إشكاليات الحوار بين الحضارات والتحدّيات المعاصرة

إشكاليات الحوار بين الحضارات والتحدّيات المعاصرة

أحمد الموصللي*

يواجه العالم الإسلامي في كل أرجائه مظاهر متشابهة تؤثر في الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الديني، إلاّ أنّ العالم الإسلامي بما فيه الوطن العربي يفتقر إلى رؤية جيواستراتيجية واضحة وفاعلة تمكّنه من التعامل مع العالم غير الإسلامي، وخاصة العالم الغربي، كما يفتقر إلى توجّه حضاري وديني استيعابي للأديان الأخرى، وكذلك لحضارات العالم الحديث. إذا إنّ العالم الإسلامي وفي مجال بحثنا هنا لم يتمكن فعلاً من الاتفاق حول القضايا الإستراتيجية الكبرى والأخذ بمواقف محددة من مشاريع مستقبلية لمنطقتهم، أي الشرق الأوسط مثل مشروع النظام الشرق أوسطي أوالشراكة الأوروبية، أوإستراتيجية موحّدة تجاه منطقة الخليج، كما أنّ المسلمين يختلفون في أكثر الأمور الإٌقليمية وحتى الداخلية منها، كالموقف من الحركات الإسلامية أوالغرب أوتحديد مفهوم الإرهاب أوحتى تحديد المصالح الدينية والحضارية والسياسية والاقتصادية المشتركة، وبالتالي سياسات الدول العربية والإسلامية حول القضايا العالمية التي تهم العالم الإسلامي، أي العلاقات داخل النظام العالمي الجديد.

لقد أدخل المسلمون في القرن العشرين دون أن يدخلوا فيه، فتحوّلت قومياتهم إلى مشكلات إسلامية مازالت تتصدر أولويات البنية الفكرية والأيديولوجية وحتى الجيوإستراتيجية للعالم الإسلامي، إذ تحوّل القرن العشرون إلى قرن هزيمة، فديارهم استعمرت وقسّمت، قوميّاً وطائفيّاً ومذهبيّاً، وكذلك جزئت جغرافية العالم الإسلامي إلى أقاليم ومناطق ودويلات وأنظمة، فتحوّلت تلك الحضارة الإسلامية العظيمة، والتي كان لها شؤون وشجون في مجالات الفكر والسياسة والعلوم والتكنولوجيا في العالم كله إلى حضارة ارتدادية وإلى أمة هزمت قومياتها وحوصرت شعوبها وجُمّدت عقولها.

إشكاليات الحوار:

تحدّد هذه الورقة أربع إشكاليات أساسية يعاني منها الحوار، والتي لابد من معالجتها من أجل وضع الحوار مع الآخر في إطاره الحقيقي والصحيح، وتتبلور هذه الإشكاليات في أربعة أمور، الأولى: الهيمنة الفكرية الغربية، الثانية: الهيمنة السياسية الغربية، الثالثة: صعود الأصولية والإرهاب، الرابعة: طغيان ثقافة الاستبداد وفقدان الثقافة الإسلامية الإيجابية، ومن ثم تظهر هذه الورقة التحدّيات التي يواجهها العالم الإسلامي، وهي تحدّي العمل السياسي والاستراتيجي، أولاً: وتحدّي العمل الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والتربوي، ثانياً، وأختتم بطرح بعض الاقتراحات من أجل تفعيل المنظومة الإسلامية.

الإشكالية الأولى: الهيمنة الفكرية الغربية:

من المحتمل أن يكون العرب يواجهون الآن واقع مقولة "نهاية التاريخ" (1)، ونهاية التاريخ هي مقولة أيديولوجية تزامنت مع صعود مقولة أيديولوجية جديدة هي "النظام العالمي الجديد"، والمقولة الأولى مبرر لسيطرة المقولة الثانية، يقول فوكوياما: إنّ شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظام حكم ظهر في العالم كله في السنوات القليلة الأخيرة، انتصرت على إيديولوجيات مناوئة كالفاشية والشيوعية، وأهم من هذا -كما يقول فوكوياما- أنّ الديمقراطية الليبرالية قد تشكّل نقطة انتهاء التطور الإيديولوجي للبشرية والشكل النهائي للحكم البشري، بهذا المعنى فهي إذاً نهاية التاريخ.

لذا فإن فوكوياما يتبنى المقولة بأنّ هناك تطوراً ثابتاً للمجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية قائمة على الاستعباد والزراعة، إلى مجتمعات تيوقراطية وارستقراطية وإقطاعية، ثم إلى مجتمعات حديثة تتبنى الديمقراطية الليبرالية القائمة على الرأسمالية، فلن يكون هناك تقدّم جديد في تطوير المبادئ والمؤسسات لأنّ الأسئلة العظيمة قد أجيب عنها، إذاً نهاية التاريخ عند فوكوياما هوانتصار إيديولوجي لليبرالية الديمقراطية.

والدليل على هذا أنّ الربع الأخير للقرن العشرين شهد الضعف الاقتصادي في أهم الأنظمة الديكتاتورية، سواء العسكرية اليمينية أوالشيوعية واليسارية، فمن أمريكا اللاتينية إلى أوروبا الشرقية ومن الاتحاد السوفييتي وحتى الشرق الأوسط وآسيا، تتساقط الحكومات الواحدة تلوالأخرى ومع أن معظم هذه الحكومات لم تستبدل بحكومات ليبرالية، فإن فوكوياما يرى أنّ الديمقراطية الليبرالية ما تزال الهدف السياسي المنطقي الوحيد في هذه المناطق المختلفة والثقافات المتعددة، إذ أنّ المدخل الأول إلى الحوار مع الحضارة الغربية هوقبول هذه الديمقراطية كأساس للبنيان البشري.

لذا يؤسس فوكوياما "نهاية التاريخ" العالمي على ضرورة استعمال العلوم الطبيعية كمنظم لآلية وتوجّه هذا التاريخ، فالعلوم الطبيعية الحديثة هي الناظم الاجتماعي الوحيد الذي يؤمن اتفاقاً عامّاً من حيث الكم والتوجّه، بالرغم من أن تأثيرها على السعادة الإنسانية غير واضحة تماماً، فالغزوالمستمر للطبيعة عن طريق المنهج العلمي سيؤدي إلى تطور العلوم الطبيعية وستفضي إلى مفاعيل موحّدة في المجتمعات التي توظفها، وهذا لسببين، الأول: أن التكنولوجيا تمكّن الدول التي تتبناها من الحصول على مقدرات عسكرية متفوقة، ولهذا فإن كل الدول ستتجّه إلى التطوير الدفاعي لإمكاناتها، الثاني: إنّ العلوم تؤدي أيضاً إلى تنمية الإنتاج الاقتصادي، فالتكنولوجيا تسمح بتراكم ثروات لا حدود لها، وهذان السببان يؤديان إلى تناسق كل المجتمعات في سعيها للحصول على هذه العلوم والتكنولوجيا بغض النّظر عن خلفياتها الثقافية وحضاراتها، فكل الدول التي تسعى إلى التنمية الاقتصادية لابد أن تشبه بعضها بعضاً، فعلى هذه الدول أن تقوم على أساس دولة مركزية واستبدال الأشكال التقليدية للتنظيم الاجتماعي كالطائفة والعائلة بأشكال أكثر ملائمة اقتصاديّاً وتزويد مواطنيها بثقافة عامة، وتتصل هذه الدول بأسواق عالمية وتنتشر فيها ثقافة استهلاكية عالمية، وتدل أحداث الاتحاد السوفييتي والصين ودول اشتراكية أخرى على أنّه بالرغم من تمكّن الاقتصاديات المركزية من التوصّل إلى مستوى عالٍ من التصنيع إلاّ أنّه يبقى الناس والأشياء والمبادئ التي ترتبط به، ويمكن تسمية هذا الاعتراف احترام الذات، إنّ المعارك التاريخية الأولى، بحسب فوكوياما هي معارك دارت حول مثل هذا الاعتراف وأدّت هذه المعارك إلى قسمة المجتمع الإنساني إلى طبقة الأسياد، والذين لا يتورعون عن القيام بأي عمل وحتى المخاطرة بحياتهم، وطبقة العبيد، والذين سيطر عليهم وعلى أعمالهم الخوف من الموت، إلاّ أنّ المجتمعات الأرستقراطية التي نشأت بأشكال مختلفة لم تؤد إلى إرضاء حاجة الإنسان من اعتراف الآخرين به، وحتى إنها لم تؤد إلى اعتراف الأسياد بعضهم ببعض، إلاّ أنّ الثورات الديمقراطية أزالت الفرق بين السيد والعبد وجعلت العبد سيداً على نفسه عن طريق مبدأ السيادة الشعبية وحكم القانون، واستبدلت هذه الثورات الاعتراف غير المتكافئ بين السيد والعبد باعتراف متبادل عام، حيث تعترف الدولة بالأفراد عن طريق منحهم الحقوق المتساوية، وأنّ هذا الاعتراف هذا هوحلقة الوصل بين الاقتصاد الليبرالي والسياسة الليبرالية، وهكذا فإنّ هذا الاعتراف هوالمحرك الأول للتاريخ مما يسمح بإعادة تفسير الظواهر العديدة كالثقافة والدين والقومية والحروب، لهذا يتحتم عليهم التحوّل إلى أسياد من أجل تمكنهم من محاورة الغربيين.

إلاّ أنّ نجاح السياسة الليبرالية والاقتصاد الليبرالي يقوم غالباً على أشكال لا عقلانية من الاعتراف، إنّ الديمقراطية بحاجة إلى توظيف فكر لا عقلاني بمؤسساتها الديمقراطية وإلى تطوير فن إشراك المجتمعات الصغيرة في المجتمع الكبير، إنّ مثل هذه المجتمعات تقوم عادة على مبادئ الدّين والقومية ومبادئ أخرى أقل عالمية أوشمولية من مبادئ الدولة الليبرالية، كذلك فإنّ الاقتصاد الليبرالي بحاجة إلى دافع خارجي لا عقلاني، إنّ الصراع هوالاعتراف عند فوكوياما، وفهمه يؤدي إلى فهم السياسات الدولية، فالصراع الدولي كصراع الأفراد يؤدي إلى الاستعمار ونشوء إمبراطوريات عالمية.

وأكثر من هذا أنّ فوكوياما قد حَوَّل صراع الإنسان مع نفسه ومع الآخرين إلى صراع تكنولوجي، وبالتالي فإنّ إنهاء هذا الصراع ذوطبيعة تكنولوجية، إلاّ أنّ التكنولوجيا وعلى أهميتها القصوى في حياة البشرية لا تعطي للإنسان المعنى الكفيل بتحقيق إنسانيته، فإنسانية الإنسان لا تنبع من قدراته العلمية فحسب بل تنبع من أعماق تلك النفس أوالروح التي تتخطى في معطياتها وسعادتها وشقائها الأمور التكنولوجية والتقنية إلى أمور لا يمكن للتكنولوجيا أن تتوصل إليها، لقد حول فوكوياما موضوع التاريخ وفلسفته والذي هوموضوع تحقيق الإنسان لإنسانيته والتسامي بالماديات إلى أهداف أسمى تتعلق بالإرادة الإلهية إلى تاريخ التكنولوجيا وسيطرة الإنسان عليها، وقد دلنا التاريخ على أنّ اندثار جميع الإمبراطوريات والدول العظمى لم يكن لأسباب تقنية بحتة، بل لأسباب تتعلق بالانهيار الأخلاقي والفكري بالدرجة الأولى، إنّ عقلانية التكنولوجيا لا تعني بالضرورة غايتها، بل تعني شموليتها وسيطرتها على اللاعقلاني في الأعمال والوظائف، ومع التأكيد على ضرورة عقلنة التكنولوجيا وعلومها من أجل التوصّل إلى أقصى درجات العلم المهني إلاّ أنّ هذا في حدّ ذاته لا يؤدي إلى سعادة الإنسان وتحقيق الذات الإنسانية.

ويربط فوكوياما بصورة غير مباشرة بين نظريته لنهاية التاريخ بنشوء ما يسمى "النظام العالمي الجديد" والذي يعتبر أنّ هناك مركزاً عالمياً بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ذات الأيديولوجية الديمقراطية الليبرالية وبداية هيمنة العالم الغربي على العالم كله، تؤدي هذه الرؤية إلى تجاهل قوى كبرى في العالم والتي هي إمّا دول غير ديمقراطية وغير ليبرالية كالصين أوديمقراطية غير ليبرالية كالهند وباكستان، فالعالم اليوم يتكوّن في أكثريته من دول ديمقراطية وغير ليبرالية، كما أنّ تغلغل الرأسمالية كنموذج للنظام الاقتصادي لا يعني بالضرورة تبني الديمقراطية الليبرالية، فاليابان وهي أحد النماذج التي تبنّت الرأسمالية المتقدمة والديمقراطية مع رفض الليبرالية وتبنّي مفاهيم حضارية أصيلة.

كما أن العالم الإسلامي في معظم مناطقه يتحوّل مجدداً إلى الإسلام ليس فقط كدين، بل أيضاً كنظام حكم واسلوب حياة، فالمسلمون قد بدأوا بالفعل عملية أخذ النقاط الإيجابية للديمقراطية عن طريق الشورى مع ضوابط الشريعة الإسلامية، كما يتبنّون أسس الحريّة والعدالة والمساواة من ضمن مقاصد الشريعة، كما أنهم يأخذون بالأسس الإيجابية للرأسمالية ويضعون فوقها ضوابط من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وبمعنى آخر، لقد أثّرت وستؤثر الديمقراطية الليبرالية في الفكر الأيديولوجي العالمي بكل تشعّباته، إلاّ أنّ شيوع الديمقراطية الليبرالية لا يعني تبنّيها بالمطلق وفي العالم كله، قد تكون الديمقراطية النموذج الغربي الذي يريد أن يجعله فوكوياما أساس فكره الأيديولوجي والذي يريد الغرب أن يفرضه على العالم غير الغربي، إلاّ أنّ قوى عديدة في العالم، وعلى رأسها العالم الإسلامي، ستأخذ من الديمقراطية ومن الليبرالية ما يناسب تراثها الأصيل، ومن ثم قد تكون الديمقراطية الليبرالية إحدى الوسائل التي توظّفها الحضارات والثقافات الأخرى من أجل صحوتها ويقظتها، والتي ستقف حجر عثرة أمام زحف الديمقراطية الليبرالية وأمام سيطرة العالم الغربي على العوالم الأخرى (2).

الإشكالية الثانية: الهيمنة السياسية الغربية:

تصبح هذه الحتمية التاريخية عند فوكوياما لدى صموئيل هنتنغتون، والذي نظر إلى مفهوم صراع الحضارات، مجرّد ترجيح أنه من المؤكد أن في إمكان الولايات المتحدة تجنّب صراع محتمل بين الغرب والإسلام إذا ما ابتعدت عن إسرائيل؛ كما يمكن للدول الإسلامية الإسهام في ذلك بتعزيز ديمقراطيتها، داعياً العرب إلى الاختيار بين نموذج تنظيم القاعدة أوإمارة دبي التي تثبت أنّه يمكن التقدّم من دون فقدان القيم التقليدية، وجاء كلام هنتنغتون أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد خلال ندوة عقدت في دبي، ومما قاله: "إذا تمكن أسامة بن لادن من جذب النّاس إلى قضيته فإنّ هذه الحرب تصبح حقّاً صدام حضارات".

وأضاف إلى ذلك أنّه ينبغي على الغرب العمل على أربعة محاور لتقليل احتمال نشوب معركة مع الإسلام، وأوضح أنّ على الولايات المتحدة أولاً التخلّي عن فرضيتها على أنّ ثقافتها ثقافة عالمية وأنّ الآخرين يرغبون في أن يكونوا مثل الأمريكيين، وعليها ثانياً، وقد قامت بعمليات عسكرية في (16) دولة أجنبية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي الحدّ من العمليات العسكرية الخارجية، إلاّ عندما تكون مصالحها الحيوية مستهدفة، وثالثاً إنّ "الولايات المتحدة في حاجة إلى أن تباعد بينها وبين إسرائيل، وأن تشارك في الجهود التي تستهدف إقامة دولة فلسطينية، عاصمتها القدس التي يمكن اقتسامها مع الإسرائيليين، وعليها أن تدعم الجهود الخاصة بضمان إزالة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه أقرّ أنّ ذلك سيكون مشروعاً بالغ الصعوبة، كما أنّ هناك مسلمين في فلسطين والشيشان وكشمير تحكمهم حكومات غير إسلامية، وكذلك يخضع الفلسطينيون لحكم إسرائيل، وسيكون من المرغوب فيه كثيراً بالنسبة إلى هؤلاء المسلمين ممارسة حقّهم في تقرير المصير، وذلك في إمكان الغرب، رابعاً أن يساعد في تنشيط التنمية الاقتصادية في الدول الإسلامية الفقيرة بطرق عدّة منها اتفاقات للتجارة الحرّة كالاتفاق بين الولايات المتحدة والأردن.

عن دور الدول الإسلامية قال: إنها يمكنها أن تسهم في ذلك من خلال تبنّي التحديث بديلاً عن التشدد الإسلامي، وكذلك أن تدرك أنّ الحكومات القمعية وغير الديمقراطية غالباً ما تنتج معارضة متطرفة، و"هناك عنصران مؤثران هنا، أحدهما أنّ معظم الدول الإسلامية ليست دولاً ديمقراطية، وتقمع المنشقين وحتى المعارضة المعتدلة، وهوما يتسبب غالباً بتشدد حركات المعارضة "، والثاني أنّ الحكومات الإسلامية تنتهج سياستين بالنسبة إلى الغرب، فهي على المستوى الحكومي تتعاون معه، وعلى المستوى المحلي تتسامح معه وتشجّع الاتجاهات النقدية، وتشجّعها من خلال البيانات في المدارس والمعاهد الدينية وتنشر العداء للغرب".

وشدّد أنّه "لابد من الاختيار بين القاعدة ودبي"، في إشارة إلى إرهاب تنظيم "القاعدة" الدور الذي تضطلع به إمارة دبي كقاعدة للتكنولوجيا المتقدمة، وأنّ "العالم العربي يمكن أن يتطور من دون فقدان قيمه التقليدية"(3)، ومن المعلوم أن هنتنغتون هوالذي أدخل مصطلح صراع الحضارات في القاموس الأكاديمي أواسط التسعينات عندما استخدمه عنواناً لكتاب أكّد فيه أنّ الثقافة الغربية التي تعاني الانكماش تواجه تحدّيات من الصين الصاعدة والصحوة الإسلامية الناهضة.

نسوق كل هذا من أجل القول بأنه قد آن الأوان للدول العربية وشعوبها للعمل على بلورة رؤية عصرية للغرب عوضاً عن الصور النمطية السائدة في العالم العربي التي تعيق الحوار بين الحضارات، وكذلك العمل على تطوير صورة حضارية عن العرب والمسلمين في الغرب عوضاً أيضاً عن الصور النمطية السائدة الآن التي تعيق أيضاً الحوار بين الحضارات، إنّ الحرب الأمريكية اليوم على الإرهاب ليست هي الهدف، إذ إنها حاجة نفسية للتوازن في أمريكا بعد اهتزاز التوازن الداخلي للنظام الأمريكي بعد 11 أيلول سبتمبر، فالحرب الحقيقية ليست فقط ضد الإرهاب، ولكنها تشن من أجل إعادة المشروعية للنظام السياسي الأمريكي الذي خسر من مشروعيته بعد الضربة العسكرية على البنتاجون، فالولايات المتحدة اليوم قادرة على الهيمنة على العالم، مع علمها بوجود معارضة من روسيا والصين وأوروبا وغيرها، وهي اليوم تعيد تجربة حرب الخليج.

المهم في كل هذا أنّ الولايات المتحدة أدركت اليوم أنها لا تستطيع القيام بعملية تغيير بنيوية في العالم الإسلامي إلاّ إذا حظيت بموافقة إسلامية، وهذا الغطاء الإسلامي لا يمكن أن يتحقق إلاّ بغطاء عربي، والغطاء العربي لا يمكن أن يغطّي المشروع الأمريكي إلاّ بغطاء فلسطيني، وهذا الوضع الفلسطيني هوعائق أمام تطوّر الحوار الحقيقي الإسلامي(العربي) والغربي (الأمريكي)، وهذا ما دعا بوش إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، ولذلك قال شارون: نحن لسنا مرشحين لأن نكون تشيكوسلوفاكيا، لكن ما يقوم من تحالف ضد العرب والمسلمين المتصل بالواقع الإسرائيلي القائم أصبح عبئاً على تحقيق الغطاء المطلوب من العرب والمسلمين لاستكمال المشروع الأمريكي، وهذا يعني أنّ شارون يرفض أن يُضَحِّيَ بمصالح إسرائيل من أجل تحالف دولي مع أمريكا لتحقيق مشروعها العالمي، وشارون يراهن على إعادة التوازن داخل الإدارة الأمريكية لصالح فريق البنتاجون المدعوم يهوديّاً، وأن يقوم هذا الفريق بالتعاون مع القوة الضاغطة في الكونغرس بالتغلّب على تيار كوليين باول الذي يريد أن يسلك خيار الإجراءات المعلنة نسبياً فيما يتعلق بحماية تحقيق المشروع الأمريكي.

واليوم تزيد الولايات المتحدة من عوائق الحوار في رسم إستراتيجيتها عبر العامل العسكري، والذي هوجزء أساسي في هذه الإستراتيجية، وستتحكم المنظومة الأمنية الأمريكية بالعالم على حساب المنظومات الاقتصادية والسياسية وحتى حوار الحضارات، وبما أنّ مفهوم الإرهاب هومفهوم مطاط، ويشمل دولاً وأفراداً وجماعات عدّة؛ لذلك تكوِّن الولايات المتحدة شبكة أمنية عالمية على حساب التفاهم مع الشعوب، وإذا بقي الإرهاب هدفاً عالميّاً فسيبقى العالم كله موجّهاً لمواجهة أي عمل سيحدث على الساحة الدولية مما يعطل إمكانية الحوار الهادف والبنّاء.

وسيوظف الأمريكيون مفهوم الإرهاب لتحقيق أهداف أخرى، إذ يبدوأنّه في المرحلة الأولى هناك سعي أمريكي إلى قيام كيان استراتيجي لمواجهة الديمغرافيات الكبرى في العالم، وأكبر ثلاث ديمغرافيات هي الهند والصين والباكستان، فأمريكا حيدّت كل الدول الكبرى، ومع أنّه من المستبعد أن يقد الصدام بين هذه الدول وأمريكا بسبب توازن الرعب القائم، لذا تحاول أمريكا تقريب هذه الكتلة الجغرافية منها لخلق جغرافية سياسية جديدة.

وقد وضعت واشنطن أربع إستراتيجية في المنطقة هي: البترول، والسيطرة على البحر الأبيض المتوسط للوقوف في وجه أوروبا، وعلى رأسها فرنسا، والهدف الثالث هومواجهة الأصولية الإسلامية، ورابعاً، الإرهاب، كل هذا بالإضافة إلى الهدف الثابت لدى أمريكا، أي الوقوف في وجه الدول النووية الثلاث الهند والصين وباكستان، فمحاربة المدّ الأصولي الإسلامي هوالخط الأكبر في الاستراتيجية الأمريكية، لاسيّما وأن أفغانستان صدرت واستوردت الكثير من الأصوليين إليها، فالمسلمون يخضعون اليوم لاستراتيجية جديدة غير معلنة تعتبر الأصولية -ومعها الإسلام- الخطر الأكبر؛ لذا تستهدف هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للقضاء على البؤر الأصولية، كل هذا يجعل الحوار بين الحضارات وسيلة لا هدفاً للسياسة الأمريكية.

وتظهر هذه الدراسة أن الرؤية الغربية -وخاصة الأمريكية للعالم الإسلامي- تنبع أساساً من مصالح الدول الغربية المادية والسياسية مع الأخذ في الحسبان البُعد التاريخي والديني والحضاري المسيحي واليهودي، والذي يطفوعلى السطح في الأزمات الشديدة، أما رؤية المسلمين عموماً، وخاصة الإسلاميين للعالم الغربي فتنطلق أساساً من رؤية دينية إسلامية تاريخية وحضارية، مع الأخذ في الحسبان عامل المصالح.

الإشكالية الثالثة: الأصولية والإرهاب:

شهدت الأمة منذ بداية الإسلام حركات نهضوية وثورية وتغيّرات وخاصة عند الهزائم العسكرية أوالغزوالأجنبي أوالشعور بالانحطاط، وقامت في القرنين التاسع عشر والعشرين حركات إسلامية عديدة، كالوهابية والسنوسية والمهدية، ولا تعود نشأة مثل هذه الحركات في الأساس إلى ضغوطات الأوضاع الاقتصادية أواكتشاف النفط، لكن العامل الأهم هوالمقومات الروحية والحضارية للإسلام، فالحركات الإسلامية نشأت قبل التنمية النفطية كحركة الإخوان المسلمين؛ إذ إن الإسلام يحافظ على الأصالة والذات رافضاً الفساد الأخلاقي ومسترشداً بماضي مجيد وأخلاقي مازالت صورته المثالية الأخلاقية قائمة في نفوس المؤمنين يحثهم على تطوير المجتمع مع استمرارية الماضي وتحديد الهوية تحت شعار الإسلام.

فالحركة الإسلامية لم تأت من عدم، بل هي خلاصة إشكالية تاريخية وتراثية حرّكتها تحديات فكرية وسياسية وثقافية وعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهدفت أغلب الحركات الإسلامية وعلى مر العصور إلى تحرير الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من شوائب الفكر والسلوك، وإلى تحرير الفكر الإسلامي من جموده، والواقع من فساده.

من هذه الإشكاليات أن العالم في العصر الحديث يحكمه نظام دولي ارتبط في الوعي الإسلامي والعربي بظلم الغرب للمسلمين وتقوية السيطرة اليهودية الصهيونية على العالم ككل، وعلى العالم الإسلامي بصورة خاصة(وعد بلفور، معاهدة سايكس بيكو، قيام إسرائيل) ويقوم النظام الدولي الجديد بتطوير هذه الخصائص، والتي تترجم في العالم الإسلامي إلى زيادة الضعف والتخلّف والتجزئة والتبعية عن طريق تجريد العالم الإسلامي من الأسلحة غير التقليدية والقدرات العلمية والتكنولوجية والصناعية والتحكم بالسياسات التنموية الداخلية عن طريق السيطرة على مصدر المواد الخام عالميّاً واحتكار الأسواق العالمية وسياسة الفرض والإخضاع والتهديد باستخدام القوة وإثارة قضايا حقوق الإنسان كسلاح في وجه الدول العربية والإسلامية.

فالنظام الدولي الجديد عند الكثير من الإسلاميين يعمل على منع الإسلام من استئناف دوره الحضاري، وهي رؤية تشكّل امتداداً للحروب الصليبية والحملات الاستعمارية القديمة التي لا ترمي فقط إلى السيطرة على النفط وإعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية، بل تدمير الثقافة الإسلامية والهوية العربية، فمن معوّقات الحوار أن هذه المواجهة تتحول إلى مواجهة حضارية – ثقافية بأشكال سياسية لتحطيم الإسلام كنموذج حياة، ومجموعة قيم، وآليات وقواعد سلوك، وأعراف تتناقض مع الليبرالية الغربية (قارن مثلاً ما حدث في قضية سلمان رشدي وآياته الشيطانية وكيف دافع الغرب عنه).

كما أن الإعلام الغربي لايساعد مطلقاً على تطوير حوار حقيقي فعّال، بل العكس هوالصحيح، يقوم الإعلام الغربي على العموم بتشويه صورة العرب والمسلمين في الوعي العام، فالمسلم هومخرّب يقاوم وجود إسرائيل الضعيفة ويقاوم الحضارة الغربية ومصالحها الاقتصادية، والعربي يمثل في الإعلام وخاصة في الأفلام بأنه فاسق وغادر ومتعطّش ومنحل جنسيّاً، وفوق هذا مازال راكباً للجِمال، وخلال أحداث الحرب الثانية في الخليج، كانت وسائل الإعلام الأمريكية تظهر صورة لبعض الجِمال في الصحراء كلما تحدّثت عن الجزيرة العربية، وكذلك فإن ثروة المسلمين تجعل لهم تأثيراً وتدخلاً في الاقتصاد الأمريكي(قضية فيرست أمريكان ناشيونال بنك، أوبنك الاعتماد والتجارة).

لهذا يرى العديد من المفكرين أن حوار حضارات لايمكن أن يقوم على المعايير المزدوجة، إذا ما يحدث اليوم يؤكد الفكرة القائلة بأن المجتمع الدولي(أوالغربي بتعبير أصح) يستخدم الحق المزدوج للقانون والشرعية الدولية ! فالغرب يكيل بمكيالين ويقيس بمقياسين، فالمسيحية الأصولية تبنّت ضرورة دعم إسرائيل من أجل انتصارها تحقيقاً لنبوة توراتية، كما دعم العلمانيون الصهيونية، ويحاولون جعل الإسلام البديل الأيديولوجي للخطر الشيوعي، فالإسلام يمتدّ من شواطئ البحر المتوسط إلى الصين، ويشمل الدول العربية والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى مما يؤهله إلى إنشاء إمبراطورية إسلامية وامتلاك أسلحة نووية مهددة بذلك السلام في العالم، ولهذا تقوم حكومة الولايات المتحدة اليوم بالاشتراك مع حكومة إسرائيل بإرسال وفود مشتركة من أجل إنشاء اتفاقيات تجارية وصناعية مع الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي المنحل، فالحركات الإسلامية هي في حالة تجذر وتتجاوز تأثيراتها الحدود المألوفة الفاصلة وتتفاعل وتتأثير ببعضها بعضا، فهي مثلاً تعمّ المغرب العربي ودول آسيا الوسطى وغيرهما من المناطق، وتحاول إسرائيل الاستفادة من هذا عن طريق طرح نفسها كقيمة استراتيجية وكرأس حربة في محاربة الأصولية الإسلامية التي تهدد المصالح الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل.

كذلك، تحاول إسرائيل إظهار أهميتها الاستراتيجية عن طريق تكريس وضعها كمركز متقدم لتخزين الأسلحة التي قد يستعملها الغرب مجدداً في الشرق الأوسط والتي يجب سحبها من أوروبا، وهي كذلك تقوم بدور الحدّ من طموح الدول القومية كسوريا والدول الإسلامية، إذ أنها تمثّل نقطة انطلاق الغرب من محاربته للقومية العربية والأصولية الإسلامية، وهذا بالمقابل يتطلب غض النظر عن الانتفاضة القومية والإسلامية في فلسطين وإنهاء مشكلة الفلسطينيين وكذلك الجولان وجنوب لبنان.

من الواضح أن خطراً جدياً تحاول الصحافة الأمريكية إبرازه(4)، وتروّج ضده، على أنه أكثر شراً من اللينينية الماركسية، لقد أدى نهوض الإسلام السياسي في شمال أفريقيا وخاصة في الجزائر ونشوء عدّة دول إسلامية في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى العلاقات الإقليمية والدولية بين إيران والسودان، إلى اعتبار الإسلام قوة ضد الديمقراطية والعدوالعالمي للولايات المتحدة(5)، لنقرأ ما يقوله أحد المعلقين السياسيين في واشنطن بوست: "إن الأصولية الإسلامية هي حركة ثورية عدائية يماثل عنفها وتشدّدها الحركات البولشفية والفاشية النازية في الماضي، وهي حركة استبدادية وضد الديمقراطية وضد العلمانية، لذا لا يمكن استيعابها في العالم المسيحي العلماني، وبما أن هدفها إنشاء الدولة الإسلامية المستبدّة، فلا بد أن تقوم الـولايات المتحدة بوأدها عند الولادة(6).

مثل هذا الطرح لا يؤدي إلى التمهيد لحوار حقيقي بناء بين الإسلام والغرب، بل أن نموذج التعرّض هذا بين الإسلام والغرب بدأ في الانتشار في واشنطن العاصمة، وهذا يذكرنا بالتطورات التي حدثت في الصحافة الأمريكية قبل أزمة الخليج وفي الأشهر التي سبقت الحرب، لقد تمكنت قوى عديدة، بالإضافة إلى بعض اللاعبين من الخارج، وعبر استغلالها للإعلام، من جعل صدام حسين "الرجل الأكثر خطورة في العالم" وكأحد أهم أعداء الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، هذه التطورات بالإضافة إلى الادعاء بأن العراق على وشك السيطرة على الشرق الأوسط، أدّت إلى تقبّل الرأي العام الأمريكي لهذا وكذلك النخبة الأمريكية للتدخّل في الخليج.

أما التهديد المفترض والآتي من الإسلام السياسي فيختلف في طبيعته، ويصور الصراع بين الإسلام السياسي والغرب على أنه صراع لا يحتمل إلا نجاح طرف وسقوط الآخر، إنّ آيات الله في إيران وحلفاءهم لا يمكن استمالتهم بالأساليب العسكرية والسياسية التقليدية مع أنه من الممكن التوصّل إلى تسوية تكتيكية معهم، كما حدث في شأن الرهائن الأمريكيين في بيروت إلاّ أنّ البعد الاستراتيجي يقوم على صراع طويل الأمد.

وكما كان الأمر مع الخطر الأحمر في فترة الحرب الباردة، فإن الخطر الآخر ينظر إليه على أنه سرطان دولي يفتك بالقيّم الغربية، لهذا يجب تحضير الشعب الأمريكي لصراع لا هوادة فيه ولانتقاء سياسة احتواء ومبادئ عملية جديدة والتعامل مع نخبة جديدة في السياسة الخارجية، أي الخبراء في الإسلام وشؤونه، ويبدوأنّ هناك إشارات عديدة إلى أنّ العالم خلق هذا الخطر الكبير من حوادث متفرقة ومجموعات صغيرة في العالم الإسلامي، وما انفجار نيويورك وما يفعل منه إلا عمل في هذا الاتجاه، إنّ أطروحة الخطر الأخضر يستمر الآن استعمالها لتفسير الحوادث العديدة المتفرقة في المنطقة والآن في الولايات المتحدة، لقد قال أحد المعلقين السياسيين: "يبدوأنّ الإسلام مناسب لملء دور الشرير بعد زوال الحرب الباردة، فهوضخم، ومخيف، وضد الغرب، ويتغذى على الفقر والسخط"، "كما أنه ينتشر في بقاع عديدة من العالم، لذا يمكن إظهار خرائط العالم الإسلامي على شاشات التلفزيون باللون الأخضر، كما كانت الدولة الشيوعية تظهر باللون الأحمر"(7)، مثل هذه الأفكار المعروفة في العالم الإسلامي لا تساعد البتة على تطوير بني الحوار ومؤسساته.

لنأخذ مثلاً منطقة الشرق الأوسط وتحديداً العالم العربي الذي يوجد فيه اختلاف مع الولايات المتحدة حول مفهوم الإرهاب هي من المناطق الأكثر عرضة للانفجار، وإذا أخذنا نموذج "حزب الله" في لبنان و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الأراضي الفلسطينية المحتلة نرى إجماعاً عربيّاً على أنّ هذه الحركات هي حركات مقاومة مشروعة، وعلى أنّ إسرائيل هي من يرتكب الإرهاب، غير المدين هوأمريكا، بحق العالم العربي، لذلك ركّزت سوريا ومصر والسعودية دعواتها الولايات المتحدة لتحديد الإرهاب وتعريفه قبل دعوة الدول العربية للانضمام إلى تحالف عالمي لمحاربة الإرهاب، على أن يشمل التعريف الإرهاب الإسرائيلي والإرهاب الهندوسي.. وأنواعٌ أخرى من الإرهاب تتخطى إطار التنظيمات الراديكالية الإسلامية.

ويبدوأنّ النظرة الأمريكية تقوم على افتراض أنّ الدّول العربية القطرية مثل مصر والجزائر وسوريا واليمن.. قادرة على تفكيك البنى الإسلامية القائمة فيها ومن هنا يأتي الغزل الأمريكي لبعض هذه الدول. إلاّ أنّ هذه الدول غير قادرة في الواقع على تفكيك البنى المؤسسية للمنظمات الإسلامية لأسباب عدّة:-

1- إنّ هذه المنظمات تشكّل رأس الحربة في القتال مع إسرائيل.

2- بينها حركات معتدلة تدعم أنظمة الحكم، كالإخوان المسلمين في الأردن، وحركة التجمّع اليمني للإصلاح في اليمن، دون أن يعني ذلك أنه ليس بين الحركات الإسلامية تنظيمات إرهابية مثل التكفير والهجرة والجهاد الإسلامي في مصر، وعصبة الأنصار في لبنان، لكن في المحصلة لي لدى دول المنطقة مصلحة في الدخول في صراع مع شعوبها وهزّ مشروعيتها المهددة أصلاً.

3- تشكِّل إسرائيل اليوم عبئاً على الولايات المتحدة كما كانت عبئاً عليها في حرب الخليج، وهي عبئاً على تحالف عربي أمريكي ضد الإرهاب.

لا بد أن تكون المعادلة على الشكل الآتي:-

1- تحديد مفهوم الإرهاب، خصوصاً حيال الحركات الإسلامية المعنية بالصراع العربي الإسرائيلي.

2- مقايضة الموقف العربي تجاه حلّ الصراع العربي – الإسرائيلي.

وفي ضوء ذلك سينجز التحالف الذي سيطاول التعاون الإستخباراتي، ويصبح على كل دولة مُهمة ضربِ بعض رموزِ "الإسلام السياسي المتشدد" أوبعض البؤر الإرهابية.

ولا بد من القول بأنّ الشعور بكراهية الغرب للعالم الإسلامي -وهومن المعوّقات الأساسية للحوار بين الحضارات- ليس بجديد، إنّ الصدمات العسكرية بالإضافة إلى الحملات التبشيرية هي بداية الاحتكاك والتعامل بين الغرب والمسلمين على نطاق كبير خاصة مع حملة نابليون على مصر عام 1897م، هذا كرّس في فكر المسلمين والعرب تفوق الغرب العسكري، ودوره قد توظف كقوة استعمارية، توظف هذه القوة العسكرية من أجل نهب ثروات المنطقة وإزالة مقوماتها الحضارية والصناعية، وتعمقت هذه الصورة في وعي الأمة بعد الحرب العالمية الأولى وعبر معارك التحرير وفي إقامة دولة إسرائيل على أرض سلخت من أصحابها الشرعيين وفي تقسيم العالم الإسلامي وإقامة الانتداب والوصاية على هذه الأمم المتخلفة. وتحاول أمريكا اليوم وتحالفها الغربي إزالة البيئة الاستراتيجية النووية وأسلحة الدمار الشامل ووسائل إطلاقها. إذ إنه من الممكن أن تتمكن دول عديدة كسوريا وإيران وليبيا من امتلاك أسلحة دمار شامل مهدّدة بذلك المفهوم الأمريكي للسّلام، ومن هنا لا يجوز للعرب والمسلمين أن يمتلكوا القدرات الكيماوية وغير التقليدية إذ إنّ قيام دول غير تقليدية في العالم الثالث وباستثناء إسرائيل طبعاً يمثل تحدّياً للهيمنة الرأسمالية الإمبريالية، ولهيمنة الشمال على الجنوب، فالضغط العسكري من قبل تحالف دول الشمال يهدف إلى إحكام السيطرة على الجنوب وقمع الاضطرابات والتمرد والثورات.

لقد أصبح مطلب إقامة الدولة الإسلامية شعار المواجهة مع الدولة الغربية، فطرحت العديد من الحركات الإسلامية نموذج الدولة الإسلامية والصحوة بديلاً عن الدولة القومية/القطرية، والقومية العلمانية، إنّ النماذج التي تبنّتها الدول القطرية بعد الاستقلال عن الغرب فشلت في أغلب الأحيان لأنها قامت دون النظر إلى الطريقة الإسلامية التقليدية للمجتمع فتحت ذريعة التنمية قامت حكومات هذه الدولة بسحق البنية التحتية والفوقية دون مراعاة لمشاعر الشعوب الإسلامية وطموحاتها، كما تم نقل النماذج والمؤسسات والدساتير والقوانين دون روحيتها ودون النظر إلى الإمكانات والظروف الطبيعية للمجتمعات المستوردة، هذا قد أدى إلى انقطاع مع الماضي لكن دون قدرة على تطوير حقيقي للحاضر، كذلك فرضت معظم هذه النماذج بالقوة ودون هوادة تحت شعارات قومية تشكّل في حدّ ذاتها نماذج فكرية مستوردة، إذ لم تكن فاعلية هذه النماذج تتوقف على ملاءمتها لطبيعة الشعوب وللتطور الطبيعي الاجتماعي ولتأصّلها في وعي الأمة ولتاريخ الأمة الذي لعب فيه الدّين دوراً أساسيّاً.

وإذا بالنخب الحاكمة بعد الاستقلال ترفض القيم الإسلامية وتطوّر آليات للتحديث على غرار النمط الاستعماري والإمبريالي، وطبّقت هذه النخب عشوائياً معايير الغرب في التقدم والحداثة والتمدن.. ضاربة بعرض الحائط بالأسس المعيارية الإسلامية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والعقائدية فأصبح المؤمن يعاني من دولة انفصلت في أكثر الأحيان عن أسس الإسلام الشرعية، ومزّقت البنية الأخلاقية للمجتمع، زاد في هذه المشاعر نكسات الدولة القطرية وخاصة نكسة 1967م، إذ كان لانتصار إسرائيل في حرب 1967م دور أساسي في توليد عقدة النقص عند المسلمين والعرب، فالأراضي العربية المقدسة اعتدى عليها من قبل دولة تقوم على العقيدة فلا يحارب العقيدة إلا عقيدة أشدّ، ولا يهزم الدولة الدينية إلاّ دولة دينية أقوى، ومن تداعيات حرب الخليج الأخيرة انهيار متزايد لشعبية القومية العلمانية تؤدي مثل هذه الكوارث بالإضافة إلى فشل نماذج التنمية الحقيقية والسياسية القومية إلى سخط وغضب الشعوب الإسلامية، وإلى تحوّلها باتجاه نقد الأنظمة الحاكمة وخطاباتها السياسية عن طريق نقد الأيديولوجيات القومية وإلى الدعوة إلى العودة إلى التراث الإسلامي لاستلهام البديل، وكذلك إلى رفض طرح حوار الحضارات، فالمزاج الشعبي في حالة رفض للإذعان عبر الحوار.

كما أنّ التيارات السياسية الداخلية تضغط شعبيّاً من أجل المشاركة في القرار السياسي ومن أجل إدخال الإسلام كمرتكز أوالمرتكز الأول في الحكم(الجزائر، تونس، مصر، الأردن..)لكن مشاكل الدول العربية السياسية والاجتماعية باختلاف شرعيتها لا تسمح لها بالدخول في ديمقراطية حقيقية أوحوار فعّال، فهي مجتمعات مفككة ومركّبة(العراق، السودان)، كذلك فإن العديد من القوى الإسلامية تطالب بالديمقراطية كوسيلة لا كمبدأ سياسي، إنّ أسس الديمقراطية وهي المشاركة في السلطة والمحاسبة العامة غائبة في أغلبية الدول الإسلامية، كما أن القوة المركزية في الدول العربية على سبيل المثال منذ الحرب العالمية الثانية مطلقة بسبب توظيفها للعدد الأكبر من القوى العمالية، وبسبب سيطرتها على جميع شؤون الحياة، وقد أدّت عملية التصنيع مثلاً إلى شبه إزالة للزراعة التقليدية في الريف مما أدّى إلى هجرة ضخمة للفلاحين إلى المدن، وخلق أحزمة فقر في داخل وحول المدن الكبيرة في مصر وتركيا وإيران والجزائر مثلاً، فيعاني هؤلاء النازحون من مشاكل اقتصادية وثقافية وأخلاقية كبطالة ونقص المسكن، وتمزيق العائلة، ومشاكل في الهوية، إنّ غالبية الأيديولوجيات حول القومية سهّل على الدولة فرض مفهوم القومية والاستبدادية على المجتمع باسمها، إلاّ أنّ القومية وخاصة بعد الضربة الأخيرة التي تلقتها على أيدي دعاتها ومعارضيها على حدّ سواء ازدادت خسارتها مع خسارة العراق للحرب إذ إنّ مفهوم القومية الذي فرض في معظم الأحيان مع فرض مؤسسات حديثة كالبرلمان والإدارات العامة في محاولة لتجاوز خصائص أخرى كالدّين والقبيلة والعائلية قد خسر من مبرر وجوده، وخسرت معه مشروعية الدولة التي رفعت رايته، هذه الأمور تفسح في المجال للمطالبة الشعبية عن طريق الشورى (الديمقراطية؟) في صنع القرار السياسي الدولي، وفي شؤون المجتمع، وفي أحداث تغييرات أيديولوجية، إلاّ أنّ كل هذا لا يفضي إلى الحوار، إذ إنّ هذه الدولة القومية القطرية محميّة من الخارج ضد الداخل ممالا يسهّل عملية الحوار أيضاً.

الإشكالية الرابعة: طغيان ثقافة الاستبداد وفقدان الإسلامية الإيجابية:

إنّ العالم العربي اليوم ومعه المثقف يعاني من فقدان تلك الفكرة الإصلاحية النهضوية الواعدة بمستقبل خال من الاستعمار والتجزئة والتبعية، فهويقف اليوم حائراً أمام انشطار الدولة إلى تركيباتها البدائية من عشائرية وطائفية ومذهبية وقطرية، وكذلك يقف فاقداً الأمل من فقر المجتمع إلى دعاة القومية والليبرالية والاشتراكية والإصلاحية ومشاريعها وإفلاس مشاريعها الاقتصادية، فالمثقف الليبرالي لم يتمكن من الإندماج عضوياً في مجتمعه، مما منعه من إنتاج وعي مجتمعي قادر على التغيير، أمّا المفكر القومي ومعه القومية فقد عاش –كما عاش المفكر التقليدي– في حالة عقائدية لا عقلانية، ومع أنّ الفكر القومي رفع في أغلب الأحيان شعار العلمانية في التسويغ الديني عبر محاولته علمنة الدّين الإسلامي، إلاّ أنّ فكرة النهضة تحولت إلى فكرة تنموية مسطحة تغاضت فيها عن مسائل التخلف والاستبداد والوعي، فالإشتراكية مثلاً عملت في العالم العربي على تبرير الاستبداد وقمع الوعي باسم العدالة الاجتماعية، متجاهلة البعد الإنساني والاجتماعي والديني للمجتمعات العربية، فكانت التنمية عملية مشوّهة وغير قادرة على تحديث أسس المعاش الاجتماعي والسياسي؛ كما لم تتمكن من خرق الوعي التقليدي السائد لأنها لم تبن على أساس معرفي حقيقي بل على تهميش الوعي وتقليد الغرب(8).

ومن المفيد التذكير بأنّ عملية التحدّي بين الإسلام والعرب من جهة، وبين الغرب من جهة أخرى رسمت إذاً معالم الفكر النهضوي الذي تطوّر وسط التجزئة الإقليمية والاجتماعية، لذلك تحوّلت حركة الإصلاح الإسلامي إلى حركة ربطت الانحلال السياسي بالانحلال الديني، وقد شنّ الأمير شكيب أرسلان حملته المضادة على الغرب ومزاعمه الحضارية والمدنية، فصادر الاستعمار الفرنسي كتبه ومؤلفاته، ولهذا لقبه السيد/محمد رشيد رضا بأمير البيان، أما كتابه "لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟" فهوثورة موجّهة ضد عالمي الإسلام والغرب(9)، ويرى الأمير أرسلان أنّ سبب التخلّف هوافتقاد المسلمين للعلم، وهوما وافقه عليه جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، أمّا الإسلام فهومدني، ولذا فإنّ الإيمان العميق بالعقيدة الداعية إلى الوحدة والثورة على الجهل والمناهضة للظلم- كان بطبعه الدافع إلى قيام دولة العرب والمسلمين وتوسعها، أما تخلّف وانحطاط المسلمين فهما نتاج فقدان ذلك الإيمان، ومن ثم العلم والقوة(10)، إن الأمير شكيب أرسلان الذي عايش الهزائم والانتصارات وعصر الانحطاط والنهضة، يمثل التيار النهضوي الإسلامي في مواجهة التحدّي الغربي، فقد كرّس كتاباته لإثبات قدرة الإسلام على النهضة وقدرة العروبة على التصدّي، إلاّ أنّ هذا التيار لم يتمكن لأسباب سنوضحها لاحقاً، من التحوّل إلى تيار شعبي سياسي واجتماعي.

وبالرغم من أن قراءة عصر نهضة التراث هي دعوة إلى التكيّف مع العصر الحديث وتوظيفه في مسيرة نهوض، إلاّ أنّها أيضاً اعترفت بسموالفكر الغربي الحديث ومركزيته في قراءة التراث الإسلامي، لذلك تحوّل الفكر النهضوي أوالتنويري إلى فكر تلفيقي حاول دمج أفكار عدّة تمثل القومية والديمقراطية والاشتراكية في فكر تراثي فضفاض وانتقائي، إذ إنّه كان فكراً قائماً على مجتمع يتجزأ ويتآكل بعد سقوط الدولة العثمانية، فتحول فكر النهضة إلى فكر سياسي استقلالي كفاحي، وتغاضى إلى حدٍّ كبير عن البعد الفكري والفلسفي.

لقد خرج فكر عصر النهضة إذا من تقابل الثقافة الإسلامية التقليدية مع الثقافة الغربية الحديثة، وفي لحظة سقوط الدولة الإسلامية الجامعة. فتحولت العلاقة مع الغرب إلى سـؤال حول عوامل السقوط. إنّ ولادة ثقافة عصر النهضة جرت في مرحلة ضعف الأمة العربيـة والإسلامية، فتشوهت الأسئلة، وكذلك الإجابات عنها. وهكذا مثل التراث الذي هوإحدى الإشكاليات المطروحة لدى رجال النهضة ومحور حوارات المثقفين، سواء كانوا رجال دين أم ليبراليين أم تقنيين. كانت قراءة عصر النهضة للتراث لذلك قراءة الاصطدام والمواجهة مـع الغرب، من ثم كان المثقف خاضعاً للشروط نفسها التي قُرأ فيها التراث(11)، ومن هنا نرى أن مثل هذا الصدام –ونحن نعدم القدرة على تخطيه حتى الآن- يعوق القدرة على التحاور مع الآخر، على افتراض أنه يريد التحاور، كما أن الغرب قد أسهم في تطوير الدولة المستبدة.

لقد اعتبر عبد الرحمن الكواكبي أنّ الاستبداد هوالإشكالية المركزية في أي نهضة، سواء فكرية أواجتماعية، ورأى أنّ غياب المجتمع المدني وسيطرة الاستبداد يمنعان المعرفة الحقة، فالاستبداد ضده العلم، ولا نهضة دون مناهضة الاستعباد، أما دور المثقف فهوالاهتمام بعلوم الحياة، مثل الفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، والسياسة المدنية، ويؤكد الكواكبي على الجانب العملي للوظيفة المعرفية، فالاستبداد عنده أصل كل فساد، فهويفسد العقل والعلم والدين،(12) لذا، فعلى المثقف الاندماج في أمته ومجتمعه لإزالة الجهل والاستبداد، وتنعكس هذه المقولة على جدلية المعرفة والسلطة، وترتبط النهضة إذاً بمعرفة متنورة، ويرتبط الانحطاط بسلطة مستبدة، فالاستبداد يمنع التربية الصحيحة والمعرفة الحقّة، ولهذا كانت الأولوية عند الكواكبي تحرير العقل وإقامة مجتمع العدالة والحريّة والشورى، وهكذا يُرجع الكواكبي انحطاط الأمم إلى تحوّل الدين إلى عبادة ونسك فقط، مما يؤدي إلى الانحطاط السياسي والتهاون بأمور الدنيا والدولة(13).

لقد طغت المسألة السياسية في الفكر الإسلامي القديم والحديث على العلماء والمفكرين مما جعل ابن خلدون على سبيل المثال، يربط قيام وزوال الأمم والحضارات أوالانتقال من البداوة إلى الحضارة بالأنظمة السياسية، وهذا الطغيان جعل الفقهاء الكبار من أمثال الماوردي وابن تيمية وابن جماعة، يقرون بشرعية وجود أي سلطة سياسية، وحتى ولواغتصبت الخلافة إذ لم يهتم هؤلاء الفقهاء وغيرهم من علماء الدّين في الأمور المعرفية الحقة، بل كان جُل اهتمامهم منصباً على مسائل السلطة وتفريعاتها وضرورة تطبيق الشريعة وبأي ثمن، أما المفكرون المهتمون بشؤون المعرفة الحقة والجدل بين الديني والدنيوي والمعرفة الدينية والمعرفة العقلية فقد تم تهميشهم وتغيبهم، وكذلك تم تهميش المجتمع(أوالأمة !)، وهذا التهميش مازال قائماً حتى اليوم، سواء في الدولة العربية الإسلامية التي تجد مشروعيتها في الفكر الإسلامي: التاريخي والفقهي والسياسي المنقطع عن شجون وشؤون العصر أوالدولة العربية القومية التي تستمد شرعيتها من فكر قومي علماني مقطوع عن شجون وشؤون المجتمع، وهوكذلك مرتبط عن قناعة أوعدمها بالعالم الغربي المهيمن على كل الأمة العربية.

إلاّ أنّ عمق الهزيمة الحضارية مع الغرب أدّى إلى نشوء وعي مشوّه، لم ينظر إلى الاستبداد بوصفه ركن الانحطاط، بل اعتبر أنّ الدّين هوسبب هذا الانحطاط، فولَّد أزمة هوية لم تتمكن الهوية الوطنية والقومية من تجاوزها وتحول الاستبداد الفكري والسياسي إلى مشروع لنهضة الأمة عبر القومية العلمانية المفروضة من نخب تقطعت وانقطعت عن الفئات الشعبية، فتحوّل المجتمع إلى مجتمع بطريركي حيث وظّفت فيه الدولة المثقفين من أجل إنتاج أيديولوجيا استبدادية شعبوية تبيح تدمير المجتمع الأهلي وقواته وممثليه، وإنتاج مجتمع معولب على طريقة النخب العشائرية والطائفية والعائلية والتي اعتبرته تابعاً لها، هذا الإطار الثقافي السياسي منع قيام حوار حقيقي بين الحضارات، بل كان سياسة آنية تفرضها مصالح الدول على حساب التناغم والحوار بين الشعوب.

وكان الدور الاستعماري أساسيّاً في إضعاف الليبرالية عبر ربط اقتصاديات العالم العربي بالرأسمالية الغربية وتحولت السلطة القومية العربية إلى قامع لليبرالية الفكرية ومستورد لليبرالية الاقتصادية، فأصبحت الدولة القومية مجتمعاً مندمجاً عضويّاً في اقتصاد الغرب، ولكْن منفصلاً عن ثقافته، في هذا الجوأجهضت أيضاً الليبرالية الدينية لمحمد عبده، وتحوّل الدّين إمّا إلى تقليدية مسوغة لأحكام السلطة وسياساتها، وإمّا وإلى أصولية معارضة لأحكام السلطة وسياساتها، وبهذا اجتثت الأسس الفكرية لليبرالية إسلامية وتيّارها السياسي والاجتماعي، والإمكانية الحقيقية للانفتاح السياسي على الآخر.

ومما لا شك فيه أنّ المجتمعات العربية تتميز عن المجتمعات الغربية وعن بعضها، وأن نشر النماذج السياسية الأوروبية لم تنتج نتائج طبق الأصل، وكان نشوء الدولة الحديثة في العالم العربي مفروضاً عبر الضغوطات الخارجية، ولم يكن نتيجة لتطورات طبيعية داخل المجتمع، وما تزال الدولة حتى الآن توظّف قوى خارجية من أجل المحافظة على الحكم في بيئة قمعية للبنى الاجتماعية، وعلى نقيض من الدولة الغربية تقوم الدولة العربية باستمداد قوتها ومصادر استمراريتها من خارج الوحدة الاجتماعية، ومن ثم تفرض آراءها على المجتمع في محاولة لإزالة أي منافسة على السلطة ولتمزيق البنى الاجتماعية، كل هذا يؤدي بالنخب الحاكمة إلى زيادة قمعها للمجتمع، وتدخّلها فيه، ومراقبته من أجل المحافظة على السلطة.

لقد عرقلت الدولة الوطنية القومية مسيرةَ تطوّر الفكر الإسلامي الليبرالي في السياق الحضاري الحديث والمعاصر، فوأدت تلك التجربة وحوّلتها إلى نقيضها إلى أصولية نصية، وهوما فعلته مع الليبرالية العلمانية، إذ حوّلتها إلى مسوغات "عقلانية وعلمانية" أوأصولية علمانية لافتراس حرّيات الأفراد وتعددية المجتمع، فعوضاً عن أن تتغلغل الليبرالية في التركيبات الاجتماعية والبنى الاقتصادية والمؤسسات السياسية، تحولت إلى أيديولوجيا مازالت توظف مع سلطوية سياسية لتصفية القوى الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تقف في وجه النخب الحاكمة أوتعارضها، إنّ علمانية الدولة القومية السلطوية أوالأصولية العلمانية هي من أهم العوامل التي أدّت إلى صعود الإسلام السياسي.

فالمثقف القومي لم يكتف بإلغاء النهضة عن طريق التثقيف أونشر العقلانية، بل حوّلها إلى مشروع سياسي مؤدلج يسحق العلم، ويتبنى السلاح، ويقمع البشر، فالتنمية والإعمار والعقلانية والإبداع أصبحت حكراً على القائد الجامع للجماهير حول الدولة؛ لذلك يقول عبد الملك: "إن نهضتنا المصرية العربية قامت على أساس الجمع بين فتوحات/إبراهيم باشا وفكر الشيخ رفاعة الطهطاوي في دولة محمد علي التي تجددت بقيادة جمال عبد الناصر في عصرنا". فمحورية العمل من أجل النهضة إذاً تقوم على القادة الأفذاذ المتقدمين، مثل إبراهيم باشا، ومحمد علي باشا، وجمال عبد الناصر، أما الشيخ أوالمفكر فهوملحق في دولة محمد علي، وهكذا يختزل المثقف القومي التاريخ، ويحول نجاحاته إلى لحظات إلهام الحاكم، لا الشعوب.

لذلك تحوّل فكر هذه النخبة إلى فكر استبعادي، استبعد الأكثرية المطلقة من الشعب، كل هذا أفضى إلى تقسيم المجتمع إلى فئة نخبوية عصرية تحتكر السلطة والثروة والثقافة، وإلى غالبية تقليدية محرومة من كل هذا.

لقد خَرَجَ المثقفُ العربيُّ الحديثُ من اصطدام المجتمع العربي بالغرب، ولم تنشأ تكتلات بديلة للعصبيات القديمة(العائلة، والعشيرة، والطائفة) كبديل يمثل المجتمع الأهلي؛ لذا بدا المثقف في قطيعة مع الأيديولوجيات الشعبية والثقافية التقليدية الدينية، لكنه دخل السلطة من المواقع التقليدية باسم مشروع تغيير في الدولة والمجتمع؛ لذا تزاوج "النص المؤسسي الغربي والبنية العصبية المحتلة، وبذلك، ولد تقنيوالمعرفة العلمية والعملية ليشكلوا فئة النخبة الحديثة.."، وبهذا تحوّل المثقف إلى خادم للسلطة عند قبولها له، أوعاد لخدمة عصبياته التقليدية، لقد أنتج فكر عصر النهضة وعياً زائفاً لم يتمكن من تجاوز ردود الفعل الوطنية المتعلقة بمسائل الهوية والكينونة، أما حرب الخليج الثانية فقد أنزلت أشدّ الهزائم الوجدانية والاجتماعية والسياسية بالفكر القومي العلماني ودولته، لذا فإن أحد المفاعيل العملية للفكر النهضوي الآن هوفقدان المشروع النهضوي: العلماني، والقومي، والإسلامي لسبب وجوده وإثبات فشله ضمن هذا الإطار السلبي الثقافي، لاشك أنّ الحوار الحقيقي الفكري والحضاري والثقافي لا أصل له، بل تقوم الحوارات على مصالح آنية لفرض رؤية القوي على الآخر الضعيف.

التحدّيات التي يواجهها العالم الإسلامي:

يجب النظر إلى المجال الإسلامي على أنّه مجال انعتاق المسلمين من القوالب التي وضع كل طرف الآخر فيه، فنمطه في نماذج جاهزة وحول قوميته إلى قوة سلبية تدميرية عوضاً عن أن تكون مصدر قوة للآخر، ومن هنا فإن العمل على تفكيك تحدّيات العمل المشترك بين المسلمين على المستوى الدولي والإقليمي والداخلي وحتى المذهبي، وكذلك العمل على تفعيل المشترك الديني والدولي والإقليمي والداخلي الذي يؤسس لنظام إقليمي إسلامي مشترك يؤمن للجميع الانخراط من موقع القوة، في النظام العالمي المعولم عوضاً عن السلبية في مواجهته، وكذلك فإنّ مثل هذا النظام الإقليمي الإسلامي الجديد يمكّن الجميع من مواجهة إسرائيل بوحدتهم، ومن الالتفاف إلى قضايا القرن الحادي والعشرين، والتي تشتمل على تطوير البنى السياسية والرؤية الاستراتيجية، وتفعيل منظمة المؤتمر الإسلامي، ومن ثم الدخول في عالم ما وراء الحداثة، وتطوير البنى الاقتصادية والاستفادة من ثروات العالم الإسلامي الهائلة، والاهتمام بتطوير البنى الاجتماعية والمناهج التربوية وصورة المسلمين في العالم.

لا بد إذاً من إعادة رسم توجّهات واستراتيجيات العالم الإسلامي، ومن تمكين قومياته من الفعل البنّاء الإيجابي عوضاً عن رد الفعل السلبي، فقد آن الأوان لكل الدول الإسلامية والدول العربية مجتمعة ومتفرقة للانخراط بإيجابية في العالم الجديد الذي هوفي طور التشكّل الذي سيكون للمشاركة الإسلامية الإيجابية فيه الأثر الكبير في مستقبلهم وإذا لم يستطع المسلمون عمل ذلك فإنهم سيهمشون تكنولوجياً واقتصادياً، وكذلك سياسيّاً وحضاريّاً. إنّ النظام الجديد هوأكثر عرضة للتأثر من النظام الثنائي القطبية الذي حكم القرن العشرين، إذ إنّه يفتقد إلى إطار مفاهيمي مما يمكن المسلمون من المشاركة في تحديده، كما أنّه بحاجة إلى منظومة قيمة يمكن للمسلمين المشاركة بتطويرها بشكل فعّال عبر الحوار بين الحضارات والأديان والقوميات، إنّ هذا القرن الواحد والعشرين هوعصر التكتلات العظمى أوالوحدات الصغرى، كما هوواقع المسلمين اليوم، وسيكون للتكتلات العظمى دورٌ حضاريٌّ كبيرٌ، أمّا الوحدات الصغرى فستتحول إلى بؤر صراع ونزاع تزيد من تخلّفها، فالتكتلات العظمى تتطلب وحدة حضارية متنورة لا عقدية ضيّقة ومتزمتة، وكذلك وحدة القضايا والمصالح والتراث والتكامل الاقتصادي ومصالحة الأنظمة لشعوبها، والقبول بتعدد المصالح وعدم العمل على إلغاء الآخر، وتفعيل المؤسسات القومية(كالجامعة العربية) والإقليمية (كمنظمة الوحدة الأفريقية ومجلس التعاون الخليجي).

من الناحية النظرية فإنّ العرب والمسلمين يقفون على صخرة قوية من التاريخ المشترك والمصالح المشتركة والتحدّيات المتشابهة والاقتصاد المشترك والأعداء المشتركين، ومن هنا تتوجب ضرورة الوعي بالحاجة الماسة إلى رؤية استراتيجية كبرى للعرب وللمسلمين تأخذ في الحسبان إرادة الشعوب وضرورات الأنظمة والعولمة، وتغيير دور الدولة وبنيتها في النظام الجديد، ومن حيث التاريخ والجغرافيا فإنّ المسلمين يمتلكون من الجغرافيا والتاريخ والإرث المشترك والقوة الجامعة من إسلام وقرآن ولغة عربية ما يؤهلهم ليكونوا في مصاف الأمم العظمى التي تدخل العولمة وتسهم فيها وتتجاوزها في المستقبل البعيد، والمطلوب إذاً ليس مجرّد قراءة جديدة للتاريخ بل نظرة مستقبلية متجددة تقوم خارجياً على إنشاء منظومة إسلامية إقليمية، وداخلياً على المجتمع المدني للتخلّص من القوالب التاريخية والسياسية المعولبة والمتعلقة والمتجزئة.

ومن هنا يمكننا تحديد بعض التحدّيات الداخلية التي تؤدي مواجهتها إلى تفعيل العمل الإسلامي المشترك في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم في العالم الإسلامي.

تعاني الدول الإسلامية عموماً من هشاشة الأنظمة السياسية، وانتشار السلبية، وتسلّط النخب العسكرية وغيرها على مفاصل الدولة، كما تعاني أغلبية الدول الإسلامية من حركات جماهيرية تتطلع إلى الحريّة والعدالة والتنمية، كما أنّ العلاقات بين الدول الإسلامية، وبين كثير من الدول العربية، هي علاقات سلبية ومتفجرة وظّفت في كثير من الأحيان القوة العسكرية على حساب التعاون السياسي، إذ إنّ أغلبية الدول هذه تنطلق من سياسات قطرية على حساب العمل القومي أوالإسلامي المشترك، كل هذا أضعف مواقف الدول الإسلامية، وشلّ فاعليتها السياسية ومنعها من إيجاد آليات حقيقية فعّالة على المستوى العربي أوالقومي أوالإسلامي.

إلاّ أنّه من وجهة نظر الجيوسياسية للعالم الإسلامي فإنه مازال ذات إمكانات هائلة ويتحكم في طرق الملاحة العالمية وأهم المضايق، وهوذوموقع جغرافي واقتصادي وعسكري مميّز، إلاّ أنّ الوظيفة الجيوسياسية للعالم الإسلامي معطّلة، وتعاني من ضمور اقتصادي وضعف عسكري وفقر حضاري، ومن المعلوم أنّ مشاكل العالم اليوم لايمكن حلّها عبر العمل القطري أوالتطوّر الداخلي فقط، بل إنّ الطابع العالمي للمشاكل الكبرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية يتطلب حلولاً كبرى، كما هوالحال، مثلاً مع قضايا البيئة وتصحّر الكرة الأرضية والتنمية والحريّة، من هنا فلا بد من ضرورة نزع الصفة الأيديولوجية عن الصراعات بين الدول الإسلامية، والتوصّل إلى توازن المصالح عوضاً عن هدر طاقات الأمة بحثاً عن توازن القوى، فتوازن المصالح يفضي بالدول الإسلامية إلى الدخول في لعبة التوازن الدولي والتأثير في الاستراتيجيات العالمية: السياسية والعسكرية والاقتصادية، مثل هذه النظرة أدّت مثلاً بالدول الأوروبية التي عانت من حروب هائلة ضد بعضها بعضا إلى إتمام الوحدة الأوروبية، ومن هنا نرى مثلاً ضرورة أن يكون أمن كل دولة مؤمنا في سياق أمن جماعي إقليمي، إنّ توازن الرعب القائم بين الدول الإسلامية في الشرق الأوسط يقلّص من قدرة العالم الإسلامي على المناورة، ويحدّ من إمكانية حصوله على دور أكبر في الاستراتيجيات العالمية، كل هذا يتطلب قيام نظام إسلامي إقليمي فاعل يتمحوّر حول العمل على التكامل وتقسيم الأدوار، ومواجهة التحدّيات المشتركة، ويكون لهذا النظام سوق اقتصادية مشتركة تعمل على الحدّ من التناقضات الاقتصادية، وتشتيت الموارد، وتصاعد نفقات التسلّح، كما يجب أن يكون لهذا النظام دستور قائم على القواسم المشتركة بين الدول الإسلامية، ومجلس تمثيلي للدول المنظمة إلى عضويته، إلاّ أنّ مثل هذا النظام يتطلّب توفقاً أوليّاً لدول أساسية في المنطقة، كالسعودية وإيران وسوريا ومصر، أوعبر مبادرات تقوم بها الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي الذي يتوجّب عليه تطوير أنظمة إقليمية إسلامية تمهيداً لتفعيل عمل منظمة المؤتمر.

ومِن المؤكد أنّ أغلبية الشعوب الإسلامية راغبة في إيجاد مؤسسات مشتركة بين دولها وليس من الضرورة أن تكون عملية الربط بين الشعوب عملية فورية وشاملة، بل يمكن التركيز مثلاً على إيجاد سوق اقتصادية إسلامية. إذ إن غياب مثل هذه الأسواق سيؤدي لا محالة إلى انكماش اقتصادي أكثر حدّة وتآكل الدول الإسلامية واقتصادياتها في نظام عالمي قائم على هيمنة المصالح الأمريكية إذ إنه من الضروري أن تتعامل الدول العربية والإسلامية أولاً، مع دائرتها الحضارية، كما يمكن للمسلمين إنشاء تجمع علمي يؤسس لمرجعية دينية يجمع المذاهب أويتجاوزها، ويمكن تشكيل هذه المرجعية من عدّة دول، مثل السعودية ومصر وإيران وتركيا وباكستان وأندونيسيا ونيجيريا.

ويجب العمل على تطوير الرأسمال البشري والصحة والتعليم كإنشاء مؤسسات علمية بحثية كبرى بالإضافة إلى مؤسسات لمحوالأمية، والعمل على إنشاء مؤسسات للتنمية للتعامل مع التزايد المتنامي لعدد سكان المنطقة، إلاّ أنّه يجب التركيز في بداية الأمر على القضايا الموحّدة لدول الشرق الأوسط الإسلامية، ومنها التعاطي مع قضية فلسطين والصحوة الإسلامية والديمقراطية والحداثة والتنمية، والحدّ من هدر الموارد في الحروب بين هذه الدول، وكذلك الحدّ من الإنفاق العسكري، بل يجب التعاون في المجالات العسكرية والدفاعية فحرب إيران والعراق استنزفت طاقات العديد من الدول المحيطة وهدرت طاقات بشرية كبيرة(أكثر من مليون قتيل) وأكثر من (600) مليار دولار(لحربي الخليج) من النفقات العسكرية المباشرة، كان من الأفضل لوتمّ إنشاء صناديق تنمية(كما هوالصندوق الكويتي والصندوق العربي) وتفعيلها من أجل العمل المشترك للدول العربية والإسلامية.

إلاّ أنّ هذا يتطلب اتفاقاً أولياً بين الدول العربية الأساسية وإيران على حدّ أدنى من الاستقرار والتضامن والقهر المتبادل وترسيم الحدود بشكل نهائي والاتفاق حول مصادر الثروات الاستراتيجية مثل النفط والمياه والممرّات والمرافئ، وكذلك في قضايا سلبية كالمخدرات والجريمة والإرهاب والتعاطي بواقعية وإيجابية مع القوميات والإثنيات.

بالإضافة إلى هذا كله يواجه العالم الإسلامي القضايا المطروحة من عولمة أنظمة التحكّم والحكم، والسيطرة الحضارية، والاقتصادية، والسياسية من حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية، كما يطرح على العرب مشاريع أوسطية من قبل أمريكا وإيطاليا وإسرائيل، وكذلك ضرورة التعامل مع الولايات المتحدة وإسرائيل، في مقابل كل هذا يجب على المسلمين، وهذا في الحدّ الأدنى التوافق على قضايا الوحدة والهويّة المشتركة والصحوة الإسلامية والقضايا المصيرية الأخرى مثل تحدّيات القرن الواحد والعشرين، ومن القضايا الموحّدة والمصححة للعلاقة بين المسلمين:

· القبول بالظاهرة القومية.

· رفض المذهبية والطائفية.

تصحيح الصورة عن العالم الإسلامي(من إرهاب وتهديد حضاري للعرب).

· انتشار الخطاب الإسلامي.

· الحوار بين الحضارات والأديان.

· والتوافق على آلية إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي.

وتشكّل منظمة المؤتمر الإسلامي التجمّع الإسلامي العالمي الوحيد الذي يضم تحت لوائه تجمعات عدّة (الجامعة العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية) وتتألف هذه المنظمة من (55) دولة إسلامية يشكّل تعداد سكانها حوالي (18) بالمائة من سكان العالم و(20) بالمائة من مساحة العالم، ولابد للمنظمة من تطوير آليات توحيدية لاستراتيجيات الدول الإسلامية وتطوير آليات فعّالة للتحكّم في النزاعات بين أعضائها عبر إنشاء منظمة تحكيم إسلامية قادرة على إلزام الدول الأعضاء بتنفيذ قرارات المنظمة، كما يجب أن تعمل على تطوير حركة التقريب بين المذاهب من أجل أن تواكب تطورات العصر الفكرية وتحدّ من التجزئة المذهبية والجدل السلبي، إذ إن حركة التقريب حتى اليوم لم تتمكن حقيقة من تغيير ملامح الشخصية المذهبية المتوقعة، مع الاعتراف بنجاحها النسبي على مستوى النخب الفقهية.

التحدّي الثاني: العمل الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والتربوي:

ممّا لاشك فيه أنّ الأمن الاقتصادي للعالم الإسلامي يزداد سوءًا وسلبية. فالعالم الإسلامي قد وصل حتى إلى مرحلة عدم قدرته على تأمين غذائه، وخاصة في أفريقيا، كما أنه مثقل بالديون للعالم الصناعي الغربي، ويتفاوت المستوى الاقتصادي بنسب كبيرة، فهويحتوي عدداً من الدول الأكثر فقراً، كما يضم عدداً من الدول الأكثر ثراءً من حيث مستوى دخل الفرد، كما يستهلك سباق التسلّح، واستيراد وسائل الدفاع من الخارج قدراته الاقتصادية، ويحدّ من عملية التنمية، فمن وجهة نظر التحليلات الجيوإستراتيجية يقع العالم الإسلامي خارج المركز، وفي الأطراف وفي الشرق في مواجهة الغرب مع عدم قدرة العالم الإسلامي على استحداث توازن في المصالح ويعاني الأمن الغذائي والمائي من عدّة مشاكل أساسية تتمحّور حول الكمية والنوعية والإدارة والمياه والإنتاج، فالدولة عموماً في العالم الإسلامي -وخاصة بعض الدول في الشرق الأوسط وأفريقيا- تحتكر المواد الأساسية، وتسيطر على البنى التحتية، فهناك العديد من الدول الاشتراكية والمعادية للقطاع الخاص هدفت إلى تغيير جذري في توزيع الثروة داخل المجتمع مثل(مصر 1957م-1974م)(الجزائر 1962م)(العراق 1963م) مما أدى إلى فشل سياسة تصنيع البدائل، وخاصة في غياب الموارد النفطية عند العديد من هذه الدول.

ومن هنا نرى ضرورة أن يقوم العرب والمسلمون بتفعيل قدرتهم على المنافسة ووجوب تعاطيهم مع قوانين السوق التي يسيطر الغرب على مفاصلها الأساسية: التكنولوجيا، والنظام المالي، وسهولة الحصول على الموارد الطبيعية، والتحكم بوسائل الاتصال والإعلام وأسلحة الدمار الشامل، ولذلك لابد من أن تقوم في العالم الإسلامي وخاصة الدول الإسلامية الشرق أوسطية ذات المصادر النفطية ثورةٌ في الاتصالات والتكنولوجيا، وإلاّ فإنّ تهميش العالم الإسلامي مرشح إلى ازدياد، وتفرض التحولات الدولية على الدول الصغيرة ضرورة اتحادها، ويشكل البعد الإسلامي نواة مهمة في توظيف منظمة الأوبك لأهداف جيوإستراتيجية، فيجب إنشاء منظمة الأقطار الإسلامية المصدّرة للبترول من أجل أن تقوم برسم سياسات تكون في صالح الأمة العربية والأمة الإسلامية، ويمكن للمنظمة هذه الضغط على السوق العالمية للبترول، وهي أساساً مجموعة الدول الصناعة الغربية التي تستورد (75%) من النفط من الأسواق العربية، وكذلك على دول العالم الثالث، ومع أنّ الغرب يتجّه إلى ترشيد استخدام الطاقة وتقليص الاعتماد على البترول منذ عام 1973م إلاّ أنّ المنطقة العربية وإيران تبقيان أهم احتياطي للنفط في العالم، فعلى العالم الإسلامي التحكّم بتسعير النفط والتحكم به لصالحها الجيوإستراتيجي والاقتصادي، وإعادة توزيع الثروات لتشمل الدول الإسلامية الأكثر فقراً.

ومن هنا تأتي أهمية تطوير الأنظمة التعليمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ضوء التطورات العالمية، وأهمها نظم التعليم والأبحاث من أجل تحويلها إلى أدوات فعّالة في التربية والثقافة من أجل المستقبل، ومن أهم ما يجب فعله في هذا المضمار هوالتعلّم من الماضي لكن تجاوزه على أساس الحاضر لتطوير المستقبل، ومن هنا يجب خروج هذه النظم من تقليد الماضي وتقليد الغرب، بل يجب الإفادة منهما وتجاوبهما أوبمعنى آخر الانخراط والتفاعل في العولمة بالإضافة إلى أبعادها المعرفية والاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية.

فيجب تحديث التعليم والاستفادة من جميع المناهج الحديثة، وتوجهها إلى خدمة المعرفة والتنمية، والأهداف الجيوإستراتيجية للعالم الإسلامي، كما يجب الاهتمام بجميع مناهج التعليم وجوانبه، والانطلاق بفلسفة تربوية تقضي إلى تفعيل العالم الإسلامي؛ إذ إنه لايمكن للمسلمين تحقيق نهضة مستقبلية دون إعداد المواجهة لهذا العصر الجديد وللانخراط في العولمة.

إلاّ أنّ المشكلة الأولى التي يجب معالجتها في العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الابتعاد عن الالتزام بوجهات النظر الطائفية والمذهبية والمتطرفة، وكذلك يجب الاهتمام بالتنمية البشرية وإعداد الكوادر البشرية، وإنشاء مراكز البحوث والتخطيط المتخصصة في كل مجالات العلوم والتكنولوجيا، ومن المفيد جدّاً الاستفادة من الكوادر البشرية والمؤسسات التعليمية القائمة من جهة تفعليها وتخصيصها، فيمكن أن تقوم كل دولة إسلامية بالأخذ على عاتقها تطوير مناهج التعليم وإقامة مؤسساته ؛ فتقوم مصر بتوجيه جامعاتها وتخصيصها بالنفقات المادية الضرورية لتطوير دراسات حول التقريب بين المذاهب(الأزهر كالمؤسسة الأم والجامعات الأخرى، كجهات مساهمة ومساندة في هذا العمل) والسعودية بتطوير قطاع النفط، فالعالم الإسلامي لا ينتج شيئا ذابل من المعرفة العالمية حتى المحلية، وذلك بسبب تخلفه العلمي والثقافي والحضاري، إلا فتات المعرفة، ومن هنا فإنّ نهضة العلوم في العالم الإسلامي ضرورية، ولا نعني بهذا نهضة العلوم الدينية والإنسانية بل أيضاً العلوم الطبيعية والتكنولوجية لكي تمنع من جعل الشخصية الإسلامية شخصية تابعة علمياً، ومهمشة فعليّاً.

كما يجب تقوية اللغة العربية على أساس أنها لغة القرآن، ولغة توحيد الأمة وفهم التراث، إذ إن هذا التهميش يُبعد المسلمين عرباً وغير عرب عن اللغة العربية، ويبعد الأمة عن بعضها ويشقيها، أما تعميم اللسان العربي فيقر بهم ويوجد لحمة بينهم، لكن لابد من ضرورة إحداث ثورة علمية وتكنولوجية كبرى من خلال الأخذ عن الغرب أسس تلك الثورة العلمية والمشاركة في تطويرها من أجل أخذ موقع في العالم الحديث، وإلا سيصبح المسلمون أكثر هامشية في تاريخ القرن الواحد والعشرين.

فالعالم الإسلامي إذاً بحاجة ماسة إلى فلسفة تربوية موحّدة، ولكنْ تسمح بالتعددية القومية وواقعية ومرنة، وهذا يحتاج إلى جهد خاص، ومؤسسة خاصة تأخذ على عاتقها وضع فلسفة تربوية عامة تسمح بخصوصيات قومية ومنطقية، ويجب أن تشمل هذه الفلسفة الأهداف الفردية والاجتماعية والحضارية، وبناء الشخصية الإسلامية المثقفة المنتجة، كما يجب رسم سياسات فعلية لتلك الفلسفة تعمل على التأثير في سلوكيات الناس مع خطط فوريةٍ ووسيطة الأمد وطويلة الأمد.

كما أنّ هناك ضرورة لتطوير المناهج الدراسية التي ما يزال يغلب عليها العامل النظري واللفظي على حساب المعرفة والمحتوى، فمن ناحية هناك طابع تقليدي وسطحي سواء كان ذلك في المناهج الإسلامية أوالغربية إذ يجب إخراج تلك المناهج من الاستقطاب الديني/العلماني، والعام/الخاص، وكذلك بالضرورة الاستقطاب الطائفي والمذهبي والديني/القومي، كما يجب تطوير طرق التعليم التي لا يزال يغلب عليها الطابع التقليدي والأيديولوجي.

كما يجب كذلك زيادة ميزانيات التعليم، وفرص الدراسات العليا، وزيادة مراكز البحث العلمي في جميع قطاعات المعرفة والعلوم، والتكنولوجيا النظرية والتطبيقية، ففي العالم الإسلامي يوجد حوالي (244) جامعة لحوالي مليار ومئتي مليون نسمة، كما أنّ ميزانية التعليم هي حوالي 0.1-0.2بالمائة، أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى سبيل المثال فلديها 2000 جامعة لحوالي ثلاثمائة مليون نسمة، أما ميزانية التعليم فهي حوالي 3-4 بالمائة من الموازنة، كما تعاني مناهج التعليم في العالم الإسلامي من تدنّي نوعيتها وقلة عدد التلامذة الذي يتقنون المواضيع التقنية والعلمية، ومن هنا نرى ضرورة تقوية الجامعات، وزيادة عددها، وتحسين نوعيتها، وتحديد اختصاصاتها، وخاصة في المجالات التكنولوجية والعلمية والصناعية.

وقمت بهذه المقارنة بين الدول الإسلامية والغرب من أجل إظهار أنّ الحوار مع الغرب هوحوار غير متكافئ، بل يميل بشدة إلى ترجيح انتصار الغرب حتى في المسائل الحوارية بين الحضارات.

تفعيل المنظومة الإسلامية:

لذا فإنّه من الضروري إقامة منظومة إسلامية تتمحور حول:-

أولاً: التضامن والأمن، وتحتها أمور متعددة، مثل:

- سوق إسلامية مشتركة.

- محاربة الاحتلال الإسرائيلي، ودعم إقامة الدولة الفلسطينية.

- الحدّ من أسلحة الدمار الشامل.

ثانياً: بعث الحضارة الإسلامية والهوية الإسلامية وتحتها أمور عدّة، مثل:

- تطوير إيجابي للإسلام، والتعايش السلمي، والتفاهم المتبادل بين الحضارات.

ثالثاً: التنمية الشاملة والمتوازنة في جميع المجالات، وهذا يشتمل على:-

- الاستثمار داخل العالم الإسلامي (والعربي والإيراني).

- تأييد مبادئ إعلان القاهرة بشأن حقوق الإنسان والعمل بمقتضياته.

- المشاركة في النظام الاقتصادي.

رابعاً: تفعيل مؤسسات منظمة المؤتمر الإسلامي على الساحة الدولية ويشتمل على:-

- تعزيز التعاون مع الأديان الأخرى.

- إصلاح الأمم المتحدة.

كما يجب البدء فوراً بتأسيس سكرتارية دائمة تهدف إلى ديمومة الحوار والتخطيط لمتابعة العمل على إقامة تلك المنظومة، يكون من أسس تلك المنظومة:-

- إصلاح الشوائب الإعلامية والنمطية عبر توظيف مؤسسات الإعلام.

- ضرورة نشر المعرفة بين المجتمعات الأهلية وإدخال مؤسساتها في عملية الإصلاح.

- ضرورة دراسة التاريخ على قواعد مشتركة وبالتعاون مع المؤسسات العلمية.

- تأسيس معاهد ومراكز البحث العلمي للتوفيق بين المذاهب ونشر مجلات ودراسات تختص بشؤون العالم الإسلامي، وهذا يشتمل على: إعادة النظر في المناهج والكتب الدراسية التي تتعلق بالعالم العربي والإسلامي، وكذلك العالم الغربي وضرورة أن يتم تنقيح هذه الكتب على أسس تعاون متبادل بين الطرفين، وكذلك القيام بمثل هذه الأعمال مع العالم الغربي.

- توفير مواد تعليمية واستخدام شبكة الانترنت لتعميق الفهم المتبادل.

- الدعوة إلى تأسيس مراكز للفنون ومراكز لعرض الإنجازات القومية في العالم الإسلامي والعالم الغربي.

- تأسيس جوائز ومنح سنوياً لأفضل كتابات حول العالم الإسلامي، سواء كان ذلك في معاهد الأبحاث أوالجامعات أوالإعلام.

- تأسيس مراكز تعليم مشتركة بين المسلمين والغربيين في الإعلام والتعليم والثقافة.

- تأسيس برامج تبادل علمي بين الأساتذة والطلاب وكذلك بين مؤسسات أهلية وحركات شعبية في العالم الإسلامي والعالم الغربي.

ويمكن لمثل هذه المنظومة التي يجب أن تعمل بداية تحت غطاء منظمة المؤتمر الإسلامي، أن تستفيد من البنية الحالية للمنظمة ومؤسساتها، والتعاون معها من أجل إنشاء مؤسسات إقليمية مكمّلة لمؤسسات المنظمة تستفيد من خبراتها، كما يمكن تطوير مؤسسات جديدة في حال عدم وجودها لدى منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي قد تكون ضرورية في عمل هذه المنظومة الجديدة.

هذه المؤسسات واللجان التي يمكن الانطلاق منها، هي على سبيل المثال:-

اللّجان الرئيسية/الدائمة والهيئات الخاصة:-

1- لجنة القدس ووكالة بيت مال القدس الشريف.

2- اللجان الدائمة.

اللجنة الدائمة للإعلام والشؤون الثقافية.

اللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري.

اللجنة الدائمة للتعاون العلمي والتكنولوجي.

3- اللجنة الإسلامية للشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ويمكن تحويل هذه اللجان إلى مؤسسات فعلية في حالة قيام منظومة إسلامية شرق أوسطية.

أمّا المنظمات الثقافية التابعة أوالمنتمية لمنظمة المؤتمر فتشمل العديد من المنظمات، منهـا:-

· المنظمة الإسلامية للتدريب والثقافة والعلوم/الرباط.

· اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي/اسطنبول.

· مركز البحوث في التاريخ والثقافة الإسلامية/جدة.

· اللجنة الإسلامية للهلال الدولي/بنغازي.

· الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية/الرياض.

· مجمع الفقه الإسلامي/جدة.

· وكالة الأنباء الإسلامية الدولية/جدة.

· وكالة إذاعات الدول الإسلامية/جدة.

· الاتحاد الرياضي لألعاب التضامن الإسلامي/الرياض.

وتشمل المؤسسات الاقتصادية التابعة أوالمنتمية لمنظمة المؤتمر:-

· البنك الإسلامي للتنمية/جدة.

· المؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا والتنمية/جدة.

· المركز الإسلامي لتنمية التجارة/الدار البيضاء.

· المركز الإسلامي للتجارة والصناعة وتبادل السلع/كراتشي.

· الاتحاد الإسلامي لمالكي البواخر/جدة.

· مركز البحوث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والتدريب للبلدان الإسلامية/أنقرة.

· الاتحاد الدولي للمصارف الإسلامية/القاهرة.

كما يمكن إضافة مؤسسات جديدة في المنظومة الإسلامية للشرق الأوسط، تشتمل على:-

· مجلس أمن إسلامي شرق أوسطي.

· محكمة عدل إسلامية شرق أوسطية.

· سوق إسلامية مشتركة شرق أوسطية.

· صندوق مالي إسلامي للتنمية والضرائب والجمارك والتجارة.

· مؤسسة للتقدم التكنولوجي والعلمي.

وفي الختام لابد من القول بأنّ على المسلمين أن يحاوروا أنفسهم أولاً، وأن يعدّوا العدّة للحوار مع الآخر من منطلق التوازن مع الآخر، وإلاّ فإنّ الحوار لم يكن، ولن يكون في صالح المسلمين، هذا لا يعني أن نقطع الحوار الجاري مع الآخر، بل لابد من تأسيس قنوات متعددة ومتنوعة تمكّن المسلم من محاورة الآخر من موقع قوة ومعرفة، لا أن يكون الحوار مجرّد أن يتفهم المسلمون الدوافع والأطر النظرية والسياسات الجيوإستراتيجية للآخر، لكن لابد من البدء من الداخل الإسلامي والانطلاق منه للخارج عوضا عن أن يكون الحوار مفروضاً على المسلمين من الخارج الذي يملي عليهم شروط الحوار وأطره.

***********

الهوامش

*) أستاذ الإسلاميات والتاريخ الحديث، الجامعة اللبنانية.

(1) صحيفة النهار الثلاثاء 13 تشرين الثاني 2001م.

(2)"Abraham's Other Children": Isalam an Enemy of the West?Policy 50"Is Islamic.

Fundementalism,a New Red Scare?' New York Times. Jan.29.1992.

(3)Washington’s Algerian Dilemmas, Washington Post,Feb.6,1992

(4)Washington Post, January 19,1992.

(5)David Ignatius "Islam in the west's Sight: the Wrong Crusade?" Washington Post-Feb.1992

(6) عبدالرزاق عيد، أزمة التنوير: شرعنة الفوات الحضاري، دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزي 12/5/1997.

(7) صالح زهر الدين "نهضوية الأمير شكيب أرسلان"، الفكر العربي، ع 39-40، سنة6، 1985م ص170-205.

(8) زهر الدين، نهضوية الأمير شكيب أرسلان (مرجع سابق).

(9) عبدالرزاق عيد، أزمة التنوير، ص15 سنة 6، 1985م – 208 – 229.

(10) عبدالرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستبداد، بيروت مؤسسة ناصر، ط2، 1980م ص50-67.

(11) الكواكبي طبائع الاستبداد، ص99-113.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=133

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك