحقاقات الانتخابية في حالة" حلقة مفرغة" تتميز بالتزوير، واستعمال المال في جلب الأصوات الانتخابية، تكريس الأحادية من خلال الحزب الواحد، وفق ما تقتضيه استراتيجية شخص الحاكم. ومن هنا، فإن أحد أهم وجوه الفساد السياسي، والذي يكشف حدة التجاوزات الدستورية وتداخل السلط، وهيمنة الدولة العميقة/ البوليسية، على مفاصل الحياة السياسية، التي تعتمد منطق الريع لتكريس الولاء لشخص الحاكم أياً كان هذا الحاكم مسؤولا ترابياً أو وزارياً أو رئيساً للدولة، ومنطق الترهيب أو الترغيب لدحض كل سلطة نقدية معارضة، مما يجعل الأحزاب السياسية وكافة مؤسسات المجتمع المدني، هيئات صورية تحت المراقبة، وهو ما يقود إلى الاستبداد كرمز تلخيصي للفساد في العالم العربي.

الديمقراطية كما تتحدد مرجعياً لا تخرج مطلقاً عن تأسيس الفعل الانتخابي بجعله أداة حسم وبناء وتجسير للحياة السياسية والمؤسسية برمتها

يقتضي الحديث عن الانتخابات، باعتبارها الناظم المركزي للنسق السياسي في المجتمعات الديمقراطية إلى استحضار طبيعة النظام السياسي من جهة، وطبيعة الثقافة السياسية من جهة أخرى، على اعتبار تمفصل الطبيعتين في إطار التمثلات الأنثربو- سياسية التي يحملها الأفراد والجماعات كرؤية وممارسة، حيث تتحدد الانتخابات ضمن أفق إشكالي واضح المعالم ترتيباً على تجاذبات الحركات المطلبية السياسية، وخاصة الأحزاب السياسية التي ظلت تتفاعل مع الانتخابات وفق تصور دائري هيمنت عليه، وما تزال حيثيات العلاقة مع المؤسسة المركزية المتمثلة في مؤسسة القصر الرئاسي/ الملكي؛ فالديمقراطية كما تتحدد مرجعياً لا تخرج مطلقاً عن تأسيس الفعل الانتخابي بجعله أداة حسم وبناء وتجسير للحياة السياسية والمؤسسية برمتها([3]) وترجمة لمفهوم المواطنة،([4]) وتعبيراً عن" سيادة الشعب" عبر تفعيل الإحساس بالانتماء، وجعل القوى السياسية أمام حقيقة تمثيليتها.([5])

ومن هذا المنطلق، يبدو الحديث عن الانتخابات في العالم العربي مقترناً بداهة بتشخيص القضايا الأساسية اللصيقة بالسلطة، بل يمكن الاتجاه بالرأي إلى أن العلاقة بين تمثلات الفعل الانتخابي وتصورات ممارسة السلطة تكتسي بعدا تساندياً إن لم يكن انصهارياً؛ فالحديث عن الانتخابات هو قبل كل شيء حديث عن أسس السلطة، والوقوف على أزمة الانتخابات أو أزمة التعبير التمثيلي هو وقوف على "عجز بنيوي" في المراهنة على الإرادة الشعبية في تشكيل القرار السياسي وبناء مؤسسات الدولة والمجتمع،([6]) وهو ما يجعل الفساد الذي يعتري الحياة الاجتماعية والاقتصادية، يرتد تحليلياً إلى الفساد السياسي، الذي ينتفي معه كل حديث عن المواطنة.

يقودنا الحديث عن خلفيات ومرجعيات المواطنة إلى استحضار أسس دولة الحق والقانون، باعتبارها دولة المؤسسات التي تشتغل وفق القانون، في استقلال تام عن نزوعات ورغبات الأشخاص، الذين يتم انتخابهم شعبياً وفق منطق الكفاءة وربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث يعلو القانون فوق كل شيء وكل شخص مهما كان موقعه السياسي، حيث تصبح الوثيقة الدستورية المرجع الوحيد للدلالة والمعنى السياسيين، بيد أن الانتقال إلى مجتمع المواطنة يقتضي تفكيك مجتمع الرعايا تفكيكاً حرياً به تكريس الحقوق والحريات العامة التي تجعل من الفرد قيمة اعتبارية في حد ذاته، ومن هنا يبدو مفهوم الإصلاح السياسي مقترناً بشكل دلالي بالتمثلات الأنثربو- سياسية، باعتبار الثقافة السياسية مدخلاً رئيساً للتفكيك والبناء، خاصة وأن مفهوم الفساد في حد ذاته مفهوم أركيو- سياسي وثقافي يستحيل تفكيكه بدون رده إلى أسسه الأنثربو تاريخية، طالما أصبح بنيوياً في الثقافة السياسية العربية، لهذا فالإصلاح ليس بالمهمة اليسيرة، بقدر ما هو عمل متواصل وتشذيب لواجهات الخلل وأسسه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يقتضي بناء المؤسسات التي تسمو فوق شخصية الحاكم.

في هذا السياق، يقودنا تحليل خطاطة تواصل السلطان/ الزعيم / البطل الأسطوري بالشعوب العربية حتماً إلى الاستعانة بخطاطة هشام شرابي([7]) التي يرى أنها تستقي أهم مقوماتها من البتريركية الأبوية، والتي من خلالها يتم تصور الحاكم كأب يسود ويحكم ويدبر شؤون بيته وفق حجر مادي ومعنوي على بقية أفراد الأسرة؛ فالمرأة داخل البيت الشرقي ناقصة عقل ودين، وكائن في حاجة دائمة للرعاية والدعم، في حين يبقى الطفل الذي لن يكبر في نظر هذا الأب مجرد ابن لن يصل تجربة الأب وخبرته، لذلك فهذه الأطراف كلها، ووفق هذه الخطاطة، قد أوكلت بشكل تلقائي حق التسيير والتدبير للأب الذي يصبح رب الأسرة، القوي والقَوَّام، يعاقب حين يعاقب، ويسامح حين يسامح، وذلك كله حين يريد، وإراداته لا يؤطرها سوى مزاجه، ورؤيته للحكم وتجربته في الحياة، والتي تقتضي الطاعة العمياء اتقاء للعقاب والغضب. وإذا كانت سلطة الأب داخل بيته يؤطرها ويشرعنها أيديولوجياً المقدس متمثلاً في الخطاب الديني، فإن نفس الأيديولوجية يستعين بها السلطان، باعتباره الحاكم الوحيد والأوحد لإضفاء طابع الشرعية على حكمه.

ينشأ الاستبداد على نفس القاعدة الثقافية، ويصبح الفساد بنية مولدة للاستبداد محايثة للدولة نفسها، حيث تختنق الحياة السياسية بالاستبداد

من هذا المنطلق، فإن السلطان/الزعيم يصبح بالشكل ذاته الأمير الديني للشعب الذي ليس سوى مجموعة من الأسر، أو أسرة ممتدة، لذلك فإن أفراد هذا الشعب/الأسرة يصبحون تابعين وخاضعين بالضرورة لسلطة هذا الأمير/الأب، وهنا تصبح صفة الأمير مجرد ملحق من ملحقات هاته الخطاطة البتريركية؛ فهي ليست أصل الشرعية الدينية التي يحظى بها، بقدر ما هي تصريف للشرعية الدينية التي يحظى بها، باعتباره أباً ورباً للأسرة الممتدة التي هي الشعب، ومن هنا تحول الأب في الفكر الديني والتاريخ الإسلامي إلى راع مسؤول عن رعيته، وتحول بذلك كل مسؤول على أمر من أمور الدنيا والدين إلى راع والمحكومون إلى رعايا/ رعية... هكذا سوف يجد الحاكم نفسه، سواء أراد أو لم يرد مجبراً على أن يعيش ضمن نفس البيئة، بل وأن يشتغل وفق نفس الخطاطة الثقافية التي تربطه بالشعب، معتمداً في ذلك على المقربين والأعيان، كآليتين من آليات ممارسة السلطة والحكم، لتبقى الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة مجرد هياكل تشتغل خارج كل الاعتبارات المؤسساتية والديمقراطية، فإذا كانت الأحزاب حسب جون بودوان (Jean Baudouin) هي مؤسسات سياسية- اجتماعية تتمتع بالاستمرارية وبالمواطنة والوطنية، وبالإرادة للممارسة السلطة، وتسعى من أجل ذلك للبحث عن الدعم الشعبي، فإن الأحزاب العربية تبقى مجرد تشكيلات في خدمة مؤسسة الحاكم، مادام هو المانح لشرعيتها، والوحيد الذي لديه القدرة على تصريف الإرادة من أجل ممارسة السلطة، وبالنتيجة فالخطاطة التي تشتغل وفقها تواصلياً الأحزاب السياسية مع مؤسسة الحاكم، هي خطاطة الشيخ والمريد، حيث يتولى الزعيم الأسطوري بتعبير علي زيعور، أو البطل الأسطوري([8]) بتعبير محمد المعزوز القيادة والتحكم الانفرادي في مجريات السلطة. من هذا المنطلق، نرى أن خطاطة الشيخ والمريد مجرد انعكاس ونسخ للخطاطة الأصل التي هي: السلطان /الرعية، وهما الخطاطتان اللتان ينتفي معهما كل وجود مستقل للمواطن، الطوعية، حق المشاركة في التسيير والتدبير، المؤسساتية، حق النقد والمبادرة؛ فمفهوم الرعية يرتبط بذات السلطان، بالرعاية والإرعاء، وبالهيمنة والحجر السياسي، وهو ما يمثل وفق نظرية التساتل الحقل المشترك مع مفهوم البتريركية والعطف الأبوي، كما وضح ذلك بكثير اهتمام وتبصر هشام شرابي؛ فعلى المستوى الاجتماعي تسيطر العلاقة العمودية على العلاقة الأفقية التي تمثل التكافؤ والمساواة. وعلى المستوى السياسي في صورته التقليدية، توطد طغيان يكاد لا يترك مجالاً للتعاقد بين الحاكمين والمحكومين. وقد أنتج تحديث الأبوية الكيان السائد، وهو السلطنة الأبوية أو سيطرة دولة الحكم السلطاني،([9]) وحتى لفظة سياسة في الفكر العربي التأسيسي والتحليل اللغوي التعاقبي للكلمة، تنطوي على تلك المدلولات عينها حول علاقة الراعي بالقطيع، والسائس بصلاح حال السائمة أو الخيل، والحاكم بتدبير المحكومين أو الرعية([10]) هذا الراعي أو العقل أو المدبر هو عقل المحكومين وأميرهم وفكرهم. إنه الأب، وهو ممثل العدالة والقيم، توكل إليه الأمور والأعنة والنفوس،([11]) لذلك فعندما يختار الحاكم من يساعده في الحكم ويطبق أوامره وتوجهاته، فإن اختياره يصبح اختياراً مقدساً، والمختار والمصطفى يصبح بالنتيجة من جملة المحظورات والمقدسات من قبل الرعايا، لذلك فإن المحكومين إن أرادوا إرضاء السلطان فما عليهم سوى إرضاء مساعديه الذين يشكلون الضامن للأمن والسلام، ومن هذا المنطلق باتت ظهائر التسمية التي يصبح بموجبها هؤلاء المسؤولون جزءاً من رقعة الشطرنج السياسي، الوثائق القانونية والسوسيولوجية التي تؤسس ما يسمى مدارات الممانعة الثقافية للتغيير والإصلاح، كما يصبح الطموح إلى الترقي والتقرب من محيط السلطان الشغل الشاغل الذي بدونه يقصى المرء من نعم الحكم وجناته، طالما أن السلطان لا يمكنه أن يتفقد كلياً وشمولياً أحوال الرعية بمفرده، لكن الحقيقة هو أن الأمة التي أخذت مأخذ الرعية، ليست كذلك فلا هي سائمة، ولا الرئيس راعياً... فهذا التصور العائلي، أثبت عبر التاريخ عدم جدواه. لقد بدا باتولوجياً غير صحيح وغير صحي. من جهة، ومن جهة ثانية، فإن تقديم السلطان، باعتباره رئيس الدولة في صورة عضوانية هو نتاج تصور تسلسلي للأعضاء غير دقيق، فبذلك نخسر التصور الأفقي للعلائق والتعاون الحر المتكافئ بين الحكام والمحكومين، ونسق القيم التضافرية (العدالة، المساواة، الحرية...) ثم إن تقسيم بنية الحاكم والمحكومين تقسيماً شاقولياً يأتي لمصلحة الراعي الذي يعطي لنفسه حق التسرب إلى أعمق أعماق الفرد المحكوم. بذلك التسرب إلى الأعماق واحتلال الأغوار والوعي تصبح السلطة رهيبة، وغير عادلة، وقادمة من الخارج مفروضة، وتلغي حق المواطن في المشاركة والرقابة والمحاكمة، والاختيار الحر الاقتناعي.

باختصار إن العلاقة بين الراعي ورعيته، الرئيس ومرؤوسيه، المالك وملكيته، بين الرعي وغنمه، بين الرئيس والمحكومين، ليست علاقة خطية استمرارية، ولا هي مستقيمة وهندسية، فما هو علائقي يكون دائماً شديد الانحناءات والتعرجات، بليغ الانقطاعات والتعقيد والتمفصلات.([12]) إن أسوأ ما عانى منه المواطن في تاريخنا، وفي الثقافات التي تماهى (توحد- تعين) فيها الرئيس مع البطل الأسطوري المتمثل بالراعي أو السائس، هو سوء العاقبة ووخامة التنفيذ. فالثقة أو المثاليات المسقطة على الراعي الرئيس، والأماني المعلقة عليه مع المسؤوليات المطلوبة منه دون عهد مكتوب أو مراقبة فعلية وقيود قائمة في المجتمع ونافذة فعالة أدت إلى القمع والاستلاب والقهر، وإلى التسلط المتحكم والتفرد المستبد، ولا سيما إلى الجور "وعبادة" الرؤساء أو تأسطرهم وقدسنتهم([13])، لأن السلطة التنفيذية حينما تؤول في تطبيقها إلى العرف وغياب المحاسبة وتحديد المسؤوليات، فإنها تعرف تشوهات وانحرافات. وهنا تصبح الدولة بوصفها جهازاً قمعياً، ترجمة للمفهوم الأداتي للدولة التي هي على طرف نقيض من الدولة الأخلاقية المطلقة والمفترضة بتعبير هيجل.([14])

2-1- الاستبداد كخلفية ثقافية وسياسية للفساد في العالم العربي:

ينشأ الاستبداد على نفس القاعدة الثقافية، ويصبح الفساد بنية مولدة للاستبداد محايثة للدولة نفسها، حيث تختنق الحياة السياسية بالاستبداد، بنحو يصبح فيه الكل، إما مستبداً يمارس الاستبداد أو يقع عليه الاستبداد، ويصير الكل ممارساً للاستبداد على من هو أدنى منه، الزعيم السياسي على مرؤوسيه من وزراء وغيرهم، وهؤلاء يسقطون الاستبداد على من يليهم في مراتبهم الوظيفية، بنحو يمسي التسلط نسيجا متفشيا في كل طبقات المجتمع ومؤسساته؛ فالتسلط تنتجه السلطة المستبدة، وتصوغ شخصية رعايا وأتباع مجردين من كل إرادة في الاختيار، إلا إرادة التسلط التي يسقطونها على من هم دونهم، كما أن هؤلاء الأفراد الذين أنتجتهم السلطة المستبدة يمدون هذه السلطة على الدوام بحياتها وكيانها الذي يفتقر وجودها واستمرارها عليه. فلو لم تصنع السلطة هذا النمط من الرعايا لما تواصل بقاؤها، بمعنى أن الأتباع تتشكل شخصياتهم في فضاء الاستبداد والتسلط، وهم أثر من آثار السلطة ونتيجة لها، مثلما هم المادة الأولى التي يشتق منها تسلط المستبد، وتتكرس سطوته، ذلك أن السلطة تشكل بنية عامة شاملة، يتشبع بها المجتمع بأسره، ويعاد تكوينها باستمرار في إطار المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية،([15]) ولذلك تصبح الحريات المدنية مسيجة وفق الخطوط الحمراء التي لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوزها، مثلما يحدث في التضييق على الصحافيين ومحاكمتهم، إذ تشيع في فضاء الاستبداد شبكة مفاهيم تنفي كل ما لا يتطابق معها، ويمثل نسخة مكررة عنها، وتشكل هذه الشبكة نظاماً ذهنياً، يتجلى في عقلية ونمط تفكير أحادي اختزالي، كما تتكرس في ظل الاستبداد بنية نفسية معاقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق والتهرب من أية مسؤولية. إنها نفسية عبيد، أبرز سماتها الشعور بالدونية والحقارة، والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ أي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دورا آخر في حياته، لا يعبر عن شخصيته ولا يمثل ملكاته وإمكاناته، وما أودعته الطبيعة البشرية فيه، وإنما يعيش على غرار ما يريده المستبد، وما جرى تدجينه عليه في الأسرة، ثم المدرسة والمجتمع.([16])

يقتضي كل إصلاح سياسي بالضرورة فصل السلط الثلاث: التشريعية، التنفيذية، القضائية، ولكن قبل كل شيء اعتماد القضاء كسلطة منصوص عليها دستورياً وعلى استقلاليتها

3-1- الفساد الاقتصادي والاستبعاد الاجتماعي من الخلل الوظيفي إلى الإصلاح

إذا كان الاقتصاد في العمق ممارسة تداولية تبتغي تدبير الموارد الإنتاجية النادرة أو المحدودة من أجل تلبية حاجيات ومتطلبات المواطنين، وضمان الدمقرطة في توزيع الثروات، فإنه يصبح في ظل الاستبداد وشخصنة المؤسسات آلية مركزية للمحافظة على الوضع القائم، وتكريس الفوارق الطبقية حسب مدى القرب من مصادر القرار والسلطة، التي تعمل وفق ميكانزيمات العنف الرمزي وإعادة الإنتاج بتعبير بيير بورديو، على تكريس الاستبعاد الاجتماعي إن الدولة والحالة هاته، باعتبارها مصدراً للحياة بالمعنى الحرفي، توزع الاعتبارات والموارد ظاهرياً حسب إرادة الزعيم،([17]) حيث ينتفي معها كل نقد موجه من طرف هؤلاء الرعايا، وتصبح خطاطة السلطان/ الرعية، ومن ثمة الشيخ والمريد حاجزاً أمام المجتمع المدني بما في ذلك الأحزاب على تعديل خطاطة التواصل، وتحديث الدولة، وبناء ثقافة مدنية تنقل الشعب من مستوى الرعية كشكل من أشكال الاعتبار التقليدية لنظام الحكم والسلطة المبني على الخوف والرهبة والقهر والجور الذي يمارسه المسؤولون باسم السلطان إلى مستوى المواطن، لذلك فإن كل تحليل موضوعي يتوخى الحذر والفصل بين السلطان/الحاكم كرمز تلخيصي والمؤسسات كرمز وسيلي، يجب أن يمر حتماً عبر إخضاع كل المؤسسات الأمنية الاقتصادية والإنتاجية تحت رقابة مجالس المنافسة والمحاسبة التي تؤطرها القوانين الصارمة في سياق ضمان وتكريس الأمن الاقتصادي والاجتماعي، كما يجب إخضاع المؤسسات الأمنية والسجنية للشرعية القانونية، التي تتولى السهر على أمن المواطنين وفق ما تقتضيه القوانين في احترام تام للدستور الديموقراطي، وبهذا يكون كل اعتقال تعسفي، أو شطط في استعمال السلطة موضوعاً لمتابعات قانونية وأحياناً جنائية، وهو ما يجعل رقابة وسلطة القضاء الناظم المركزي لأداء المؤسسات الأمنية، والسجنية التي يجب أن تنتقل من مؤسسات للتخويف والترهيب، والاختفاء القسري، والتي تميز مجتمعات الرعايا، إلى مؤسسات لبث الأمن والطمأنينة في المجتمع، بشكل يراعي الحريات الفردية في احترام للمواثيق الحقوقية الدولية، وهو ما يتطلب على المستوى الثقافي التربية على المواطنة وحقوق الإنسان من خلال إعادة النظر في المناهج الدراسية والتعليمية، وهو ما يستدعي مراجعة شاملة للتشريعات والقوانين، وفق فصل للسلط من جهة، وتعزيز استقلالية السلطة القضائية، وهي إصلاحات لن تتم إلا بفضل إرادة سياسية ديمقراطية حقيقية، تستعيد من خلالها الأحزاب السياسية وكافة مؤسسات المجتمع المدني سلطتها الشعبية.

تأسيساً على ما سبق، فإننا حين نتكلم عن ربط المسؤولية بالمحاسبة وفق ما تقضيه الحكامة الرشيدة، فإننا نكون حتماً أمام دولة الحق والقانون، بما هي دولة المؤسسات التي تعمل خارج كل تقاليد وأعراف الريع، المحسوبية، الزبونية، الرشوة، ولذلك فهي تسهر على المحافظة على ثروات المواطنين المادية واللامادية، حيث تصبح أجهزة الرقابة الإدارية والمالية أحد أهم الأجهزة التي تشكل الناظم المركزي للتدبير، وهو ما يقتضي بالموازاة الاحتكام إلى قضاة مجالس المحاسبة التي تحيل كل نهب واختلاس للمال العام، وكل أشكال الزبونية والمحسوبية في التوظيف وكل أشكال الريع على النيابة العامة، باعتبارها رقابة المجتمع ذاته قضائياً على السلطة التنفيذية، بشكل يجعل فصل السلط واستقلاليتها آلية دستورية ورقابية تحمي المجتمع من كل وجوه الفساد في تدبير الحياة الإدارية، السياسية والاقتصادية. وتنفصل من ثم كل علاقة ولاء بين المسؤولين وشخص الحاكم، الذي يصبح بدوره موضوعاً للمساءلة القانونية والدستورية.

خاتمة:

يعد تغلغل الفساد في الأنظمة والمجتمعات العربية، وانتشاره في كافة مناحي الاجتماع والعمران البشريين بتعبير ابن خلدون، أحد أهم عوامل الممانعة الثقافية للتغيير والتحول نحو دولة الحق والقانون، ذلك أن ضعف المؤسسة القضائية، واشتغالها وفق منطق وصاية الدولة، أو مؤسسة الحاكم، جعلها إحدى المؤسسات التي تشرعن الفساد وتقويه، ولذلك، فكل إصلاح سياسي يقتضي بالضرورة فصل السلط الثلاث: التشريعية، التنفيذية، القضائية، ولكن قبل كل شيء اعتماد القضاء كسلطة منصوص عليها دستورياً وعلى استقلاليتها، وهي الاستقلالية التي لن تكتمل إلا بالحق في الوصول إلى المعلومة، التي يسعى الإعلام إلى تعميمها ونشرها بما يعزز السلوك والثقافة الديمقراطيين.


[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 26

[2]- يونس برادة، إشكالية المنافسة السياسية في النظام السياسي المغربي، مجلة فكر ونقد، العدد 54، دجنبر 2003، ص 10

[3]- Guy Hermet, Dictionnaire de la science politique, Acolin, Paris, 1978, p. 280

[4]- Françoise colin, L’urne est-elle funéraire? in M. Riot-Sarcey (sous la responsabilité), démocratie et représentations, Ed Kimé, Paris, 1995, p.45

[5]- G. Hermet, Dictionnaire de la science politique, op.cité, p.281

[6]- Younes Berrada, La démocratie, parent pauvre des systèmes politiques arabes, Al Ahram hebdo numéro 640; (13-19 décembre 2006)

[7]- انظر كتابه، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة محمد شريح، الطبعة الرابعة، دار نلسن، بيروت، 2000

[8]- انظر، محمد المعزوز، مؤسسة البطل الأسطوري، مضمرات الممارسة السياسية في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2003

[9]- عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية، ترجمة عبد المجيد جحفة، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ص 17

[10]- الدكتور علي زيعور، الأحلام والرموز، الطبعة الأولى، دار المناهل، بيروت، 2002، ص 176

[11]- نفسه، ص 176

[12]- الدكتور علي زيعور، الأحلام والرموز، مرجع سبق ذكره، ص 178

[13]- نفسه، ص 177

[14]- كريم أبو حلاوة، إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني، عالم الفكر، العدد الثالث، المجلد السابع والعشرون، يناير/ مارس 1999، ص 16

[15]- د. عبد الجبار الرفاعي، إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، الطبعة الأولى، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2012، ص 79

[16]- نفسه، ص 80

[17]- عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، مرجع سبق ذكره، ص 28

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D9%82-%D8%A7%...

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك