الإرهاب والمشروعية الأخلاقية بعد أحداث 11 سبتمبر: الخلفيات الفلسفية والاستراتيجية لمفهوم الحرب العادلة
الإرهاب والمشروعية الأخلاقية بعد أحداث 11 سبتمبر: الخلفيات الفلسفية والاستراتيجية لمفهوم الحرب العادلة
عبدالله السيد ولد أباه*
أولا: العنف والخير: الخلفية الفلسفية لمفهوم الحرب العادلة:
يمكن القول إن الخطاب الفلسفي نشأ انطلاقًا من إشكالية العنف والعدل كما طرحت في السياق اليوناني الذي هو المهاد الأصلي للممارسة الفلسفية.
وقد طرح الإشكال في بُعدين مترابطين هما من جهة:
- البُعد الداخلي المتعلق بمسألة الدولة والسلطة: أي نظام المدينة من حيث مرجعية التأسيس والقاعدة المعيارية التي تضمن تماسك المجموعة وولائها للحكم.
- البُعد الخارجي المتعلق بالصلة بالكيانات الأخرى المختلفة عن الدولة الفاضلة التي ترسمها الفلسفة، فتميل للعدوانية في مقابل النزوع القيمي المسالم لمدينة العقل والخير.
وقد عبر التقليد الأفلاطوني، الأرسطي عن هذا الاشكال انطلاقًا من فكرتين رئيسيتين مترابطتين هما:
- اعتبار العنف والحرب انحرافًا في نظام الوجود الذي يقوم على قيمة الخير في مستوياته الثلاثة المترابطة: الكون (المتيافيزقيا) والفرد (الأخلاق) والمدينة (السياسة).
- النظر إلى العدالة بصفتها الانسجام مع نظام الوجود وتحقق مثال الخير الذي هو مبدأ هذا الانسجام في الشأن المدني.
ولقد ذهب فلاسفة اليونان إلى أن التغلب على النزوع العدواني في النفس الإنسانية لا يكون إلا ببناء المدينة على مثل العقل الذي يتماشى مع الخير الأسمى(1).
فالسياسة هي النشاط المنظم للحياة المشتركة بحسب هدف أسمى هو الخير المطلق. فالمدينة لا تنتظم بحسب المصلحة والحاجة، وَإِنَّمَا تعبر عن الجوهر الأنطولوجي للإنسان من حيث هو حيوان مدني، ومن ثم فإن تنظيم الشأن السياسي لا يمكن أن يوكل لإرادة الحكام ورغبات الناس وإنما للفلاسفة الذين بإمكانهم وحدهم أن يبنوا النظام المدني المناسب لنظام الوجود في مضامينه الخلقية الموصلة لسعادة البشر.
ومن ثم فإن المعيار الأساس في المدينة ليس القوانين وإنما الحكم الذي هو أساس القوانين. فالحكم هو نظام المدنية وصورتها، وهو صيغة الحياة المشتركة.
بين ليوشتراوس هذا المفهوم اليوناني للسياسة بقوله:
"إن الحياة الاجتماعية هي نشاط متجه نحو هدف معين، بحيث يتسنى للمجتمع أن يسكله، ولكن يتعين على المجتمع لكي يحول هذا الهدف الخاص إلى هدف شامل أن ينظم ويُرتب ويبين بطريقة مطابقة لهذا الهدف. وفي كل الأحوال يعنى ذلك أن الكائنات البشرية التي تمتع بالسلطة يجب عليها أن ترتبط بهذا الهدف"(2).
من هذا المنظور ليست الحرب في ذاتها سلوكًا عدوانيًا مدانًا، وَإِنَّمَا تستمد مشروعيتها من مدى انسجامها مع النظام القيمي للمدنية، فهي بالنسبة لهيرقليطس أساس الوجود ومقومه، من حيث هو صيرورة وتحول ونزاع بين الأضداد، وهي بالنسبة لأفلاطون مرض مدني من أمراض المدينة غير المؤسسة على نظام العقل، وهي بالنسبة لأرسطو نمط من "الصيد" يمارسه الحكام.
ولئن كان الفكر المسيحي الوسيط قد تأثر بالمنظومة الفلسفية اليونانية واعتمد مقولاتها ومقاييسها الأساسية، إلا أن إشكالية الحرب طرحت لديه في سياق لاهوتي خاص أطرته قيم السلم والرحمة التي حملتها الديانة المسيحية.
فالسلم مفهوم مركزي في اللاهوت المسيحي، وهو من أسماء الرب، كما هو المعيار القيمي في السلوك الفردي والجماعي، ولكن رسالة المسيح التي هي رسالة سلم دائم وشامل لا تتحقق إلا بالسيف والحرب، ولذا فالحرب ظاهرة عادية ومطلوبة حتى إقامة مملكة الرب.
ومن هنا التضارب بين تقليدين مسيحيين متمايزين:
التقليد الأخلاقي السلمي والتقليد الحربي الدفاعي، اللذين أفضيا إلى مفهوم "الحرب العادلة"، كما بلورته أعمال القديس أغسطين وتوماس الأكويني.
فبالنسبة لنظرية "الحرب العادلة" في التقليد اللاهوتي الوسيط، لا معنى للسلم الحقيقي دون الاستناد للعدالة، فهذا النمط من السلم هو وحده الذي يمكن اعتباره خيرًا أسمى.
ويعرف القديس أوغسطين السلم العادل بأنه "استقرار النظام"، ومن ثم فإن الحرب مبررة بل واجبة لمعالجة الاختلالات المتولدة عن الظلم والفوضى.
وتتمحور شروط الحروب العادلة في التقليد المسيحي الوسيط حول معياري مشروعية قرار الحرب (Jus ad bellum) وضوابط إدارتها (Jus in bello).
فحسب توماس الأكويني، لا تكون الحرب عادلة إلا إذا توفرت فيها شروط أربعة هي:
(1) أن تكون القضية عادلة، أما للدفاع ضد هجوم غير مبرر، أو لمعاقبة شرّ ما، أو استرداد شيء افتك بالقوة.
(2) أن تعلن الحرب وتدار من سلطة شرعية مؤهلة.
(3) أن تكون الملجأ الأخير، بعد استنفاد الحلول السلمية.
(4) أن تكون الوسائل المستخدمة متكافئة مع الأضرار التي تواجهها، بحيث لا تؤدي إلى ما هو أسوأ منها.
فالحرب من هذه المنظور هي دومًا استثناء وحالة مؤقتة، تبررها مقتضيات العدل التي هي مقومات السلم الحقيقي. يقول القديس أوغسطيس موضحًا ذلك: "أن السلطة الربانية هي ذاتها التي وضعت بعض الاستثناءات من تحريم قتل الإنسان. ففي بعض الأحيان يفرض الرب القتل ليس بصفته قانونًا عامًا، وإنما هو حكم موقت وخاص"(3).
ويوضح توماس الأكويني الفكرة ذاتها بقوله:
"إن الإنسان لا يعرض حياته للخطر إلا لأجل العدالة؛ فالقوي لا يكون بمعنى ما جديرًا بالإعجاب إلا من حيث هو عادل"(4).
بيد أن هذا التصوّر اللاهوتي للحرب وإن استند لمقاييس قيمية مطلقة، وحصر العنف المشروع في الدفاع عن النفس ومواجهة الظلم، إلا أَنَّهُ شكل غطاء إيديولوجيا لسياسة الهيمنة الإمبراطورية في العهد الروماني المسيحي(5)، وتستخدم حاليًا في الغاية ذاتها لتبرير وتسويغ المشروع الإمبراطوري الأمريكي، كما سنبين لاحقًا.
أما الفكر السياسي الغربي الحديث فيما يميزه هو المرور من "السلطة الرعوية" بالمفهوم الذي حدده فوكو القائم على الأفراد(6) إلى نمط الدولة الحديثة القائمة على فكرة التعاقد والمصلحة المشتركة.
وكما يبين ليوشتراوس إذا كان الفكر اليوناني والمسيحي الوسيط يتمحور حول مقولة الغاية أي تأسيس نظام المدينة على معيار الخير الأسمى بمفهومه الفلسفي أو الديني، فإن الفكر الأوروبي الحديث قد أرسى قطيعة جذرية مع هذه المقاربة القيمية للشأن السياسي.
فلم تعد السياسة مؤسسة على قاعدة أنطولوجية عامة وثابتة، بل إن الفعل السياسي هو مجال الإبداع والصياغة المتجددة بحسب مصالح الأفراد ورغباتهم، ومن ثم السمة التاريخانية الطاغية على الفلسفة الغربية الحديثة منذ ماكيافيلي وانتهاء بفكر الأنوار والأنساق الإيديولوجية المتولدة عنها(7).
فالحالة الطبيعية للإنسان ليست الانتظام في شكل كيان سياسي يجسد ماهيته وجوهره الخلقي، بل هي حالة صراع وحرب شاملة، في حين أن الدولة هي حالة تعاقدية مصطنعة للخروج من هذه الوضعية الفطرية التي تجسد حرية الإنسان وإرادته الذاتية المطلقة.
وقد عبرت فلسفة هوبز بوضوح عن هذا التصور وطرحت الاشكال الأساسي الذي شغل الفلسفة السياسية طيلة العصور الأخيرة: كيف يمكن إنشاء رباط اجتماعي دائم انطلاقًا من هذه النوازع الصراعية؟ وكيف يتأتى إبداع علاقات قانونية ناجعة انطلاقًا من قانون يولد بذاته الصراع والصدام؟
وقد تأرجحت الفلسفة الحديثة بين اتجاهين متباينين: اعتبر أحدهما الدولة التعاقدية حالة نفي للحرية لأجل المصلحة المشتركة (هوبز)، واعتبرها ثانيهما تحويلا للإرادة الذاتية الحرة إلى إرادة جماعية مشتركة تحقق موضوعيا مضمون الإرادة الحرة (روسو..).
فالحرب من هذا المنظور ليست حالة استثنائية عارضة، وإنما هي الوضع الطبيعي للإنسانية من حيث تعبيرها عن نوازع الحرية التي هي المقوم الأساس للإرادة الفردية في تميزها واستقلاليتها. وكما يبين كانط، فإن الحرب هي الحالة العادية والطبيعية للبشر، والسلم هو الاستثناء.
ويتبنى كانط موقفًا مزدوجًا من الحرب، فهي من جهة أكبر خير أعطته الطبيعة للبشرية، بما تؤدي إليه من انفتاح وتواصل بين الأفراد والأمم، كما إنها الوسيلة التي يعبر بها شعب من الشعوب عن حقه وحريته في الوجود من خلال التصادم بالآخر، بما يفضي إلى توازن قوي يضمن السلم ويصون التعددية.
لكنها في الآن نفسه هي أكبر شر في الوجود، تحول البشر إلى أدوات هدم وتدمير لبضعهم البعض، ولذا يتعين على العقل العمل على أن يقضي عليها قضاء نهائيًا مبرمًا.
فالحرب إذن عمليا تجسيد أعلى للحرية ولإرادة الذات في التحقق، بيد أنها لا تكتسي مشروعيتها إلا إذا كانت دفاعية. فحالة الحرية ليست الحرب (العملية العينية) ولا السلم (المائع الأعزل)، وَإِنَّمَا هي سلم مسلح.
فالحرب لا تكون إلا دفاعية، حرب موقع ومقاومة، في حين لا يمكن للسلم أن لا ينفي حالة الصراع من حيث كونه ينبع من الرغبة في الهيمنة. فالسلم هو "ميل صراعي ليس بعد حرب، لكنه يمكن ويجب أن يحتاط للحرب".
وهكذا حين يقدم كانط أول وأهم مشروع حديث لضمان السلم العالمي الشامل، فإنه يتصوّر هذا السلم بصفته حالة توافق وائتلاف بين قوى مسلحة قادرة على ممارسة الحرب. ومع ذلك فإن مشروع كانط يطمح إلى أكثر من مجرد تعاقد دولي لمنع الحروب، ويبلور أطر ائتلاف شامل، قائم على التقاء واقتران حريات عينية ضمن أنظمة جمهورية مستقلة، يضمن نظامها الدستوري ذاته سيادة وأمن بعضها إزاء البعض.
وتتأسس مرجعية السلام الدائم بين الأمم على مبادئ ثلاثة يفصلها كانط، وهي:
- اعتماد كُلّ دولة دستورًا جمهوريًا يكفل حرية المواطنين ومساواتهم وامتثالهم لمدونة تشريعية شاملة مشتركة. فمثل هذا الدستور يمنع الحرب باعتبار القيود القانونية المضروبة على تصرف الحاكم المرغم على الاحتكام للمواطن والامتثال للتشريعات القائمة.
- انبناء قانون الناس على فيدرالية من الدول الحرة، بمعنى تمديد فكرة العقد الاجتماعي المؤسس لمشروعية الدولة الحديثة إلى العلاقة بين الأمم مع مراعاة استقلال وسيادة الدول المتعاقدة. ويتعلق الأمر هنا بتحالف لضمان السلم الشامل، يكون أكثر من مجرد اتفاق سلم يهدف لإنهاء الحرب، إذ المطلوب هو وضع القيود الموضوعية التي تحول دون الحرب وليس مجرد الخروج منها، ولا يتسنى ذلك دون تجذير فكرة الضمان المشترك والمتبادل لاستقلال وسيادة الدول المتحالفة.
- على القانون العالمي أن يخضع لشروط الضيافة الكونية، بما يقتضي احترام الأجانب ومعاملتهم المعاملة اللائقة، ضمن منظور الكرامة الإنسانية والانتماء المشترك للعائلة البشرية(8).
ومن الواضح أن هذه المبادئ ستشكل من بعد الإطار الفلسفي والقيمي للقانون الدولي الجديد، كما سنبين لاحقًا. وإذا كان كانط قد بلور المقولات المؤسسة للحداثة السياسية في فلسفته العقلانية النقدية، فإن هيغل قدم القراءة المكتملة لنموذج الدولة القومية الليبرالية المعاصرة. وتندرج نظريته للحرب ضمن هذه المقاربة الجديدة للشأن السياسي.
فبالنسبة لهيغل تؤدي الحرب دورًا محوريًا في بناء الدولة وتشكلها بصفتها كيانًا روحيًا ينعقد له الولاء، فهي المسؤولة عن بناء وتكون الوعي الإنساني. فعبر إرادة الموت، تتحول الحياة الفردية، المتناهية إلى حياة روحية مطلقة، كما أن الدولة تكتسب سيادتها وحريتها عبر الحرب، من حيث هي مستقلة في ذاتها ولذاتها، كما تكرس جوهرها الخلقي من خلال تجربة التعرض للهلاك. ففي مقابل المفهوم الدفاعي للحرب لدى كانط، يتبنى هيغل تصورًا هجوميًا من منطلق كون الغاية من الحرب هي تحقيق الحرية بافتكاك السيادة وليس تحصين الذات والدفاع عنها(9).
ورغم هذا الاختلاف الظاهر بين الفيلسوفين الألمانيين، إلا أن هذا التعارض لا يبدو أساسيًا إذا ما أدركنا أنهما يعبران عن اتجاهين متلازمين في الدولة الغربية الحديثة: من حيث كونها في آن واحد دولة قومية تقوم على معيار السيادة التي تؤدي في حدها الأقصى إلى العدوانية والتوسع، ودولة ليبرالية تنزع تدريجيًا إلى تمديد المرجعية القانونية من تنظيم الحقل السياسي الداخلي إلى الإطار الدولي، مِـمَّا يجد من نزوعها العدواني.
ومن الواضح أن القانون الدولي الذي تولد عن صراعات وتوازنات الحقبة المعاصرة التي شهدت حروب الإمبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر والحربيين العالميتين المدمرتين في القرن العشرين قد عكس هذا التأرجح بين حدي السيادة والضوابط التشريعية الدولية. ولئن لم يحل القانون الدولي الذي أقرته المنظومة الدولية بكاملها دون اندلاع الحروب والصراعات، إلا أنه حد نوعيًا منه ووضع لأول مرة في تاريخ البشرية إطارًا شرعيًا لممارسة الحروب وإدارتها.
ثانيا: الحرب على الإرهاب: الخلفية الاستراتيجية لمفهوم الحرب العادلة
بدا من الواضح بعد نهاية الحرب الباردة، إن النظام الدولي تغيرت توازناته الاستراتيجية اثر انحسار الصراع القطبي-الأيديولوجي السابق، وكان لا بد لهذا العامل الجيوسياسي المحوري أن يترك أثره على المرجعية التشريعية والقيمية لهذا النظام، ولقد برزت أوانها أطروحتان متمايزتان هما:
- فكرة الشراكة الدولية القائمة على الإجماع المتولد عن زوال الإيديولوجيا الشيوعية التي كانت تمثل تحديًا نظريًا وعمليًا للمنظومة القانونية الدولية ذات الخلفية الليبرالية. وتقتضي هذه الفكرة تجذير وتوطيد القانون الدولي، وتعميمه على المجالات التي كان غائبًا عنها.
- ضرورة مراجعة أطر الشرعية الدولية التي كانت تعكس توازنات جيوسياسية عالمية لم تعد قائمة. فالمرور من نظام الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية يتطلب بناء منظومة قانونية دولية جديدة بديلة تضمن السلم والأمن عالميًا.
ومن الجلي أن الأطروحة الأولى قد سارعت بتبنيها الدوائر الفكرية والسياسية وتنظيمات المجتمع المدني في العالم الغربي، واعتمدتها الإدارتان الأمريكيتان المحافظة والديمقراطية في عهدي بوش الأب وكلينتون.
ومن آثارها العينية الملموسة المبادرات المتتالية لتوسيع دائرة وصلاحية القانون الدولي، ليشمل موضوعات واهتمامات اعتبرت من قبل من الخصوصيات الحضارية والثقافية للأمم والشعوب مثل الأسرة والمرأة والسكان وحقوق الإنسان…
من هذا المنظور تم الرهان على قدرة الشرعية الدولية على حل الصراعات وإنهاء الفتن، بالنظر إلى عاملين مترابطين هما من جهة انتشار النموذج الليبرالي الديمقراطي وتوسعه عالميًا مما يعني زيادة الدول الراغبة في السلم والمتقيدة بالقانون، ومن جهة أخرى انطفاء بؤر التوتر المتولدة عن الحرب الباردة بعد زوالها(10).
بيد أن النزاعات الدامية التي سرعان ما اندلعت بعد نهاية الحرب الباردة في مناطق شتى من العالم ولدت انطباعًا مغايرًا بأن عالم ما بعد الصراع القطبي الثنائي سيكون أكثر فظاعة وعنفًا من الوضع الدولي السابق(11).
ومن ثم بدأ الوعي بضرورة مراجعة المنظومة القانونية الدولية التي بدت عاجزة عن احتواء مثل هذه التحديات الجديدة والتعامل الفعال معها.
ومن هنا برز توجهان، يميل أحدهما إلى تخويل القوة العظمى الوحيدة (الولايات المتحدة الأمريكية) مسؤولية حفظ الأمن والتدخل المباشر لضمان السلم الدولي، في حين يميل التوجه الثاني إلى معالجة اختلالات القانون الدولي بتقييد مفهوم السيادة القومية وإخضاعه للمرجعية القيمية الإنسانية الشاملة التي هي منبع ومصدر مشروعية القانون الدولي ذاته.
ونلمس التوجه الأول بكثافة في الأدبيات الأمريكية.
فيذهب تشارلز كروثامر إلى أن حالة "الأحادية القطبية" تضع على عاتق الولايات المتحدة مسؤولية وواجب حفظ السلام الدولي بصفتها الدولة الوحدة التي تتمتع بالميزات العسكرية والدبلوماسية والسياسية والاقتصادية الكفيلة بتأدية هذا الدور، بقدر ما أنها تحتاج إليه من حيث كونها مثل الإمبراطورية البريطانية سابقًا أمة تجارية تمارس التبادل مع القارات المختلفة وتحتاج إلى فضاء عالمي مستقر ومفتوح(12).
بين أن الأدبيات المذكورة سعت في مجملها إلى وضع هذه المسؤولية الريادية الأمريكية في قالب التشريعات الدولية التي كانت الولايات المتحدة ساهمت مساهمة كبرى في صياغتها وبلورتها، كما احتضنت منظومتها المؤسسية.
أما التوجه الثاني (حق التدخل الإنساني)، فينطلق من كون مفهوم السيادة المطلقة الذي حفظ إلى حد بعيد الإطار السلمي للعلاقات الدولية، غدا اليوم متجاوزًا باعتبار دينامية العولمة التي قلّصت موضوعيًا استقلالية وتميز الدولة القومية كما ولدت مفهوم المواطنة العالمية، التي هي امتداد طبيعي لمنظومة حقوق الإنسان ذاتها.
والمعروف أن معيار السيادة يقتضي في آن واحد: إطلاق يد الدولة في مجالها الداخلي إقليميًا وسكانًا، ومنع أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية، مما يقتضي حصر الحرب المشروعة في الدفاع عن النفس.
إلا أن هذا المفهوم للسيادة قد يتناقض عينيًا مع المرجعية القيمية والتشريعية للقانون الدولي ذاته في حالات عديدة من بينها اضطهاد دولة ما لأقلياتها أو ممارسة الاستبداد والإبادة والتمييز ضد مواطنيها، وحالة الفتنة الأهلية في غياب أو انهيار الدولة المركزية المتمتعة شكليًا بالسيادة.
فهل تمنح الأولوية في هذه الحالات لمبدأ السيادة في شكله الصوري المطلق على حق الإنسان في معياريته المبدئية وتحققه العيني؟
من الواضح أن "حق التدخل الإنساني" أخذ مكانه بقوة في المنظومة القانونية الدولية، حتى ولو لا يزال مدار نقاش واسع وصياغة مستمرة للحيلولة دون اتخاذه ذريعة للهيمنة والتدخل اللامشروع(13).
بيد أن مقاربة "حق التدخل الإنساني" وإن عملت على تجاوز بعض تقييدات ومحددات القانون الدولي المعاصر، إلا إنها صدرت بجلاء عن منطق هذا القانون ومرجعيته القيمية، وسعت إلى مزيد من توطيده وتفعيله في مواجهة مخاطر وتحديات جديدة لم تراعيها المنظومة الشرعية الدولية. ولذا فإنها تختلف من حيث الخلفية المنهجية والمنظور القيمي عن مبدأ "الحرب العادلة" الذي بعثته الدوائر الفكرية والسياسية الأمريكية من السجل اللاهوتي الوسيط لبناء أطروحة جديدة في العلاقات الدولية تناسب من منظورها التحدي الأبرز الذي يوجهه العالم اليوم الذي هو بتعبير هذه الأوساط الإرهاب العابر للقارات القائم على أسلحة الدمار الشامل.
ولا بد من التنبيه إلى أن نظرية العادلة قد غدت مألوفة في أقسام العلاقات الدولية بالجامعات الأمريكية منذ السبعينيات من القرن المنصرم. وقد تجدد الاهتمام بها لدى بعض الدوائر الأكاديمية والدينية في سياق مغاير للنزوع الحربي الراهن (الدعوة إلى التأطير الأخلاقي للحرب وضرب القيود على استخدام العنف في مرحلة وصل السباق النووي وإنتاج أسلحة الدمار الشامل أوجه). وشكل كتاب الفيلسوف "مايكل فالزر" الذي صدر عام 1977 بعنوان " الحرب العادلة والحرب غير العادلة" أهم نص مرجعي لهذا الاتجاه الأخلاقي الذي سعى لإعادة بناء النظرية الدينية الوسيطة على أسس ليبرالية جديدة(14)، بيد أن هذه المقاربة ظلت مرفوضة في الدوائر القانونية والدبلوماسية الدولية.
ولا شك أن زلزال 11 سبتمبر 2001 الذي كرس قطيعة نوعية في مسار الفكر الاستراتيجي الأمريكي هو الذي سمح لأول مرة بتبني الإدارة الحاكمة التي يهيمن عليها المحافظون الجدد والإنجيليون الأصوليون بعض مقاييس الحرب العادلة، ولو ضمن منظور لا يزال يجد حرجًا في التنصل النهائي من مرجعية الشرعية الدولية.
وكما يلاحظ غسان سلامة فإن أحداث 11 سبتمبر فرضت تغيرات جوهرية على العقل الاستراتيجي الأمريكي لأسباب ثلاثة أساسية:
- انهيار نقطة ارتكاز الاستراتيجية الأمريكية المبنية على مفهوم "التدخل" وليس ثنائية "الدفاع-الهجوم" المألوفة. ذلك أن الولايات المتحدة لم تكن في تاريخها المعاصر مسرح تهديد مباشر، بل كانت بمنأى عن مخاطر الهجوم الخارجي تكتفي بممارسة التدخل في النزاعات الدولية لحماية مصالحها الحيوية. أما اليوم فقد تغيرت المعادلة، وغدا الإقليم الأمريكي كغيره من الأقاليم عرضة للاعتداء والهجوم.
- إذا كانت الولايات المتحدة قد تبوأت في السنوات الأخيرة الدور المحوري في ديناميكية العولمة، التي لم تفتأ تبشر بها وتسعى لاستغلالها في منزلتها الاستراتيجية الجديدة بصفتها قوة عظمى وحيدة، فإنها ذاقت لأول مرة الجانب السلبي من العولمة، وجوبهت بكل الأدوات والاكتشافات التي شكلت عناصر تفوقها من وسائل اتصال حديثة ونظم إلكترونية مالية.
- لأول مَرَّة تتحول الولايات المتحدة من دور الملجأ والعون إلى دور الضحية الذي يطلب العون من غيره، من خلال فكرة التحالف الدولي ضد الإرهاب التي طرحها الرئيس بوش، مطالبًا شركاءه الأوروبيين والعرب مد بلاده بالمعلومات والإمكانات التي تساعدها في تفعيل وإنجاح هذه الحرب الجديدة(15).
وإذا كانت الفلسفة الاستراتيجية الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لقيت مصاعب جمة في تحديد المخاطر التي تتهدد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وتتحكم فيه، متأرجحة بين الحديث عن صراع هادئ بين أقطاب اقتصادية متناوئة، وتلمس صدام بين نماذج حضارية متباينة، فإنها في نهاية عهد الرئيس كلينتون بدأت تركز على المخاطر الناجمة عن التقاء الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل لدى ما أطلقت عليه الإدارة الديمقراطية بالدول المارقة Rogues States. إلا أن الإرهاب لم يتحول إلى الخطر الاستراتيجي الأبرز الذي يستأثر بالإنفاق الدفاعي والاهتمام الدبلوماسي قبل أحداث 11 سبتمبر التي اقتضت إعادة بناء العقيدة الاستراتيجية الأمريكية.
وقد بادر الرئيس بوش إثر اعتداءات 11 سبتمبر إلى إطلاق لفظ الحرب العالمية ضد الإرهاب، معتبرًا إياها أفظع وأطول وأقسى من أي حرب دخلتها الولايات المتحدة من قبل، فقال في خطابه أمام الكونغرس بتاريخ 20 سبتمبر 2001:
"إن حربنا ضد الإرهاب يبدأ بالقاعدة، ولكنه لا ينتهي عندها. ولن تنتهي هذه الحرب إلا عندما يتم القبض عل كل مجموعة إرهابية دولية بإيقافها وتحطيمها.. ومنذ اليوم، فإن كُلّ أمة تستمر في احتضان أو دعم الإرهاب ستعتبرها الولايات المتحدة نظامًا معاديًا له".
وقد عبرت وثيقة "الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب" ووثيقة "الاستراتجية الوطنية لمواجهة أسلحة الدمار الشامل" الصادرتان عام 2002 عن هذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة التي يوضحها نص التقرير الذي وجهه الرئيس بوش إلى الكونغرس في 20 سبتمبر 2002، حيث يعلن بوضوح أن الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم هو الإرهاب. في هذا السياق يقول الرئيس بوش على الخصوص:
"يكمن الخطر الأعظم الذي تواجهه أمتنا عند مفترقي طرق الراديكالية والتكنولوجيا. لقد صرح أعداؤنا بصورة علنية أنهم يسعون لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتشير الدلائل إلى أنهم يسعون لذلك بتصميم أكيد…
وبحكم البديهية السليمة والحاجة للدفاع عن النفس، سوف تعمل الولايات المتحدة ضد أي تهديدات ناشئة كهذه قبل أن تتبلور في شكلها الكامل…
أمريكا اليوم مهددة من دول غازية أقل مما هي مهددة من دول فاشلة. تهددنا اليوم الأساطيل والجيوش بدرجة أقل مِـمَّا تهددنا تكنولوجيا كارثية بين أيدي قلة مغتاظة".
ويتعلق الأمر هنا باستراتيجية تقوم على التخويف والضربة الاستباقية، بلورتها مراكز الرأي القريبة من مدرسة المحافظين الجدد التي أنشأت لهذا الغرض بنية تحتية ثقافية وإعلامية متكاملة.
وتتمحور استراتيجية محاربة الإرهاب حول ثلاثة مرتكزات أساسية:
- ملاحقة التنظيمات الإرهابية بالوسائل العسكرية والمخابراتية والقانونية الملائمة (في ما وراء كل التقييدات والضوابط الدبلوماسية والقانونية الاعتيادية).
- السعي للقضاء على أسلحة الدمار الشامل وملاحقة الأنظمة التي تنتجها وإسقاطها عند الضرورة (الدول المارقة التي دعاها بوش محور الشر).
- نشر القيم الديمقراطية في المناطق المحرومة منها، باعتبار هذه القيم دعامة للأمن القومي الأمريكي وغيابها مصدرًا رئيسًا للإرهاب والتطرف(16).
وليس من همنا هنا التعرض لتركيبة وأصول المحافظين الجدد(17)، وَإِنَّمَا حسبنا الإشارة إلى أن هذه المدرسة تختلف عن المحافظين التقليديين الانعزاليين والمتقوقعين على الداخل الأمريكي والمدافعين عن المنظومة القيمية التقليدية، كما تختلف عن الأصولية المسيحية الجنوبية حتى ولو كان هذا التيار ممثلا في إدارة الرئيس بوش الذي لا يخفى ميوله الدينية الأصولية(18).
فالمحافظون الجدد هم في الغالب من المثقفين المنحدرين من الوسط اليساري الثوري، ويتبنون أفكارًا ومواقف ليبرالية متحررة في الشأن الاجتماعي، ويصدرون في رؤيتهم السياسية-الاستراتيجية عن نزوع راديكالي لتعميم النموذج الديمقراطي الأمريكي.
وترجع مصادر فكرهم إلى أعمال الفيلسوفين الألمانيين المعاصرين ليوشتراوس (الذي هاجر للولايات المتحدة) وكارل شميث (القريب من النازية).
أما ليوشتراوس (المتوفى عام 1973) الذي يمثل أحد رواد نقد الحداثة، فيعمد في دراساته العديدة حول الفكر اليوناني والإسلامي الوسيط إلى إعادة اكتشاف العقل السياسي القديم، معتبرًا أن السؤالين الأساسيين في الفلسفة السياسية وهما: ما هي طبيعة الشيء السياسي؟ وما هو أفضل نظام سياسي؟ يقصيان ويموهان في الفكر السياسي الحديث الذي يتوزع إلى تيارين كبيرين: وضعي يرفض أحكام القيمة لغرض بناء علم بالوقائع السياسية، وتاريخاني يرفض التميز بين العدل والظلم والصواب والخطأ باسم النسبية والتعددية.
ويخلص ليوشتراوس من نقده للحداثة الأوروبية إلى ضرورة الرجوع لمبدأ الفضيلة والنظام في نسخته الأفلاطونية-الأرسطية، أي بناء النسق السياسي على قيم العدل من حيث هو تمييز صارم بين الخير والشر، محذِّرًا من إقحام النقد الفلسفي في شأن الدولة التي تحتاج لحماية أخلاقيات المجتمع وقوانينه وعدم التشكيك فيها. فالخطاب الفلسفي قد يكون هدامًا ومدمرًا وفي صالح الاستبداد إن هو خرج عن القيم المألوفة والحس المشترك. فالحقائق الأساسية حول التاريخ والمجتمع يجب أن لا تعرفها إِلاَّ الأقلية، ولا بد أن تظل محجوبة عن العامة التي تتمتع بالأهلية الأخلاقية لإدراكها، فالمجتمع بحاجة إلى أكاذيب تطمئنه وتحميه.
ومن هنا دعوته لرجوع الغرب إلى أصوله الفكرية، الروحية القديمة لإدراك هويته والدفاع عن مصيره، معتبرًا "أن أزمة الغرب تتمثل في كون الغرب فقد الإيمان بمصيره. فلقد كان الغرب من قبل متيقنا من صلابة مصيره الذي يمكن أن يكون مصير البشر برمتهم، ومن ثم كانت له رؤية واضحة بمستقبله وبمستقبل البشرية برمتها. ولم يعد لنا هذا اليقين وذلك الوضوح"(19).
ومن ثم فإن الرجوع إلى الفلسفة الكلاسيكية يعتبر ضروريًا وحاسمًا، لفهم مشاكلنا وتبين حلولها، بدل الاستناد العقيم لعلم السياسة المعاصر(20).
وقد أثر هذا التصور النقدي للتعددية الثقافية وللعقلانية التاريخانية مع الرجوع للنسق القيمي-السياسي الوسيط ولو بغطاء ليبرالي في المحافظين الجدد(21).
أما كارل شميت (المتوفى عام 1985) فينطلق من مركزية السياسة في النشاط الإنساني الذي تشكل جوهره، من حيث هي في دلالتها العامة العلاقة الطبيعية بين البشر القائمة على ثنائية الصداقة والعداوة.
والأساس في السياسية هو نجاعة القرار بغض النظر عن مضمونة المعياري وقيمته الأخلاقية، وذلك هو مقوم السيادة ذاتها كما يعرفها شميت بقوله:
"لا يكون متمتعًا بالسيادة إلا من بإمكانه أن يتخذ القرار في الوضع الاستثنائي. فهذا التحديد وحده هو الذي يمكن أن يتلاءم مع مقولة السيادة بصفتها مقولة حدية"(22).
فوجود الدولة له الأولوية على "صلاحية المعيار القانوني"، ولذا لا بد من تحرير وتخليص آلية القرار من كل إلزام شرعي(23).
من هذا المنظور، ليس هدف الدولة هو البحث عن السلم أو التوافق المدني على طريقة الديمقراطيات الليبرالية، بل إن الأمم والدول لا تصون هويتها ولا تحقق حيويتها إلا بالعلاقة السلبية بعدو تواجهه وتعبئ قواها ضده. فما يحدد مشروعية الدولة هو طريقة تعاملها مع "آخر عيني" وليس هدفها الأخلاقي(24).
وقد امتد تأثير شتراوس وشميث إلى الفكر الاستراتيجي الأمريكي من خلال أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو آلان بلوم الذي ناهض بقوة النزعة النقدية للحضارة الغربية التي اجتاحت الجامعات الأمريكية في الستينيات.
وفي السبعينيات رفع هذه الدعوة المحافظة هنري جاكسون سيناتور واشنطن الذي رفض بشدة اتفاقات الحد من السلاح النووي، وعمل على تكوين جيل من الباحثين الاستراتيجيين الجدد من أمثال ريتشارد بيرل ووليام كريستول، وهما من ركائز مدرسة المحافظين الجدد الماسكة بالقرار اليوم في الولايات المتحدة.
ومن أبرز عناصر هذا التيار بول فولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي الحالي الذي التقى مع بيرل في التتلمذ على آلبيرت وليستتر الباحث في مؤسسة راند والمستشار السابق في البنتاغون وأحد رموز المذهب النووي الأمريكي.
وقد أصبح لهذا التيار أدبياته الكثيفة Review مجلات مثل National Revieuw وcommentary وthe new Republic، بالإضافة إلى أسبوعية The Weekly Standard وتلفزيون فوكس، ومن مراكز البحث والرأي التي يتحكم فيها مركز أمريكان أنتربرايز ومركز هيدسون ومؤسسة هريتاج. والفكرة الأساسية التي تقوم عليها مدرسة المحافظين الجدد هي أولوية النظام السياسي على المؤسسات والتشريعات الدولية. فالخطر الأكبر الذي يتهدد المصالح الحيوية الأمريكية يتأتى من الأنظمة التي لا تقاسم الولايات المتحدة قيمها السياسية والمدنية. ولهذا فإن أفضل وسيلة لتوطيد أمن أمريكا هي تغير الأنظمة الاستبدادية وفرض المسلك الديمقراطي(25).
ومن الواضح أن هذه المدرسة قد أدخلت تحويرًا نوعيًا على الحوار الاستراتيجي الأمريكي الذي انتظم تقليديًا حسب معياري الواقعية/المثالية، والأحادية /الأممية، وأفضى إلى مدارس ثالث متمايزة هي:
- الواقعية الأحادية: أي التيار الانعزالي الذي يدعو إلى اختزال السياسة الخارجية إلى الحد الأدنى.
- المثالية التعددية: أي التيار الذي يدعو إلى تصدير الديمقراطية وتجذيرها في الخارج بحسب النموذج الليبرالي الأمريكي.
- الواقعية التعددية: أي التيار البراغماتي الذي يطالب باضطلاع الولايات المتحدة بدور محوري في العالم بحسب مصالحها الحيوية دون مراعاة المبادئ والمثل.
أما التيار المحافظ الجديد فيتشكل من مثاليين أحاديين، يحولون المبادئ المثالية الولسونية إلى أدوات هيمنة إمبراطورية، يرفضون التعددية بصفتها عائقًا يحد من سيادة أمريكا ويقيد حركتها ويتبنون في الآن نفسه خطًا ثوريًا راديكاليًا بحرصهم على تصدير النموذج الأمريكي في الخارج(26).
ويوضح لورانس كابلينغ ووليام كريستول وهما من رموز التيار المحافظ الجديد هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة في كتابهما الصادر بعد حرب العراق الأخيرة التي اعتبرت المعركة الأولى في حرب الإرهاب الجديدة(27). ويذهب المؤلفان في كتاب الحرب على العراق إلى تقديم قراءة مفصلة لمسار التوجه الأمريكي الجديد بعد الحرب الباردة من واقعية بوش الضيقة إلى ليبرالية كلينتون الحالمة إلى أممية بوش الأب المتميزة التي تجاوزت سلبيات الاتجاهين الواقعي والمثالي فجمعت بين الفاعلية والمنظور القيمي(28).
وتقوم عقيدة بوش الابن الاستراتيجية التي يدافع عنها التيار المحافظ على مبادئ ثلاثة أساسية هي التي تحدد مهمة أمريكا المستقبلية ومسؤوليتها في العالم:
- الانتقال من الردع إلى الاستباق لمواجهة المخاطر المتولدة عن الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل.
- الانتقال من الاحتواء إلى تغيير الأنظمة باعتبار أن الأحكام الاستبدادية هي في ذاتها خطر على المصالح القومية الأمريكية.
- الانتقال من الغموض إلى القيادة، أي وعي أمريكا بدورها الريادي في العالم، وتبوأ مسؤوليتها بصفتها الأمينة على استقراره وأمنه(29).
ومن الجلي أن هذه العقيدة الاستراتيجية ترسي قطيعة كاملة مع المنظومة القانونية الدولية في عدة مناح جوهرية، وتشكل تطورًا نوعيًا في تعامل الولايات المتحدة مع أطر الشرعية الدولية المعاصرة التي ساهمت مساهمة محورية في صياغتها بعد الحرب العالمية الثانية. وتستند هذه الأطر لمبدأين أساسين هما: احترام سيادة الدول وعدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية، وحصر انتهاك هذه السيادة بقرار إلزامي من مجلس الأمن الدولي الذي يحتكر لوحده مشروعية شن الحروب في حالة تهديد السلام العالمي.
ويعني هذا التحول الانتقال من آلية تشريع الحرب من داخل المنظمة الأممية إلى مبدأ "شرعية الحرب الذاتية" Self Legimiting War أي أن النتائج الإيجابية للحرب هي التي توفر لها شرعيتها فالحرب الاستباقية تكرس أولوية المشروعية القيمية على الآلية التشريعية (عدالة القضية مقدمة على القيود والضوابط المؤسسية لحفظ الأمن)، ومن ثم عداء المدرسة المذكورة لهيئة الأمم المتحدة ولمعايير القانون الدولي واعتبارها حصيلة ضغط ورؤى قوى دولية تفتقد للمصداقية والشرعية.
ومن هنا الميل إلى بناء مشروعية أخلاقية دينية لهذه الحرب التي تقطع مع الشرعية الدولية من خلال الرجوع لمفهوم "الحرب العادلة" الذي أصبح محددًا مرجعيًا أساسيًا لفكر التيار المحافظ الجديد.
وهكذا برز اتجاه واسع في حقل الدراسات الاستراتيجية الأمريكية، يرى في مفهوم الحرب العادلة نقطة التقاء ممكن بين مقتضيات الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم والالتزامات الأخلاقية المترتبة على هذه المقتضيات، فضلا عن تلاؤمها مع التحدي الجديد الأبرز الذي يواجه المصالح القومية الأمريكية (الإرهاب).
فحسب جين ألشتاين مؤلفة أحد أهم الكتب التي صدرت أخيرًا في الموضوع(30) لا مناص من إعادة بناء الرؤية الاستراتيجية الأمريكية في ضوء العبء المترتب على تحكمها في الرهان العالمي ومواجهتها لخطر الإرهاب الذي لا يمكن التعامل معه بآليات وتشريعات الحرب الباردة.
فبالنسبة لألشتاين لا تتحدد مشروعية الحرب بامتثالها الشكلي لمدونة قانونية شكلية، وإنما بآثارها الأخلاقية، منتقدة الاتجاه الوصفي الوضعي المسيطر على الفكر السياسي الغربي، معتبرة أن البُعد الأخلاقي متضمن في العملية الوصفية ذاتها باعتبار "أن كل وصف لفعل سيئ بأنه جيد هو وصف زائف للواقع".
ولذا فإن الاستراتيجية الناجعة هي الاستراتيجية الأخلاقية التي تقوم على تسخير القوة لإصلاح العالم، بالقضاء على الإرهاب، وإعادة بناء "الدول الفاشلة"، وفرض النموذج الديمقراطي الليبرالي في العالم برمته، أي ما عبرت عنه بعبارة، "صياغة العالم حسب صورتنا"، رافضة بشدة حق التنوع الثقافي والحضاري بصفته وهما زائفًا (متحدثة بصفة أخص عن انغلاق الإسلام وعدوانيته في مقابل انفتاح ورحابة المسيحية).
ويذهب جيمس جونسون في الاتجاه ذاته، مقارنًا بين الحرب العادلة في التقليد المسيحي التي اعتبرها مفهومًا أخلاقيا عامًا ليس محصورًا في دلالته الدينية الأصلية والجهاد الإسلامي القائم بزعمه على التمييز والإقصاء(31).
فالفكرة الأساسية التي يدافع عنها أصحاب هذا الاتجاه هي أن الغرض من العودة لمفهوم الحرب العادلة في السياق الراهن هو استرجاع المقوم الأخلاقي في إدارة الحروب بالإجابة على السؤال المحوري الراهن: كيف يمكن لاستخدام العنف أن يؤدي إلى ضمان العدل والحرية والنظام في العالم؟ وما هي السلطة المخولة باستخدام الحرب لأجل هذا الغرض النبيل؟ فنقطة انطلاق عقيدة الحرب العادلة هي أولوية الحكم الأخلاقي الذي تدافع عنه سلطة شرعية مسؤولة لضمان السلم بصفته نظامًا(32).
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن استخدام نظرية الحرب العادلة في دوائر البحث الاستراتيجي بإخراجها من سياقها اللاهوتي إلى سياق العلاقات الدولية قد ولد حوارًا متشعبًا وكثيفًا في الأوساط المسيحية التي رفضتها في الغالب.
فبالنسبة للكثير من المفكرين ورجال الدين المسيحيين لم تكن الحرب العادلة سوى تعبير عن النزوع السلمي الرافض للحرب والساعي لوضع ضوابط أخلاقية صارمة تحول دون استخدام القوة في مرحلة لم تكن الحرب تخضع لضوابط تشريعية وقانونية ملزمة، في حين تستخدم المقولة اليوم لغرض مغاير هو تدعيم النزعة العدوانية الأمريكية.
أما الوجهة المعارضة فتنطلق من التمييز بين السلطة الأخلاقية والروحية للمؤسسة الدينية التي هي سلطة توجيهية سلمية ومسؤوليات الحكام في حفظ السلم والأمن من حيث هم حسب عبارة بولس "خدم الرب الذين يؤدب بهم الأشرار"(33).
ويوضح هذا التصوّر أحد أركان مدرسة المحافظين الأمريكيين "مايكل نوفاك" في محاضرة ألقاها بالفاتيكان خلال حرب العراق الأخيرة(34)، معتبرًا أن الحرب على الإرهاب اقتضت الخروج على ضوابط الشرعية الدولية التي لا تنطبق إلا على الحرب التقليدية بين دول، في حين أن الحرب على الإرهاب هي حرب لا متكافئة، غرضها استباق مخاطر الإبادة الجماعية والاعتداء على العزل، ولذا فهي ضرورية وإلزامية أخلاقيا وعادلة قانونيًا.
ويذهب نوفاك إلى القول إن مفهوم الحرب العادلة في التقليد اللاهوتي يتنزل في إطار منطوق "الخطيئة الأصلية" (كما في كتاب القديس أوغسطين: مملكة الرب). فما دامت سمة العالم البشري هي الشر والصراع والدمار، توجب على المسيحيين أن يواجهوا هذه المخاطر على أن يتقيدوا بأعباء العدالة والرحمة، ويفرضوا السلم العالمي بصفته حسب تعريف أوغسطين "النظام المستقر".
وقد برزت هذه المفاهيم والمعاني في رسالة المثقفين الأمريكيين المنضوين في معهد القيم الأمريكية للمسلمين بعنوان "من أجل ماذا نحارب؟"، ومن بينهم بعض الأسماء المذكورة آنفًا (مثل جيمس جونسون ونوفاك والشتاين…)، وفيها الإحالة الصريحة على هذه الخلفية اللاهوتية لتبرير الحرب الاستباقية ضد الإرهاب(35).
ولسنا بحاجة إلى توضيح العلاقة الوثيقة بين هذه المقاربة اللاهوتية ونزعة المثالية الأحادية المهيمنة على دائرة القرار الأمريكي(36).
ثالثا: مأزق استراتيجية محاربة الإرهاب: أوهام الحرب العادلة:
على الرغم أن الحرب المعلنة ضد الإرهاب قد سخرت لها أكثر الإمكانات المالية في التاريخ، في مرحلة وصلت نسبة الإنفاق الأمريكي على الدفاع أكثر من 40% من نسبة الإنفاق العالمي الإجمالي على التسلح، كما أَنَّهَا تحولت إلى حجر الزاوية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي الذي لا يتردد في إطلاق تسمية "الحرب العالمية الرابعة" عليها(37)، إلا أن مفهوم الإرهاب نفسه يظل غامضًا في الخطاب السياسي الاستراتيجي الأمريكي، لا يخضع لأي تحديد إشكالي ولا استكناه نظري دقيق.
كما أن المقاربة الاستراتيجية التي بلورتها الإدارة الأمريكية لمواجهته (الضربة الاستباقية المستندة لمرجعية الحرب العادلة) عاجزة عن احتواء ومجابهة هذا الخطر الذي يمثل تحولا نوعيًا في منطق الحرب ودلالتها.
وقد كان الفيلسوف الألماني لودفينغ كلاغس قد لاحظ في مطلع القرن الماضي أن المدن الكبرى التي نشأت في عصور التوسع الصناعي تشكل نمطًا من السياج البشري الواسع القابل للاشتعال والانمحاء في طرفة عين بفعل صاعقة من السماء.
ويشير كلاغس في مقولته تلك إلى الطابع الهش الذي يسم نمط المدينة الحديثة، على الرغم مما تقوت به من أدوات تقنية ناجعة وفتاكة، زادت من المخاطر المسلطة على الجنس البشري، بدل جلب الأمن والسلم له.
ولا شك أن أحداث الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر 2001 التي أصابت في الصميم رموز السيادة والقوة في أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم، برهنت على حدود وهشاشة القوة التقنية، مما يتسنى إرجاعه لطبيعة الثورة التقنية المعاصرة ذاتها.
وقد تناول هذه الظاهرة بدقة عالما الاجتماع الفرنسييْن آلان غراس وبول فيرليو. فبالنسبة للأول لا تقل الجوانب المتعلقة بالأنظمة التقنية في الحرب الجديدة عن المكونات الأخرى للحرب مثل الأسلحة والجيش. فلا معنى للحديث عن القدرات العسكرية الهائلة التي تتمتع بها الولايات المتحدة دون الولوج إلى المنظومة التي تسمح بالفعل وتجسد القرار، فهذه المنظومة هي التي تعرضت للاعتداء والهجوم.
فالسؤال المطروح حسب غراس هو: إذا كانت الحصون والأسوار هي المنظومة التقنية للعصور الوسيطة، فأين اليوم مواقع المواجهة والتصادم المرئية؟
أن الأمر لا يتعلق بإبداع المجموعات الإرهابية، وإنما يتسنى تفسيره بضبط مؤشرات تطور البنية التقنية للحرب نفسها.
فالإنسان المعاصر أصبح يعيش منذ فترة طويلة في فضاء تقني واسع لا يراه ولا يسيطر عليه، بل يتخذ سمة البداهة والعفوية، ونادرًا ما يتعرض للنقد والمساءلة. فوسائل الرقابة الكثيفة التي أبدعتها التكنولوجيا المعاصرة لا تتجاوز نقاطًا قليلة من الفضاء الحقيقي، حيث تتعدد في طياته العناصر اللامرئية. فإذا كانت التقنيات الفضائية والاتصالية الجديدة قادرة على قراءة لوحة ترقيم سيارة في أقصى نقطة من الأرض، إلا أنها عاجزة عن اكتشاف وتتبع حركة الاتصال الكثيفة التي دعمتها وجذرتها الثورة التقنية الراهنة.
ويلاحظ غراس أن النموذج الذي يسير عليه الغرب منذ القرن التاسع عشر هو نموذج "القطار"، أي شبكة واسعة من الطرق تسمح بتنقل البشر والبضائع. فهذا الإقليم المصطنع مغطى بمنظومة إعلامية، تدبرها مراكز فحص هي في الآن نفسه مواقع رقابية. فعلى هذا النموذج تأسست كل المنظومات التقنية الكبرى المعاصرة، وهي منظومات هشة في نقاط متعددة، باعتبار أن بؤر الاتصال تشكل أهدافًا سهلة وناجعة: محطات القطار، والمطارات، والمفاعل الكهربائية ذات الطاقة النووية أو المائية المدمرة.
وأشد هذه المخاطر عائد إلى نمط إدارة هذه المنظومات، وصيغ انتظامها في الواقع المعيش التي تواكبها دومًا تهديدات لأمننا اليومي: من تسمم المياه إلى انتشار الجراثيم، انتهاء بفيروسات الأجهزة المعلوماتية.
وتنضاف إلى هذه العوامل سياسات البناء الاجتماعي للواقع التقني المعاصر، الذي خص فقط ربع أو ثلث المعمورة. أما بقية البشرية فتعيش خارج هذا الواقع، ولا تستثير اهتمامًا من لدن القائمين على الثروة، المتحكمين في البنية الصناعية الاتصالية الجديدة. ومن ثم نفهم مشاعر الإحباط والانتقام السائدة في العالم الجنوبي المنكوب والبائس، التي تفسر ظهور مجموعات تنتمي إلى فضاءات ثقافية ومتباينة يجمعها السعي إلى مهاجمة المنظومة التقنية الكبيرة من حيث نقاط ضعفها وتصدعها(38).
أما فيرليو فيبين أن حرب الإرهاب تمثل الشكل التاريخي الثالث للحرب بعد حرب الكتلة (الكتيبة والعربة) وحرب الطاقة (من البارود إلى السلاح النووي)، فهي حرب الإعلام Infowar إلى توازي الثورة التقنية الثانية.
فإذا كان عصر الثورة انتهى، كما انتهى عصر الحروب الكبرى، إلا أن الأفق الثالث المفتوح أمامنا اليوم هو مشهد الحادث المديني المدمر على شكل تعطل كهربائي عارم أو وباء جارف.
والإرهاب يندرج في هذا الأفق من حيث هو بداية عصر الحرب الدائمة دون نهاية (بالمعنيين المكاني والزماني)، مما يضعنا أمام مشهد هستيري بدون مرجعية تاريخية.
صحيح أن الحرب العرضية ليست بالجديدة تمامًا، وقد عرف العالم أحد أشكالها، وهو الحرب الأهلية التي تقوض المعطى السياسي من الداخل، كما أن ضربة هيروشيما النووية قد ولدت نمطًا جديدًا من الحرب دعي بـ"حرب الردع وتوازن الرعب"، ولكن ظاهرة الإرهاب المستندة لتقنيات الاتصال والدمار الجديدة، أدت إلى بروز مؤشرات على قيام حرب أهلية كونية.
ويبين فيرليو إن هذه الحرب الجديدة ليست صراعًا بين الشمال والجنوب، أو الشرق والغرب، وإنما هي حرب داخلية في مستوى نسيج العولمة ذاته بين أنماط جديدة من الفئات والإقطاعات: مافيات، وفرق دينية وطائفية، وشركات متعددة الجنسيات، تتخذ أحيانًا شكلا دينيًا وثقافيًا وأحيانًا أخرى شكلا اقتصاديًا واجتماعيًا. فنحن حسب فيرليو أمام نوع من التراجع التاريخي الخطير والعودة للعصور الإقطاعية الوسيطة، فما غنمناه من توسع المكان فقدناه بمنطق التاريخ. أنه "العصر الوسيط للعولمة" بمخاطره وتحدياته غير المسبوقة التي لا يجدي التعامل معها بمنطق العقيدة الاستراتيجية الإلكترونية التي هزمت يوم 11 سبتمبر 2001 حسب فيرليو(39).
إن دينامية الإرهاب إذن لا تفسر بالعوامل الجيوسياسية التقليدية، ولا يتسنى التعامل معه بآليات الحرب المألوفة، بل لا معنى لمقولة الحرب على الإرهاب العاجزة عن تحديد الخصم المستهدف. وكما يوضح الفيلسوف الفرنسي المعروف جاك دريدا فإن أي محاولة لتحديد موقع وخلفية الإرهاب هي محاولة هشة، باعتبارها لا تأخذ في عين الاعتبار التغير الجذري الذي مس العلاقة بين الأرض والإقليم والرعب نتيجة لانبثاق النظام التقني - الصناعي الجديد الذي ضرب في العمق التمييز المألوف بين الحرب والإرهاب. فالولايات المتحدة وأوروبا هما أيضًا مراكز تصدير وإيواء الإرهاب ومواقع تكوين الإرهابيين، كما ظهر خلال أحداث 11 سبتمبر(40).
بل أن بودريار يذهب أبعد من ذلك، فيرى أن حركية الإرهاب مقوم أساسي من مقومات النسق الراهن للعولمة، ولا تمكن قراءتها من خارجه، فهي الوجه الملازم لمنظومة شمولية ذات سمة كونية.
فالإرهاب هو التعبير الراديكالي عن إرادة القطيعة مع نظام يتحكم في كُلّ الوظائف من خلال الآلية التكنوقراطية والفكر الأحادي، فهو بهذا المعنى حرص دفين وحاد على إقحام الاختلاف والخصوصية في نسق مغلق، ولو من خلال تدمير الحياة وإبادة البشر. فهو إذن نتاج هذا النسق وردة فعل ضده.
فالأمر إذن ليس صراع حضارات أو أديان، على عكس الصورة السائدة في الإعلام، وَإِنَّمَا هو صدام عميق وجوهري في ما وراء شبحي أمريكا والإسلام، إلى صدام العولمة مع نفسها أي تصدعها الذاتي. وهذه الحرب الجديدة هي أول حرب عالمية بالمعنى الصحيح للعبارة؛ لأنها حرب العولمة التي تهم البشرية في مجملها.
فالحربان العالميتان الأولى والثانية كانتا حربين تقليديتين، أنهت إحداهما التفوق الأوروبي والعصر الاستعماري، وهزمت الأخرى النازية، كما أن الحرب العالمية الثالثة (أي الحرب الباردة) قضت على الشيوعية.
ومع كل حرب كان العالم يسير نحو مزيد من أحادية النظام الدولي، الذي انتقل من التعددية نحو القطبية الثنائية، ليبلغ نهاية تحققه في هيمنة أحادية.
بيد أن هذه الأحادية لم تكن لتقود إلى حالة من السلم الشامل، بل إنها فجرت كل هوامش الرفض، وأطلقت كل نزعات التميز والخصوصية من عقالها، حتى ولو كانت عصية على الضبط والتحديد.
ولقد كان من السذاجة الظن أن نهاية الشيوعية ستؤدي إلى انتصار الخير ضد الشر، وانتهاء الظلم والعنف والاستغلال، كما دأب على تكريره الرئيسان بوش الأب وبوش الابن.
وتنطلق هذه المصادرة من يطوبيا التقدم التي حملها فكر الأنوار الغربي، أي اعتقاد أن تقدم البشرية في الميادين الاقتصادية والتقنية وفي الديمقراطية وحقوق الإنسان سيفضي إلى القضاء على الشر، في حين يتساوق المعياران ويتلازمان، وينتميان لنفس اللحظة.
ولعل مصدر الإحساس بحدة الصدمة التي ولدتها أحداث 11 سبتمبر عائد إلى أن العملية الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة في عمق مركز قوتها الاقتصادي والعسكري تضع النسق العالمي في مواجهة خصم غائم القسمات، لا تتوفر وسائل مجابهته، حتى ولو كان المخرج الوحيد المتاح هو اللجوء إلى استعراض عسكري لتثبيت فكرة الحرب التقليدية أي النموذج الذي تتحدد نجاعته بميزان القوة العسكرية.
لقد بينت الهجمات أن وسائل الردع التقليدية ليست مجدية في الدفاع عن نسق غدا هشا وضعيفًا نتيجة لقوته وتفوقه، باعتباره أبدع استراتيجية إزاحة المخاطر، ولم يعد مستعدًا لدفع فاتورة الموت الذي تحول إلى سلاح شديد الفتك لدى الانتحاريين.
وهكذا، فالرهان كله يتمحور حول الموت، ليس فقط بمعناه الواقعي، وَإِنَّمَا كذلك الرمزي والميثولوجي، أي الموت كحدث مطلق ونهائي. فروح الإرهاب هي إبداع حد أقصى من الواقع ومن ثم تقويض النسق تحت وطأة هذا الواقع، من خلال الصنف الوحيد من العنف غير المتاح للقوة المهيمنة أي إعدام الذات.
فالمجموعات الإرهابية لا تحارب النسق العالمي بأدواته، وَإِنَّمَا بسلاح العنف الرمزي الذي دجنته الحضارة التقنية الحديثة، واعتقدت أنها احتكرته وتغلبت عليه، وبذلك تغدو القوى المهيمنة دوليًا عاجزة عن احتوائه والانتصار عليه.
فالحروب الاستباقية هي في حقيقتها "حروب حداد وتعويض" حسب عبارة بودريار، أي أنها لا أحداث لكونها عمليات بوليسية محدودة تم توقعها إلى حد كونها لم تعد بحاجة إلى أن تقع، والغرض مها حجب الحدث المدمر الذي وقع قبل أن يكون ممكنًا. والإشكال الذي تطرحه الحرب الاستباقية هو كونها تسعى لإجهاض حدث لن يقع ما دام قد تم منعه مسبقًا، في حين تعجز عن توقع أحداث لا مجال لاستباقها(41).
فالحرب على الإرهاب من المنظور الأمريكي (الحرب الاستباقية العادلة خارج الشرعية الدولية) لا تختلف من حيث المنطق الغائي عن روح الإرهاب ذاته. وكما يقول دريدا فإن تجربة الرعب ذاتها ليست خاصة بالإرهاب، وَإِلاَّ فما الذي يميز الرعب المنظم، المثار والمستخدم عن ذلك الخوف الذي اعتبره تقليد فلسفي كامل من هوبز إلى كارل شميت شرط الممارسة السياسية ذاتها وأساس الدولة نفسه؟
فأين الخط الفاصل بين استخدام العنف مصدرًا لحرب مشروعة وإدانته كعمل لا أخلاقي؟
يذهب دريدا إلى أن معيار السيادة لا يشكل في ذاته إطارًا محددًا لمشروعية العنف، بل إن مفهوم السيادة ذاته يحمل ضمنيًا النزوع الإمبراطوري التوسعي الذي يؤدي إلى الخروج عن الشرعية.
فمع الحرب الاستباقية انهارت بوضوح كل المنظومة المنطقية والدلالية والسياسية والقانونية التي كانت تميز الدول الديمقراطية المتشبثة بالشرعية والدول المارقة(42).
فالمنظور الأخلاقي لنموذج "الحرب العادلة" لا يمكن أن يوفر الشرعية المطلوبة للحرب الاستباقية، باعتبار أنه إذ يخرج على أطر الشرعية الدولية القائمة التي هي حصيلة تجسيد موضوعي لمنظومة قيمية متكاملة بحسب معطيات وتوازنات الرهانات الجيوسياسية العالمية - القابلة في ذاتها للتعديل والمراجعة - فإنه يعود بالعالم إلى منطق الحروب الدينية الوسيطة التي استندت لنفس الخلفية المزدوجة التي نلمسها راهنًا في الفكر الاستراتيجي الأمريكي الجديد أي محاربة الشر وإزالته، وتعويضه برسالة الخير (القيم الليبرالية الأمريكية).
ومن المعروف أن أحد المكاسب الهامة للفكر السياسي الحديث هو التمييز بين الأخلاق في بُعدها الذاتي المطلق (أخلاق القناعة حسب تعريف ماكس فيبر)، والأخلاق في بُعدها الموضوعي (أخلاق المسؤولية حسب عبارة فيبر). ويتعلق الأمر بتمييز يقتضيه الرجوع عن المفهوم الميتافيزيقي القديم للقيم من حيث هي مضامين لنظام الوجود، تكتسي طابعها الإلزامي من معيار الحقيقة ذاته.
فلم يعد بالإمكان تكرير هذه المصادرات بعد انهيار المنظومة الفلسفية التي كانت تتأسس عليها (وحدة العقل والوجود وأحادية الحقيقة ولا تاريخيتها).
وكما يوضح الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس فإن المشاعر الأخلاقية يمكن أن تؤدي إلى الخطأ، لكونها تستجيب لمشاهد أو صور خاصة، إذ ليست ثمة طريقة تمكن من ضبط مسألة الشرعية في كليتها. فهل من المعقول إذن استبدال سياق تتحدد فيه الشرعية بالقانون الدولي بسياق سياسة دولية أحادية تمارسها قوة مهيمنة تستمد من نفسها مشروعية أفعالها؟
وإن كانت الإدارة الأمريكية تعترض على منظومة الشرعية الدولية بعوائق تعود إلى فاعليتها، فإن العوائق العملية التي تحد من فاعلية المقاربة البديلة هي أكثر حدة وصعوبة فالمجتمع الدولي غدا شديد التعقيد بحيث لا يتسنى التحكم فيه انطلاقًا من مركز ما، بالاستناد للقوة العسكرية.
فالاستراتيجية الأمنية الأحادية على الطريقة الهوبزية لا يمكن أن تجدي شيئًا في مواجهة الحقائق الموضوعة الناجمة عن شبكات السوق الأفقية وإطار التواصل الثقافي والاجتماعي الكوني. بل إن نمط الهيمنية الأحادية عندما تمارسه دولة ليبرالية ديمقراطية تنتهي إلى تقويض أسسها وقاعدتها القيمية التي تسعى للدفاع عنها ونشرها بتركيزها على النشاط المخابراتي البوليسي والإنفاق الحربي، بما لهما من سلبيات بديهية على وضع الحريات داخليًا.
وفي تجربة الدول الليبرالية الأوروبية خلال العهود الاستعمارية مصداق لهذا الحكم. وكما يقول هابرماس فإن السمة الكونية الثاوية في نسق الديمقراطية وحقوق الإنسان هي التي تمنع فرضهما عن طريق القوة والهيمنة الأحادية.
فاعتبار الغرب قيمه السياسية الأساسية ذات صلاحية كونية شاملة يجب أن لا نخلط بينه -حسب هابرماس- والطموح الإمبريالي لفرض ثقافة ما، أو نظام سياسي معين على مجتمعات مغايرة بالقوة والإكراه، فالأمر هنا يتعلق بنمط الكونية التي كانت تغزو بها الإمبراطوريات القديمة العالم الآخر الذي لا تراه إلا انطلاقًا من صورتها.
فالتصور الحديث للذات هو على عكس هذا التصور الوسيط مؤسس على مبدأ العدالة الذي يقتضي الخروج من مركزية الذات لاكتشاف الآخر في اختلافه شرطًا للتبادل والتواصل معه.
وهذا التصوّر يجد اكتماله في الفلسفة البرغماتية الأمريكية التي تقوم على فكرة أساسية مفادها: أن ما يعتبر صائبًا وعادلا للجميع يتحدد بمدى قدرة كُلّ من الأطراف على تبني خيار الطرف الآخر. فالقانون الدولي المعاصر لا يتقبل الاستحواذ على قيمه الكونية أو امتلاكها كغيرها من البضائع القابلة للتملك والتوزيع والتصدير.
فالقيم ليست معلقة في الهواء، وإذا كانت تتطلب سلطة إكراه، فإن هذه السلطة تتبلور وتنشط داخل أنساق وممارسات معيارية تندرج في أشكال ثقافية محددة(43).
*******************
الهوامش
(*) أستاذ جامعي موريتاني، يعمل بالأليكسو العربية بتونس.
1- راجع حول الفكر السياسي اليوناني:
- Jean Piere Vernant: les origines de la Pensée grecque PUF, 9° ed. 2002
2-
Léo-Strauss: qu’est ce que la Philosophie Politique ? PUF 1992 ; P. 39
وسنلاحظ أن ليوشتراوس نفسه سيتبنى هذا التصور في فكره السياسي الذي أثر على مدرسة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية.
3-
Saint Augustin: la cité de Dieu, Garnier, p. 41.
4-
Saint Thomas d’Aquin: Somme Théologique: La Force Ed. de la Revue
des jeunes 1926 ; p. 52
5- راجع حول نظرية "الحرب العادلة" في التقليد المسيحي:
- Michael Walzer: Just and Unjust war: a moral argument with historical illustration New York Basic Books 1977.
6- لحض فوكو خصائص السلطة الرعوية بالمفهوم المسيحي بخصائص أربعة أساسية:
- ليست سلطة إكراه وإلزام، بل غايتها أن تكون دومًا مستعدة للتضحية من أجل حياة وسلامة ا لقطيع.
- لا يمكن بكامل المجموعة، بل كل فرد على حدة، وبشكل خاص ومميز طيلة حياته.
- لا يمكن أن تقوم وظيفتها دون استبطان أذهان البشر واستكشاف أرواحهم واختبار أنفاسهم، فهي تقتضي معرفة الوعي أو الضمير وتوجيهه.
راجع كتابنا: التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو المنتخب العربي، بيروت 1994، ص197-198.
7-
Léo Strauss: Droit naturel et histoire, Plon 1954.7
- Kant: « Vers la Paix Parpetuelle: Esquisse Philosophiques » in Kant: vers la Paix Perpetuelle, que s’ignifie s’orienter dans la Pensée ? qu’est ce que les lumières ?
8-
- Flammarion 1991, P. 84-97
9-
- Hegel: Principes de la Philosophie du droit trad. J.F. Kervegan, PUF 2003.9
راجع إجمالا حول فلسفة الحرب في الفكر الحديث:
- - Alexis Philonerko: Essai sur la Philosophie de la Guerre Vrin, Paris, 1988.
10- عكست نظرية فوكو ياما التي راجت في مطلع التسعينات هذا التصور المتفائل للنظام الدولي:
- F. Fukuyama: the end of history and the Last man, The Free Press1992.
11- راجع مثلا:
- P. Delmas: Le Bel avenir de la Guerre, Gallimard, Paris, 1990.
12-
Charles Krauthamer: Tthe unpolar moment » Foreign Affairs. 1990-1991/1, PP.22-3312
13- راجع في هذا الباب كتاب ماريو باتاتي الهام:
- Mario Bettati: le Droit de l'ingérence: Mutation de l'ordre International, Odile Jacob, Paris, 1996.
وفي الكتاب المذكور يعرف باتاتي حق التدخل في الصفحة (12) قارن بـ: السيد ولد أباه: "الحرب والشرعية في عصر العولمة: حق التدخل الإنساني ومفهوم السيادة الناقصة" - في اتجاهات العولمة: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001، (ص. 51 ـ 82).
14- راجع:
- Bertrand lemenier: La notion de Guerre Juste, Reveue et Gorigée par le libéralisme. Le Quebequois Libre, 12/4/2003, n° 523.
- راجع نقد هذه النظرية في:
- Przetacznik Frank: The illegality of the concept of just war under contemporary international Law Revue de droit international des Sciences diplomatiques et Politiques, Vol: 70, afl. 4, P: 245-298/1992.
15- راجع عرض أطروحة غسان سلامة في:
السيد ولد أباه: التحالف الدولي ضد الإرهاب: الثغرات والعوائق، الشرق الأوسط، 7 أكتوبر 2001.
16- راجع في هذا الباب:
- Condoleeza Rice: Promoting the national inserest Foreirgn Affairs Jan-Feb 2000.
Normann Podhoretz: How win World War IV? Commentary, Fev. 2002.
راجع أيضا:
- Bruno Tetrais: La Guerre Sans fin: l'Amerique dans l'engrenage، La Republique les idées, Seuil، 2004, PP. 32-38.
- Pierre Hassner et Justin Vaisse: Washington et le Monde: Dilemmes d'une superpuissance CERI/Autrement, 2003, PP. 111-119.
17- راجع حول فكر المحافظين الجدد وأصولهم: الفضل شلق: عودة الاستعمار والحملة الأمريكية على العرب دار النفائس، بيروت، 2004، ص11-45.
18- كثر الحديث حول أصولية بوش الذي ينتمي للكنسية المنهجية، مثله مثل ديك تشيني نائب الرئيس ووزير العدل أشكروفت، وهو من المولودين ثانيا Born-again، وقد أحاط نفسه بالإنجيليين المتطرفين الذين يكونون قاعدة شعبية عريضة يصل عددها 70 مليونًا في الولايات المتحدة. ويحتوي خطاب الرئيس بوش وأركان إدارته مفاهيم ورموز دينية بارزة، راجع مثلا:
20-
- Henri Tincq: Le choc de deux fondamentalismes, le Monde 1/4/2003.
21-
Léo Strauss: La cité et l’homme, Agora 1987, P. 10.19
Ibid. P. 19.20
21- يقول ليوشتراوس في مقدمة كتابه "الليبرالية القديمة والحديثة "أن المحافظين اليوم هم التقدميون غدًا، أنهم ليسوا المدافعين عن العرض، لكنهم المدافعون عن المثل الديمقراطية في صياغتها الأولى، تلك الصياغة التي تقتضي حضور فضيلة الاعتدال أكثر من التصريحات الاستفزازية النارية لدى التقدميين اليوم". راجع:
- Nicholas Xenos. Léo Strauss and the the rethoric of war on terror Logos, Spring 2004.
Carl Schmitt: Quatre chapitres sur la théorie de la Souverainté (1922) in
théologie Politique Gallimard 1988, P. 15. 22
23- Ibd. P. 22
24- راجع:
- Carl Shmitt: La dictature (1921), Seuil, 2000.
25- حول علاقة ليوشتراوس بالمحافظين الجدد راجع:
- Alain Frachon et Daniel Vernt: Le stratège et le Philosophe, Le Monde 16/4/2003.
26- حول المدارس الاستراتيجية الأمريكية راجع:
Pierre Hassner et Justin Vaïsse: Washington et le Monde, PP. 16-32.
Lawrance f. Kaplan/William Kristol: The War over Iraq: Saddam’s Tyranny and America Mission Encounter Books, 2003.27
28- Ibid. PP. 37-75.
29- Ibid. P. 79-125.
30-
Jean Bethe Elshtain: Just war against terror: the Bruden of America Power in a violent World Basic 2003.
31-
James Turner Johnson: Jihad and Just war Firs things 124 June/july 2002, 12-14
راجع له:
- The Holy war idéa in Western and Islamic, traditions Pennslyvania State
University Press 1997.
32-
- George Weigel: Moral Clarty in a time of war First things January 2003.
33- راجع مثلا:
- Keith Palvischek. Just War and Conterorism: The Center of Public Justice (24/9/2001) .
34- راجع المحاضرة في:
- Michael Novak: A Symetrical Warfare and Just War. National Review February 2003.
35- راجع الرسالة والتعليق عليها: رضوان السيد: الرصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، دار الكتاب العربي، بيروت 2004، ص59-75..
36- راجع مثلا: الدراسة النقدية الهامة لنيال فرغيسون:
- Niall Ferguson: The Price of America's empire the Penguin Press 2004.
37- راجع:
- Iganio Ramonet: De la Guerre Perpetuelle Le Monde Diplomatique, Mars 2003, PP. 1, 18-19.
Alain Gras: La Fragilité de la Puissance, Fayard 2003.38
39- راجع:
- Paul Virilio: Ville Panique Galillée 2004.
40-
Jacques Derrida: qu’est ce que le terrorisme ? Monde Diplomatique, Fevrier 2004, P. 16.
41-
- Jean Baudrillard: l'ersprit du terrorisme, Galilée 2002.
راجع له أيضًا:
-
Power inferno Galilée 2003 –
- - La Violence du Monde (avec Edgar Morin) Institut du Monde Arabe 2003.
42-
- Jacques Denida: Voyous Galilée 2003
43- راجع أيضًا مقالته الهامة:
- J. Habermas: La Statue et les révolutionnaires, Le Monde 3/5/2003.
- Qu’est ce que le terrorisme? Le Monde Diplomatique, Fervrier 2004, P. 17