المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في حضارتين: الغربية والإسلامية

المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في حضارتين: الغربية والإسلامية
وجيه كوثراني*

(1)

لا يمكن تقديم تعريف واحد لمصطلح "المجتمع المدني" فقد شاع هذا المصطلح عالمياً منذ سبعينات القرن العشرين، ولا سيما بعد أحداث بولندا حيث قامت النقابات بدور هام في تحريك الحياة السياسية في مواجهة نظام الحزب الواحد، ثم شاع عربياً منذ عقدين من الزمن، ولا سيما إثر سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية، حيث بدأ المثقفون العرب يتحدثون عن دور ممكن للمجتمع المدني في التحول الديمقراطي في الوطن العربي.

على أن هذا الشيوع المتأخر للمصطلح في الأوساط العالمية والعربية وإدخاله كعنوان رئيسي أو كمحور مركزي في كل مؤتمر يُعقد أو ندوة تقام عن الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو حقوق المرأة أو الطفل أو البيئة أو الفقر- لا يعني أن المصطلح جديد في استخدامات المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع في كل من العالمين الغربي والعربي – الإسلامي.

(2)

تطور فكرة "المدني" (civil) في الغرب الحديث:

ففي الغرب تحتل مفردة civil أو civilite مكانة بارزة في النصوص السياسية والاجتماعية منذ الأصول اليونانية واللاتينية مروراً بنصوص عصر النهضة الأوروبية في القرن الثامن عشر وعصر الانتفاضات القومية الديمقراطية في القرن التاسع عشر وصولاً إلى النصوص المتأخرة التي أُنتجت في سياق القرن العشرين، والتي غلب عليها همّان مركزيان: أولاً التصدي للظواهر النازية والفاشية والتوتاليتارية التي شابت ظاهرة الدولة في أوروبا. ثانياً: تطوير الديمقراطية الغربية لتجاوز أزمات المجتمع الغربي عبر "نقد الحداثة" لحل أزمات هذه الأخيرة وتوسيع الديمقراطية ودلالاتها.

وكانت المفردة واشتقاقاتها الاصطلاحية ونسبتها كصفة إلى سياسة أو مجتمع أو سلطة أو برنامج أو نشاط تختلف من مرحلة إلى أخرى أو من مفكر إلى آخر، لكنها كانت في كل الحالات تعبر عن حاجات مرحلية تخص تطور المجتمع في زمن معين وترتبط بصياغة مفهوم مناسب لهذا التطور في تلك اللحظة من التاريخ. في بداية نشأة الفكر الغربي الحديث ولنأخذ جون لوك مثالاً على هذه النشأة، استخدم مصطلح المدني بكثرة في نصوصه ولا سيما في نصه المشهور "رسالة في التسامح"، لقد استخدم المصطلح هنا لوصف الحاكم، والحكومة، والخيرات، وليس المجتمع.

لكن هذا الاستخدام المفهومي كان مهماً آنذاك (في العام 1689م) للفصل بين سلطتين كان اندماجهما أو تداخلهما أو استخدام الواحدة للأخرى سبباً في الحروب الدينية وموجات التعصب التي شهدتها المجتمعات الأوروبية، ألا وهما السلطة المدنية والسلطة الدينية، يكتب جون لوك في رسالة التسامح (1689) ": ويبدو لي أن الدولة جماعة من الناس تكونت لغرض وحيد هو المحافظة على خيراتهم المدنية وتنميتها وأنا أقصد بالخيرات المدنية: الحياة، الحرية، سلامة البدن وحمايته ضد الألم، وامتلاك الأموال مثل الأرض، النقود، المنقولات... ويتابع: "وواجب على الحاكم المدني أن يؤمن للشعب كله، ولكل فرد على حدة، وبواسطة قوانين مفروضة بالتساوي على الجميع المحافظة الجيدة والامتلاك لكل الأشياء التي تخص هذه الحياة".

ويمكن تلخيص الأفكار الرئيسية في الرسالة بما يلي:

- التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية وبين مهمة السلطة الدينية.

- رعاية نجاة روح كل إنسان هي أمر موكول إليه هو وحده ولا يمكن أن يعهد بها إلى أية سلطة دينية أو مدنية.

- التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم في السيطرة الدنيوية.

- لكل إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.

- حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان.

وعلى أساس هذه المنطلقات ينظر لوك إلى الكنيسة وإلى أي جماعة دينية بل إلى أية جماعة مدنية على أنها تجمّع طوعي اختياري فيقول: "ولما كانت كل جماعة مهما تكن حرة ومهما يكن جزيلاً الغرض من تكوينها، وسواء تعلق الأمر بجماعة من أهل العلم المهتمين بالفلسفة أو جماعة من التجار المتجمعين من أجل التجارة، أو جماعة من أهل الفراغ المجتمعين لتثقيف العقل، أقول: لما كانت أية جماعة لا يمكن أن تبقى دون أن تنحلّ على الفور إذا عدّت كل قانون، فمن الضروري أن يكون لكل جماعة قانون يحدد الأوقات والأماكن التي تعقد فيها اجتماعاتها ويبين الشروط التي بمقتضاها يُقبل الأعضاء أو يُفصلون، وينظم الأعمال المختلفة، ويرتب سائر ما هو من هذا القبيل، ولما كانت كما بينا طوعية حقاً، وكانت اجتماعاً حراً من كل قوة قاهرة، فإنه ينتج عن هذا أن حق وضع القوانين لا يمكن أن يكون إلا للجماعة نفسها".

وإذ يتحدث لوك هنا عن استقلالية الكنيسة المحلية وحقها في وضع قوانينها الداخلية لفصلها عن السيطرة البابوية المركزية، يعمِّم هذا الحق على كل تجمع طوي اختياري في المجتمع باعتباره حقاً مدنياً. لم يتحدث لوك هنا عن مجتمع مدني، وبالمفهوم الذي يسمى في أواخر القرن العشرين ولا سيما في أحد مؤسساته المركزية (المنظمات غير الحكومية) غير أن أفكاره كانت تؤسس لشروط تكّون هذا المفهوم في التاريخ الأوروبي لأي تدرج نجده في أشكال تاريخية وأفكار ومفاهيم تتلاحق وتتداعى من مرحلة إلى أخرى.

كان أول الشروط "الفصل بين السلطتين المدنية والدينية، فكان التشديد على الصفة المدنية والمدني" يعني تاريخياً، أي في السياق التاريخي الذي كتب فيه النص المعاني والمواقف التالية:

- الدعوة إلى إنهاء حالة الاستقواء السياسي بالدين، وحالة إنهاء استقواء رجال الدين بالحاكم السياسي، هذا الفصل يفسح المجال للحيز المدني في حياة البشر أن يكون له اعتباره ومكانته.

- وهذا الإفساح بدوره يضمن قيام "تسامح" بين الأفراد والجماعات من ثمّ لعيش مشترك بين الناس في مجتمع ما.

كان هذا منطلق التأسيس لفكرة وواقع سيتطوران لاحقاً في أوروبا والغرب عموماً(1).

يأتي عصر الأنوار ولا سيما عبر أعلامه من المفكرين الفرنسيين ليعطي دفعاً غزيراً من الأفكار التي من شأنها تعزيز الصفة المدنية للحكم والسلطة وأشكال ممارستها على قاعدة مبدأ السيادة للشعب، ومبدأ التمثيل عبر الاقتراع، ومبدأ فصل السلطات، ومبدأ العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع. تتوزع هذه الأفكار تعميقاً وتوسيعاً على عدد من المفكرين الكبار، أمثال فولتير وروسو ومونتسكيو، على أن تلتقي جميعاً عند تبلور مبدأين أساسيين ما لبثا أن ترسخا في إعلان "الاستقلال الأمريكي" في عام (1776) وإعلان "حقوق الإنسان والمواطن" الصادر في عام (1789) وهما مبدآن مترابطان تحت عنوان "المواطنة والديمقراطية".

لا يتسع المجال هنا لتوسيع هذه الأفكار لكن يمكن القول أن فكرة المجتمع المدني كدينامية ثقافية واجتماعية واقتصادية بل وسياسية تبلورت في سياق تحقق هذين الشرطين المتلازمين: حرية المواطن وحقوقه في دولة ديمقراطية ترعى الحقوق والواجبات، وفقاً لدستور وقوانين تنبثق عن إرادة الشعب المتشكل كمجتمع سياسي.

وفي هذا المناخ من تعددية الأفكار وصراعها نمت فكرة المجتمع المدني كمقولة متميزة عن الدولة ومؤسساتها ولكن لم يجر حتى حينه تعريف محدد لها، بل يجري استخدام مفردتها أحياناً للتعبير عن المجتمع السياسي وحركته أو عن رأي عام في المجتمع أو عن مجموعة من الجمعيات والروابط والنقابات، أو عن دينامية كامنة داخل المجتمع أو إرادة عامة تتمثل بمجموعة من الإيرادات الفردية الباحثة عن "الخير العام". على أن بعض الباحثين المتابعين لهذا الموضوع يرون فيما كتبه المفكر الفرنسي "الكسي دي توكفيل" (ALEXI De Toequeville) أثر زيارته للولايات المتحدة ومعايشته المجتمع الأمريكي أولى المساهمات في تعيين الخير الذي يمثله المجتمع المدني في نشاط وسلوك المواطن الأمريكي، يصف توكفيل في كتابه عن "الديمقراطية في أمريكا" حال الأمريكيين وهم يتجمعون للقيام بعمل مفيد بمعزل عن أي تدخل حكومي أو برلماني أو سياسي، فيرى في هذه الظاهرة اللافتة معطى جديداً لم يألفه ولم يشهده في الديمقراطيات الأوروبية ولا سيما في المجتمع الفرنسي، إذ يطغى في هذا الأخير دور الدولة ومؤسساتها ورجالها، في حين وجد في الولايات المتحدة أنواعاً من التجمعات والروابط (associations) لم يكن لديه أي فكرة عنها، وهو يعرب عن إعجابه بهذا الفن اللامتناهي والذي عن طريقه توصل المواطنون في الولايات المتحدة لتعيين هدف مشترك يجمع حوله جهود أكبر عدد من الناس، ويجعل تحقيق مشروعه يسير بسهولة ونجاح. يعدد توكفيل آلاف المشاريع التي تقوم بها جمعيات وروابط حرة ومستقلة: مدارس، مستشفيات، تنظيم، أعياد ومناسبات.. إلخ. ويسمى هذا الفن علماً جديداً، إنه علم "بناء الجمعيات" ويدعو الديمقراطيات الأوروبية ولا سيما الفرنسية لتعلم قواعد هذا العلم. ففي طريقه يتحقق تقدم العلوم الأخرى وتمارس الديمقراطية بحق، وتتحقق مدنية الناس.

يبدو بعد ذلك أن الظاهرة الأمريكية التي لفتت نظر توكفيل في القرن التاسع عشر خمدت ليطغى عليها تفكير يتجاذب بين قطبين: الدولة من جهة والقطاع الخاص من جهة أخرى، وتسود المقابلات بين المتضادات: الفرد مقابل الدولة، القطاع العام مقابل القطاع الخاص، البيروقراطية الإدارية مقابل حركة الأسواق الحرة.

أنصار فكرة المجتمع المدني والراعون له يرون في هذه المقابلات الثنائية مساراً وبعداً للمجتمعات، حتى للمجتمعات الديمقراطية نفسها، فهذه المجتمعات لابد أن تستعيد البعد الثالث من أبعاد الديمقراطية وهو البعد المدني، وهذا البعد أو الخير يقع بين المجال الحكومي ومجال القطاع الخاص ففي هذا الخير المدني "لا نقترع ولا نتاجر". في هذا المكان نلتقي لنتناقش ونجد أفضل الوسائل لتحقيق مشروع ثقافي، اجتماعي، خيري، للحي، للمدرسة للقرية، للمحتاجين، وكل هذا بذهنية تطوعية اختيارية لا تتوخى الربح ولا التفرد السياسي ولا اكتساب شرعية ما.

هذا ولا يزال الجدل قائماً حول فكرة المجتمع المدني وحول حجم الحيز الذي يحتل في نشاط المواطن في المجتمعات العربية وما هي تخومه بين عالم السياسة وعالم الاقتصاد بين نطاق الدولة ودورها من جهة، وبين نطاق الجمعيات والمنظمات التي ندعوها غير حكومية GNO».

هذا ويبقى السؤال المشكل، هل يمكن سحب مفهوم المجتمع بهذا المعنى إلى حقل المجتمعات الإسلامية وتاريخها؟ وهل يمكن أن نقرأ استقلالية ما للمجتمع الإسلامي في مرحلة العدالة السلطانية، وكيف عبرت هذه الاستقلالية عن نفسها؟

(3)

الحديث عن المجتمع المدني ومظاهره في التاريخ العربي أو الإسلامي على وجه أعم، يثير بداهة وبداية عدداً من التساؤلات والتحفظات.

فالمصطلح حديث، وإن استُخدم التعبير في التراث الفكري العربي عند الفارابي وابن خلدون على سبيل المثال(2)، وهو في نشأته واستخدامه المعاصر شديد الالتصاق بالتجربة الغربية كما مر معنا لا سيما في وجهها الليبرالي – الديمقراطي، وتحديداً شديد الالتصاق بتشكل حقوق المواطن ووعي هذا الأخير مواطنيته في اجتماع سياسي مدني أوروبي مواجه للطابع الكنسي – الكهنوتي للسلطة (سمة المواجهة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، ومواجه أيضاً للطابع العسكري التوتاليتاري للدولة (سمة المواجهة في مرحلة ما بين الحربين للنازية والفاشية، وللدولة التوتاليتارية في مرحلة سقوط جدار برلين وتراجع الحرب الباردة).

ومن جهة أخرى، وبالإضافة إلى هذه الخصوصية التاريخية، تثير ترجمة المصطلح societe civile إشكالاً مفاهيمياً في اللغة العربية، ففي حين تجد اللغات الأجنبية الأوروبية تطابقاً وتدرجاً في الاشتقاق اللغوي والمفاهيمي معاً بين مصطلحات cite, civil, civique, citoyen فإننا وإن كنا نجد في اللغة العربية والتراث مصطلح المدينة والمدنية، فإن تعبير "المواطنة" الذي شاع استخدامه لترجمة citoyennete يخرج عن "المدنية" و "المدني" ويستعير تعبير الوطن كأساس للاشتقاق، وهذا أمر لا يعكس إشكالاً لغوياً فحسب، وإنما أيضاً إشكالاً مفاهيمياً في المصطلح. ذلك أن المواطنة والمواطن تعبيران ارتبطا بنشأة الدولة القطرية الوطنية المرتبطة بدورها بحدود قطر أو إقليم أو منطقة، وبجماعة سكانية تأطرت وانتسبت إلى دولة نشأت في لحظة من لحظات العلاقات الدولية في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية.

أما التعبير الاصطلاحي الذي تردد في تراث العرب والمسلمين عبر تاريخ علاقاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية فهو الأخ، والأخوية، والإخوان، والأهل – وكلها تعابير تنم وتصدر عن اجتماع سياسي سمته الأساسية الانتماء إلى الإسلام، أو الولاء لـ"الأمة" أو الجماعة القائمة على عنصرين متداخلين ومتجاذبين تبعاً للمراحل وسمة الخطاب الثقافي السائد: العقيدة واللغة؛ كذلك تبعاً لتدرج مراتب ذاك الولاء، بدءاً من أهل الحارة في المدينة، إلى أهل الحرف والطرق والطوائف، إلى أهل الأمصار في "ديار الإسلام".

ووفقاً لهذا التمييز الذي يبدو لي ضرورياً في هذا البحث، اقترح استخدام مصطلح "المجتمع الأهلي" (من أَهْل) لتوصيف مظاهر العلاقة بين المجتمع العربي في التاريخ، وبما هو وعاء لبشر ينتجون سياسة وثقافة وسلعاً وعلاقات تبادل، وبين الدولة بما هي هيئة حاكمة ومنظمة وضابطة لعلاقات هؤلاء البشر، ذلك أن ما يوازي مفهوم المجتمع المدني الحديث من حيث دلالة استقلالية المجتمع عن الدولة عبر مؤسسات ومنظمات مستقلة أو شبه مستقلة أو وسيطة، هو ما يمكن أن نسميه اصطلاحاً "المجتمع الأهلي" في التاريخ الاجتماعي – السياسي العربي. فمقابل صيغة "أهل الدولة" التي تتردد في مقدمة ابن خلدون، نقرأ صيغ "أهل العصبية" وأهل الحرف والصنائع والطرق والفرق.. وجميع هذه الصيغ تعبير عن دينامية اجتماع سياسي، ومؤسسات مجتمع تجري فيه أشكال من الإنتاج والتبادل وأنماط من الثقافة والاجتهاد الفكري والفقهي، وتعبيرات من العمل السياسي والنقابي.

وهنا يجدر الاستدراك حيال هذه المقارنة بين المجتمع المدني الحديث والمجتمع الأهلي التقليدي، بالتنبيه إلى أن المقارنة لا تحمل هنا معنى الاستبدال أو المفاضلة بين مؤسسات المجتمع المدني الحديث ومؤسسات المجتمع الأهلي القديم، فالتاريخ سيرورة وتحولات و "الثابت" فيه ليس أبدياً أو أزلياً، وإنما هو معقول ومتمثل أو متخيل في أطر الزمان والمكان، أي أن ثمة صورة للماضي تتجدد في الحاضر، وهذه الصورة تتبدل في وظائفها الاجتماعية والسياسية من مرحلة إلى مرحلة، فالعصبية المقترنة بالدعوة التي سبق أن شكلت وفق تحليل ابن خلدون، محرّك التاريخ العربي وركيزة العمل السياسي، ومنشأ قيام الدول فيه، حملت في الماضي، ولا سيما في بدايات التاريخ العربي، صورة التوحد القائم على الولاء أو الاستتباع في إطار الأمة الواسعة. أما في الحاضر فإنها تحمل وفي إطار نشوء الدول القطرية العربية المختلفة، صورة وظائفية مختلفة لعلاقة المجتمع الأهلي بالدولة: صورة التجزئة والحروب الأهلية والتفكيك المجتمعي اللامحدود.

ولهذا، فإن استعادة مظاهر المجتمع الأهلي في التاريخ العربي، لا تستهدف "التبشير" بنموذج تاريخي ناجز للمجتمع المدني الحديث في الوطن العربي، وإنما ملاحظة الأصول ودراستها في ضوء حاجة مشروع النهوض العربي إلى الاستمرارية والنقد والتجاوز. ولأن العنوان المطروح طموح جداً والإمكانات التقنية والزمنية محدودة جداً، فإننا نكتفي بإثارة إشكالات بحثية وإبراز محاور دراسية ووفقاً لمنهج في النظر يتوخى الوقوف عند المعطيات الأساسية التي أبرزها التاريخ للعلاقة بين المجتمع والدولة في التاريخ العربي.

شاع في بعض الأدبيات السياسية والتاريخية، ولا سيما تلك المتأثرة بنظرية "الاستبداد الشرقي" أن الدولة في التاريخ العربي الإسلامي دولة طاغية قابضة على المجتمع، ونافية لاستقلاليته، ومدمرة لديناميته، فمنذ مونتسكيو صاحب نظرية "دولة الاستبداد الشرقي" التي أملتها في رأيه اعتبارات جغرافية وبيئية إلى ماركس مطور النظرية في إطار "نمط الإنتاج الآسيوي" إلى ماكس فيبر، صاحب مصطلح "الدولة السلطانية" المرتكز على النمط السياسي التقليدي الديني والحق الإلهي، إلى كتاب فيتفوغل "الاستبداد الشرقي".. ترسخ النظر في العديد من الدراسات العربية والأجنبية، على أن الدولة العربية والإسلامية دولة طغت على المجتمع وامتدت إلى أقصى حناياه وإلى كل خلية فيه.

والمفارقة اللافتة للنظر هي أن الباحث السياسي أو المفكر المنظر من هذه المدرسة أو تلك، يأخذ بقليل من المادة التاريخية المنتقاة من تواريخ السلاطين أو التاريخ الرسمي لإثبات فرضيته، في حين تهمل دراسات تاريخية أكاديمية عديدة بدأت تبرز منذ عقود مع ازدهار حقول التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ المدن والعمران والسكان في الدراسات الغربية أولاً، ثم العربية ثانياً.

فقد تصدى العديد من الباحثين الأجانب لدراسة أوضاع الحرف والحرفيين في التاريخ الإسلامي، وكان أولهم – على حد علمي المستشرق لويس ماسينيون – كما تصدوا لدراسة المؤسسات فيه من الحسبة إلى شيوخ السوق والحرف والنقابات والحارات(3)، وفي هذا الباب لابد من ذكر أعمال كلود كاهن وجان سوفاجيه ومانتران وأندريه ريمون، التي أضحت فيما بعد نماذج نُسج على منوالها كثير من الدارسين الأكاديميين وطلاب الدراسات العليا في التاريخ الاجتماعي العربي.

وعلى صعيد حركة التاريخ العربي شهد العقدان الأخيران، ولا سيما في الأوساط الأكاديمية والجامعية، استخداماً ملحوظاً للمخطوطات العربية، والأرشيف العثماني والمحلي، وسجلات المحاكم الشرعية، والأرشيف الخاص والمذكرات، فظهرت كتابات تاريخية عديدة متخصصة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي أو تاريخ المدن والسكان(4)، وكان أن أبرزت هذه الدراسات حجم التاريخ الأهلي ومدى اتساع موضوعاته وغنى مصادره، ونبهت إلى أن ثمة تاريخاً أهلياً أو مدنياً لم تعره جمهرة الباحثين العرب أهمية تذكر، فجلّ المؤرخين ظلوا غارقين في تاريخ السياسات السلطانية، وفي خط كتب السير والتراجم. فلم تتراكم مادة تاريخية تستوعب في إعادة إنتاج معرفة أحوال الاجتماع البشري و "أحوال العمران" على حد تعبير ابن خلدون. وظلت المحاولات العلمية القليلة محصورة في الأوساط المتخصصة ولم تعمم أو تستوعب في قطاعات علم الاجتماع السياسي والثقافي العربي، أو في قطاعات المعرفة الفلسفية أو النظرية السياسية، أي أنها لم تصبح رصيداً معرفياً مشتركاً للعلوم الإنسانية المتكاملة في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

ومن جهة أخرى، يتحمل الباحث الاجتماعي والاقتصادي العربي مسؤولية منهجية في هذا التصور إذ تسهل عليه أو تغريه مرجعية النظريات العالمية – أو تأخذ باهتمامه والتزامه فواصل الاختصاص وحدوده، فلا يعير الدراسة التاريخية اهتماماً يذكر، فيغرق في التعميم والتجريد أو التجزيء التجريبي على حساب معطيات الواقع والتاريخ وجدليتهما، وعلى حساب تكاملية العلوم الإنسانية اليوم.

كان لابد من هذه العجالة المنهجية للإشارة إلى أمرين:

أولاً: أهمية الموضوع المطروح من حيث حجمه، وغنى مصادره ومراجعه، وتعددية فرضياته ومداخله البحثية.

ثانياً: حدود الإسهام المقدم في هذا البحث، من ناحية الإمكانية الزمنية المتاحة، والإمكانية المعرفية المحصلة في وعي الباحث وتجربته.

ولذلك نوجز مضمون هذا الإسهام في التركيز على المحاور التي من شأنها أن تشكل مداخل لبحثٍ تاريخي، ولكن أيضاً فرضيات لبحث في علم الاجتماع السياسي والثقافي.

محاور البحث هي:

1 – الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملّة.

2 – التنظيم الحرفي والأسواق والحارات، أو فعاليات "المدينة الإسلامية".

3 – الوقف والخدمات الاجتماعية والعلمية.

أولاً: الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملّة
قام بناء الدولة في التاريخ العربي – الإسلامي على قاعدتين متداخلتين: قاعدة الدعوة المستندة إلى أصل الشريعة التي كانت تقوم مقام "المبرر الشرعي" لنشأة الدولة، وهي القاعدة التي أكدها الفقهاء المسلمون(5)، وقاعدة العصبية التي هي وسيلة التغلب للوصول إلى الملك، وهي القاعدة التي أكدها ابن خلدون وجعلها أساساً لقيام الدولة ونشوئها(6).

غير أن نظرية ابن خلدون في الدولة، يتجاذبها في نهاية التحليل عنصراها: العصبية من جهة، والدعوة من جهة ثانية. فهو عندما يؤكد أهمية العصبية في قيام الدولة، لا ينفي أهمية الدعوة في بروزها، بل إنه يشدد على أن الدين يضفي القوة العصبية، وهو شرطها المكمل لتصبح في نصاب الدولة حيث تصطبغ هذه الأخيرة به – كما رأى ابن خلدون.

إلا أن اصطباغ العصبية بالصبغة الدينية في مشروع الدولة، لا يجعل من الدعوة أو الشريعة حكراً عليها، فالعصبية الحاكمة لا تستطيع وهي في نصاب الدولة وفي مرحلة تغلبها أن تطوع الإسلام وفق صورة اجتهاد معين أو أيديولوجيا معينة فتفرضها فرضاً على الأمة، أي على المجتمع، كأيديولوجيا شمولية. وهي وإن حاولت ذلك فمرجعية الأمة والمجتمع بقيت متمثلة بالشريعة وما يُرى أنه "حق" انطلاقاً من تمّثل نصوصها في ظروف وضعية محددة. وهذا ما فتح على أشكال واسعة من المقاومة والمعارضة والامتناع عن الاستتباع في الدولة الجائرة وعلى مذاهب مختلفة في الاجتهاد والتفسير، وهذا ما يعبر عنه لويس غارديه بقوله "والأمر الأكيد أن أصواتاً كثيرة ارتفعت دائماً في الإسلام ضد ما هو اعتباطي ولم تقبل من السلطة الشرعية إلا ما ارتبط بالشرائع القرآنية أو بالقواعد المستخلصة منها، وعندما كان الأمر يتعلق بمضمون المبادئ الحكومية، كانت مقولة "الحق" التي تستدعي دفاعاً وحماية وممارسة تحتل بصورة مطلقة المقام الأول(7).

ولعل هذا ما يسوغ الحديث عن انفصال ما بين الأمة والدولة في التاريخ الإسلامي، فالأمة كإطار انتماء عقائدي وفكري وسلوكي للجماعة لم تندمج اندماجاً عضوياً في الدولة.

لقد قامت الدولة منذ قيام الأسرة الأموية وحتى أواخر العهد العثماني، على قوى متغلبة لم تستطع أن تدمج الأمة بها، بينما قامت الأمة على اجتماع من سماته التنوع في حدود الاجتهاد والتمذهب الفقهي وحقوق أهل الكتاب التي انتظمت في المرحلة العثمانية تحت صيغة نظام الملل. وبقيت العلاقة بين جماعات الأمة وفرقها ومِللها من جهة، وأهل الدولة من جهة أخرى، علاقة واسطة لا علاقة اندماج، علاقة سلطات وسيطة محلية ومللية تكتسب الجماعات من خلالها، وعبر أمرائها ومشايخها وزعماء عصبياتها وقبائلها وعائلاتها – لا سيما في الأطراف – أو عبر مراجعها الدينية، هامشاً من الاستقلالية في حياتها الداخلية(8).

لا شك أن ثمة مؤسسة دينية (رسمية) بدأت بالتشكل منذ العهد السلجوقي، ثم المملوكي، وما لبث أن اكتملت في العهد العثماني، وكانت أجهزتها تتجسد في مراتب القضاء ومشيخة الإسلام والتعليم والإفتاء، ولكن مع ذلك بقي قطاع من الفقهاء والعلماء خارج نطاق الوظيفة الرسمية لا سيما لدى أهل التصوف والتشيع في العالم الإسلامي، وتجدر الإشارة إلى أن العديد من هؤلاء قادوا حركات معارضة، أو حركات تحرر، أو حملوا دعوات إصلاح واحتجاج أو اعتزال وزهد ونبذ لـ"سلطان الدنيا"، وفي كل الأحوال كان لهذه الرموز قواعد شعبية غالباً ما تأطّرت في طرق الصوفية والولاء لشيخ الطريقة أو المذاهب الفقهية لدى مختلف الفرق والفئات الإسلامية(9).

ثانياً: فعاليات المدينة الإسلامية: الإنتاج الحرفي والأسواق والحارات

مع نشأة الدولة الإسلامية وتوسعها عبر حركة الفتوح وبناء هياكلها وأجهزتها خلال القرون الثلاثة الأولى، وفي سياق اتساع التجارة وعلاقات التبادل عبر الطرقات التقليدية بين دوائر العالم الإسلامي ذات المواريث الحضارية القديمة (اليونانية – البيزنطية، المشرقية – العربية، الفارسية – الهندية) انتظمت المدينة الإسلامية، كمحطة تجارية في غالب الأحيان، في أنماط من التنظيم العمراني والسكاني، وأنماط من تنظيم العمل وعلاقات التبادل في الأسواق والحارات، وتوزعت المدينة في دوائر وخطوط من الوحدات الإنتاجية والتجارية والحرفية والسكنية حول الجامع – المسجد كنقطة ارتكاز وصولاً إلى الحارات السكنية المتقاطعة هي أيضاً مع توزع ديموغرافي "مللي" أو عائلي – قبلي، أو اختصاص حرفي مندمج في غالب الأحيان مع طريقة من طرق الصوفية.

هذا التنظيم الذي لا نزال نشهد آثاره وبعض مظاهره في الأسواق القديمة في بعض المدن العربية والإسلامية (كالقاهرة وفاس وبغداد..)، حمل دينامية اجتماعية عبرت عن نفسها بأشكال من التوازن بين التدخل الحكومي (السلطان) الذي يتمثل في مؤسسات الوالي والقاضي والمحتسب وصاحب الشرطة، وبين الحاجات الاجتماعية – الأهلية (المدنية) التي عبرت عن نفسها بابتداع أشكال من التنظيمات والمؤسسات الموازنة لمؤسسات الدولة. فالنشاط المدنيّ الذي تركز بشكل أساسي في الإنتاج الحرفي والتجارة انتظم في "الأصناف"، وهذه الأخيرة هي تنظيمات اجتماعية تراتبية متماسكة، كل تنظيم فيها يعبر عن أهل حرفة من الحرف، والملاحظ أن التنظيم (الصنف) الذي يدعوه البعض "الطائفة"، يعتمد تراتبية أهل الصوفية ابتداءً من المبتدئ (المريد) إلى الصانع، إلى المعلم، إلى شيخ الحرفة... إلى شيخ السوق. وبين كل مرتبة تقوم أعراف وطقوس وأخلاقيات وتقنيات تعبر بدورها عن التفاوت الحاصل بين كل مرتبة ومرتبة في المعرفة والقيمة، أي وفقاً لدرجات تحصيل أو معرفة "سر المهنة" الذي أضفي عليه الطابع القدسي – الديني(10).

هذا الأمر ساعد على إحداث التماسك داخل التنظيم، كما ساعد على التماسك في التعامل مع الخارج، إذ عبر هذا التماسك والتراتبية حوفظ على تقنيات الصنعة (الكار) وجودة السلعة، وكانت عبر التنظيم تحدد الأسعار وتفتح الحوانيت المستقلة ويدافع عن الجسم الحرفي تجاه أصناف أخرى أو اتجاه الدولة.

ويلاحظ المؤرخ الدارس للعصر العباسي "أنه استقر لكل حرفة عرفها وأصولها حتى كان هذا العرف مقبولاً لدى القاضي والمحتسب في فض مشاكلهم المهنية"(11).

حتى إذا ما انتقلنا إلى العهد العثماني وجدنا استمرارية ملفتة للنظر لهذه التنظيمات الحرفية في المدن العربية والإسلامية، كما وجدنا مادة تاريخية توثيقية تسمح بقراءة تاريخية للدور الذي كانت تقوم به بين المجتمع والدولة.

من خلال دراسة طوائف الحرف والصناعات في حماة في القرن السادس عشر، اعتماداً على سجلات المحكمة الشرعية، نستنتج أن "شيخ سوق حماة وهو شيخ مشايخ الحرف كلها، أو شيخ التجار، كان يعيَّن بإجماع التجار في سوق التجار، ويشترط فيه أن يكون صاحب دين وأخلاق، أهلاً للمشيخة لائقاً بها، أن يختاره ويرضى به كامل التجار، وأن يوافق القاضي والسلطان على تعيينه". وكانت مهمة هذا الشيخ تشمل: "الإشراف على كل طوائف الحرف ومشايخها ويقوم بصلة الوصل ما بين الوالي والقاضي من جهة، والطوائف الحرفية من جهة أخرى" ولا يتم أي تغيير فيها إلا بعلمه ورأيه "وكان مشايخ الحرف وكلهم يُنتخبون بحضوره ويزكون بتزكيته"(12).

أما سلطة شيخ الطائفة فكانت تشمل إدارة شؤون أبناء الطائفة والاهتمام بمشاكلهم والإشراف على تنفيذ اتفاقاتهم، والطلب من القاضي تسجيل هذه الاتفاقات. وكان يرفع شكاوى الطائفة على طائفة أخرى إلى القاضي بنفسه، وكان الوالي يتصل بالطائفة عن طريقة(13).

هذه المهمات الوسيطة، كانت لا تخلو من سلطة يمارسها الشيخ، اعتماداً على العلاقات التنظيمية الصارمة التي تربطه بأبناء الطائفة، وهي علاقات تتداخل في عدة مستويات (تقنية، دينية، وعائلية). فعلى المستوى التقني والتنظيمي يخضع التعليم الحرفي لتراتبية دقيقة، بدءاً من المبتدئ – كما قلنا- إلى الصانع، إلى المعلم، وعلى قاعدة هذه التراتبية، لشيخ الحرفة "الحق بأن يشد بالكار المبتدئين الماهرين فيصيرون صنّاعاً أو معلمين" وحفلة الشد (أي الترفيع) تُلخص عبر سلطات المشرفين عليها (وهم: شيخ الحرفة والنقيب والشاويش، وعبر المشاركين فيها وهم: أهل الحي والأقارب وأهل الحرفة) مشهد سلطة أهلية تلمح فيها – كما وصفها أحد معاصريها في أواخر القرن التاسع عشر في بحث علمي – رموز حركات دقيقة لها دلالتها في التوزيع الوظائفي للسلطة في المجتمع الحرفي وفي الالتزام بعهد ومواثيق دينية لها فعل الضوابط لأصول الحرفة وإتقانها وعدم الغش فيها وسلوك مخافة الله في المعاملة(14). فالطابع الديني الذي يرتسم في حفلة الشد، الذي يتجلى في التشديد على قراءة "الفاتحة" والأدعية والأناشيد النبوية التي يتخلل الحفلة وإسباغ جو من الورع والتقوى على "المشدود" والحاضرين – كلها أمور تشدد على "العهد" و "الميثاق" و "الأخوة" والعهد الذي يقطعه "المشدود" على نفسه أمام معلمه، بينما النقيب يقرأ الفاتحة فوق رأسيهما في مشهد روحي، يتضمن وفقاً للأعراف السائدة في المجموعة الحرفية "دستوراً" هو نوع من المبايعة للمشدود في أن يلتزم بقواعد منها: الاتفاق، وعدم الغش، والتسعيرة العادلة، والتضامن مع رفاق المهنة. وبهذا المعنى شاع مصطلح "الدستور" آنذاك، ولعل هذا الأمر هو ما يلفت انتباه المستشرق لويس ماسينيون في دراسته للحرف وفي تحليله دلالات الاستخدام الشعبي لمصطلح "الدستور" عام 1908م إثر الانقلاب الدستوري العثماني آنذاك، يقول: "إن تعبير الدستور استخدم للدلالة على المشروطية التي أعلنت عام 1908م إثر الانقلاب الذي قامت به جمعية الاتحاد والترقي" ويضيف معلقاً: "عندما كان الناس يهتفون "دستور" فإنما كانوا يستحضرون معنى الميثاق القائم على قسم إيماني"(15).

ومهما يكن فإن ما يهمنا التشديد عليه في الجانب الاجتماعي – السياسي هو ما يقدمه هذا التنظيم الحرفي في الفكر والممارسة في مجال السلطة الأهلية في التاريخ العربي. ففي هذا المجال يبرز تقاطع طرق الصوفية وطوائف الحرف، حركية اجتماعية تتم بمعزل عن الهيئة الحاكمة، وإن لجأت هذه الأخيرة إلى التنسيق معها أو احتوائها وضبطها أو اختراقها أحيـاناً، فالدراسة التاريخية المتخصصة تشير كذلك، وبالمقابل إلى اندراج الحرفيين أيضا في حركات العامة الاجتماعية أو انتظامهم جزئياً فيها، منذ قيام حركات العيّارين والشطار وتنظيمات الفتوة في العصور العباسية، إلى فتوة الحارات التي استمرت في العديد من المدن العربية حتى زمن ليس ببعيد. ولابد من الإشارة إلى أن هذه الحركة الاجتماعية سواء اتجهت إلى التنسيق مع الهيئة الحاكمة أو على الاحتجاج والرفض مع حركات العامة، أو كجزء منها، فإنها كانت في كل الأحوال تعبيراً اجتماعياً مستقلاً عن سياسة الهيئة الحاكمة. وبهذا المعنى يقول المستشرقان غب وبوون في وصف وظائفية الطائفة الحرفية على الصعيد السياسي: "وكانت الطائفة تخدم عدة أغراض، فقد كانت توفر الوسيلة التي تمكن أقل المواطنين شأناً من التعبير عن غرائزه الاجتماعية والاطمئنان إلى مكانته في النظام الاجتماعي، وكانت المجال الذي يمارس فيه حق المواطنة فهو وإن لم يكن يستدعي إلا نادراً لكي يلعب أي دور في الحياة السياسية الخارجية إلا أنه من الناحية المقابلة كان في مأمن من أن يتدخل حكامه السياسيون في شؤونه إلا بشكل طفيف، إذ كانوا بوجه عام يحترمون استقلال الطوائف وطرائقها التقليدية، ومما كان ينمي الوظيفة الاجتماعية للطوائف ليس كلها بل معظمها وبخاصة طوائف الحرف، ما لها عادة من ارتباطات مع إحدى الطرق الدينية الكبرى"(16).

ثالثاً: الوقف والخدمات الاجتماعية والعلمية:

من يستعرض النصوص الفقهية الكثيرة في الاقتصاد الإسلامي و"المجتمع المتكافل" في الإسلام يستوقفه هذا الكم الهائل من الاجتهادات والتوصيات والأحكام في مسألة الصدقات وأوجه صرفها على أعمال الخير والبر والنفع العام للمجتمع. ويأتي في مقدمة هذه الصدقات الزكاة والوقف.

لا شك أن ثمة فارقاً بين النص/ النظرية والواقع التاريخي، لكن التجربة التاريخية الإسلامية تثبت أن التجاوزات لا سيما من قبل أهل الدولة أو المستفيدين منها لم تكن إلا مظاهر تتعايش مع أخرى في المجتمع. وتختلف درجات المفارقة بين النص والواقع حسب المراحل والحكام و "شباب" الدولة والمجتمع أو ترهلهما، لكن في كل الأحوال تبقى بعض الثوابت منذ تأسيس نواة "الدولة" في المدينة وحتى العصر العثماني شاهداً على أن المجتمع العربي قادر في ظل الاجتماع الإسلامي أن ينتج مؤسسات للنفع العام والخدمات الاجتماعية من طبابة وتعليم ومبرات لليتامى والمعاقين ومستشفيات ومساكن ومطاعم شعبية... وكل هذه الخدمات قامت على المبادرة أو الالتزام بفريضة الصدقة من قبل أهل الدولة أو أهل الثروة والمكلفين. وشكل الوقف أحد أهم موارد هذه الخدمات وإطاراً مؤسسياً لها. ويعتبر الفقهاء أن "الوقف من الصدقات الدائمة غير اللازمة، وهو حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة". والأصل في الوقف كما يقول الفقهاء، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" و "الصدقة الجارية" فسرها العلماء بالوقف(17).

ويشمل الوقف الكثير من أوجه المنفعة للمجتمع، إذ يشمل وقف المساجد والحوانيت والأراضي والخانات ودور العلم والمدارس والمستشفيات والأوقاف على المقابر، والأوقاف للقرض الحسن، ووقف البيوت الخاصة للفقراء، والسقايات، والمطاعم الشعبية التي يفرق فيها الطعام للفقراء والمحتاجين (كتكية السلطان سليم وتكية الشيخ محيي الدين بدمشق، وتكية الحرم الإبراهيمي في الخليل)، ووقف الآبار في الفلوات لسقاية المسافرين والزروع والماشية، ووقف عقارات وأراض زراعية يصرف ريعها للمجاهدين أو يصرف – في حال عجز الدولة – لإصلاح القناطر والجسور، وكثير من الأوقاف كان يصرف ريعه على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين.. بل إن الوقف شمل ما حبس ريعه لتزويج الشباب والشابات الذين تضيق أيديهم أو أيدي أولياء أمرهم عن نفقات الزواج والمهر، وشمل ما يُقدم من حليب وسكر، حتى لقد جعل صلاح الدين الأيوبي في أحد أبواب القلعة بدمشق "ميزاباً يسيل منه الحليب" وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكّر، تأتي إليه الأمهات يومين في كـل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من السكر والحليب"(18).

ويمكن القول أن معظم دور العلم التي تأسست في القرن الرابع الهجري الذي يصفه آدم متز بـ"عصر النهضة في الإسلام"، ثم المستشفيات والبيمارستانات والمدارس التي تأسست في العهد السلجوقي وحكم آل زنكي والأيوبيين في المشرق، قامت بشكل أساسي على الأوقاف.

ثم إن مئات المؤسسات الاجتماعية والدينية كالجوامع والمدارس والخوانق والربط والزوايا والتكايا والمستشفيات والبيمارستانات التي يعددها "محمد كرد علي" في مدن في بلاد الشام التي يعود بعضها إلى ما قبل العهد العثماني وبعضها الآخر إلى المراحل العثمانية الأولى، إنما نشأت واستمرت بفعل الدعم الذي أمنته لها مؤسسة الوقف(19).

استنتاجات
إن العودة التاريخية إلى مؤسسات المجتمع الأهلي في التاريخ العربي لا تهدف إلى تقديم صورة سجالية في حمى الجدل الذي ارتفع في هذه المرحلة بين ثنائيات العقل العربي المشطور بين "الديني" و "المدني" أو بين "الإسلامي" و "العلماني"، وإنما تطرح العودة التاريخية منهجاً آخر في فهم المصطلح والمفهوم وطبيعة علاقة الماضي بالحاضر وتأثيره في المستقبل.

فالتاريخ ليس فكراً "ماضوياً" كما اعتقد البعض، وما يُظن أنه "ديني" لأن مرجعيته دينية، ليس غيباً أو فكراً ميتافيزيقياً انتهت مرحلته، كما رأت مدرسة أوغست كونت منذ مطالع القرن التاسع عشر، فالاجتهاد الديني هو أيضاً تمثل وضعي للمقدس في الزمان والمكان، أي في المدني، ذلك أنه يستجيب لحاجات الإنسان في المعيشة والاقتصاد وطرق الاجتماع والرأي والمشاعر، أما الاجتهاد الذي يصر على نعت نفسه بالعلماني أو المدني أو الوضعي مقابل الديني فقلما يفلت من المقدس والمثالي والغيبي، إما بتأثير الثقافة الجمعية عن طريق اللاوعي الجمعي الذي لا يلبث أن يستيقظ رموزاً، كما رأى يونغ في أوروبا التي كبتت مسيحيتها ذات وقت، أو حركات استرداد (الأصوليات المسيحية في أوروبا وأمريكا)، وإما بتحول المقولة الوضعية إلى دوغمائية كما هي حال بعض العلمانيين المتشددين. والتشـدد في كل الحالات هو تعصب فئوي وعصبوية أيديولوجية.

إن العودة إلى التاريخ لقراءة ظواهر الحاضر (المجتمع المدني، مثلاً) من زاوية نبش الجذور، لرؤية ما هو أنثروبولوجي (ثابت) ولرؤية ما هو تاريخي (متحول)، تكتسب أهمية منهجية وليس مرجعية. إذ يستحيل تأبيد الماضي في مرجعية "ناجزة"، ذلك أن إنجاز معرفة الماضي هو أمر مستحيل لذلك تتجدد دائماً دعوات إعادة قراءة التاريخ. فطالما أن أدوات المعرفة متجددة، فإن ثمة حاجة دائمة لإعادة البحث في التاريخ وتجديد قراءته.

وإن التنبه إلى قراءة تاريخية عربية لـ"المجتمع المدني" يحمل ضمناً هموماً تراوح بين هاجس البحث عن "الأصيل"، أو همّ التواصل والاستمرار في "هوية ثقافية"، أو هاجس التماثل مع الآخر.

وإذا كان كل هذا مبرراً في السيكولوجيا الثقافية، فإن موقف التخطي والتجاوز للجانب السيكولوجي أضحى أمراً ضرورياً. وعلى طريق بلورة هذا الموقف نقترح الخلاصات والتوجهات التالية:

1 – إن جذور المجتمع المدني، بما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي، هذا العمق الذي يمثله الدين والثقافة التراثية ووعي التاريخ بما هو حالة معرفة متجددة ونقدية للماضي.

أما الانقطاع الحاصل في هذا الوعي فسببه ممارسات وتوجهات الدولة التوتاليتارية المحلية التي تماثلت في إيديولوجيتها وهياكلها وأحزابها مع نموذج الدولة القومية الحصرية في الغرب، وثقافة سياسية شاعت بين النخب، مفادها أن التغيير لا يحصل إلا بركوب مغامرة السلطة، أي عبر استعادة نموذج الدولة المتغلبة و "إمارة الاستيلاء" في تراثنا العربي والإسلامي.

2- إن ما بقي من تراث المجتمع الأهلي القديم لا يعدو أشكالاً من التماسك الاجتماعي التقليدي الذي اخترقته علاقات الإنتاج الجديدة وأنماط الاستهلاك الحديثة، فطائفة الحرفة أخلت مكانها للنقابة الحديثة، وتعددية الطرق والمذاهب أخلت مكانها للأحزاب وتعددية البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وأما مؤسسة الوقف وبقية الصدقات (كالزكاة مثلاً) فهي مؤسسة تاريخية دينية قابلة للتجديد، بل من الواجب تجديدها وإحياؤها وإنقاذها سواء من الترهل الذي أصابها في بعض مراحل الدولة. إذ كان الوقف قد تحول إلى وسيلة لتمركز الملكية في العائلة الواحدة (شيوع الوقف الذري)، أو وسيلة إثراء غير مشروع لدى متولي الوقف الذين حولوه إلى شبه ملكيات خاصة متوارثة، كما أنه تحول مع ازدياد مساحته إلى عائق في وجه إحياء الأرض واستثمارها من قبل الفلاحين. ولا شك أن الوقف إذا ما ركز على إحياء دوره عبر مؤسسات وجمعيات مستقلة ووفق هذه الرؤية الخيرية – الاجتماعية والعلمية (وهي في أساس وظيفته) فإنه سيقوم بدور مهم في إحياء المجتمع المدني العربي الحديث، وفي إقامة توازن أكيد مع دولة عادلة ديمقراطية.

3 – لكن كل هذا يبقى مشروطاً بطبيعة نظرة العقل السياسي إلى مسألة السلطة، وصولاً إليها أو استمراراً في نصابها أي كيف الوصول إليها وكيف الاستمرار فيها؟

إن التجربة التاريخية العربية والإسلامية أنتجت دول لا يؤمن أهلها وأسرها بتداول للسلطة، لكنها بالمقابل شهدت مجتمعاً أهلياً تخللته تعبيرات من المبادرات والحريات والمشاريع الاجتماعية والعلمية ومواقف معارضة وممانعة في إطار العصبيات والقبائل أو في إطار الملل والمذاهب، أو في تنظيمات الحرف والطرق الدينية.

وفي المرحلة المعاصرة لم تعد هذه البنى والمؤسسات، مع المستجدات العالمية من اتصال وإعلام وتقنيات تنظيم وتعبير وتمثيل وأنماط إنتاج واستهلاك، لم تعد كافية وإن وجدت للتعبير عن حاجات المجتمع الأهلي.

لقد أضحت الديمقراطية – ومدخلها الأساسي تداول الحكم عبر الانتخاب والبرلمانية – هي الإطار المستوعب لهذه التعددية الاجتماعية. وهي الشرط لقيام المجتمع المدني الحديث في أقطار الوطن العربي كحالة تطوير وتجاوز لحالة المجتمع الأهلي الذي شهدته مجتمعاتنا في المراحل المترهلة.

**********

الهوامش

*) أستاذ التاريخ الحديث في الجامعة اللبنانية.

1- انظر: جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمن بدوي، الدار الإسلامية، بيروت 1988.

2- يميز ابن خلدون"السياسة المدنية" عن السياسة المحكومة بوازع الحاكم المستند إلى شرع منزّل وعن "السياسة العقلية" بقوله: "وما نسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً".

وهذا يعني أن ابن خلدون يربط "السياسة المدنية" بالنموذج المثالي الذي تصوره الفلاسفة حول "المدينة الفاضلة" وهو يشير بذلك ضمناً إلى كتابات الفارابي حول "المدينة الفاضلة" و "السياسة المدنية" انظر: أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة (بيروت: دار إحياء التراث العربي) ص303.

3- Louis massignon, , op.cit., p.377.

16- غب وبوون، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفى،جزآن، دار المعارف بمصر، 1971، ج2، ص115.

17- انظر: عبد العزيز الخياط، المجتمع المتكافل في الإسلام (بيروت: مؤسسة الرسالة ؛ عمان: مكتبة الأقصى، 1981)، ص233.

18- المصدر نفسه، ص233.

19- يذكر محمد كرد علي نبذة عن كل مؤسسة من هذه المؤسسات، ويورد ذكراً لـ611 مؤسسة في مدن الشام وحدها، من بينها 300 مدرسة في دمشق وحلب، وعدد من المستشفيات، انظر محمد كرد علي، خطط الشام، (مجلدات، بيروت، دار العلم للملايين، 1969-1971، ج6، ص45-167.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=166

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك