حواضن الديموقراطية

حواضن الديموقراطية

ميشال كيلو*

ثمة مستلزمات وأوضاع لا تقوم الديموقراطية بانتفائها، كثيراً ما يفوت عقلنا السياسي التفكير فيها، وقوانا السياسية العمل من أجلها والمطالبة بها وتربية أنصارها والرأي العام على أهميتها وضرورتها. وإذا كان النظام الديموقراطي نمطاً من الحكم التمثيلي يعكس -أكثر من أي نمط حكم آخر- إرادة الشعب ورغباته، ويعبر عن قدرته على المشاركة الفاعلة في تقرير مصير حكوماته وأحزابه، فلأنه يقيم توازناً فاعلاً وناجحاً بين مكونات السلطة يكبح جماحها من خلال إلزامها بحكم القانون، ويخضِع السلطة التنفيذية -أكثر السلطات خطورة وصلاحيات- لرقابة قانونية ومؤسسيّة تقيد قدرتها على الانفراد بالأمور تقريراً وتنفيذاً، دون أن يؤدي التوازن إلى تعطيل الحكم وإصابة الحكومة بالشلل. ويقيني أن غياب هذه المستلزمات والأوضاع التي أعتبرها حواضن للديموقراطية يستحيل قيامها بدونها، بينما يفضي توفرها والالتزام بها إلى حسن سير النظام الديموقراطي، وإلى توطّده وجعله قادراً على مواجهة مشكلات الدولة والمجتمع بقدرٍ وافرٍ من الفاعلية، فلا بد إذن من قيامها في بلداننا العربية، إذا كان للديموقراطية أن تصبح نظام حياة وسياسة ومجتمع ودولة عندنا أيضا، علماً أن غيابها عنا لعب دوراً جوهريّاً في غياب الديموقراطية عن نظمنا السياسية وعلاقاتنا المجتمعية والشخصية، وأدّى إلى الأزمة التي نعيشها منذ تشكلت دولنا الحديثة، والتي يعزو عقلنا السياسي إليها ما نعانيه من مشكلات حادة، وما نواجهه من عيوب تصم قدرتنا على إدارة قضايانا، ومن نقص فاضح في إضفاء طابع عقلاني على روابطنا مع ذواتنا ومع العالم.

-1-

أما أول حواضن الديموقراطية فهو في نظري الاعتراف بالإنسان بصفته "ذاتاً حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها الموضوعية"، حسب تعريف أرسطو. يتعرف الإنسان بالحرية الصفة التي تحدد هويته، ولا يتعرف بما يملك، أو يعتقد، أو يتوفر له من خصائص وتعيينات موضوعية كأن يكون فقيراً أو غنياً، أبيضَ أو أسودَ... إلخ. والإنسان هنا هو الفرد المجتمعي عضو الهيئة المجتمعية، وهو شخص واسم نوع في آن معاً، لذلك يشكل نقطة تتقاطع فيها ذاته الإنسانية الحرة مع غيرها من الذوات، الحرة بدورها تتكثف فيها هيئة عامة هي مجتمع مواطنين أحرار نعرفه تحت اسم أو مصطلح " المجتمع المدني"، مجتمع الذوات الحرة، التي تحمل الشأن العام وتؤسسه على الحرية كلما ازداد وعيها بوجودها وزادت سيطرتها على أقدارها الذاتية والموضوعية، ويتم انطلاقاً منها إنتاج السياسة، وإلا فإنها لا تعبر عن حريتها ودورها في صنع مصيرها بيدها. بقول آخر: حيث لا يوجد الإنسان كذات حرة، ينتفي الشأن العام كتعبير عنه، ويصير تعبيراً يتحدد بتعيينات موضوعية لها دور ثانوي ومشتق في تعريف الإنسان، وتالياً في تعيين السياسة، ويؤدي إلى نشوء تكوينات مجتمعية اندماجية يغيب الفرد فيها وراء تشكيلات تتعين بالثانوي من صفاته، فتكون الغلبة في هذه الحالة للمجتمع الأهلي، غير المدني، وتلغي السياسة الحرية كصفة تتعين بها الذات الإنسانية، فتعجز عن الإفصاح عن الحرية وعن تنميتها، وتصير السلطة والدولة مجافية للمجتمعية المدنية ونافية لها، وتنقلب الأمور العامة رأساً على عقب، فيختلط العام بالخاص ويصير خادماً له، ويتم انتهاك العدالة، أي انتهاك القانون لصالح فرد أو أفراد من ذوي الامتيازات، ويحدث انقسام تدميري النزعة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وينخرط المجتمع والدولة في صراع مرير يأخذ أشكالاً دامية من حين لآخر، وتصير الديموقراطية -حكم المواطنين الأحرار لأنفسهم- ضرباً من الاستحالة، وتسقط الدولة في أيدي طغاة أفرادٍ أو في أيدي جماعات مميزة، كما هو حاصل في بلدان عربية كثيرة.

لا ديموقراطية إذن دون الاعتراف بالإنسان كذات حرة وإرساء النظام القانوني ونظام الدولة والمجتمع على وجوده ودوره. ولا ديموقراطية بدون مجتمع مدني، مجتمع مواطنين أحرار، ومن ثم فلا دولة دون شبكة علاقات أرضيتها الإنسان كذات حرة، الذي يكون مع غيره من المواطنين الأحرار مجتمعاً تعبر عنه الدولة في مستوى السياسة، بما أنها لا توجد إلا حيث يوجد هذا المجتمع، فإن وجدت كانت سلطة تجسِّد طغيان فرد أو مجموعة، ولا تكون دولة مجتمعية، أي دولة لجميع مواطنيها، الذين يتساوون أمامها في حريتهم، ويقع على عاتقها عبء تنمية الحرية في كل خطوة وتدبير من خطواتها وتدابيرها. الإنسان كذات حرة هو الأساس الذي لا تنهض دولة حديثة بدونه، ويخترق جميع أنواع الدول الحديثة، بغض النظر عن نظامها الاجتماعي والسياسي، وعن حكومتها. وإذا كان هناك من سبب يفسر انهيار الدول الاشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق- فهو افتقارها إلى الإنسان الحرب بوصفه الحامل الذي تنهض عليه الحداثة، وأرضية ومآل النظام السياسي الحديث، وموضوع النظام العام، القانوني والسياسي الوحيد. لقد أحلت الدولة الاشتراكية الإنسان بصفته الطبقية محل الإنسان المتعين بالحرية، ويعد انتماؤه الطبقي تعينا موضوعّياً لكنه ثانوياً، من المحال بناء نظام عام عليه، فإن بني لسبب ما أو في ظرف ما كان معرَّضاً للسقوط في أي وقت، بل كان سقوطه محتما؛ لأنه يمارس سياسة متأخرة تنصرف إلى الفرعي بدل الجوهري، وتحل الثانوي محل الرئيسي، وتعمل بطريقة تضفي مزيداً من التأخر والتخلف عليها بمرور الوقت.

لا حاجة إلى الحديث في هذا السياق عن دولنا العربية، فهي لم تقم على حرية الإنسان، أو على الإنسان بصفته ذاتاً حرة، ولا تعد نفسها تعبيراً عن مجتمع مواطنين أحرار مدني، ولا تنمي أخيراً الحرية بصفتها أساس وهدف السياسة والشأن العام.

-2-

الحاضنة الثانية التي لا تقوم ديموقراطية بدونها هي وجود قدر من التوافق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي - الدولة – تنظمه قوانين وأسس وجوامع لها أرضية مشتركة هي الإنسان الحر. ثمة في الديموقراطية مجتمع بشر أحرار هم في الدولة مواطنون أحرار، يخترق وجودهم الحياة العامة التي تتأسس عليه بما هو كائن منتج يصنع وجوده الاجتماعي بحريته وعمله، فلا يبقى إذن مكان لتناقض أو لتعارض عدائي بين مفردات الشأن العام، أي الفرد الإنساني الحر المنضوي في مجتمع مواطنين أحرار يتمثل في الدولة كتعبير سياسي، ويتحول المجتمع والدولة إلى فضاء مشترك يتحرك المواطن فيه بالحرية التي يكفلها القانون دون أن يصطدم بغيره أو يدخل في حالة تناف مع مجتمع المواطنين والمجتمع السياسي؛ لأن هذا الفضاء الذي يتعين أساساً بالحرية هو ساحة تسويات عامة بين مختلف أطراف العقد المجتمعي والسياسي، تحكمها توازنات وتوافقات وأنماط من الصراع لا تفضي إلى تقويض الحرية كمبدأ، رغم ما قد تتصف به من تعارض وتناقض وحدّة، خاصة حين تعبر عن مصالح طبقية مختلفة ومتناقضة. والحق أن النظام الرأسمالي نجا بفضل هذا الفضاء المجتمعي/ السياسي المفتوح الذي يمكّن مختلف الفاعلين الاجتماعيين من التعبير عن مصالحهم ومن الدفاع عنها بأعظم قدر من الفاعلية، ويتم فيه امتصاص التناقضات الطبقية والأزمات السياسية التي قد تنجم عنها، واحتواء زخمها وإطفاء لهيبها في نهاية المطاف. في حين عجزت النظم التي فشلت في تأسيس السياسة على مبدأ الحرية وعلى الاعتراف بالإنسان كذات حرة، عن إدارة تناقضاتها، فانخرطت مجتمعاتها الأهلية التي لم تتكون من مواطنين أحرار، في مواجهة مع مجتمعها السياسي، أي دولتها التي عاشت حروباً أهلية أو تصدعات سياسية متلاحقة، ولم تتمكن من حل تناقضاتها بغير العنف والقمع.

ليست الديموقراطية غير نظام عام يقر بتناقضات المجتمع والدولة، لكنه يديرها في إطار من السياسة السلمية وتوازن المصالح، دون أن ينسى تنمية الحرية كمبدأ، وأن استمراره مرتبط بقيامه على الإنسان كذات حرة من الضروري صيانة واحترام وتعزيز فرديتها، ولا سيما أنها تكثف إنسانيتها وطبيعتها المجتمعية، ولا مفر من تلبية حاجاتها، وإلا انهار كل شيء، أو فشل النظام العام في تحقيق أغراضه وعجز عن تأدية وظائفه.

-3-

الحاضنة الثالثة التي لا تنهض الديموقراطية بانتفائها هي مبدأ التعاقد، الذي يقوم على ضمان مصالح مختلفة ترجع إلى مختلف أطراف المجتمع والدولة، لكنها تكفل حرية الإنسان بوصفها اللبنة التي يتكون منها الشأن العام، ولا يستمر النظام العام بدونها. والتعاقد أصله مجتمعي، لكن القانون ينظمه بمجرد أن يصير سياسيّاً. ومع أن خلفياته وأسسه الفلسفية والقانونية تتباين من حالة لأخرى، فإنه إما أن يكون ملزماً لأطرافه أينما كان موقعهم من الشأن العام، وإما أن يكون مفتوحاً على احتمالات وتطورات فوضوية وخطيرة، ويرتبط بتبدل موازين القوى الداخلية المتغيرة، وينتهك بصورة جدية من قبل الجميع فيصير انتفاؤه مقدمة لانهيار النظام العام بأسره. التعاقد سر بقاء النظم وعلامة قوتها، وليس مظهراً من مظاهر ضعفها، كما يعتقد عقل سياسي عربي يرفض مبدأ التعاقد جملة وتفصيلا، ويرى فيه دلالة نقص في هيبة وقوة السلطة وفاعليتها.

ومن المعروف أن نظم الغرب القائمة على التعاقد تفوقت على نظام الشرق الاشتراكي الذي رفضته وأحلت محله فكرة تقول بوجود تطابق تام بين المجتمعين المدني والسياسي يلغي الحاجة على تعاقد بينهما، ما دام التعاقد يفترض وجود مجتمع طبقي وتالياً أطراف مختلفين ومتصارعين، ويصير ضروريّاً بالنسبة إليهم جميعاً وإلا استحالت إدارة تناقضاتهم العدائية، التي تزج بهم في عداء يفضي إلى صراع ينطلق من تنافيهم المتبادل. بانتفاء فكرة التعاقد من الدول الاشتراكية انتفى مبدأ الحرية وانتفت الديموقراطية، وارتبط كل شيء بعمل السلطة وقدرتها على التحكم بتناقضات قيل: إنها غير موجودة، لكنها تعاظمت في الواقع إلى أن جعلت الحكم ضرباً من الاستحالة، فسقط النظام. لا داعي للقول بأن نظم بلداننا العربية لا تقر بالتعاقد مبدأ ينظم علاقات أطرافها المجتمعيين والسياسيين، وأن السلطة فيها ترفض إقامة شرعيتها على توافقات وطنية وعامة، أي على عقد اجتماعي/ وطني يحدد صلاحياتها وأساليب وطرق حل ما قد يصيب الشأن العام والحياة العامة من أزمات ويعترضهما من مشكلات. لذلك تعد نظمنا عصيةً على الديموقراطية مجافيةً لها، ويعتبر مواطنها رعية خاضعاً وليس مواطناً حرّاً، لكلمته وزن ولمصلحته احترام.

يعتبر الاحتكام إلى القانون حاضنة الديموقراطية الرابعة، فلا ديموقراطية دون قانون ودون احتكام أطراف التعاقد المختلفين إلى القانون في كل نزاع أو خلاف ينشب بينهم، كما في تنظيم الشأن العام. ولا ديموقراطية مع ما كان جدنا الكواكبي يسميه "حكم الهوى"، حيث السلطة عشوائية أو تعسفية أو خارجة على القانون ومعيارياته، والحاكم فوق القانون وخارج المساءلة والمحاسبة. صحيح أن التاريخ عرف حكومات قانونية غير ديموقراطية، لكنه لم يعرف حكومة واحدة افتقرت إلى حواضن الديموقراطية التي سبق ذكرها وكانت ديموقراطية، فحكم القانون ليس وحده أو بحد ذاته دليلاً على وجود النظام الديموقراطي، لكن وجود هذا النظام محال دون حكم القانون، محال مع "حكم الهوى" السائد في كل مكان على وجه التقريب من بلداننا العربية.

بتوفر هذه الحواضن الأربع تقوم الديموقراطية وتستمر. وإذا كان لنا أن نعين الحاضنة الأكثر أهمية بينها -فإنها دون أدنى شك ما أسميته الحاضنة الأولى- التي ترى في الإنسان "ذاتاً حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها الموضوعية". هذه الحاضنة هي حجر الرحى الذي تدور حوله بقية الحواضن أو تشتق منه. والمشكلة أن حضورها ليس قويّاً في تراثنا الفكري والثقافي، وأن غيابها أو ضعف تمثيلها في أفكارنا وعقائدنا أدى إلى ضعف المجتمع المدني في بلداننا، الأمر الذي ينعكس في صورة صعوبات جدية تكبح وتضعف العمل من أجل الديموقراطية، النظام الذي يبدو هش الجذور في تراثنا، رغم ما يقال عن الشورى والمشاركة، وما يمكن إيراده من تاريخنا حول التسامح، وحول الفضاء المجتمعي الواسع الذي أتاح قدراً من حرية العمل والقول والتواصل والاعتقاد في كثير من مراحل حياتنا، وخاصة في حقبة الازدهار العربية/ الإسلامية الكبرى خلال العصر الوسيط الأوروبي.

هل توفر هذه الحواضن هو شرط قيام الديموقراطية؟. إذا ما طرحتُ هذا السؤال على نفسي كانت إجابتي "نعم" واضحة لا لبس فيها. وهل تتوفر هذه الحواضن في دولنا ومجتمعاتنا الراهنة؟. كلا، إنها لا تتوفر فيها بقدر كاف، وإلا لكان قيام الديموقراطية فيها أمراً حتميّاً لا رادَّ له، مهما فعلت نظمنا وعارضت حكوماتنا. والحال أن مشكلتنا الحقيقية تكمن في ضعف وغياب هذه الحواضن، وهذا كما أرى سبب تعثر انتقالنا إلى الديموقراطية التي لن تقوم بدون هذه الحواضن، ولن يكون نظامها راسخاً، بعد قيامها المفترض والمأمول، إذا بقيت ضعيفة، وظل الإنسان كذات حرة غائباً عن وعينا السياسي وتنظيماتنا الحزبية ومجتمعاتنا ودولنا.

هل يلتفت فكرنا الحديث إلى هذا النقص، ويدرك أهميته، ويتدارس سبل التخلص منه؟. وهل تؤسس أحزابنا نفسها، بعد تأخُّرٍ وفواتٍ مَدِيَديْنِ كتنظيمات تقوم على الحرية وتخدم مبدأها، بعد أن فشلت خلال الحقبة الماضية بسبب قيامها على الضبط والربط، وعلى التحكم بأعضائها عن قرب وعن بعد، الأمر الذي جعلها تشبه في بنائها النظم التي عارضتها وسَعَتْ إلى الحلول محلها، وأفقدها الكثير من شرعيتها ومصداقيتها وفاعليتها؟. وأخيراً، هل تتحول مجتمعاتنا إلى هيئات حرة لمواطنين أحرار ومنتجين، وترى دولنا في نفسها تعبيراً سياسياً عن مجتمعاتها بدل أن تكون كما هي عليه اليوم: قوة منفصلة عنها، تنفيها وتنقضها؟.

************************

*) كاتب وباحث من سورية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=178

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك