الحق في الاختلاف أبعد من التسامح
الحق في الاختلاف أبعد من التسامح
عاطف علبي*
كتاب اليونيسكو بعنوان "التسامح، أكتب اسمك"، المأخوذ على سبيل المحاكاة، من بيت لقصيدة "الحرية" للشاعر الفرنسي الكبير "بول إلوار: أيتها الحرية، خلقت لأكتب اسمك"؛ قد صدر بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الأمم المتحدة ودعيت سنة الأمم المتحدة للتسامح (1995) بناءً على طلب اليونيسكو.
فيما يلي نستعرض من هذا الكتاب: (Tolérance, j'ecris ton nom, Editions Saurat, Edition Unesco, 1995)، دراسة صدمتنا لمغالطاتها رغم ما حوت من صواب وإيجابيات، واضعين النقاط على حروف ما ورد فيها من غلط وسلبيات، مع الإشارة، في الوقت نفسه، إلى افتقارها إلى نقص منهجي كبير، حسب رأينا، وهو خلوها، كباقي دراسات هذا الكتاب المذكور لليونيسكو، من الهوامش وحتى المراجع في آخر كل دراسة، وحتى أيضا للاستشهادات بين أهلّة حيث لا مرجع ولا رقم صفحة ولا أي شيء كان. صحيح أن هذا هو من الشكل، لكنه من الشكل الذي ينال من المضمون، حسب رأينا المتواضع.
هذه الدراسة هي للمكسيكي "ليوبولدو زيا" (Leopoldo Zea)، الفيلسوف والكاتب والأستاذ في جامعة المكسيك المستقلة (المكسيك).
إن الإعلان الأمريكي (1776) وكذلك الفرنسي (1789) لحقوق الإنسان لم يمنعا الاستعمار الأوروبي الذي انضمت إليه الولايات المتحدة فيما بعد، فغدت بالتالي الحقوق المعلنة حكرا على من يطالب بها(1). نقول من أين للمستَعمَرين أن يطالبوا بها ولم يؤخذ بها على أثر الثورة الفرنسية (1789) في المستعمرات، حيث رفض المستعمرون الأخذ بها وسمح لهم بذلك الإمبراطور نابليون الأول آنذاك(2) كما أن حقوق الإنسان لا تمنح بهذه البساطة لمن يطلبها، بل تتأتى له بعد صراع تاريخي. فالعبرة بالتالي ليس بالمعلن نظرياً بل بالمطبق على أرض الواقع عملياً.
هنا يرى الباحث ليوبولدو زيا أن الأخذ بهذه الحقوق يتوقف على الاستعداد للاستعمال الصحيح للعقل، والذي بدوره يتوقف على العرق واللون والجنس واللغة والدين والأصل القومي وكذلك الاجتماعي، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي وظروف أخرى. هنا يبدو لنا أن آخر عامل أو ظرف: الوضع الاقتصادي هو المقرر الأكبر في موضوع منح حقوق الإنسان أو حجبها، مِـمَّا يوجب الصراع من أجلها(3). والدليل على ذلك أن الحقوق لا تمنح بل تنتزع بعد صراع تاريخي طويل، وكما يشهد على ذلك التاريخ.
هذا كما أن توقف العقل على ما ذكر الباحث من عرق ولون الخ... يدل على اللاتسامح، وحتى التزمت والتعصب لدرجة العنصرية، من قبل الباحث حسب رأينا.
يستنتج الباحث أن حقوق الإنسان هذه العالمية الصفة غدت قصرا وحتى حكرا على بعض الناس والشعوب، الذين غدو غير متساوين مع المتبقين من الناس والشعوب. ويضيف، إِنَّهُ من المفارقة أن بإمكاننا بالتالي التأكيد على أن كل الناس كانوا متساوين، لكن من جراء صدف أو حوادث غريبة عن العقل، كان البعض منهم أكثر مساواة من الآخرين(4).
ما هي هذه الصدف أو الحوادث الغريبة عن العقل، وفي أي مرحلة من تاريخ التطور البشري كان الناس متساوين؟ ليس من جواب على ذلك لدى الباحث، ولو أن ذلك كان في مرحلة المشاعية البدائية، حسب إنجلز اقتباسا عن مورغن.
هذا، ويرى الباحث أن التوسع في الاستعمار، بحيث شمل العالم أجمع تقريبا، برهن على وجود اختلافات بشرية لا يمكن تلافيها تعود للعرق والثقافة والعادات بالنسبة للمكتشفين من فاتحين ومستعمرين(5). وهذا أمر واقع وصريح لا مراء فيه.كما أَنَّهُ كان معروفا حتى قبل الفتح والاستعمار. كما أَنَّهُ يزيد من تأكيدنا على عنصرية هذا الباحث.
ثُمَّ يضيف إلى ذلك زيا أن إعلان حقوق الإنسان في العام 1776 (على إثر إعلان الاستقلال في أمريكا) والعام 1789 (على أثر الثورة الفرنسية الكبرى) لم يحولا دون التوسع الاستعماري بل عززاه مقدمين له التبريرات الجديدة. فالحرب العالمية الأولى لم تكن سوى صراع بين الأوروبيين لفرض هيمنتهم الخاصة. أما الثانية فتأتت عن محاولة فرملة بروز شعوب مهمشة كالسلاف المعتبرة تقاليدهم بمثابة بربرية بالنسبة للأوروبيين(6). ويضيف إلى ذلك: "شعوباً مختلفة وبالتالي غير مستعدة بما فيه الكفاية كيما تستعمل العقل بشكل صحيح. شعوب مثل الأيبريين في الطرف الآخر من جنوبي غربي أوروبا، كانت قد اختلطت بأناس، أقل منهم استعدادا للاستعمال الصحيح للعقل، الذي وحده يسمح بالمساواة بين الناس. فمحاولة إعاقة تطور الشعوب الهامشية والمعذبة من قبل عروق أخرى وثقافات أخرى عبرت عن نفسها بثورة 1917 في روسيا، وكانت تطالب بالمساواة في الحقوق، فإن الغرب باعتراضه عليها شجع الصعود القوي للأمم التوتوليتارية والعرقية، كما ظهرت في الفاشية والنازية. فهذه مخلوقات انقلبت ضد خالقيها من أجل فرض هيمنتها مهددة أوروبا، والعالم الذي أعطى إعلاني حقوق الإنسان الكبيرين"(7).
لا يسعنا السكوت هنا عن هذا الكلام المعكوس في الاستنتاج والواقع، ويضع المنطق على رأسه بدلا من على قدميه. بالإضافة إلى أن الاختصار الاختزالي يؤدي إلى تشويه الواقع والحقيقة التاريخيين. فأولاً: ما هو التبرير الجديد الذي عزز الاستعمار رغم إعلاني حقوق الإنسان (1776 و1789)؟
يرى الباحث ذلك في الحرب العالمية الأولى التي كانت بين الأوروبيين من أجل الهيمنة الخاصة. هذا كلام ليس بالدقيق، على اعتبار أن الحرب العالمية الأولى كانت، في واقع الحال، من أجل الاستيلاء عبر الصراع، على ما تبقى من مستعمرات، من دون مجرد أدنى تفكير في حقوق البشر الموجودين في المستعمرات القديمة وحتى تلك المنوي الاستيلاء عليها، وحتى أيضا العمل لتغيير الخارطة الاستعمارية. أما بالنسبة للحرب العالمية الثانية وما ساقه من سبب بصددها فإنه أيضا غير دقيق، ولا يرى الواقع المجسد في كون العالم غير الأوروبي كان قد استُعمر بمجمله وليس من سبيل إلا تغيير الخارطة الاستعمارية أو استعمار أوروبا الشرقية وحتى ربما روسيا (لا سيما من قبل ألمانيا الهتلرية حاملة لواء الفاشية النازية) وليس كما يدعي الباحث لفرملة بروز السلاف البرابرة بالنسبة للأوروبيين.
أما فيما يتعلق بما ذكرناه من استشهاد بين أهلّة، فهو بالضبط الكلام العنصري الذي يرى في الشعوب المختلفة عن الأوروبيين أناسا لا تستحق المساواة لعدم استعدادها الصحيح للعقل. كأني به لا يرى أن الاستعمار هو الذي أعاق ويعيق تطور إمكانية استعمال العقل لدى هذه الشعوب. هذا بالإضافة إلى عدم إفصاحه عما يقصد بمن اختلط بالأيبريين. فإذا كان يقصد العرب، ولم يذكر ذلك، فالواقع أَنَّهُ بفضل حضارتهم حصل الانبعاث في أوروبا، ويدعم ذلك روجيه بيكون وغيره. كذلك فإن الباحث يغالط التسلسل التاريخي. فالفاشية وكذلك النازية هي التي اعتدت على روسيا الثورة. فكيف تكون ثورة هذه الشعوب من أجل المساواة هي السبب في ظهور الفاشية والنازية. كما لا يرى أن السبب في ذلك هو الصراع بين الأوروبيين من أجل الهيمنة الاستعمارية وكما ذكرنا.
كذلك هل صحيح أن العقل واستعماله الصحيح من أجل المساواة هو حكر على الأوروبيين فقط؛ ومن اختلف عنهم لا يستحق الأخذ بالعقل من أجل المساواة؟
لا أريد هنا مناقشة عدم الوصول إلى المساواة الحق في النظام السوفييتي وأنظمة ما عُرف بالديموقراطيات الشعبية، وهذا مِـمَّا لم يشر إليه الباحث؛ إِنَّمَا أقول أن قلب الحقائق وقلب المنطق لا ينزع عن الباحث صفة العنصرية التي يلصقها بغيره، في محاولته التبريرية للتبرؤ منها. هذا بالإضافة إلى أن استعمال العقل من قبل الأوروبيين للاستعمار هل هو الاستعمال الصحيح للعقل؟ هذا العقل الذي يميز الإنسان عن الحيوان ويعطيه صفة الإنسانية، ولو أَنَّهُ حيوان اجتماعي حسب أرسطو، ويقال أيضاً حيوان سياسي.
في الحرب العالمية الثانية يتحدث الكاتب أيضا عن الشعب الياباني غير الأوروبي وغير الغربي. ويرى أن صعوده دفع الأوروبيين إلى إنصاف سكان مستعمراتهم بإعطائهم الحقوق التي كانت لهم. بمعنى آخر المساواة التي حرموهم منها رغم إعلاني 1776 و1789. ويرى أن النصر تأتى بفضل التآزر بين القوى المتحالفة مع شعوب المستعمرات(8).
أَوَّلاً: لا يذكر الكاتب النصر على من؟ كما نتساءل لماذا لم يذكر من هي القوى المتحالفة والمتآزرة مع شعوب المستعمرات؟
فالنصر في الواقع كان على الفاشية في إيطاليا، وبشكل خاص على النازية في ألمانيا الهتلرية آنذاك، وكذلك على اليابان. كما أن القوى المتحالفة-الحلفاء كان في صميمهم الاتحاد السوفييتي. وَأَمَّا شعوب المستعمرات فلم تحصل على المساواة إلا أثر الاستقلال الذي ما كان إِلاَّ عبر النضال المرير، وقبول المستعمرين الأوروبيين بمنحهم ذلك الاستقلال بعد دراسة تأمين الاستعمار الاقتصادي أو الاستعمار الجديد، الذي لا يزال يجرجر ذيوله حتى اليوم، فيما كان مستعمرات وأصبح العالم الثالث المتخلف، ولا نقول في طور النمو كغيرنا.
نتساءل لماذا هذا التعامي، من قبل باحث مفتح العينين ليرى الحقيقة؟ ولماذا هذا التزوير للحقائق التاريخية؟ إن ذلك لن يمكنه من عدم دمغ ألمانيا الهتلرية بالنازية وبالأخذ بالعنصرية. هل نسي الكاتب معسكرات الاعتقال وكل مآسي الحرب العالمية الثانية. لا نريد أن نسترسل أكثر من ذلك، بل نحيل من لم يقتنع بما نقول إلى دراسة هذا الباحث باللغة الفرنسية في كتاب اليونيسكو, التسامح اكتب اسمك في القسم المتعلق بمسألة التسامح.
أما فيما يتعلق باحتواء الأمم المتحدة شعوب المستعمرات التي استقلت فهو واضح وضوح الشمس: استراتيجية احتوائها في وجه المعسكر الاشتراكي الناهض آنذاك، والمنتصر على النازية مع الحلفاء المهيمنين على هيئة الأمم المتحدة. وقد برهن سير التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين على صحة هذا الاستباق الاستراتيجي. وَأَمَّا الإعلان الجديد لحقوق الإنسان فنحن معه ونثبته فيما يلي, ولو أَنَّهُ يُستعمل في بلدان العالم الثالث, أحياناً ذريعة للتدخل في شؤونها, لا سيما من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وذلك في ما ترمي إليه من مصالح اقتصادية تؤمن لها الهيمنة بحيث تتداخل مصالحها الاقتصادية مع مصالحها السياسية بشكل جدلي.
الإعلان الجديد لحقوق الإنسان يؤكد على أن كُلّ البشر كبشر يُخلقون أحراراً ومتساوين بالكرامة والحقوق، وهم يتمتعون كسواهم بالعقل والضمير. أضف إلى ذلك أن الفقرة الثانية من المادة الثانية من هذا الإعلان لحقوق الإنسان تقول وبالدقة: "كل شخص يتمتع بالحقوق والحريات المعلنة في هذا الإعلان من دون تمييز في العرق واللون والجنس واللغة والدين والرأي السياسي أو غير ذلك, وكذلك في الأصل القومي أو الاجتماعي أو الوضع الاقتصادي، أو في المولد أو أي ظرف آخر"(9). وهذا يتناقض كلياً مع المستند النظري الذي يأخذ به الباحث للأخذ بالعنصرية تحت ستار عنوان بحثه الحق في الاختلاف: أبعد من التسامح.
بعد ذلك يقول الباحث: إِنَّ البشر هم كائنات ملموسة، وبذلك يتميزون. لكن ليس بحيث يعتبر البعض منهم أنهم أكثر إنسانية من الآخرين. فهذا النموذج الملموس، والذي هو طبيعي لِكُلِّ الناس، من دون تمييز في العرق أو الثقافة، هو الذي يسمح لهم على أن يفهموا ويتفاهموا. وهذا ما يفترض أن يكون الأساس لعالمية جديدة وأصيلة غريبة عن الفلسفة الرئيسية التي كانت تعتبر ملموسيتها الخاصة للإنسان، والمطلقة التعبير عن الإنسان بشكل خاص ذي الصفة العالمية. وبذلك فعلى الناس الخضوع إلى من عبرّوا عنه، وذلك منذ أفلاطون حتى هيغل وماركس(10).
يضيف الباحث إلى كُلّ ذلك أَنَّهُ في السنوات التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية وإعلان حقوق الإنسان, فإن هذا الأخير سوف يؤخذ به لتبرير العلاقات القديمة للتبعية والاستعمار الجديد. وذلك انطلاقاً من إيديولوجيتين: إيديولوجية ليبرالية من دون عدالة اجتماعية وإيديولوجية عدالة اجتماعية دون حرية. وفي ذلك تناقض وبتر للإنساني من أجل تبرير الأشكال الجديدة والسيطرة والهيمنة اللتين تخضعان الاختلافات في الإنساني إلى إيديولوجيات متناقضة. كما هو الأمر في الاشتراكية الحقيقية والرأسمالية الليبرالية(11).
نوافق الكاتب على ما يقول هنا، ولو أَنَّهُ من المنطلق التاريخي لهاتين الأيديولوجيتين، لا سيما الجديدة (الاشتراكية) لا يحسن تفسير الحقائق التاريخية والسببية بشكل موضوعي، كما سبق ورأيناه وبرهنا عليه.
بعد ذلك يقول الباحث فيما يتعلق بالحرية والعدالة ما معناه أَنَّهُ مع الحرية، وبالتأكيد، إِنَّمَا في إطار الاعتراف الصحيح بحرية الآخرين، وكذلك مع العدالة، وبالتأكيد، إِنَّمَا ليس للاعتراض على الحريات، ولكن في الاعتراف المتبادل لحقوق كل الناس. وبالتالي صار يجري الكلام عن اشتراكية ذات بعد إنساني وكذلك رأسمالية ذات وجه إنساني(12).
نوافق الكاتب على هذا الرأي المساق، إِنَّمَا نرى فيه النتيجة لتأثير المكتسبات الاشتراكية للشعب (الطبقة العاملة أولاً والفلاحين ثانياً) على الرأسمالية، التي من أجل الحيلولة دون ثورة الطبقة العاملة في بلادها، زادت بها الضمانات الاجتماعية، رافعة بذلك سور الصين العظيم بينها وبين الاشتراكية.
وهنا فقد دلَّ مسار التاريخ على تفوق الرأسمالية في التأقلم مع الضرورة لإعطاء البعد الاجتماعي للاقتصاد الرأسمالي، فكان التطور الكبير للضمانات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية، بحيث أصبح وجه الرأسمالية "أكثر إنسانية"، إِنَّمَا لحد ما ليس إِلاَّ وبشكل نسبي أيضاً. فكأني هنا بالرأسمالية كانت أكثر فهما للأخذ بالماركسية وجدليتها من الاشتراكية نفسها التي تحجرت وغدت غير مرنة وجدلية كما كان يفترض بها أن تكون. على أن الأمر قد تغير اليوم ولم تعد الرأسمالية ذات "الوجه الإنساني"، في مسار العولمة المتزعم من قبل الولايات المتحدة وبالرغم من مقاومة الاتحاد الأوروبي لإبقاء دور اقتصادي وسياسي له، لم تعد الرأسمالية "ذات الوجه الإنساني" بل غدت، وكما يعرف الكثيرون، رأسمالية متوحشة.
وعلى أثر انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي أخذ العالم الغربي (أوروبا الغربية والولايات المتحدة) يشجع مطالب الاعتراف الإنساني بالإثنيات والثقافات والديانات والقوميات والتقاليد والعادات، والتي كانت مكبوتة من قبل كلا الأيديولوجيتين. وهنا، وللضرورات الاقتصادية، حدث الحراك الكبير في هجرة العمالة (اليد العاملة)، لا سيما من العالم الثالث إلى العالم الغربي المتقدم، وقد أدى ذلك الوضع المتأزم فيه اليوم إلى قول الباحث: "تحدث ماركس في العام 1848 عن شبح يهدد أوروبا هو شبح الشيوعية، حالياً هناك شبح جديد يهدد العالم أجمع هو شبح المنبوذين (أو المطرودين أو المهمشين)"(13).
إِنَّهُ لكلام جيد وخوف في محله، لكن -على ما يبدو لنا- ليس للدرجة التي كان آنذاك الخوف من الشيوعية؛ لأَنَّ شبح المنبوذين هائم بشكل فوضوي، وهو غير منظم كما كانت الشيوعية بأمميتها آنذاك. إِنَّمَا نحن نرى الخوف في محله لأنه يؤدي، وقد أدى بالفعل، إلى عودة العنصرية إلى الساحة العالمية، لا سيما في أوروبا وأمريكا.
هذا الواقع جعل الأمم المتحدة، عبر اليونيسكو، تشعر بيقظة الضمير لمحاولة حل الصراعات الدامية التي تجري في معظم قارات العالم. ولذلك أخذ الكلام يجري عن التسامح كمنطلق للتأسيس، كمرحلة يُفترض أن تُجتاز ريثما يمكن الذهاب إلى الأبعد. وبناء عليه أُعلن العام 1995 عام التسامح وقامت اليونيسكو باستشارات في الموضوع.
في المؤتمر الفلسفي الذي انعقد في موسكو عام 1995 رفض معظم الفلاسفة عبارة تسامح كونها غير مناسبة للحل المنشود. وهم في ذلك لم يأتوا بجديد، فقد سبقهم إلى ذلك فلاسفة آخرون. إِنَّمَا ذلك كان بداية وأساسا للذهاب أبعد من كلمة تنم عن الفكر التمييزي وذات معنى محقّر. لن نذكر هنا تعريفات هذه الكلمة المختلفة (والتي بالإمكان مراجعتها في كتابنا أضواء على التسامح والتعصب والفصل الثاني فيه بشكل خاص). لكن نشير مع ذلك إلى ما قاله الباحث وما معناه أن العبارة، تسامح، تعرِّف جيدا الموقف المتخذ من قبل الفاتحين والمستعمرين بغرض جعل فتوحاتهم مقبولة ومدعمة. وبالتالي فالممدنون هم الذين، من أجل فرض أنفسهم على الشعوب التي التقوا بها، يتحدثون عن التسامح معها وتحملها. بمعنى العذاب، تحمل الغريب عن هويتنا الخاصة الملموسة. التسامح لمنع الآخرين (أو إذا لم نتحملهم) من القيام بالعنف والمس بالتالي بالنظام العالمي الذي يجهلون. إِنَّهَا لعدالة ورعة، كيما ينتظم في النهاية هؤلاء الناس العجيبين في هذا النظام. وذلك باحتوائهم في إطار الحضارة والتسامح مع هويتهم الغريبة؛ لكن مع ذلك من دون اعتبارهم شبيهين بمُمدنيهم(14).
إِنَّهُ لتفسير تبسيطي وفي متناول الجميع، كما هو البحث بكامله، من جراء بساطة لغته وسلاسة أسلوبه. لا سيما وَأَنَّهُ يتناول تطور النظرية في تعريف الكلمة، التسامح في السياق التاريخي.
فيما بعد يستمرّ الباحث في التفسير والشرح لعبارة تسامح على غرار ما سبق وتعرفنا عليه(15)، إِنَّمَا هَذِهِ المرة مع جديد هو أن الأنسيين (أنسي: عالم بالآداب القديمة؛ معتنق مذهب الأنسية الفلسفي؛ متعلق بالأنسية؛ وهي مذهب يعنى بتنمية الإنسان وفكره بما يتمثله من ثقافة أدبية وعلمية؛ مذهب مفكري النهضة الأوروبية في إحياء الآداب القديمة، مذهب فلسفي يتخذ من الإنسان في حياته الواقعية موضوعاً له-المؤلف) اليونان واللاتين كانوا يستعملون هذه العبارة الأسوأ -التسامح، والمقبولة لتحمل الشعوب التي ترفض الخضوع لهم. وكما يقول "هيرودوت" تفهمهم انطلاقا من ملموسيتهم الخاصة، المختلفة دوما (عنا) أي كونهم برابرة. بالإضافة إلى ذلك يشير الباحث إلى أن "جوان غينيس دي سيبولفيدا"(Juan Génès de Sépulvida). يعتبر سكان المناطق المفتوحة من قبل الإسبان بمثابة أشباه البشر، أي دون البشر وبالتالي بالإمكان القضاء عليهم إذا لم يخضعوا إلى ما يُحمل لهم من ثقافة وخصوصاً من دين. فيغدون بذلك، بالتسامح معهم السكان الأصليين(16).
على أن التوسع الاستعماري، الذي تلا التوسع الإسباني، وذلك في القرن السابع عشر، سيكون أقل ميلاً للتسامح. بحيث إنه إذا لم يكن هناك من حاجة إلى هؤلاء الناس يكدسون ويقضى عليهم. كما أن المذهب "البوريتاني" اعتبر هؤلاء الناس غرباء في الإنسانية، ومن الطبيعي استغلالهم إذا ما كانوا للاستثمار ومتحملين (متسامح معهم) إذا ما سمحوا به. متسامح معهم كما يتسامح مع الحيوانات الأليفة(17).
هذا ما قدمه حملة المدنية والحضارة إلى هؤلاء الناس. وبناءً عليه فهذا الماضي التاريخي، غير المشرف، للكلمة التسامح هو الذي حملها ولا يزال المعنى السلبي: اللاتسامح الضمني.
هذا ويدقق آرنولد توينبي (Arnold Toynbee) في معنى كلمة سكان أصليين في إطار الظرف التوسعي للمستعمر الغربي قائلا ما معناه أنه، عندما ندعو، نحن الغربيين، الناس بالسكان الأصليين، فإننا نحمي ضمنيا اللون الثقافي لرؤيانا لهم. فهم بالنسبة لنا جزء من النبات والحيوان المحليين وليس ببشر يمكن أن يكون لهم شعور مثلنا. وبالتالي بالإمكان السماح لأنفسنا بمعاملتهم كما لو أنهم ليس لهم الحقوق الإنسانية المتعارف عليها..."(18).
لذلك فالقضاء أو التحمل -التسامح، تلك كانت السياسة التي أخذ بها الغرب للتوسع والحفاظ على ثمار توسعه. ففي أمريكا الجنوبية قُضي على قاطني براري البمبا (Pampa) وجرى التسامح مع سكان المدن، الذين لم يكن ممكنا القضاء عليهم من جراء تطورهم الثقافي، ولدرجة استيعابهم ثقافيا وإثنياً، مِـمَّا أدى إلى الخلاسية، الواسعة الانتشار حتى اليوم. كما فرض التسامح نفسه، على الحضارات الكبيرة، كما في آسيا، إنما من دون حدوث الاختلاط. أما فيما يعود للشعوب الأفريقية فغدت في الرق واستعملت كرقيق(19).
إِنَّهَا للوحة بانورية موجزة كل الإيجاز وجيدة ومعبرة للغاية من قبل الباحث لواقع حال المستعمَرين في أمريكا وآسيا وإفريقيا، من قبل الأوروبيين حملة "مشعل الحضارة"، إِنَّمَا ليس لنشرها لدى من هم بحاجة إليها، بل لجعلها مبرراً لوحشيتهم في استعمار هذه البلدان بشكل لا إنساني على الإطلاق ولا حضاري مطلقاً في التعامل مع سكانها الأصليين.
في أواخر القرن العشرين تعلن أوروبا الانغلاق الذاتي. فتطورها العلمي والتكنولوجي يسمح لها بالاكتفاء بما لديها من مواد أولية ولم تعد بحاجة إلى المواد الأولية من مستعمراتها السابقة. كذلك الأمر بالنسبة لليد العاملة الرخيصة من العالم الثالث من جراء الأتمتة المتكاملة لعمليات الإنتاج(20).
أَوَّلاً: غير صحيح القول إن أوروبا لم تعد بحاجة إلى المواد الأولية من مستعمراتها. إِنَّهُ لكلام نسبي ليس إِلاَّ، وإلا فلماذا كل هذا الصراع في الشرق الأوسط (وفي غيره) على النفط.
ثانياً: اليد العاملة الرخيصة من العالم تُستعمل حيث لا يرضى بالعمل العمال الأوروبيين (في المناجم، في نقل المواد المشعة، في قطاع النقل أيام العطل الخ..). وبالتالي فإن أوروبا هي التي استجلبتها من مختلف البلدان المستعمرة. والآن ماذا ستفعل أوروبا بما يعتمل فيها من أقليات عمالية من مختلف الإثنيات والقوميات والديانات والثقافات الخ... وقد ولدت حركات عنصرية في مختلف بلدانها؛ كيف ستحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة لعمالها الأوروبيين وبالنسبة لهؤلاء العمال الوافدين عليها. إذا ما أخذت بالعنف عبر العنصرية فلا تعمل على سوى تفاقم المشكلة وتغدو متناقضة مع ديموقراطيتها وحريتها ونظرتها المتسامحة العالمية لحقوق الإنسان.
يعرض الباحث فيما بعد لموضوع اقتصاد السوق وحيث التنافس في الغرب يفرض زيادة الإنتاج وكذلك الاستهلاك. وبذلك تغدو مجددا البلدان التي كانت مستعمرات، ولم يعد بحاجة إليها (ولو بشكل نسبي -المؤلف) أسواقاً؛ لكن ليس كمصدّر للمواد الأولية (وفي ذلك تتناقض مع ما ورد لديه سابقاً من عدم حاجة أوروبا إلى المواد الأولية وأجبنا عليه بالنفط فقط) واليد العاملة الرخيصة، إِنَّمَا بمثابة أسواق مستهلكة لما يفيض عن الغربيين. لذلك يتوجب التحمل، بمعنى التسامح بحيث يترك لهذه المساحات الشاسعة (التي كانت مستعمرات -المؤلف) التي كانت ستترك للمجهول و الهباء، يترك لها إمكانية التطور. وبذلك يغدو متوجبا التعايش مع هذه الشعوب التي تقطنها، إِنَّمَا في علاقة لم تعد الاستعمارية القديمة (علاقة مقص الأسعار الاقتصادي الكلاسيكي -المؤلف) بل علاقة التبعية العامودية(21).
هنا نتساءل ما هي هذه العلاقة الجديدة العامودية؟ أليست في جوهرها كالقديمة: علاقة مقصّ الأسعار الاقتصادي الكلاسيكي (رغم ما ينتابه من تطورات بالنسبة لكلا الطرفين من جراء التطور التكنولوجي والمكتشفات العلمية وحركة الصراع التاريخي للتحرر الذي ألمحنا إليه الآن. ألا يزال النفط، كمادة خام، مصدر الصراعات غير الحربية بين أمريكا وأوروبا واليابان وباقي البلدان (حيث الصراعات الحربية) ويشكل النقطة المركزية المحورية في أزمة الشرق الأوسط؟ ألا لا يزال النفط عصب الصناعة والمواصلات، حتى ولو تطورت فيهما التكنولوجيا. ألا تتطور وتتغير نوعية السلع المصدرة إلى العالم الثالث أو البلدان المتخلفة التي أخذت تتطور وتسمح لها البلدان المتقدمة بذلك تلبية لمصالحها هي ذاتها في التصدير إليها مِـمَّا يفيض لديها، سواء أكان ذلك مواد غذائية (تغدو سلعا استراتيجية كالقمح بالنسبة لأمريكا) أو صناعات تحويلية وحتى ثقيلة للنقل وغيره. هذا من دون ذكر منتجات الصناعات الحربية وما تدر على الغرب من أرباح خيالية وحلّ لأزمات اقتصادية –اجتماعية وعلى العالم الثالث المتخلف من ويلات.
إذن، مِـمَّا ذكرنا نستنتج أن الباحث تسرع في حكمه هذا، وكأنه لم يرَ حركة التاريخ المتطورة في جدليتها والموجدة الحلول لكل الأزمات، لا سيما إذا ما توفرت أو وُجدت النية الطيبة والإنسانية لذلك. وهنا لن ننساق في التفاؤل ولكن نبقى على التشاؤم، إنما النسبي، من جراء المصلحة الاقتصادية الدائمة الفعل للغرب تجاه العالم الثالث. ولذلك نبقى ذاكرين قول "لابرويير" (Bruyèrre La): "المصلحة هي المبرر لِكُلِّ تصرفاتنا"؛ إنما مع التأكيد على دور المجتمع في جدليته المشاركة في هذه الحلول ولو بالعنف التاريخي الذي لا مفر منه، ولو بعد الصبر الطويل. فليس هناك من شيء دائم وأبدي في هذا العالم وتاريخه، وقانون النسبية قانون يحكم الطبيعة والمجتمع ويتأتى على ما يبدو لنا، عن جدلية حركة التاريخ.
ويقول الباحث -ما معناه- إن المنبوذين أو المهمشين في كل مكان أخذوا يترحمون على الاشتراكية الحقيقية، بالرغم من الانتقاد الذي كان يوجه لها. لذلك أعلن كاسترو أنه لن يستمر بالقيام بدور حارس الحدود للولايات المتحدة. كذلك كان دور الاتحاد السوفييتي: حارس مصالح وازدهار وسعادة العالم الغربي(22).
هنا لا بد من وضع بعض النقاط على الحروف. الانغلاق السوفييتي حصل أيام ستالين، أما قبله وبعده، فكانت الرغبة في الانفتاح (إلى حد ليس بالقليل) من قِبله والحصار الحقيقي له من قبل أوروبا الغربية، لا سيما إنكلترا والخوف من عدوى الاشتراكية، فكان الانغلاق والأفضل القول الحصار هنا من فعل الغرب إلى حد ليس بالقليل أيضاً. ولنتذكر هنا ما قاله تشرشل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من أنه يجب إقامة جدار بين الشرق والغرب.
لكن بالرغم من ذلك، فالمنبوذون والمهمشون يعملون بعنف لكسر طوق فرض العزلة عليهم. من أجل المساهمة كبشر في المشترك مع كل البشر، ويأخذون بالعنف ضد الشك في هذه الإنسانية الملموسة في حد ذاتها. فالمنبوذون هنا يعبرون عن إنسانيتهم ويوجبون الاعتراف بها. فهم كائنات ملموسة، ولذلك يختلفون بذلك، هم أفراد، أشخاص يطالبون بواقعهم، ليكونوا متساوين مع من يدعون أنهم أبطال الإنساني وبرفعة(23).
للاستجابة إلى هذه الضرورة لم يعد الموضوع التحمل والتسامح يجري الحديث الآن وبورع عن السكان الأصليين والحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم تجاه مبادئ التقدم والحضارة مِـمَّا يؤدي إلى ما معناه الحفاظ على هوية هؤلاء السكان الأصليين، كما يُحافظ على أنواع الحيوانات التي هي في طريق الانقراض(24).
وهذا الذي يسطر الكاتب يؤدي إلى كون المنبوذين أو المهشمين جزء من الطبيعة, كما قال بذلك تويني. وإقناعهم في كونهم كذلك وفي المقام الأول في الطبيعة فإنهم لن يعودوا ليكونوا موضع استثمار واستغلال. والبعثات الدينية كانت تدافع عن هوية السكان الأصليين وتدعو لعدم التفريط بها من أجل التمدن. على اعتبار أن المتمدنين والأغنياء هم أيضاً يتعذبون ويبكون؛ كما أن الأقوياء ليسوا بسعداء. هذا في حين أن الإنسان الطبيعي هو أقرب إلى السعادة وعلى الدوام. وهو بعيد عن مشاكل الحضارة... وفي ذلك كان أفضل تعبير عن التسامح(25).
نحن لا نرى في ذلك, ولو في الإطار الديني, سوى التعبير عن المصلحة للمُسَيْطِر على المُسَيْطَر عليه-المهمش.
لكن من هم السكان الأصليون؟ وما هي الهندوية؟ بالنسبة للشق الأول من السؤال فكل الناس هم سكان أصليون, كل الشعوب الفرنسية والإنكليزية والألمانية الخ... هم السكان الأصليون في فرنسا وإنكلترا وألمانيا... الخ. أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال -الهندوية فهي حسب القاموس: "دراسة الشعوب الهندية، والتي تشكل اليوم جزءً من الأمم حيث تسيطر الحضارة الأوروبية". وهذا القول ينطبق وبشكل أولي على أميركا اللاتينية ثم آسيا, أفريقيا وأوقيانيا. هذه البقاع التي أصبحت, بعد عام 1492, تحت سيطرة أوروبا الغربية. فأصبحنا بالتالي تجاه سكان أصليين يقوم سكان أصليون آخرون بمحاولة إقناعهم بسعادة حالتهم كيما يتمسكوا بها. وبذلك بالإمكان القبول بهم, والتسامح معهم وتحملهم. وهذا تسامح ورعي وبشكل يؤدي إلى التمسك بالتهميش. وذلك بالعمل, وبكل التسامح, على إقناعهم بالتخلي عن ملاحقة الأهداف التي لن تؤدي سوى إلى فقدانهم تقاليدهم وعاداتهم ولغتهم(26).
لا نرى في إقناع المهمشين بهذا الذي قيل وكونه الأفضل لهم كي يبقوا سعداء، سوى منتهى السذاجة إِنَّمَا غير البريئة.
والدليل على ما نقول إن شعوب الباسفيك، مثل اليابانيين، برهنوا على أنهم ليسوا بحاجة للتضحية بهويتهم لولوج العصرنة والمنافسة في هذا الميدان مع مستعمريهم القدامى. فالساموراي (Samurai) استبدل السيف بالكمبيوتر، وغيره من الأدوات والآلات التي استعارها من الغرب لمواجهة وتخطي الاستعمار. وبذلك غدت تقاليده وعاداته القديمة بمثابة فولكلور. ومع ذلك لم يفقد هويته التي تأقلمت مع عصره(27). وفي ذلك إذن الجواب على الإصرار المكرر والمساق للإقناع بالبقاء في إطار التهميش.
ولذلك لا يكفي التسامح، بل يجب القبول باختلافات وتنوعات الآخر، واعتبارها بمثابة اختلافاتنا وتنوعاتنا. فالغرب متحمل ومتسامح مع عدة أشكال من التعبير الإنساني تحت سيطرته، لكن هذا الأخير كان عليه بدوره التحمل والتسامح مع ما فُرض عليه. إِنَّمَا الأمر لا يعني التحمل أو التسامح، ولكن فهم الآخر واحترامه كيما نصبح بدورنا موضع الفهم والاحترام. فاحترام وفهم الاختلاف والتنوع يعني إغناء تنوعنا الخاص بهويتنا. بالنتيجة تغتني هويتنا بالتماس مع هوية الآخر. كما أن هوية الآخر تغتني من هويتنا، وذلك بالفهم والتفاهم والاحترام المتبادل(28).
الواقع أن الشعوب التي هي موضع التهميش تطالب منذ مدة طويلة، بالحق الذي يجعل مُمكناً تطبيق كُلّ ما ورد في مختلف الإعلانات عن حقوق الإنسان: الْـحَقّ في الاختلاف. أي الْـحَقّ للناس أن يكونوا كما هم وبشكل ملموس بالإضافة إلى واجب احترام هذا الحق من قبل الناس الآخرين والشعوب الأخرى(29).
بناء عليه، لتعلن سنة 1995 سنة الْـحَقّ في الاختلاف، وذلك باقتراح، يجعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعلن من قبل الجمعية العمومية والأمم المتحدة في 1 كانون الأول 1948، يبدأ بهذه العبارات: "إن كل الكائنات البشرية تختلف عن بعضها البعض، وبالتالي فهي متشابهة، تختلف في العرق واللون والجنس والثقافة والدين واللغة وغيرها من التعبيرات عن الإنساني، التي تتجسد وتجعل الناس يتشابهون. كائنات لها موهبة التفكير ولذلك إمكانية الفهم والإفهام. وانطلاقاً من هذا التفاهم المتبادل والذي لا غنى عنه يجب أن يبدأ التأكيد على الحق في الاختلاف، مما يتأتى عنه احترام حقوق الآخرين التالية"(30).
إذا ما ربطنا المقترح هنا بما سلف من آراء دُمغت بالعنصرية نرى أنه تلطيف ليس إِلاَّ، عبر كلمة "التشابه"، ولو أن باطنه ربما غير ذلك. ومع ذلك نقول:
إِنَّهُ لاقتراح جدّي وجميل ويذكرنا بمن سبق عليه وفي طرحه وهو الفيلسوف العربي الكبير ابن رشد ولو أن ذلك كان بالنسبة للرأي وضرورة احترامه. وهنا نتساءل هل أخذ بهذا الاقتراح؟ الواقع أن التمني شيء نظري والتطبيق العملي شيء آخر. وهذا أمر نعاني منه بالنسبة لكل منظمات ووكالات هيئة الأمم المتحدة. هذه الوكالات والمنظمات تقوم بالدراسات المعمقة والمدعمة بالإحصائيات، لكنها لا تتمكن من التطبيق لما تطرح من أمور نظرية، وذلك من جراء التركيب الطبقي للمجتمع المحلي الإقليمي والدولي وتناقض المطلوب الآخذ به مع مصالح الدول الكبرى المتقدمة. لذلك تبقى الاقتراحات الجيدة مجرد تمنيات.
لكننا مع ذلك لن نفقد الثقة والأمل بالتطور والتغيير، ولو مع الوقت الطويل، لصالح الأفضل والأحسن للإنسان والمجتمع البشري.
*******************
(*) أستاذ سابق بكلية الحقوق، الجامعة اللبنانية.
(1) Tolérance, j'ecris ton nom, Leopoldo Zea, Droit à la différence: au delà de la tolérance, p87, Editions Saurat, Edition Unesco, 1995.
(2) لمزيد من التفاصيل تراجع دراستنا (الجذور الاقتصادية للتمييز العنصري) مجلة العرفان العددان 5 و6 تموز، آب 1996م.
(3) يراجع لأجل ذلك المصدر السابق.
(4) Ipidem, p. 87.
(5) Ipidem, p. 88.
(6) Ipidem, p. 88-89.
(7) Ipidem, p. 89.
(8) Ipidem, p. 89.
(9) Ipidem, p. 89-90.
(10) Ipidem, p. 90.
(11) Ipidem, p. 90.
(12) Ipidem, p. 90-91.
(13) Ipidem, p. 91.
(14) انظر كتابنا (أضواء على التسامح والتعصب) دار الفكر اللبناني، بيروت 2003م.
(15) Ipidem, p. 92-93.
(16) انظر التفاصيل في الفصل الثاني من كتابنا أضواء على التسامح والتعصب.
(17) Ipidem, p. 93.
(18) Ipidem, p. 93-94.
(19) Ipidem, p. 94.
(20) Ipidem, p. 94.
(21) Ipidem, p. 95.
(22) Ipidem, p. 95-96.
(23) Ipidem, p. 96.
(24) Ipidem, p. 96.
(25) Ipidem, p. 96-97.
(26) Ipidem, p. 97.
(27) Ipidem, p. 98-99.
(28) Ipidem, p. 99.
(29) Ipidem, p. 99.
(30) Ipidem, p. 99.