المسيحيون العرب والقدس

المسيحيون العرب والقدس

جورج خضر*

ما موقف المسيحيين العرب من القدس ومصيرهم في تاريخهم منذ ظهور الحركة الصهيونية وعلام يرتكزون؟ ليس فقط من حيث مشاركتهم كل العرب ولكن فيما يميزهم، سأعرض إلى ما قاله مفكروهم والمقامات الدينية التي ترعاهم محاولاً بعد هذه الإطلالة على تأملهم الحاضر شأن فلسطين والمدينة المقدسة بما يمت بصلة إلى معتقداتهم.

فسرعان ما انعقد مؤتمر بازل في سنة 1897م بقيادة "تيودور هرتزل، وتصدى المسيحيون إلى الدعوة الصهيونية، فقد أصدر الشيخ يوسف الخازن في باريس في سنة 1919م وهو ماروني- بالفرنسية كتابه عن الدولة اليهودية في فلسطين وتبعه جورد سمنه مؤلف كتاب "سوريا" بالفرنسية كذلك والصادر في باريس في سنة 1920م في الفصل الخامس عشر وعنوانه "اليهودية والصهيونية" في سنة 1921م نشر الدكتور خليل سعادة في ساوباولو مقالاً ضد الصهيونية وتبعه بعده ابنه انطون سعادة الذي وضع مجلداً مهماً حول القضية الفلسطينية وأسهم في التصدي للمشروع الاستيطاني "داود مجاعص" و"فارس مشرق" والمطران "بوليس الخوري" وبعده المطران "اغناطيوس حريكة" في مؤتمر بلودان(سوريا) المنعقد في 8 أيلول 1937م جاء بعد هذا قسطنطين زريق ومؤسس جريدة النهار جبران تويني وكل أهل القلم المسيحيين بلا استثناء وعاشوا بأقلامهم حقبة الحرب اللبنانية حيث كانوا حاملين الراية العربية في الأراضي المقدسة.

إنّ الكمّ الذي وضعه هؤلاء يفوق بكثير نسبتهم العددية في دنيا العرب، هذا ممكن وضعه في إطار الفكر العربي بعامة وتغنيا بمدينة القدس نفسها سمعتم جميعاً أغنية القدس التي كتبها لفيروز الشاعر(سعيد عقل).

وربما كان أعظم دلالة موقف المقامات الروحية المسؤولة، ولعل أفصح ما قيل على هذا الصعيد خطاب إلياس الرابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في مؤتمر القمة الإسلامي في لاهور سنة 1974م، قال متوجهاً لملوك الدول الإسلامية ورؤسائها: "القدس محجتكم على دروب الحرية، ونحن وإياكم مقدسيون رجاء وعزماً وبذلاً وكيف نكون للمقدسية ناسين ويقيننا أنّ المدينة العظيمة قد غدت معراج الإنسانية إلى الله... وإنّه لمن دواعي غبطتنا أن نخاطب المسيحيين من قلب هذا المؤتمر الإسلامي الكبير وأن نخاطب مسلمي الأرض في آن واحد لنقول لهم كلهم: إنّ القدس محل اعتزازهم وفخرهم، ودعا البطريق إلى مقاومة تهويد المدينة وربط بين المدينة وإقامة أهلها فيها حتى قال: إنّ البشر لا الحجر هم الحضور"، وسرت هاتان الكلمتان بعد هذا في كل الأدبيات المقدسية وبعد أن أشار إلى لقاء الخليفة عمر وبطريرك القدس إبان احتجاجه على تغيير المعالم التاريخية للمدينة المقدسة، ورأى في ذل تعدياً على الميراث المقدسي الموحد، "نحن نريد معكم أن تكون القدس معقل روحانية طاهرة يدافع فيها عن الإنسان فيما نحج إلى الله".

التأكيد هو على شراكة المسيحيين والمسلمين في المدينة في مسيرتهم الواحدة إلى الله حتى يدركوا السير في الله في ميراث الحب، الأمر الذي لا يحتمل إقصاء لأي أحد ممن قصد وجهه المبارك من الموحدين.

بعد هذا صدر سنة 1975م عن المجمع الأنطاكي الذي يجلس فيه كل أساقفة سوريا ولبنان والعراق والمهجر العربي وذلك بعيد اندلاع الحرب اللبنانية، أقول: صدر بيان تضمن كلاماً عن القدس، وتتأتي أهمية البيان في أنّه وثيقة رسمية جاء فيها: "لن ننسى أننا في مسيرة العرب جميعاً إلى القدس ونحن من الكلمة التي خرجت منها نأتي.. إنّها رمز دعوتنا إلى الأبدية ومغذية حنيناً إلى الفردوس.. لذلك كانت السيادة الصهيونية علينا اقتلاعها من جذورها بحيث تصبح القدس مدينة لله وأهل الآخرة" ثم ما يذهل قول البيان حتى ينص على أنّ: "القدس قد استقطبت لبنان لكونه قائماً على الروح المقدسية من هنا رجاؤنا أن يصر اللبنانيون جميعاً على عروبة القدس".

في سنة 1996م شجب هذا المجمع تهويد القدس وفي عام 2000م و2003م أيّد القضية بكل وجوهها -إلى جانب الأرثوذكس- مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك جاء في بيانه الصادر سنة 1997م بعد أن ناشد أن تُؤَمَّنَ حرية الحركة وحرية الحج إلى الأماكن المقدسة لكافة المؤمنين المسيحيين منهم والمسلمين قلب قضية السلام قضية القدس مدينة الله ومدينة الخلاص والسلام، وفي السنة التالية صرح هذا المجمع بقوله: "وأمّا القدس فهي لنا مدينة الجذور فيها عاش السيد المسيح وعلم وصنع المعجزات وتألم ومات وقام من بين الأموات ممجداً.. وحضورنا المسيحي فيها حضور مستمر منذ ألفي سنة" وفي سنة 2001م جاء في بيان البطاركة: "نعلن تأييدنا لقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على أساس الإنسحاب الكامل من المناطق الفلسطينية"، سنة بعد سنة يتأيد الموقف الصريح من القدس وحقوق شعبها.

اللافت في كل المواقف المسيحية الصادرة عن الكنيسة أنّها تجمع دائماً بين المسيحيين والمسلمين في حق حضورهم في القدس، لا ينحصر الهاجس في الأماكن المقدسة المسيحية مع أنها الأكثر بلا قياس وهي منتشرة في مواضع كثيرة كما في كنيسة المهد في بيت لحم، وفي الناصرة حيث تربى يسوع الناصري، والبلدات التي حول بحيرة طبرية حيث بشر نهر الأردن وتعمد القدس ومناسكها العديدة العلية التي تناول فيها العشاء الأخير مع تلاميذه، وعلى رأس القائمة كنيسة القيامة لا تخلو بقعة تاريخية في فلسطين لم يكن للسيد فيها حضور، فلسطين تاريخياً أرض عيسوية وهذا يوضح أنها عند المسيحيين جميعاً وطن قلوبهم، أي هذا الذي يشدهم إلى ما فوق الدنيا ليجعل كل نفس مقدساً لله، أنت تسجد هناك أو تنتصب إنساناً قيامياً يريد تمجيد العالم وذلك شفافة معطاة، تروضك القدس على المعاني وتستحيل فيها الرموز إلى قناعات، ولكنك تحتاج إلى أن تقبل الأرض لتنبعث روحك من سباتها، الله يسري بكل عبد أني كان إلى المسجد الأقصى الذي هو الأرض المقدسية كلها، ومنها يتم معراجه إلى السّماء هذا الذي نحققه إذا تقدست قلوبنا وتطهرت غير أن هذا يتطلب منك مسرى في طفولة القلب، فالقدس صورة عن قلوبنا ينبغي أن نذهب إليها لنتعرف قلوبنا، وهذا هو الذي نتقبله نعمة لأنّ الله وحده سيد القدس، ولأنّ الإنسان يرث الله فيها بتواضع وانكسار، كم يحلو فيها الفقر وحقارة الشوارع في المدينة العتيقة من أثينا إلى باريس كل جمال يلهيك عن القدس لكن القدس سحرها السجود إنها منسقة مع أعماقنا فيها يرتوي الحنين إلى ذاك إلى دواخلنا لا يتلاشى القدس انفتاح القدس تتجاوز القدس، إنها امتداد إلى اللانهاية إلى الأبد والأعلى إنها معراج.

حتى يلعب المسيحيون دورهم في فلسطين ينبغي أن يبقوا فيها، ما يحصل حالياً أنّ الكثير قد غادروا، 75ألفاً منهم كانوا في القدس ولم يبق الآن إلا بضعة آلاف، وبيت لحم التي كان المسيحيون فيها يفوقون 90% صار حضورهم فيه شبه رمزي، لماذا يهاجرون مهاجرة كثيفة كهذه؟ أظن أنّ ثمة سياسة إسرائيلية غير معلنة للتركيز على إجلائهم متصلة بعداء خاص خلاصته أنّ يهود فلسطين يعتبرون المسيحيين الفلسطينيين شركاء الظلم الذي ألحقه باليهود أهل الغرب؟ هذه التعميمية معقولة سيكولوجيا، فالضحية تصبح جلاداً وليعاقب المسيحي الشرقي بديلاً عن المسيحي الغربي، هذا إذا أردنا أن نسير في الوجدان اليهودي بما يتعدى مجرد التعسف القانوني الواضح في التشريع، يضاف إلى هذا أنّ المسيحي كان في المجتمع العربي عنصراً نهضوياً فاعلاً في الحضارة العربية الإسلامية في كل مراحلها والكثير من مجالاتها، وإنه تكمن في طاقته النهضوية من دخول الحضارة الأوروبية دخولاً عميقاً وعلى مدى جماهير وليس فقط عند النخبة.

هذا الامتياز الثقافي هو الذي سلخ المسيحي المشرقي عن حسه العربي، وعند كل الباحثين هو الذي قواه بعد عصر التتريك الذي قامت به تركيا الفتاة، الأمر الذي يجعله يحسّ أنّه في بيته إذا أقبل على الحضارة الغربية وأنّه يفهمها في أصولها الروحية فإنّها تجئ من الإنجيل بلا منازع قبل أن تتلون بالعلمانية والدهرية هذا تحدِّ للحضور اليهودي الذي لا سعي فيه إلى لقاء الثقافة العربية الإسلامية، الدور الذي يلعبه المسيحي المشرقي الذي ربما استغنى كذلك بما يحمله التراث اليهودي المعاصر من الشعر والقصة والأداء الموسيقي وبعامة ما تحمله الحداثة الغربية.

لقد أدركت الدولة العبرية خطر المسيحيين عليها في المراسلات التي جرت بين موشي شاريت ودافيد بن غوريون، حيث اقترح شاريت على زميله أن يؤتى بمقدم في الجيش اللبناني ليعسكر مع جنوده في جنوبي لبنان، فأجابه بن غوريون بأنّ الفكرة لن يوافق عليها المسيحيون في رأس بيروت لماذا تحديد هذه المنطقة بالذات؟ وأظن أنها عنده تسمية رمزية لأولئك المسيحيين الذين تلقوا علومهم في الجامعة الأمريكية واعتنقوا القضية العربية لميولهم للعلمانية لم تختلط عندهم الفكرة القومية بأحاسيس دينية أو طائفية، كان عند قادة إسرائيل شعور بأنّ الذين لا يبتغون إنشاء كيانات ذات طابع ديني، إسلامية كانت أم مسيحية هؤلاء يشكلون خطراً على الكيان المرتبط باليهودية القائمة في فلسطين على الدين والعنصر.

ولكن هناك ما هو أعمق إذا نظرنا إلى الدولة الإسلامية ومعاملتها لليهود بصورة عامة، كان اليهود يرتعون بحرية كبيرة في العالم العربي القديم كانوا بارزين في بعض القطاعات في بغداد في العصر العباسي ويتمتعون بحماية الدولة العربية بوصفهم أهل ذمة حتى ألغت السلطنة العثمانية هذا النظام في الخط الهمايوني والتنظيمات في أواسط القرن التاسع عشر، وفي العصر الحديث كان لهم مكانة مرموقة في مصر وهم الذين غادروها بعد نشوء دولة إسرائيل كما غادروا العراق والمغرب وكانوا جزءاً فاعلاً في مجتمعه وكانت لهم مودة المسلمين.

إلى هذا الاختلاط المجتمعي كانوا -وما زالوا- متحفظين جداً من المسيحية الشرقية بعد أن استطاعوا تدجين المسيحية الغربية في شقيها البروتستانتي والكاثوليكي وهذا قبل ظهور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ومقارنة مع الإسلام على صعيد العقيدة، فالإسلام يعتبر اليهودية ديناً سماوياً على احتساب أنّ اليهود أتباع التوراة المنزلة ف هذا الشعب ولكن لا يخفى على أحد أنّ التوراة باتت جزءاً من الدّين بعد ظهور التلمود في بغداد وفلسطين والأدب المفسر للتوراة، أما المشكلة مع المسيحيين الشرقيين فعويصة إذ بقى هؤلاء محافظين على مواقف أئمتهم القدامى الذين نسميهم الآباء القديسين، وفكرهم ظاهر ليس فقط في تفسيرهم ولكن فيما تركه تفسيرهم في العبادات ولاسيما في طقوس أسبوع الآلام المهيئ للفصح، الفكرة العامة المهيمنة على هذا الأدب وبعضه سجل بامتياز أنّ اليهودية لم تبق أمينة للعهد الذي قطعه الله مع إبراهيم، وأن ثمة عهداً جديداً أعطاء الله للإنسانية بدم المسيح، وينتج عن ذلك أن الفرائض القديمة المتعلقة بالهيكل والختان قد ولت بعد أن صار يسوع الناصري نفسه هيكل الله وبعد أن غدت العلاقة بين الله والبشر قائمة لا على الختانة ولكن على ختن الشهوات بابتعاد الإنسان عنها واصطباغه بالصبغة الجديدة التي هي المعمودية إذ زال إسرائيل القديم وزالت شرعيته، الصدام إذاً بين قوم يدّعون أنهم هم وحدهم شعب الله وقوم يدّعون أنهم هم الأمة المقدسة الجدية وهو صدام يستحيل تجاوزه، هذا لم يحل دون تشريعات ليبرالية تجاه اليهود في الدولة الروسية القديمة ولاسيما فيما يتعلق بحريتهم الاقتصادية وتبين للباحثين المعاصرين أنّ الكنيسة الروسية كانت غريبة عن الأذى الذي لحق باليهود في روسيا من قبل الدهماء، هذا الموقف اللاهوتي في المسيحية الشرقية بما فيها المذهب الكاثوليكي الذي يدين به بعض العرب يعطي المفكرين اليهود بما فيهم الساسة عذراً ليكونوا حذرين جداً من المسيحيين العرب.

فالموقف المسيحي المشرقي في تحفظه الشديد يوحي للمسيحيين أنّ قدساً تكون يهودية بكاملها إنّما تقدم مشهداً جغرافياً وتاريخياً وعيشاً اجتماعياً يوحي بأنّ اليهودية منتصرة، وإنها تغيب في مدينة الله وجه المسيح الظافر الخطيئة والموت، تقدم شهادة أنّ اليهودية وليس فقط دولة إسرائيل حيّة وثابتة في حين يعيش المسيحيون شعبياً على الأقل على أنّ كل هذا الكيان لم يبق له من مبرر بعد أن قال السيد عن هيكل أورشليم أنّه: "لن يبقى فيه حجر على حجر" هذا تحقق جزئياً في الحرب اليهودية سنة سبعين للميلاد ثم في ثورة بار كوخبا في القرن الثاني الميلادي، هيكل أورشليم عبارة يذوقها المسيحيون رمزاً لأمة اليهود في حسهم الباطن معقولاً تاريخياً كان أم غير معقول هذا زوال لشرعية هذا الدّين وإن كان لابد من المحافظة الحضارية على حرية الشعب اليهودي واقتباله في دنيا العدالة، وما حاولت أن أشرحه فقط هو الانزعاج الشعوري الكبير من قيام قدس لا أثر فيه للمسيحيين مع أماكنهم المقدسة إلى جانب هذه المرافقة السليمة المنشودة دائماً بين المسلمين والمسيحيين.

هناك واقع تاريخي أرجو أن يبقى حياً ومفلسفاً من زاوية روحية وليس فقط من زاوية اضطرار الأزمنة التاريخية، إنه من غير الإنساني أن تهجر المسيحيين والمسلمين معاً من مدينة تتمتع عندهم جميعاً بقدسية كبيرة بكونها سلماً إلى الله ليس فقط في آثارها ولكن في المحبة الجامعة التي نشتهيها رابطاً يومياً بين المسيحيين والمسلمين رابط تقوى لقوم لا يستكبرون، إنهم يريدونها مجسمة للعدل بعد أن كانت قرية ظالمة وحاضنة للسعي التقاربي الدائم بين المسيحيين والمسلمين واليهود مهيئة لتعايش خلاق بلا طغيان ولا تفريق ولا عصبية، وإذا كانت فلسطين موحدة تحضن شعبين فكيف يكون ذلك مستحيل التصور في السنين القادمة فتظل القدس على الأقل ايقونة لوحدة تعايش بين الجماعات الإبراهيمية الثلاث، وفي رقي مطرد بني على قيمنا الروحية من جهة وعلى طلب الحرية الكاملة والإنتاج الحضاري في كل وجوهه وإن التطبيق العملي لهذه الرؤية يجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين بلا عازل بين أحياء المدينة، لماذا القدس الشرقية؟ لأن فيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وبيعا أخرى وكأن العبادة لله تكون روح النشاط الفلسطيني الخلاق ومتانة الروابط بين العرب

لماذا ينبغي أن تكرس القدس ولو جزئياً لتكون عاصمة لفلسطين؟، لماذا كان غير معقول أن تعلن رام الله أو الخليل أو نابلس عاصمة؟ الجواب لأن القدس رسالة إنسانية أو للإنسانية وليس فقط مدينة بالمعنى المكون للوطن، ما نحلم به مع الفلسطينيين أن تصبح دولتهم دولة حديثة قائمة على الحرية الكاملة لأهلها جميعاُ بلا طبقية دينية، بلا تمييز في العمل الوطني أوفي المسؤولية بين مسلم ومسيحي، لا تكون ديانة أخرى حديثة متجاهلة للتراثيات الروحية وتستمد إلهامها من إلهية القدس، هذا يمكن أن يكون هدية إبراهيمية ولكنها عصرية للبشرية جمعاء هذا يتطلب قراءة متجددة حيوية للنصوص الدينية المؤسسة وإقبالاً على العلم والتكنولوجيا بلا وجل على أن نصبو إلى أن نكون من ذوي الإسهام في الإنتاج العقلي الذي لا يجتر الموروث ولو استلهمه بحرية، من هنا فإنك لا تستطيع أن تعيش على رومانسية عربية، على الإرث اللغوي العظيم الذي أنتجناه، فاللغة ليست كل الثقافة فالعلم غير المحدود اكتسابه وإطراده موح للشعر ويخص اللغة الأدبية، هناك قراءة عقلانية للمقدس الذي هو بدوره بشري الطابع وبشري التعبير، وكذلك السلطة السياسية تأخذ مشروعيتها من حرية البحث ومن تكنولوجية الأدوات إلى جانب الراهن الذي ترعاه أنت لا يسعك أن تواجه العالم إلا بلغته من ضمن قناعاتك المحيية، الإلهية الحذور ولكن على جذع الشجرة التي امتن الله أن يكون زارعها هي وأوراقها وأغصانها وثمارها لنا وللآخر، وإن أهمية القدس الواحدة في تلاقي مسيحييها ومسلميها صورة عن تلاقي الإلهي والبشري في صنع الحضارة ومأخذنا العميق على الصهيونية أحاديتها أي نكرانها للآخر وفقر شعورها بأن الآخر ليس له أن يتراكم وإياك ولكنك ترعاه ليتوحد ويرعاك لتتوحد، ما من قدس تتحدى القرن الحادي والعشرين إذا جعلنا حارة المسلمين تجاور حارة النصارى، أقولها رمزاً من المدى لأعني أن القدس نهاية الحارات حتى تصبح المدينة مدينة الله بحيث يكون أحدنا إلى الآخر دائماً فقيراً إليه ليستغني من أجل ذلك، لا ينبغي لنا أن نفهم القدس على أنها مجموعة معازل طائفية ومزارات ومقادس فحسب، بسبب من ذلك وبلا استغناء عن معاني الآثار التي كونتنا روحياً لكن المهم في فلسطين الآتية هو المعية الإنسانية التي هي وحدها مولدة للإنسان الجديد غير أن هذه الرؤية تشترط اهتداء اليهود إلى رفض الإقصائية التي يبنون عليها التفريق بين شعب إسرائيل والغويين أي الأمم لأن أنبياءهم قالوا: سبحوا الله يا جميع الأمم وامدحوه يا سائر الشعوب، يؤذي إسرائيل أن تبقى على الجدار الفاصل الذي أقامته مؤخراً إذ تغلق نفسها على نفسها وتعتبر أنها تعيش فقط بانفتاحها على الغرب الذي تسخره ويسخرها، ولا تريد أن تعرف أن إسماعيل أخو إسحاق وأن الله منع ذبح هذا أو ذاك، لا يستطيع اليهود أن يظلوا عائشين على الخوف من أن المسيحية الغربية أرادتهم كبش محرقة ضحايا أبدية تتحول بآلية طبيعية من موقع الضحية إلى موقع الجلاد.

إذا كان لا فرق هناك بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى وكما قال أحد أنبياء بني إسرائيل في الزبور: "إن انسك يا أورشليم فتنساني يميني ويلتصق لساني بحنكي" نحن لا نريد إخراجهم من القدس ولو استطعنا لعلكم تذكرون أن البطريق صفرونيوس بعد أن سلّم المدينة إلى الخليفة عمر وتجولا معاً في شوارع المدينة سأل عمر البطريرك: ماذا تريد مني؟ قال: إجلاء اليهود فأبى عمر، قد تفهمون معاً الجرح المسيحي الذي دفع الأسقف إلى أن يقول ما قال ونفهم معاً صبر الخليفة على اليهود واحتكامه إلى إيمانه، طبعاً ليس من حبر مسيحي اليوم يرضى عن تشتت اليهود واقتلاعهم من ذاكرتهم التاريخية على أن يقبلوا هم أيضاً أنّ كل إنسان يبيت ذلك في ذاكرته التاريخية لأنها جزء من كيانه.

القدس إذاً مقر الخطاب الديني القائم على استبقاء الآخر على ما يعتبره له ومنه بحيث يبطل الاحتراب وينحت كل منا الآخر بالانتباه إلى وجعه في محاولة الوصول إلى التناغم بتعدد اللحن وإقامة سياسة التنوع شرطاً لوحدة نبنيها معاً على فرادة كل فريق والتقاء الفرقاء.

لكل منّا دوافعه لارتباطه بشوارع القدس العتيقة كما تقول فيروز، وهذا مقبول حتى التكريس ولكن دوافعنا المشتركة بناء الشوارع بين القلوب لتنقل المدينة في نفوس أهلها دوماً من الرمز إلى المرموز إليه، هذان العنصران -مجتمعين متناطحين- يجعلانها مكان الرؤية إلى الماضي القائم في حاضر النفوس المتوثبة إلى الآتيات في الحاضر المحيي الثابت والمتحرك معاً لا أكون فقط وريثاً ولكني أصبح مشعاً بهاء الدهور القادمة.

أجل أنا جئت من القدس لأنّي أجيء من بشرية المسيح وأنت تأتي منها بسبب الحرم المقدسي والسرد المقدسي في القرآن ولكنا كلينا نصنع الإنسان الجديد الممتلئ من تحسس الحضارات أن يكون المسيحيون العرب شهوداً للمسيح في القدس كما قال لصحبه قبل ارتفاعه إلى السماء هو في الحقيقة أن يصبحوا شهوداً بدْءًا من أورشليم كما ارتضيناها معاً إذ المنتهى ليس القدس لكن أن يصبح العالم قدسي التطلعات وفي هذا المعنى شهوتنا أن نذهب من القدس إلى أقاصي الأرض حتى نحول سيوفنا إلى مناجل كما يقول أشعياء أي إلى حراثة الأرض التي هي الحضارة، حركتنا انتظار العودة إلى القدس واستبانة معانيها فلا ينسلخ أحد حتى يرث الله الأرض ومن عليها، في هذه الحركة لا ننخلع عن المقادس الكبيرة القائمة في فلسطين ولكن نذهب منها لنجعل الدنيا كهلا مقدساً للرب.

نحن نسعى إلى القدس معنى لئلا يبطل في أشخاصنا المعنى، إذا لم تصبح القدس طريقنا إلى السماء نكون قد أخطأنا الهدف، وإذا استعيدت القدس أوبعض منها ولم نستمر بأداء الشهادة نكون قد نلنا حجراً ويكون المعنى قد انتفض عليها والعمق ركيعات في العشق لا يسوغ فيها الوضوء إلا بالدم كما قال الحلاج، وأريد باستشهادي أن أوحي أننا خارج حبنا للإنسانية جمعاء لا نستعيد إلا أبنية، من هذه الزاوية، كل فلسطين قدس ممدودة في بعض الأدب الديني القدس وسط العالم وهذه طبعاً صورة يراد بها أنّ القدس في الجسد الكوني بمثابة القلب وأنك بت إذاً معها في الرؤيا، وكأن الإنسان في حاجة إلى المرئي ليدرك غير المرئي، من هذا القبيل هي مصب الأشواق(هذا هو الإسراء في قراءتي الصوفية) ومنطلق الأشواق(المعراج في قراءتي اليوم معكم).

دون هذا سياسة أفهم أنه لابد من خوضها ولكن الحد الأدنى من السياسة الطاهرة هو أولاً: فلسطين ما كاملة السيادة ومترابطة أجزاؤها ولا يكتب عليها الذل، ثانياً: أرض بلا مستوطنات، ثالثاً: دعوة اللاجئين أو إقرار حقهم في العودة إلى ديارهم وقراهم والبقية تفصيل وأقولها صادقاً: إنّ هذا إن لم نجاهد في سبيله ولم يتحقق –ولو تدريجياً- فستبقى المدينة العظيمة أثراً لا حياة فيه تحيا وتغني.

في هذا التأمل أُوَجِّهُ ندائي إلى مسيحيي الغرب أنهم لا يستطيعون أن يقوموا بحج إلاّ إذا شاركوا فيه المسيحيين المشارقة، تزول بيننا وحدة القلب إذا كان بعض منا قادراً على لثم تراث القدس، وبعض آخر عاجزاً عن ذلك، ويكون المسيحيون جميعاً غير قاصدين وجه الله في أورشليم إذا كانوا راضين فقط أن يعبروا بممرات دولية من دون الاتصال الحي التفاعلي مع المسيحيين العرب القاطنين في القدس، أحزنني كثيراً وأنا أكتب هذه السطور أنّ أهل بيت جالا وبيت ساحور المسيحيين جميعاً أغروا ببضعة آلاف تأشيرة مؤخراً ليرحلوا، كيف تنهض إذاً كنيسة أورشليم؟، كيف تتابع مسيرتها التاريخية بالاتصال مع كنائس المنطقة؟ ذلك أنّ الكنيسة المقدسية لها فعل واحد وآفاق واحدة مع المسيحية العربية في سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر، وهذه المسيحية السامية غير الرومية عرقاً ولغة، وغير اللاتينية عرقاً ولغة، لها إسهاماتها الفريدة في كل العالم المسيحي، هذه المسيحية العربية تأبى الذوبان الذي وجه من وجوهه تدويل القدس، إن وضع التدويل يعني نفسية حماية وردود فعل من محميين، نحن على اتصالنا العقدي بكل مسيحيي العالم نعرف أن دورنا الثقافي هو في المدى العربي، وأنّ حبنا الأول هو للمسلم الذي يعايشنا منذ خمسة عشر قرناً، نحن عدنا إلى القدس مع صلاح الدين وكان الفرنجة قد اضطهدونا فيها لاعتبارنا غير موالين للمسيحية الغربية وقد عاد المسلمون إلى المدينة ليكونوا فيها شهوداً لنزول عيسى على الأرض على ذروة جبل أفيق ليكونوا إلى جانبه ضد الدجال فإنّ الدجال سيقتل في القدس فإذا قتل الدجال كما جاء في حديث لابن عباس فستضع الحرب أوزارها فيلقى الرجل الأسد فلا يهيجه، ويأخذ الحية فلا تضره، وتنبت الأرض كنباتها على عهد أدم، ويؤمن أهل الأرض بعيسى، ويكون الناس أهل ملة واحدة كائناً ما كان انطباق التاريخية على هذا الحديث، فمعناه العميق أننا ساعون معاً مسيحيين أو مسلمين إذا أدركنا القدس أن نبيد فيها كُلَّ دَجَل لنجعلها مدينة الاستقامة حرة من الخوف رافعة صروح الفكر الصالح والعمل الخير لتفتدي الإنسانية بالحبِّ.

بعض القدس تخبرنا أن السيد المسيح غسل أرجل تلاميذه في العلية التي تناولوا فيها العشاء الأخير، وما يجب أن نلتمسه نحن العرب فيها أن نتحرر من المواقف التبريرية التي جعلتنا نعتز بحضارتنا القديمة ونحن ليس لدينا ما نعطيه اليوم، وكما أنّ العرب الفاتحين ما ادعوا تقديم شيء للروم والفرس ولكنهم أخذوا كل شيء متواضعين حتى إذا ما صار لنا حضور في المدينة المقدسة نبدي للمسكونة أنّنا نجيء نحن من المواهب الإلهية التي تكون الآثار رموزها، وإنّنا كما أخذنا بانكسار قلب نوزع ما استثمرناه بهذا الانكسار نفسه.

عند ذاك نصير كباراً والكبير لا يستعلي ويدرس ويجلس عند أقدام العلماء غير أنّ المشكلة الكبرى تبرز إذا ما جعلت فلسطين جزيرة صغرى مخنوقة بالعزل غير قادرة على أن تتفاعل وأي بقعة من العالم بما في ذلك العالم العربي، عند ذاك تفرغ المنطقة من سكانها عن طريق ‘transfert أو الهجرة إلى الغرب، الأمر الذي يبدو حتماً تاريخياً وتعود الأماكن المقدسة خالية من المؤمنين العرب، ويأتي السائح الأجنبي ليقول له الدليل الإسرائيلي هنا كان قوم يُدْعَوْنَ مسلمين يعبدون ربَّهم، أوهنا كان قوم مسيحيون صورة طقوسهم تختلف عن الطقوس الغربية واضطروا أن يغادروا.

لست أعلم ما يقوله المسيحيون الفلسطينيون في الحركات الأصولية هل إذا حكمت يكون إسلامها السياسي معتدلاً مسالماً طيباً حنوناً أم أنّ الجهاد الذي تكون قد قامت به يكون لها ممارسة منشودة؟ القدس عند ذاك تصير في نظر المسيحيين حجراً غير رامز للروح ولا للتاريخ ويكون النضال المشترك أدى إلى أحادية مذهبية للمرء إلى تبرير إذا خشيها، وقتئذ تهرب القدس من فلسطين أو فلسطين من القدس وفي جو محموم ومحتمل يزول كل أمل على تلك الأرض بلقاء أهل الأديان الذي تدل عليه الآثار الدينية المتجاورة وأخشى ما أخشاه أن الأصوليات المختلفة الدين والتي تتحارب نظرياً تلتقي على أرض الواقع فتتشنج هذه وتلك ويجر ذلك إلى توازي الأصوليات الذي ليس بعيداً عن تلاقيها، هل يعني ذلك أنّ الخلفاء الموضوعيين هم المسلمون العلمانيون والمسيحيون القوميون وأنّ هؤلاء وأولئك إلى انخفاض وكأنّ ما نخشاه في بعض واقعيته يجعل عنوان هذه المحاضرة باطلاً.

هذا يعني أن مدينة السلام تهدينا إلى السّلام ولكن في الحداثة كيف تكون مؤمناً في دنيا تتعو لم، وكيف تحافظ على خصوصيتك اللغوية والروابط الوطنية وكل شيء ينفتح على كل شيء؟ في عالم التبادل كيف تكون أنت إياك، مدينة السلام أريد منها قديماً أن تكون صورة على تعاون بين الطوائف وممن في خصوصياتها، هذا يجب ترجمته بلغة حديثة وأساليب حديثة فأنا لا أعتقد أن العولمة قادرة أن تطغى عليك إن رفست طغيانها غير أنّ الخصوصية في غلوها يمكن أن تصير تقوقعات متراكمة أومتجاورة التعاون بين المجموعات الدينية، إذا لم يتجاوز الكلام الأدبي أو التهذيب الاجتماعي يصبح نفاقاً ينفجر عند أول أزمة.

هل القدس أحجية لا يتناهى تعقيدها أم رجاء صعب ومؤلم؟، أي وعد إلهي بلقاء شعوب تنافرت حتى الذبح، غير أنّنا نحن العيسويين نؤمن أنّ المسيح دم وقيامة وأن كفلنا يؤمن بأنّ الله تكلم من أجل نجاة الإنسان من شقاء مر ليحيا منذ الآن في ملكوت السلام ليس فقط في السياسة ولكن بما يضيئها من داخل القلب البشري هل ندرك يوماً نحس فيه أن للآخر وجهاً أي حضوراً مملوءًا بالألوهة والضوء انسكب عليه ليشع، هذا أعمق مما نسميه سلاماً شاملاً وعادلاً قد يكون سلام التوافق القانوني بين هذه الشعوب الحزينة كلها وثبة إلى سلام الأعماق هذا الذي من أجله نحج إلى القدس ومثيلاتها لا يتحقق هذا إلاّ إذا ارتضينا في الآخر اختلافاً ولأنفسنا جميعاً وحدة في الاختلاف.

نحن لا نطلب بيننا وبين يهود المنطقة انصهاراً، هذا لن يكون إلاّ في اليوم الآخر إذا أنهى الله الموت والعداوة وأقامنا حول مجده، هذا في المنطق نفسه لا يقتضي تداخل التراثيات بحيث يخسر كل منا هيكلته الداخلية ولكن هذا يفرض أن أقبل فرادتك وحريتك وأن أرجو تعاونك ولكن لا سبيل إلى هذا في إذلال الشعوب وعزلها وإبادتها وإتلاف مزروعاتها وضرب التواصل بين مدنها وقراها.

لن نقبل إلغاء العرب ليس فقط لكوننا نحب الحياة ولأنّ لنا حقاً فيها، نحن بحركة منا إلى السلام الحقيقي حريصون على ألا ينتحر اليهودي روحياً بقتل أجسادنا، نحن نريده محباً لنفسه ولنا ومن ثم نتوق إلى حضور القدس لنظهر له ذلك.

بهذا ندرك العروبة الصافية التي لا فضل فيها لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى أي تلك العروبة التي لا عنصرية فيها ولا تحزب ولا استعلاء وتكون صيغة للقاء المسيحيين والمسلمين العرب في تنقية لنفوسهم لا تنقطع وتكون ليس فقط أرضاً يتسامح فيها بوجود الآخر ولكنه يصبو إلى مشاركته الإنسانية بكرامة واحدة وعلى رجاء تجليات في الإبداع والطهارة إلى يوم يكرمنا الله بحنانه في هذه الدنيا إذا شاء وفي الآخرة بالتأكيد.

في بركات هذا الحنين سنعود إلى القدس معاً مسيحيين ومسلمين في تواضع وعزة لتصبح هي قلب فلسطين، وتصير فلسطين دعوة العالم إلى العدالة والحرية في كامل الصدق.

***************

*) كاتب، ومفكر مختص بالدراسات العربية والإسلامية.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=131

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك