إشكالية الحوار في عصر العولمة

د.صالح السنوسي

 

جاء الحوار كإشكالية تبحث عن حل وهي في واقع الأمر، تعني مطالبة الحضارات الأخرى لحضارة الغرب ان تعترف بها وبقيمها، وان تعترف لها بدورها في بناء الحضارة الانسانية التي يتربع الغرب على قمتها في بداية الألفية الثالثة.

أما الذي تلقته هذه الحضارات عن حضارة الغرب فهو واضح وظاهر في مكوناتها ونسيجها وتاريخها ولا يحتاج الى اعتراف به أو الحوار حوله.

فالمشكلة توجد ـ في الحقيقة ـ لدى طرف واحد وهو الحضارة الغربية التي ربطتها بالحضارات الأخرى علاقة هيمنة واحتواء، فطوال عدة قرون كانت خلالها هذه الحضارات مادة للدراسات الاستشراقية والانثروبولوجية التي شكلت أساساً للنظرة المتعالية واستصغار الشأن تجاه هذه الحضارات، وهي رؤية لها منطقها وعقلانيتها، متجذرة في ديمومة النسيج الثقافي الغربي.

ومتنقلة من جيل الى جيل بحيث يصعب انتزاعها أو تعديلها دون حدوث تغير جذري في نظرة الذات لنفسها، وهو تغير قد لا يكون من قبيل الحكمة المراهنة على حدوثه من جزاء الحوار فقط.

لقد بدأت أولى محاولات الحوار بين الحضارات منذ ما لا يقل عن نصف قرن وتبنت منظمة اليونيسكو عدة مؤتمرات وذلك لخلق جسر تفاهم بين الحضارات، وخلق مجتمع على أساس من التفاهم والاحترام المتبادل، مجتمع تتحقق فيه العالمية من خلال الاعتراف بالقيم المشتركة في كل الحضارات.

ولكن لا يبدو أن الحوار بين الحضارة الغربية العلمية والتكنولوجية وبين الحضارات، التقليدية قد أسفر عن تفاهم حقيقي ولا عن تغير في نظرة حضارة الغرب الى تلك الحضارات.

فالحوار والاعتراف المتبادل بين الحضارات ليس مجرد حفل تعارف أو لقاء على مستوى بعض المؤسسات والمتخصصين، بل هو تغير فى نظرة كل حضارة تجاه الأخرى على مستوى بنياتها ونسيجها الثقافي، وهذا هو أصعب الأمور بالنسبة للحضارة الغربية.

فما لم يحصل تغير عن قناعة في رؤيتها لذاتها وللآخرين على مستوى بنياتها ونسيجها وهما البوتقة، التي يجري داخلها اعادة إنتاج الانسان الغربي معرفياً وعلمياً عبر عملية التنشئة العلمية والاجتماعية ـ الثقافية، فإن أي حوار سيظل مجرد حوار للمجاملة ولا يصل الى حد الاعتراف بندية هذه الحضارات ومشاركتها لها في بناء المسيرة الحضارية الانسانية في ماضيها ومستقبلها.

إن مثل هذا التغيير لا يمكن ان يحدث على إثر حوار للترضية والمجاملة، بل من تغير الظروف الموضوعية التي تربط الغرب بأمم وشعوب الحضارات الأخرى، لأنه خلال الخمسة قرون الماضية انفردت حضارة الغرب بعطاءات .

وابداعات لا يمكن تصور ما وصلت إليه الحضارة الانسانية المعاصرة بدونها. وهذا ما جعل حضارة الغرب تتعالى وتعيد صياغة الماضي وتفتته ليتواءم مع شجرة نسبها وهويتها ورؤيتها للآخرين.

لقد أسست الحضارة الغربية مشروعها الحداثي منذ خمسة قرون على جملة من المفاهيم والقيم مثل العقلانية والديمقرطية والدولة والعلمانية والرأسمالية والاشتراكية وفي عصر العولمة ونهاية الصراع الايديولوجي في المركز يجري التبشير بنموذج حضاري جديد تساهم في بنائه كل الثقافات.

غير ان هذا النموذج الأخير يجري تأسيسه ـ في واقع الحال ـ على قيم ومبادئ ومفاهيم وبواسطة وسائل انتجتها حضارة الغرب ليحل محل نموذج سابق، هو الآخر قدمته الحضارة الغربية .

وبالتالي فإن الحوار على أرضية قيم ومبادئ ومفاهيم هذا النموذج الجديد لن يجمل أي طابع للمساهمة من جانب الحضارات الأخرى، بل سيكون مجرد التحاق بالحضارة الغربية على غرار التحاق هذه الحضارات بالحداثة الغربية في السابق ولكن في ظل ظروف قد تكون مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في مرحلة العولمة الأوروبية بقوة السلاح ابان مرحلة الاستعمار.

ان طريق الحضارات الأخرى لإثبات وجودها ونديتها لحضارة الغرب هو طريق الابداع والاضافة الى الحضارة الانسانية فإذا استطاعت أية حضارة ان تحقق اضافة أصلية إلى الحضارة الإنسانية، فإن ذلك هو الكفيل بجعل حضارة الغرب تغير من نظرتها لهذه الحضارة .

وعندها قد لايصبح الحوار بين هذه الحضارة والحضارة الغربية اشكالية مطروحة تبحث عن حل لأن الحوار والتفاعل يكون عندئذ قائماً بالفعل عبر البنيات والنسيج وليس مجرد حوار من جانب واحد تمليه اعتبارات السياسة والمجاملة والتسامح والترضية.

ان خلق حضارة عالمية وثقافة كونية تتبلور فيها القيم الانسانية المشتركة التي تعبر عن توازن العطاءات والابداعات بين الحضارات يبدو أمراً بعيد الاحتمال، ان لم تستطع بعض من هذه الحضارات ان تدخل اضافات أصلية الى صلب الحضارة الانسانية المعاصرة على الصعيد الفكري والمنهجي والمادي، وليس مجرد إثبات القدرة على حل تمارين الحضارة الغربية أو النجاح في التواؤم مع اطروحاتها الفكرية ومنجزاتها المادية.

المصدر: https://www.albayan.ae/opinions/2005-12-13-1.125551

الأكثر مشاركة في الفيس بوك