مسيحية ضد الإسلام حوار انتهى إلى الإخفاق
مسيحية ضد الإسلام حوار انتهى إلى الإخفاق
لودفيغ هاغمان */ مراجعة أسرة التحرير
عدّ ريتشارد سوذرن Richard Southern دارس العصور الوسطى البارزة: القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حقبة التعقل والأمل في العلاقات المسيحية الإسلامية. وهوعندما ذهب لذلك، استناداً لدالفرني وآخرين، ما كان يقصد انفتاحاً من جانب المسلمين، الذين كانوا لا يزالون يعانون من الهجمات الصليبية على ديارهم، كما كانوا يعانون من ضغوط حروب "الاسترداد" بالأندلس، بل كان يرى، مثل دالفرني من قبل، ودانييل من بعد، أنّه وبالتساوق مع الأساطير والأوهام حول الإسلام والمسلمين ظهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، محاولات جادة، ولأوّل مرّة لفهم الإسلام، ولمخاطبة المسلمين، وترجمة القرآن، وظهرت مدارس للترجمة عن العربية، وازدادت رحلات المبشرين والمستطلعين وزياراتهم.
ذكر بطرس (المبجل venerabilis) رئيس دير كلوني، في تعليل تكليفه لروبرت كيتون، بترجمة القرآن أنّ الإسلام، وإن لم يعد يشكّل خطراً عسكرياً حاضراً وقويا، فهوخطر كبير من الناحية الدينية والفكرية. إنّه في الأصل هرطقة مسيحية، وهي كما ذكر يوحنا الدمشقي، الذي ترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر أيضاً، آخر الهرطقات وأشدها خطراً، بل إنّها الأساس لكل الهرطقات التي كانت تجتاح أوربا آنذاك! وكما كان ذلك رأي كثير من زملائه، وفي مقدمتهم برنار دي كليرفو، الذي لم يقتنع بفائدة ذلك، إمّا لأنه ليس أولوية، أولأنه قد يحدث ضرراً وتشوشاً في أذهان السذج.
لكن المشروع تمّ، وهذا أمر مهم، مع سوء الترجمة. وما استطاع كثيرون معرفة الترجمة أوقراءتها. لكن في الوقت نفسه كان اللاّهوتيون الأوربيون، وأساتذة الجامعات، يتعرفون إلى ابن سينا، ثم إلى ابن رشد. كما كان العائدون من الأرض المقدسة يتحدثون عن كثرة المسلمين، وعن تقدمهم. وكانت خيبات الحملات الصليبية تحدث آثاراً مضادة أومتعارضة. فمن جهة، كان رجال مثل يواكيم دي مونتفيوري، يتنبهون إلى بقاء الإسلام أحد الأخطار الثلاثة التي تتهدد أوربا والمسيحية، فيدعون لمزيد من الحملات الصليبية. ومن جهة ثانية كانت تلك الخيبات، تصرف لاهوتيين آخرين عن الاهتمام بالخطر الإسلامي، إلى الاهتمام بالمشهد الداخلي بأوربا، إذ لا تعليل للهزائم إلاّ غضب الله نتيجة الفساد المنتشر في الأوساط الدينية والسياسية.
وفي لحظة تاريخية حاسمة، نحوأواسط القرن الثالث عشر الميلادي، انقض حدث هائل غير مجاري الاهتمام أوأنه حولها لعقود قادمة: كان فرسان الحملة الصليبية الخامسة يحاصرون دمياط، ويرجون أن تسقط مصر كلياً في قبضتهم؛ عندما نمي إليهم أنّ ملكاً مسيحياً مشرقياً يقود جحافل ضخمة انطلاقاً من جورجيا، وقد اجتاح بلاد فارس، وهويتقدم لاجتياح بغداد، وإنهاء الإسلام فيما وراء الفرات. وإذا تحقق الأمل خلال شهور، فإنّ معنى ذلك أن يلتقى المنتصرون في مصر والشّام من المسيحيين الغربيين، بأولئك المسيحيين المشرقيين؛ فيزول الإسلام من الأرض! ومع أنّ ذلك كله ما كان غير وهم هائل؛ فقد كانت له آثاره الكبرى. الملك (المسيحي) داود ما كان غير جنكيز خان؛ لم يصل إلى بغداد؛ بل بلغها حفيده هولاكوبعد عقدين. والصليبيون ما انتصروا بدمياط بل حوصروا وانتهت الحملة بهزيمة كاسحة بيد أن المغول ظلّوا خطراً هائلاً على المسلمين، وما عاد الأوربيون بحاجة لقتال المسلمين بأنفسهم. ثم إنّ الأمل ظلّ قائماً بإمكان التحالف معهم ضدّ الإسلام في الأرض المقدسة وما حولها. ولذلك جرى تبادل البعثات والرسائل، والتعرف أكثر إلى هؤلاء الحلفاء(غير المسيحيين؛ ولكن غير المسلمين أيضاً)، الذين أقيمت على ظهورهم تلك الأماني العراض، ولهذا أمكن لريمون لول أن يكتب حتى بعد سقوط عكا بأيدي المسلمين في عام(1291م): "إذا عاد المبتدعون النساطرة عن هرطقتهم، واعتنق التتار المسيحي؛ فيمكن بسهولة القضاء على المسلمين". والمعروف أنّ الشّعوب التركية هذه سرعان ما أقبلت على اعتناق الإسلام، كما أن النساطرة(الذين صعدوا قليلاً بصعود المغول) سرعان ما اختفوا عن مسرح التاريخ. وانشغلت أوروبا بصراعاتها الداخلية الدينية والسياسية في القرن الرابع عشر؛ في الوقت الذي كان فيه العثمانيون الترك يطلّون على المسرح الأوربي فيهزمون الصّرب، ويسقطون القسطنطينية، ويظلّون لقرون طويلة في البلقان.
إذن، عدّ سوذرن القرن الرابع عشر قرن الإعلان عن الإخفاق في إقامة علاقة صحية ومعقولة بين المسيحيين الأوروبيين والإسلام. وهويعني بالعلاقة الصحية ليس السّلام أوتوقف الحروب بين الطرفين؛ بل مدى قدرة اللاهوتيين الأوربيين على فهم عالم الإسلام دينا وثقافة وبشراً. وهويصل إلى استنتاج مؤداه أنّ القرن الرابع عشر كان قرن انقفال وتراجع على الإسلام وعلى غيره.
وهذا التّوجه لا يراه لودفيغ هاغمن في كتابه المترجم الذي نقدم له، فبعد استعراض تفصيلي دقيق لآثار القرنيين الثاني عشر والثالث عشر(والقرن الأخير بالذات)؛ ينصرف لدراسة محاولات أخرى جادة لفهم الإسلام في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ما عدها الآخرون كذلك: محاولة فرنسيس الأسيسي التبشيرية، ومحاولة توما الأكويني الدراسة النّاقضة. فقد ذهب الأسيسي إلى مصر لتبشير الملك الكامل بالمسيحية، وكتب توما الأكويني كتابيه: (منطق الإيمان)، و(الخلاصة ضد الأميين). وقد استخدم فيهما أساليب علم الكلام التي تطورت لدى المسلمين، لمحاجتهم بشأن قضايا أساس مثل ألوهية المسيح، والثالوث، والقضاء والقدر، والإيمان والكفر. والأمر ذاته يحدث لدى هاغمن مع وليم الطرابلسي، الدومنيكاني، الذي تنقل بين المدن الصليبية الباقية على السّاحل في القرن الثالث عشر، وكتب رسالته: "مذكرة عن محمد". كما كتب معاصره الأحدث سنا، ركلس دي مونتي كروتشي كتاب: "ضد شريعة المسلمين". ولا شك أنّ ريمند لول كان بين اللاهوتيين الأكثر دقّة في عرض شرائع الإسلام: لكن هاغمن تبعاً لألتر يذهب إلى أنّ المبشّر فيه غلب على المفكر.
ونشهد برأي هاغمن، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر محاولتي كل من نقلاوس فون كيس، ومارتن لوثر. أمّا الأول فقد كتب مجلده الضخم: (نظرة في القرآن)، والذي أراد التدليل فيه بكل سبيل على أنّ المسلمين، وتبعاً للقرآن ذاته، عليهم أن يعتنقوا المسيحية. وقد تكون فصول فون كيس عن المسيح في القرآن، الأكثر تفصيلاً حتى القرن التاسع عشر. أمّا لوثر فما كان يقصد إلى تبشير المسلمين بالمسيحية؛ بل ما كان يشغله هم الترك، وكيف ينبغي أن يواجهوا. ولذلك قرأ القرآن لإثبات زيفه، وصبّ جام غضبه على الترك الغزاة! لكنه ظلّ على اعتقاده أنّ البابا شر من الترك، وأنّ علة قوة الترك الفساد في الكنيسة.
ويعود هاغمن لاستعراض مثلين عن فهم الإسلام في القرن الثامن عشر(عصر التنوير) هما هدريان رلاند في كتابه: (اللاهوت المحمدي)، ولسنغ في مسرحيته: (ناتان الحكيم). ويسمي المؤلف القرن التاسع عشر: (التبشير في ظلّ الاستعمار)، لكنه لا يقتصر على ذلك، بل يقدم عرضا موجزاً لبدء البحث التاريخي النقدي في الإسلام(الإستشراق) ذاكراً غولد تسيهر ونلدكه وفون كريمر وفلهوزن وكايتاني وآخرين. والواقع أنّ المؤلف ما اعتنى بعصور الأنوار والاستعمار كما اعتنى بالقرون السابقة. وإنما كان قصده تبيان مصائر العلاقة خلال القرون الوسطى، وجاءت فصوله الأخيرة تذييلاً للكتاب، بما في ذلك صفحاته القليلة عن الإسلام في أوروبا اليوم، وفي ألمانيا تحديداً، ومشكلاته مع الدولة والجمهور.
وفي مقابل ذلك التذييل للكتاب بالمضي به حتى النصف الثاني من القرن العشرين مع المجمع الفاتيكاني الثاني، هناك من ناحية ثانية فصلان تقويميان عن نشوء الإسلام وعن علائقه بالمسيحية في نصوصه وتاريخه وحركته الفاتحة حتى بداية الحروب الصليبية وحروب "الاسترداد".
لماذا أخفقت العلاقة في القرون الوسطى؟ وما الموقف اليوم؟
يرى كثير من الباحثين الأوروبيين أنّ الإخفاق في التلاقي والاعتراف علته الانقفال المسيحي، ثم الاستعلاء الاستعماري، وأنا أرى أن إخفاق مساعي القرون الثلاثة(12-15) سببه الحروب الصليبية، ثم الانقسامات المسيحية الداخلية. وأخيراً اقتناع الأوروبيين بأن غزوالعالم الجديد أجدى لهم من تفهم العالم القديم، والتّصرف معه على قدم المساواة؛ وصولاً لاستعماره وإساءة فهمه، مع وجود البحث التاريخي النقدي، وأنا أوافق المؤلف على أن موقف مجمع الفاتيكان الثاني بين عامي(1962- 1965م) هوخطوة كبرى إلى الأمام كما أن مواقف البابا والكنيسة الكاثوليكية في العقد الأخير من السنين، تؤسس لعلاقات جديدة وجدية بين الديانتين. لكن الذي يعرفه المؤلف ونعرفه أنّ الكنائس ليست الآن من يقرر أويشارك بفعالية في قرارات الغربيين الأمريكي والأوربي إزاء هذه العلاقة المتوترة، والتي لا جدال في سوئها وترديها في السنوات الأخيرة.
يستحق هذا الكتاب قراءة المهتمين والمتخصصين، كونه وثيقة نادرة في حساسيتها وذكائها ومقاصدها في إقامة علاقة صحية وندية بين المسيحية والإسلام، وبين الشرق والغرب. وهوفي سبيل بلوغ ذلك يقدم رؤى تفصيلية عن البنى وخلاصات اللاهوتيين والمؤرخين من دون أن يجور اللاهوت على التاريخ، ومن دون فقد السياق أواصطناع المعالجات السريعة.
**********************
*) لودفيغ هاغمان : مسيحية ضد الإسلام ، حوار انتهى إلى الإخفاق ، ترجمة محمد جديد ، ط. دار قدمس بدمشق، 2004م .