الحوار والتعايش: ندوة حول العلاقات بين المسلمين والمسيحيين
الحوار والتعايش: ندوة حول العلاقات بين المسلمين والمسيحيين
مايكل بوس*
"لم يعد ممكنا الدفاع عن ضيق الأفق في التفكير... ولم تعد ديانات العالم مكتفية ذاتيا أو مستقلة أو معزولة بشكل أفضل عن الأفراد أو الشعوب. إن الطاقات والتجارب والأفكار التي تأتي إلى الحياة خارج حدود دين معين أو جميع الأديان ما تزال تتحدى جميع الأديان وتؤثر عليها. إن الآفاق أكثر اتساعا الآن والأخطار أكثر درجة... ولا يمكن اعتبار أن الأديان تعيش في جزر معزولة. نحن جميعا مرتبطون ببعضنا البعض، والخيانة الروحانية من جانب واحد تؤثر على إيماننا جميعنا، وللآراء والأفكار المعتمدة في جماعة ما أثر على الجماعات الأخرى. واليوم تبقى الانعزالية الدينية أسطورة"(1).
كل يوم تَمثُل الأخبار شاهدة على هذه الحقيقة. إن تداعيات أي عمل ذي دافع ديني تنتشر وراء الحدود الدينية والثقافية. ولقد ربطت العولمة مصائرنا وأقدارنا بحيث إن المستقبل الوحيد أمامنا هو مستقبل مشترك. ويبقى السؤال: كيف يمكن لديانات العالم أن تستجيب لمطالب التدين بين الأديان؟ إن تجاهل هذا التحدي يحمل في طياته نتائج مرعبة وأليمة مماثلة لنتائج الاستجابة السلبية له.
لقد ركزت الوسائل الإعلامية على الجانب السلبي من هذا التحدي، متجهة نحو إظهار الدين على أنه مصدر للنزاع والشقاق بدل أن يكون مصدرا للسلام. ومن هنا يجب ألاّ نقيس كوامن الإسهام الديني في الحياة العامة عبر أصوات وسائل الإعلام التي تروِّج للتيارات غير المتبصرة والعسكرية من التعبيرات الدينية. وعلى الفرد أن ينظر إلى الصورة الأوسع للأديان والتقاليد الدينية التي تعمل معا من أجل الصالح العام لأن البعد الديني للحوار بين الثقافات حيوي وضروري من أجل مستقبل يملؤه السلام، وهنا تتبادر إلى الذهن مقولة هانس كنج الفلسفية الشهيرة حيث قال: "لا سلام بين الشعوب دون سلام بين الأديان؛ ولا سلام بين الأديان دون حوار بينها."
تتبوأ العلاقات بين المسيحيين والمسلمين مكانة متميزة في حوار الأديان، وذلك ليس فقط بسبب ما يجري حاليا أو نظرا لأهداف سياسية، وإنما من منطلق عددي أيضا؛ وحيث إن نصف سكان العالم هم من المسيحيين والمسلمين فإن للعلاقة بين أتباع هاتين الديانتين تأثيرا عميقا وهاما على المجتمع العالمي؛ وبما أن الشرق الأوسط هو مسرح أحداث هذه العلاقات، فإن أية مبادرة إيجابية هنا ستكون ذات تأثير عالمي وتوفر طريقا للحوار والتعايش يمكن للآخرين أن يقتدوا به.
إن الفريق العربي للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين مبادرة تسعى وراء الاستجابة لهذه الحاجة. وتأسست المجموعة في عام 1995م من قِبَلِ عدد من المفكرين العرب من مسيحيين ومسلمين، وعدد من القيادات الدينية وقيادات المجتمع المدني في كل من لبنان وسورية ومصر والأردن وفلسطين والسودان ودولة الإمارات العربية المتحدة، الذين اجتمعوا سويا وتعهدوا بالعمل معا نحو مستقبل مشترك. وفي عام 2001م اعتمد المؤسسون ميثاقا أقر مبدأ "أن الاختلاف الديني لا يلغي حقيقة الانتماء الواحد للحضارة العربية الإسلامية، التي تشارك في صنعها المسيحيون والمسلمون جنبا إلى جنب"(2).
غير أنه من المفهوم أن سبب وجود الحوار هو أكبر وأوسع من مجرد استجابة ظرفية لمطالب العصر الحاضر، فالحوار هو فعل من قبيل التعبير الدينـي، "والحوار الإسلامي المسيحي – في نظر هذا الفريق – ليس مجرد حوار بين مواطنين ينتمون إلى الجماعة الوطنية نفسها، وإنما هو كذلك حوار بين مؤمنين يرون في جهدهم هذا تعبيرا عمليا عن قيمهم الدينية التي تؤسس لمعاني التنوع والتعارف وكرامة الإنسان المطلقة وقيم العدل والحق والإحسان والمودة والمحبة والرحمة وعمارة الأرض"(3). وفي هذا نرى المنصة التي يعتمدون عليها لتطوير معنى لاهوتي وديني للحوار والاختلاف، ولهذا من الأهمية ما لا يمكن المغالاة في التأكيد عليه. إن الطريقة التي تقوم الأديان من خلالها بإلحاق معان ودلالات للأحداث الماضية والواقع الحالي تحدد مواقف هذه الأديان تجاه "الآخرين"، وهنا تكمن أهمية القيادة الدينية ومسئوليتها كمفسرة للتاريخ والنصوص والتقاليد في تشكيل توجهات الناس وتصرفاتهم تجاه العالم من حولهم.
وترى المجموعة أن الهدف من الحوار ليس حلا لاختلافات عقائدية بل هو مبني على مقتضيات الحياة وضروراتها التي تشترك فيها جميع الأديان. وتتمركز نقطة الاهتمام على كيفية تفاعل الأفراد من مختلف المنطلقات والخلفيات الدينية مع بعضا البعض فيما يتعلق بالأمور والموضوعات التي تشغلهم جميعا. ويطلق على هذا مصطلح "حوار الحياة". وتشكل الحاجة إلى مثل هذا الحوار تحديا أمام الإنسانية، ولا يمكن لهذا التحدي إلا أن يزداد أهميةً، "إنه كذلك مطلب روحي وأخلاقي يتوِّجه مبدأ التعارف المتبادل بين المؤمنين"(4).
إن لمسألة الاختلاف والتنوع بين البشر وفيما بين الخلائق معاني ودلالات لاهوتية ودينية. "إن الاختلاف والتنوع حقيقة إنسانية، بل هما من آيات الله في الإنسان والكون"(5). وهذا تأكيد هام، وبدونه يصبح التنوع عقبة يجب تخطيها وليست واقعا يثري وجوده الجميع(6).
على الرغم من أن نشاط مجموعة العمل العربية يركز على المواطنة المشتركة للعرب المسيحيين والمسلمين، إلا أنها أحست بأهمية توسيع دائرة الحوار وتناول القضايا التي تؤثر على القرارات الدينية والسياسية بين الشرق والغرب. ولقد اجتمع أكثر من أربعين قياديا من أربع عشرة دولة - جميعهم من الناشطين في الحياة العامة في دول عربية وغربية – في لندن في أكتوبر 2003م لتحديد الطريق ووضع الاستراتيجيات للسير قدما معتمدين على القيم المشتركة بين المسلمين والمسيحيين، والعرب والغربيين. وفي كلمة افتتاحية، أكد د.محمد السماك – من مجموعة الفريق العربي – على أنه "من الواجب علينا جميعا مسلمين ومسيحيين أن نحرر مستقبلنا من سجن الماضي، وأن نعمل سويا في بناء مستقبل مشترك مبني على قيمنا المشتركة لحقوق الإنسان وكرامته، والاحترام، والحرية"(7). ولتحقيق هذا، ابتدأت الجلسات بالتركيز على الوضع الحالي والفرص المستقبلية للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين. بعدها تم توسيع الموضوع ليشمل العلاقات العربية-الغربية، مع التركيز على كيف تؤثر النزاعات في العراق وفلسطين على هذه العلاقات.
نظرات واستنتاجات
كان هناك إحساس عام في الندوة بإلحاحية الموضوع، وبسبب تركيز وسائل الإعلام على شخصيات بحد ذاتها وانجذابها للأصوات المتنافرة فإن المناظير الدينية المتعصبة والنظرات السياسية المتطرفة تجد طريقا سهلا ونفاذية إلى المسرح العالمي، وقد ساعد هذا في تصعيد حدة الشك والريبة بين الثقافات والأديان، وما لم تقم الأصوات ذات الرأي الآخر بالتعبير عن رؤاها فستؤخذ الأصوات المسموعة حاليا على أنها تمثل الجميع. وترى مجموعة العمل العربية أهمية السعي وراء توفير وسائط ومجالات يمكن للأصوات المعتدلة والمسالمة أن تُسمَع من خلالها. لقد كان هناك الكثير من الاهتمام بأولئك الذين يضعون المسيحية في مواجهة الإسلام أو ضده، والقليل من الاهتمام بأولئك الذين يعملون معا لمستقبل مشترك، كلُّ من خلال دينه.
عبر جميع مراحل الحوار المفعم بالروحانية، كان هناك إحساس متزايد بالإحباط، وهذا ليس نقدا بقدر ما هي ملاحظة تشير إلى نضج العلاقات بين المسلمين والمسيحيين. ولم يعد كافيا أن نعتد برمزية اللقاء ودلالاته، أي حقيقة أننا اجتمعنا عبر الحدود الدينية والثقافية، لتبرير مشاركة أي فرد منا. كما لم يعد كافيا أن نجتمع فقط لنصدر بيانات وإعلانات حول القناعات المشتركة التي نؤمن بها جميعا. إن هذه ليست سوى خطوات أولى نحو اجتماع الأديان، وليست الهدف النهائي. (بقولي هذا أنا أدرك أن هذه العناصر لا يمكن التقليل من أهميتها في الغزوات الأولى في العلاقات بين الأديان.) إن إلحاحية الأحداث في العالم تدفعنا إلى سؤال مركزي ومحوري هام لمستقبل العلاقات بين الأديان وبين الثقافات ألا وهو كيف يمكن للعلاقات التي قد تبنيناها، والتزاماتنا المشتركة التي نؤمن بها أن تُحْدِثَ تغييرا في الأماكن التي يشوبها الرعب والعداء؟
إن التحدي المتمثل هنا مُثبِّط للهمم؛ فنحن نعمل ضد إشارات واندفاعات مجتمعية من شأنها السرعة في إيجاد الانقسامات والفرقة فيما بيننا. وكما أوضح ويليام سكوت جرين فإن "أي مجتمع لا يقوم فقط وبكل بساطة باكتشاف الآخر" "وإنما يقوم بصناعته من خلال عمليات الانتقاء والعزل والتركيز على جانب من الجوانب الأخرى لحياة الشعوب، مجسدا فيه رمزا للاختلاف"(8). وأظهر د/طارق متري من خلال عرضه مشكلة وجهة نظر مذهب الأساسيين التي تسمح للناس بأن يروا العالم من خلال العموميات، والصور النمطية، والطرق المبسطة والسطحية في تقسيم الأديان والثقافات، مما في أغلب الأحيان يصنع من أولئك الذين نعلم القليل عنهم أعداءً. وكان هناك قرار واضح من قبل المشاركين لمجابهة هذا الوضع من خلال توعية الناس بتنوع الواقع الديني والسياسي والثقافي وكيف يتشابك هذا التنوع ويتضافر مكونا الواقع الكلي. وبدون هذا فإن الناس يفتقرون إلى المعرفة اللازمة لتجسير هوة المعلومات والتفاهم الضرورية لمستقبل مليء بالأمـل. إن التمييز في الخطاب ضروري للحد من وصم التوقعات والآمال الكبيرة بالاعتقاد بالقوامة الأخلاقية دون الآخرين.
إن مذهب الأساسيين الفلسفي ليس هو المشكلة فحسب، بل أيضا أولئك الذين يسحبون خطأ الصراع المحلي على الصراع العالمي. "بحيث يصور الوضع المحلي وكأنه امتداد لمواجهة عالمية مفترضة بين المسيحيين والإسلام، مما يعمق الشكوك والمخاوف بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا العربية"(9). جاءت الندوة كجهد مقابل أو موازن لأولئك الذين يستغلون النزاع الطائفي المحلي لزراعة الخوف من مؤامرة عالمية، ومن ضمن أهداف ونوايا مجموعة العمل العربية الحد من استغلال الصراعات المحلية لغرس الخوف والشك على المستوى العالمي. إن أي مستقبل آمل لا يمكن أن يبنى على إيجاد المصالح الدينية والوطنية لعدو مشترك، بل من خلال الالتزام بالعمل سويا نحو الصالح العام.
من الواضح أن التحدي ليس مقصورا على العلاقـات بين الأديان (interfaith)، بل هو موجود أيضـا فيما بين أطراف الدين الواحد (intrafaith). ومثلما وجد المشاركون الجرأة في إمكاناتهم كمسلمين ومسيحيين أن يتخاطبوا فيما بين بعضهم بعضا، وجدوا أنفسهم يتساءلون عن مستوى الخطاب ومدى التبادل فيما بين مجموعات الدين الواحد. ويجب الإقرار بأن التعصب والشقاق ينشآن بسبب أولئك الذين يتحدثون ويعملون باسم الدين الذين يمثلونه. ولذا فإنه من الواجب السعي وراء إيجاد برنامج للحوار داخل الدين الواحد، مما سيقود الجماعات الدينية إلى مداخل وتوجهات عادلة وسلمية. إن التاريخ متخم بالأمثلة على قدرة الأديان في إيجاد الصراعات وفي إقرار السلام، على المطالبة بالعقاب وعلى تقديم الصفح والغفران. إن العنصر الرئيس في ضمان تأثير ممتد الأمد هو مساعدة القيادات الدينية على تناول مصادر الصراع، وفي الاعتماد على موارد السلام ومصادره في كلِّ من أدياننا، ومن خلال هذا فهناك أمل أن تمثيلا أوسع للقيادات الدينية ستتعاون في إيجاد مداخل عادلة وسلمية للمشاغل المشتركة.
إن قضايا مجموعة العمل العربية مهمة للمجتمع العالمي، غير أنه من المهم الإقرار بأن القضايا الماثلة أمام المجتمع العالمي تمتد بعيدا وراء اختصاص المجموعة. إن الإسلام والمسيحية ظاهرتان عالميتان، وإن التغير الديموغرافي للانتماء الديني أوجد مركزية دينية متعددة في جميع الأديان. إن معظم المسلمين ليسوا عربا، وإن النمو المسيحي يجد روابطه في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. إن هذا لا يعني أنّ على كل منظمة أو هيئة أن يكون لديها نظرة عالمية أو بعد عالمي في تخطيطها، غير أن العولمة تتطلب أخذ التغيرات الديموغرافية للانتماء الديني في الحسبان عند القيام بأية مبادرة تجاه الحوار الدينـي.
في الختام، تمنى المشاركون أن تمثّل مجموعة العمل العربية طريقا لتوسيع المشاركة وتنمية الموارد لمقابلة التحديات الماثلة أمامنا. ولقد عملت دراسات الحالة التي طرحت كناقوس يذكر بأن نتائج القرار بالاستجابة لهذه التحديات وكيفية الاستجابة تؤثر على الوجود اليومي وواقع الحياة للعديد من البشـر. هناك مسئولية دينية لتشجيع الحوار الذي يقود إلى تعايش سلمي.
***************
الحواشي
*) مايكل بوس: قس أمريكي، مدير مركز الكنيسة الإصلاحية بمسقط، عُمان. وقد انعقدت الندوة في أكتوبر 2003 بلندن.
1) Abraham Joshua Heschel, No Religion is an Island: Abraham Joshua Heschel and Interreligious Dialogue, Harold Kasimow & Byron L. Sherwin, eds. (Maryknoll, N.Y.: Orbis Books, 1991), 5,6.
2) "الحوار والعيش الواحد" ميثاق عربي إسلامي- مسيحي، صفحة رقم 5.
3) المصدر السابق نفسه، صفحة رقم 2.
4) المصدر السابق نفسه، صفحة رقم 8.
5) المصدر السابق.
6) تمس هذه النقطة النظرية اللاهوتية للتعدد الديني، بل إن تناول هذا الموضع سيضطر أخيرا إلى تناول تعدد البعثات (الأهداف العليا) ضمن الأديان بسبب تأثيرها على رؤية المواطنة المشتركة بين الأديان.
7) من الكلمة الافتتاحية للدكتور محمد السماك.
8) "Otherness Within: Towards a Theory of Difference in Rabbinic Judaism", in Nuesner & Frerichs, eds., To See Ourselves As Others See Us, 46-69, cited in Elaine Pagels, The Origin of Satan, (New York: Vintage Books, 1996), xix.
9) المصدر المذكور سابقا، صفحة رقم 14.