حوار بين الإنسان والإنسان
د. محمد الصادق بوعلاق
الإسلام أقام حوارا رباعي الأبعاد بين الله والإنسان .... وبين الإنسان والإنسان .... بين الله والكون .... وبين الإنسان والكون.
أما الحوار الذي بين الله والإنسان فيكمن في الاجتهاد، وأما الذي بين الإنسان والإنسان فيتمثل في التجديد بمعناه الواسع، والحوار الذي بين الله والكون فيكمن في التسخير، والحوار الذي بين الإنسان والكون يتمثل في الخلافة أو الاستخلاف.
وكان الكلام، في المقال السابق، حول الاجتهاد؛ أمّا في هذه المحطّة الثانية فيكون مدار كلامنا حول التجديد.
تجديد الشيء هو إعادة تفسيره واستساغته طبقا لحاجيات العصر ومتطلبات الظرف. وهو العودة به (الشيء) إلى ما كان عليه عند بدايته وظهوره لأول مرة، وترميم ما أصابه من خلل على مر العصور، دون تبديل جوهره أو تغيير شكله أو تحويل ملامحه، بل مع المحافظة على أصالة طابعه ومميزات خصائصه وخصوصيات جوهره.
فالتجديد حوار ضروري يقيمه الإنسان مع نفسه ومع بني جنسه. والتجديد أنجع الطرق وأقصر السبل للمساهمة النظرية والعملية في تطوير الواقع وحلّ مشكلاته والقضاء على أسباب معوقاته؛ ولم يكن يوما مقتصرا على مجال واحد من مجالات الحياة أو جانب واحد من جوانبها، بل شمل كل مجالات الحياة، فتعددت بذلك جوانبه وتنوعت أبعاده واحتوى على جميع ما شمله الإسلام : فكرا وروحا وعملا.
الدين الإسلامي الحنيف غير جامد بل متجدّد ومتطوّر، وتجديد الدين ثابت بالنص، ولكنه ليس الاجتهاد بعينه. فإذا كان الإسلام يعتبر الاجتهاد أداة لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فإن الاجتهاد فرع من فروع تجديد الدين ولون من ألوانه، فرع يشمل الجانب الفكري والعلمي.
ـ تجديد الدين ليس إعمال اليد فيه بالحذف أو الزيادة.
ـ تجديد الفكر لا يكون عبر نسف المفاهيم الأصيلة واستيراد أخرى دخيلة.
ـ تجديد الروح ليس بالتنكر لمقوّمات العقيدة وثوابت الدين.
ـ تجديد السلوك ليس بالتقليد الأعمى.
المجدد الحقيقي هو الذي يجدّد الدين بالدين وللدين، ويعيده نبعا زلالا إسلاما محمديا أصيلا .... وهو الذي يجدّد الفكر بالفكر الأصيل ويطوّر مفاهيمه ويطوّعها لتواكب العصر .... وهو الذي يجدّد الروح بالعروج الدائم بها إلى الملكوت العلوي والارتواء من المنابع الأصيلة .... وهو الذي يجدد السلوك ليكون متناسقا مع العقيدة الصحيحة والفكر الأصيل المجدد. أما من يريد التجديد من الخارج بالاستيراد والتقليد، بالتنكر والهدم، بالطمس والانبتات، فهو أبعد ما يكون عن التجديد الحق، هو خارج من زمرة المجدّدين وداخل في زمرة المبدّدين.
انقسم أبناء الأمة الإسلامية، ولا يزالون منقسمين، في شأن عملية التجديد إلى فئات ثلاث بين رافض ومغال ومعتدل.
الفئة الأولى هي تيار « أعداء التجديد ودعاة الجمود « رفضت كل جديد وحاربت كل إصلاح وتجديد. ودعت إلى التمسك الحرفي والالتزام الأعمى والإسقاط العشوائي لكلّ ما خلفه السلف الصالح. شعار هذه الفئة «لم يترك المتقدمون للمتأخرين شيئا» وكذلك «ليس في الإمكان أبدع مما كان». وحملت بين جنبيها اتجاهين اثنين : أولهما اتجاه المتزمتين المتعصبين للمذاهب، وهم المقدسون للتقليد الأعمى، الجاحدون بأحكام الواقع وبحق الفكر الحر والاجتهاد في الدين. وثانيتهما اتجاه الواقفين عند ظاهر القول المتمسكين بحرفية النص. وكلا الاتجاهين يتبناهما رجال محبون للدين، مخلصون للإسلام، ذوو نوايا حسنة، إلا أنهم عاجزون عن تقديم الشيء الإيجابي للإسلام، بل انتهت مواقفهم عند تجميد الدين وتخلف المسلمين.
الفئة الثانية هي تيار «مغالاة التجديد ودعاة التغريب». رفع لواءها أناس تربوا في أحضان الغرب وفتنوا بتقدمه وانبهروا بقيمه، فرضعوا منه البعد عن خصوصيات الأمة والانبتات عن هويتها والاغتراب عن مقوماتها. ودعوا إلى التنكر لكل موروث صالح أو طالح .... وإلى نسف وتغيير كلّ قديم وإن كان هو هوية الأمة وأساس تماسكها وسر بقائها .... وإلى اقتباس كل ما عند الغرب .... وإلى جعل المدنية الغربية القدوة في التقدم والمثل في الرقي. وكان تجديد هؤلاء هو التغريب بعينه .... واجتهادهم تقليدا .... وتحررهم استعبادا .... وانسلاخهم عن الإسلام استعبادهم من طرف دين جديد هو المدنية الغربية .
الفئة الثالثة هي تيار «الأصالة والتجديد». فئة رفضت الجمود، ونبذت الجحود، وعارضت التزمت، وأدانت التغريب، ونادت بنهضة حديثة تجمع بين أصالة الإسلام وحداثة الغرب. وهي نهضة تدعو إلى العودة إلى قيم الإسلام المحمدي الأصيل، ليس على طريقة تيار الجمود، بل عبر قراءة جديدة للقرآن متحررة وخالية من كل تعصب وتقليد، وعبر رؤية حديثة وناضجة تتأقلم وروح العصر لتعيد الى الأمة هويتها وتصالحها مع ذاتها. و تدعو كذلك إلى الانفتاح على الغرب، وعلى كل حضارات العالم، ليس على طريقة تيار التغريب، بل بكيفية متزنة خالية من مركبات النقص، بعيدة عن الذوبان، وتأخذ المفاهيم والقيم الصالحة وتقتبس العلوم والتقنيات النافعة قصد هضمها وإعادة إنتاجها بطريقة تتماشى وروح العقيدة الإسلامية.
المصدر: http://archive.alchourouk.com/291252/678/1/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%A...