معاني الدين والحياة الحديثة... سؤال القيم والمعنى والهوية

نبيل علي صالح

 

ربما لا توجد فكرة أو نظرية ما، كثر الجدال فيها، واستهلك النقاش حولها، وتضخمت الحوارات والأحاديث والتحليلات ووجهات النظر بشأنها كما هو واقع الحال مع فكرة الدين ومعنى الدين وقيمة التدين والعلاقة بين الدين والحداثة، ومدى الإمكانية القائمة لولوج مجتمعاتنا (المتدينة[2] بالإٍسلام) في ركب التطور الحضاري العلمي والتقني الكوني المتسارع.

طبعاً، يجب أن نعي منذ البداية أن مجتمعاتنا العربية الإسلامية تحتاج - بشكل ملح وضروري - إلى هذا الدخول الواعي والواثق في دورة الحضارة الحديثة حقوقياً ومعرفياً بالدرجة الأولى، وبالعنوان القيمي الحضاري الإسلامي ذاته (المنسجم ذاتاً والمتكيف موضوعاً)، نظراً لما يمكن (لهذا الاندراج والدخول العقلاني والهادئ) أن يقدمه لها من فرص النهوض الكبيرة لتنمية الإنسان والمجتمع، بعد علاج الذات المريضة، وترميم مواضع انكسارها وتخلفها، بما يفضي لاحقاً إلى استعادة الوظيفة الوجودية للفرد-الإنسان المسلم كذات حقوقية أولاً لها كيانها وقيمتها المركزية، ولاحقاً - وعلى مستوى الأمة ككل- لاستعادة دور مفتقد يتناسب مع مواردنا الهائلة المعطلة، وإمكانياتنا الكبيرة المبددة هنا وهناك، بعيداً عن الهامشية والعطالة والقيود السياسية والفكرية التي تكبلنا، وتعيق نمو أمتنا، وتدفعها دفعاً نحو العجز والاستقالة والانكفاء.. أو تفجر في وسطها حركات العنف والتطرف الفكرية والسياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

وما لم نفعّل مقومات وعناصر هذا الدخول الحيوي والمصيري لوجودنا وحياة أبنائنا في الحاضر والمستقبل (والمتوافرة عندنا أصلاً كإمكانات وموارد روحية وبشرية معطلة[3])، سنبقى نلف وندور في حلقات مفرغة من التهليل للذات والماضي المجيد، بلا فعل أو وجود، نعيش عالة على الآخرين، نجتر ابتكاراتهم وتقنياتهم، وفي الوقت عينه نشتم أفكارهم، وندين فلسفاتهم، ونرجم ثقافتهم وحداثتهم، ونحملهم مسؤولية فشلنا وأزماتنا الوجودية المتلاحقة.

في اعتقادي، لا يمكن لأي شيء أن يدخل في مناخ وجو جديد عليه ينشده، ما لم يتجهّز قبلاً، ويستعد ويتهيأ مسبقاً لهذا الدخول ذاتياً على مستوى التصورات الفكرية والمفاهيم القيمية الحاكمة المفترض تبيئتها وإعادة ضبط وبوصلة اتجاهاتها.. ونحن هنا بصدد البحث عن إمكانات وقدرات في صميم الفكر الديني الإسلامي لإعادة وصله - كرسالة دينية إنسانية - بالحياة الاجتماعية المعاصرة، كشرط مسبق للاندراج بالحداثة الكونية[4]. وهذا يشكل أهم شروط الدخول لتحقيق الدور والحضور والفاعلية.

هنا تقع مسؤوليات كبيرة في اعتقادي على المثقفين والنخب العربية المفكرة (علماء ومثقفون عضويون بنيويون) في سبيل توضيح شبكة المفاهيم ورسم خارطة طريق الخروج العملي من الأزمة الطاحنة التي تعيشها المجتمعات. تلك النخب المتمسكة بالأجندة الثقافية الأيديولوجية، والأخرى المتمسكة بالنظرة السياسية والمنادية بقيم المدنية والحرية والديمقراطية والدخول في عصر الحضارة العلمية والتقنية.

وفي ظل هذا الواقع، لا خيار أمام المثقف سوى أن يعمل على تعميم وترسيخ ثقافة إنسانية حية من صلب تقييمه النقدي التراثي، تقوم على فكر متفتح وعقل يعمل ويدرك مهمته ودوره في هذه الحياة، ويسعى إلى التعامل الواعي مع التحولات والتغيرات الجارية على قدم وساق في هذا العالم، ويطالب بالتنوير والتحديث الديني والاجتماعي والرؤية الحضارية الجديدة لكل المعايير والقيم التي عشنا عليها وعملنا في ضوئها، كما يدرك أهمية التلاقح الحضاري فيما بين الحضارات الأخرى والرؤية العقلانية السوية للآخر فكراً وإنساناً ومجتمعاً وحضارة.

إن بداية الطريق تنطلق من وضع رؤية استراتيجية، لإقامة مجتمع المعرفة والوعي في البلدان العربية الإسلامية.. مجتمع الحريات.. حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وحرية التنظيم وضمانها كماً أسلفنا القول.. أي مجتمع المواطنة والحكم الصالح وتنمية الموارد والتنمية الفردية، ونشر التعليم وتطويره، وتوطين العلم وبناء قدرات البحث العلمي، والتحول نحو نمط إنتاج المعرفة وتأسيس نموذج معرفي عربي إسلامي أصيل.

ولهذا، يبقى السؤال في مجتمعاتنا الدينية قائماً حول هذه الإمكانات الفكرية والمعرفية المطلوب العمل على تجديدها، في داخل ثقافتنا الدينية التاريخية القديمة -المهيمنة على العباد والبلاد- يمكن أن تهيئ المجال لحدوث توافق ما أو انسجام معين ومحدد ومضبوط بين الدين (كهوية فكرية حضارية ثابتة وراسخة معيارية غير قابلة للتجديد، ورافضة لضرورات الزمان والمكان كما يعتقد صناعها ورموزها) وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتحرك والمتغير، القائم على معايير تجريبية مادية أساسها العقل والتجربة والشك والنسبية، بما يؤدي إلى إنتاج خطاب ثقافي تنويري منفتح ومتجدد قادر على رؤية الذات بمرآة الآخر المتقدم، وبحيث يقترح على الوعي العربي والإسلامي عموماً رؤية للعالم والمجتمع والثقافة مغايرة للرؤية الدينية التقليدية السائدة والراسخة..

الإسلام والتغيير النوعي والكيفي المنشود

وتزداد المسؤولية ضخامة مع معرفتنا بحالة العجز التاريخي الكبير والفاضح الذي تنوء تحت مجتمعاتنا في وعيها للذات وللآخر، وفي ممارستها لدورها الطبيعي في الحياة والعصر، ويظهر لنا أن هناك دوراً تعطيلياً تقوم به معظم المفاهيم والمعتقدات والقيم الدينية السائدة والمسيطرة على تلك المجتمعات الغارقة في تخلف فكري واجتماعي، يعاد اجتراره وإنتاجه على الدوام.. حيث إنه من المعروف - في هذا المجال- أن الفكر والمعرفة المختزنة في داخل كل فرد هي القاعدة والمحرك الأساسي لتصرفاته ومشاركته في صنع أحداث ووقائع حياته اليومية.. أي إن رؤية هذا الفرد وفلسفته في تسيير الوجود الخاص والعام هي المنطلق الجوهري لأي طموح أو رغبة لديه في بناء عالمه وتحقيق كماله الممكن له. ويمكننا أن نطلق على تلك الرؤية أو المعرفة بكل بساطة "فلسفة الإنسان".. وهي متكونة من خلاصة تجاربه وتراكم خبراته، وتجسد رؤيته المنطلقة من ذاتيته المعرفية المختلطة بما يحيط به من أحداث وتحولات شاركت في تكوين وانبثاق تلك الفلسفة التي اكتسبها من وجوده في هذه الحياة، لتسمو وتتطور في سلم الوجود عبر حواراته وتفاعلاته واتصاله بباقي المكونات الإنسانية في مجتمعه، ما قد يجعل هذا الفرد مدركاً للأحداث ومتفاعلاً معها سلباً أو إيجاباً. وهذا الكلام لا يعني عدم وجود بديهيات فكرية عقلية وتصورات أولية أعطت المسيرة البشرية الدفع الأكبر في تطورها وترقيها في الوجود.

لقد كان الإسلام - كحالة في الفكر والإحساس والممارسة، وكرؤية للكون والوجود والحياة، وكفلسفة كونية - هو مصدر الديناميكية التاريخية المؤسسة لمجمل القيم والمبادئ المحركة للإنسان المسلم عموماً في كل المراحل التاريخية التي قطعها هذا الدين منذ البواكير الأولى وحتى الآن.

وإذا كانت الغاية المقصودة في كل حراكنا المعرفي والعملي هي في تحقيق تنمية الفرد المسلم فكرياً ومعرفياً وعلمياً[5]، ودفعه لخوض مغامرة البحث والإبداع العقلي لبناء الذات والحضور في عصره؛ أي في المشاركة الفاعلة في بناء واقعه وحاضره، وتأمين مستقبل أجياله الطالعة واللاحقة، فإن المدخل الطبيعي إلى ذلك، لا بد وأن يمر عبر دراسة القوى الذاتية الكامنة المحركة لهذا الفرد شبه الضائع حالياً -خصوصاً في ظل تطورات الحياة والوجود- بين واقعه النظري المفاهيمي (الإسلام كعقيدة وانتماء وهوية ثابتة مقولبة وجامدة على نصوص ومقدسات)، وبين واقعه العملي الخارجي المتغير والمتحول باستمرار.

وهذه القوى النظرية غير المنظورة هي مجموعة القيم والمبادئ الأساسية المحررة والمحفزة والدافعة لهذا الفرد للعمل والإنتاج والإبداع في كل حركة واقعه. وليس هناك من وسيلة لتحقيق ذلك إلا من خلال تعميق الحس النقدي، والتحاور الفكري مع النص والنظرية المؤسِسة.

بهذا الثمن، يمكن أن يستعيد المسلمون هوية سابقة كانت في لحظة تشكُّلها الأولى فكرة إيجابية وقيمة معطاءة ومحفزة للعمل والنشاط الحضاري، أو يجددوا هوية هرمت وفقدت بوصلتها ووعيها الذاتي والموضوعي، لعلهم يستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة، وأولويات الاندماج في العصر، وبالتالي الارتقاء بممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها بالعمل والإنتاج؛ أي أن يكون لهم دور وأثر محقق من خلال إثبات فاعلية الحضور في المتن، وليس في الهامش المتجسد من خلال اجترار التقليد والتبعية للآخر، في استجلاب ونقل حداثته إلى داخل حدودنا الجغرافية من دون وعي معاييرها وبناها التحتية. ما يجعلنا نكيل لها التهم والشتائم من دون أن نعيها وندرس تطورها لدى الآخر، ليس لأنها سلبية بحد ذاتها، وإنما لأن ظروف تشكلها ومناخات نشوئها وعملها مختلفة عن ظروفنا وسياقاتنا الحضارية بصورة أو بأخرى.

الهوية الدينية والمعنى الديني العملي

ما نقصده من الهوية - بهذا المعنى- هو هويتان؛ هوية ذاتية تخص فكر وثقافة وانتماء الفرد إلى دائرة ثقافية تاريخية خاصة، وهي هنا الإسلام وقيمه ومفاهيمه وعقائده وثقافته، وهوية أخرى، هي هوية الفرد كمواطن أو ككائن "اجتماعي- سياسي" يعيش في وطن، وينتمي إلى مؤسسة الدولة، يمارس فيها ومن خلال أنظمتها وقوانينها، حقوقه ويلتزم بواجباته ومسؤولياته في العمل والإنتاج، وصنع المصير، في طبيعة الكيان، وشكل النظام السياسي المتصور.

طبعاً، ليست المشكلة في وجود هوية لدى أية فئة أو أمة أو حضارة؛ فالكل لديه هويات، تتكون من عناصر روحية ومادية، ومقدسات نصية وسلوكية، تشكل جوهراً وروحاً عميقاً لدى كل الهويات، بالتالي لا يمكن إلغاؤها، المشكلة هي في تصيُّرِها كينونة متصرّمة قارّة مغلقة، وكتلة صماء متراصة بمعايير صلبة مصمتة تتغذى من جوهر معرفي عقائدي لا إنساني مفارق منقطع غير متصل، بما يحولها إلى عقبة كأداء أمام أية نزعة تطوير أو رغبة للتجديد والتحول الواعي الحضاري الإنساني.. ولا شك أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتميز عن غيرها باحتوائها على ثقافات وهويات متعددة ومتنوعة، وتضج بأشكال وأنماط متعددة من الهويات الثابتة، قومية ودينية واجتماعية وثقافية.. أي إنه لديها هي، "فوائض هوياتية"، إذا صح التعبير، ولكن للأسف لا تزال “مواطنية” أفرادها وأتباعها (أي ممارستهم للشأن السياسي والاجتماعي العام في بلدانهم كحق قانوني مضمون ومكفول لهم) ضعيفة ومنقوصة، بل ربما غير موجودة أصلاً لدى العديد من تلك الدول والكيانات السياسية التي تزخر بتلك الهويات المتنوعة.. هنا تكمن المشكلة الحقيقية على هذا الصعيد.. إنها في تحول تلك الهويات العقائدية إلى هويات قاتلة عنيفة رافضة للآخر، وذلك كنتيجة طبيعية لقمعها وتسكينها بمخدرات وطقوس الهوية الثابتة.

ويفترض بهذه الهوية المرتكزة على قيم المواطنة السياسية والتنمية الإنسانية المتجسدة في القانون العام الناظم لحركة الدولة والمجتمع، ألا تتناقض أو تتعارض –منذ بدء لحظة تشكلها الدستوري- مع هوية الفرد الذاتية الخاصة التي يمارس من خلالها انتماءه لفضاء ثقافي تاريخي خاص به وبالمجتمع، أو بالتكوين الثقافي والحضاري، كأنساق وعادات وتقاليد وأعراف خاصة معبرة عن مصالح الجماعة، وتطلعاتها في البناء والتطور.. خاصة مع وجود نظام سياسي تعددي ديمقراطي (مقبول طوعياً من الناس المتدينة أصلاً)[6] يحفظ التنوع ويحافظ قانونياً على التعدد الثقافي والتاريخي لمختلف المكونات الموجودة لديه، والتي يسمح لها بالظهور العام، والتعبير عن خصوصيات أصحابها ومريديها ومعتنقيها في الحضور و"إثبات الذات" ضمن المجال العمومي بلا تعقيدات أو إكراهات، بما يساعدها على التفتح الطبيعي في الهواء الطلق جنباً إلى جنب بقية الهويات الخاصة بهذه الجماعة الحضارية أو تلك.

إن تشكُّل هذه الهوية الذاتية الخاصة في زمن مضى وانقضى، وكانت له حساباته وظروفه ومكتسباته، لا يعني بالضرورة أن تكون تلك الهوية مصمتة ومغلقة على ذاتها وقيمها وأفكارها، أو عاجزة عن الانفتاح على أسئلة الحاضر وتحدي المستقبل.. بل إن القيمة الحقيقية العملية لمعنى تلك الهويات تكمن هنا، في قراءاتها بوعي وعقلانية بحسب تطورات العصر، لتحقيق مزيد من التواصل والتعارف والبقاء، ومزيد من الإنتاج الرمزي والمادي، والفاعلية والحضور المؤثر في الواقع الخارجي.

بهذا المعنى، يمكن القول بأن الهوية المنفتحة على الحياة والعصر، هي هوية الحضور والإنتاج الرمزي، بينما الهوية الثابتة هي هوية الانغلاق والانقطاع والموت الحضاري..

من هنا، يمكن التأكيد على أن تقدّم مجتمعاتنا العربية الإسلامية مرهون أساساً بتطور وتقدم الفكر المؤسس لإنساننا المسلم على طريق تقبّله وقناعته الكاملة بضرورة العيش زماناً ومكاناً (عقلاً ووعياً) في عصره الراهن، لا أن يكون حاضر الجسد مغيَّب العقل، ومهمش الحضور.. وهذه القناعة الذاتية لن تتولد أو تنبثق عنده إلا بنقد الفكر المؤسس وتجديد الهوية والمعرفة، ليكون إنساننا قادراً على ممارسة معيشته إنتاجاً وعملاً في زمانه من خلال تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه.

وما نعيشه اليوم، لا يعبّر عن كوننا لا نزال خارج نطاق التفكير والعقل والحداثة عموماً، كما يقول أكثر من مستشرق ومستغرب، وإنما يجسّد بالعكس عمق أزمة هذه الحداثة العربية الرثة الكسيحة (كما عبر عنها برهان غليون)[7]، أو النسخة المشوهة منها التي وصلتنا من نخبنا الفكرية والعسكرية السياسية.. وهنا مكمن العطل وجذر الخلل، إنه في نمط الحداثة الرثة الذي اخترناه وأنتجناه، مناخ ثقافي- ديني متعصب للنص على حساب الواقع.

وبناءً عليه، نعتقد أن المرحلة المقبلة من تاريخنا في عالمنا العربي الإسلامي تقتضي - من دون شك - إدراك ووعي الحجم الحقيقي للمخاطر والمتغيرات الدولية المتسارعة، وضرورة الوقوف ملياً أمامها بعقول واقعية مفتوحة بعيدة عن أسلوب التشنج ولغة الأيديولوجيا المليئة بحمولات عقائدية عاطفية غير عقلانية، وشحذ الوعي الاستراتيجي بمفاهيم وقيم وأساليب وآليات عمل جديدة للتعامل مع مستجدات وأزمات متجددة، وتحولات نوعية متسارعة باستمرار، وتحديات غير مألوفة وغير مسبوقة في تاريخ العالم والحضارة الكونية، وذلك أن الأمر لا يتعلق بترميم نظم قائمة تريد أن تتطور، وإنما يتعداه إلى ضرورة الاستعداد الحقيقي (على المستوى النظري والعملي) للانتقال المتأخر من مناخ المعادلة الدولية المندثرة والبائدة إلى آفاق معادلة دولية أخرى قيد التكوين والإنجاز التراكمي، فهل سيتمكن العرب والمسلمون من بناء جيل معافى وسليم بدنياً وعقلياً، يمتلك الإرادة والقدرة والإمكانات على تحقيق ذلك الهدف الكبير؟!! وهل سنقضي أو على الأقل نخفف من أجواء ومناخات الفساد والإفساد والرشوة والمحسوبية المستشرية في مختلف مواقع العمل السياسي والاقتصادي في عالمنا العربي؟!.. وهل يمكن أن يتشكل لدينا يوماً ما رأي عام عربي فاعل وقادر على تحمل مسؤولياته، وتبني خيارات عملية مفتوحة جديدة غير تلك التي ورثها وآمن بها، ودفع أثماناً باهظة في سبيلها دونما نتائج تذكر، في عالم السرعة الفائق، وتدفق المعلومات المذهل، والتواصل الميديائي "السوبراني" الهائل والواسع؟!.. وهل سننعم بانتخابات حرة وعادلة تقرر فيها "خيارات الشعوب وليس ضرورات الأنظمة"؟! وهل ستقوم عندنا - تبعاً لذلك- حكومات دستورية عادلة خادمة لشعوبها ومعبّرة عن طموحاتها وآمالها في التحرر والبناء والتطور والازدهار والرفاه؟!. وهل سنترك للإعلام الحرية المطلوبة واللازمة، ونسمح له بممارسة النقد البناء والهادف، حتى ولو تعارض مع المصلحة الشخصية لهذا أو ذاك؟!. وهل سنضع قوانين عصرية تعطي المرأة كامل حقوقها المدنية التي شرعتها الأديان وطورها الإنسان؟!!.. وهل سنجهر ونعترف بانهيار حقبة عربية وإسلامية بأزمنتها ورموزها، لكي يكون بإمكاننا أن نرمم أو نعيد بناء واقع عربي جديد، حيث لا نترك الفرد والمواطن العربي محبطاً ويائساً وقابلاً للوقوع رهينة للصدمات التي يمكن أن تواجهه نتيجة التغيرات والمناخات السلبية؟!!

هذه كلها أسئلة مركزية، تتركز الإجابات العملية عليها على طريق أو من خلال معطى واحد أساسي هو "ضرورة التجديد الديني"[8]، وضرورة إعطاء التدين السلوكي عندنا معانٍ وتمثّلات واقعية جديدة، للنهوض بواقع مجتمعاتنا التي هي في العمق وبالأساس الذاتي مجتمعات متدينة، ولا يمكن قطعها مطلقاً عن جذورها التاريخية والحضارية الدينية منها بالذات، ونؤكد أيضاً على أهمية تهيئتها ذاتاً وموضوعاً للدخول العملي الفعلي في عصر الحداثة.

ونحن هنا لا نذهب مذهب تلك التحليلات والمقاربات النقدية للتراث، والمقترحة لتجديد الفكر الديني الإسلامي والقائمة على فكرة زائفة عقيمة، مفادها أن حداثة المسلمين لابد وأن تمر على طريق القطيعة المعرفية العميقة بين الفكر الإسلامي والحداثة؛ أي بين الحداثة والدين الإسلامي نفسه. وإذا صحت مثل هذه الأطروحة "الرغبوية"، فإن المجتمعات الإسلامية لن تستطيع الإفلات من المصير التراجيدي في الاختيار بين الحداثة المُستَلِبَة التي ترتكز على رفض الذات، وبين هوية فاقدة لقيمتها تقود إلى الاستبعاد والتهميش.. وفي هذه الحالة، سيجد المسلمون أنفسهم محكومين، مهما فعلوا، بالفصام وعذاب الضمير[9].. فكيف إذن يمكن تفسير هذا العجز التاريخي للمجتمعات العربية الإٍسلامية؟ وما هو دور معتقداتها الدينية في ذلك؟.. هل إن الإسلام هو الذي يمنع المجتمعات الإسلامية من التقدم على درب الحداثة العقلية والمعرفية، أم إن الحداثة، على العكس، بالشكل الذي تم فيه إدخالها وتطبيقها في معظم البلاد الإسلامية؛ أي كحداثة آلية وتقنية لا إنسانية؟.. ثم ما هي الأسباب التي تمنع الإسلام من التجدد اليوم، إذا كان قد استطاع القيام بذلك فيما مضى تأقلماً أو تكيفاً واستجابة؟!!.. لاشك أن الإجابات العملية الصحيحة والعميقة على هذه الأسئلة التي تطرحها مختلف المقاربات الحالية للإسلام لها أهمية كبيرة، لأنها ستساهم في تحديد دور ومكانة الإسلام في صوغ المستقبل الأخلاقي والفكري، وبالنتيجة التنظيم السياسي والاجتماعي، للمجتمعات المسلمة.

وبمراجعة تاريخية علمية للإسلام التاريخي، نلاحظ أنه - وبعكس الأفكار الشائعة اليوم- لم يبق الإسلام جامداً طيلة أربعة عشر قرناً ويزيد، بل تعرض لتحولات عميقة، سواء كان ذلك على مستوى النظم العقائدية أو على مستوى الممارسات التاريخية السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك كانت التغيرات عميقة فيما يخص الفكر والمجتمع الإسلامي، وجغرافيته السياسية، وأنماط تنظيمه، وشروط تطوره وأنماط إلهامه. وعلى الرغم من تأخرها الحضاري الواضح، لا تعيش المجتمعات الإسلامية في فضاء مغلق ولا خارج إطار زمانها؛ بل هي منغمسة تماماً في الحداثة، بإنجازاتها الإيجابية وآثارها السلبية معاً. ولكن من دون غطاء وعمق معرفي قيمي وفلسفي عميق ومتجذر من صلب حضارتنا وتاريخنا وقيمنا.


[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 14

[2] مصطلح "التدين" المستخدم هنا مختلف ومتمايز عن مصطلح "الدين".. فالتدين عبارة عن سلوك فردي أو مجتمعي يستظل بحقل القيم الدينية، ويستلهم من الدين مرجعيته ومقاصده العليا.. إنه التمظهر الخارجي للدين.. وهو صورة مختلفة وغير مطابقة للدين.. هو –في وعينا ومجالنا التاريخي الإسلامي- حقل سلوكي بشري اصطنعه (وابتدعه) الفقهاء ورجالات الدين الإسلامي خلال فترات ومراحل زمنية خيضت فيها التجارب والسلوكيات التراكمية الممتدة في مجالنا الاجتماعي العربي والإسلامي.. بدليل هذا الحجم الكبير للاختلافات والتباينات "التدينية" القائمة بين فرق وملل ونحل الإسلام ذاته؛ أي ضخامة الهوامش التأويلية (التدينية) على حساب ضآلة حجم المركز (الديني) ذاته. أما الدين، فهو النص المقدس الباكر، كما أنزله الوحي الواقع خارج نطاق تجربة البشر، يحتل فيه الغيب موقع القلب والجوهر.. وعنه تتفرع نظم معرفية وعقائد وحقائق ونظريات لا تنتظم بمعايير تجارب البشر، بل بمعاييرها الخاصة الخارجة عن نطاق المحسوس والمحدود، تؤسس لعلاقة المخلوق بالخالق. إنه (أي الدين) حالة في الفكر والإحساس والممارسة تتلبّس الإنسان المتدين. وقد قال توماس هوبز عنه (عن الإنسان) بأنه كائن ديني. (راجع: هوبز، الليفياتان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة: ديانا حرب وبشرى صعب، صادر عن دار الفارابي، لبنان/بيروت، طبعة عام 2011م).

[3] نعم، هناك عطالة ذاتية في صميم الفكر الإسلامي المتكدس والمتراكم تاريخياً والناجم عن جمود العقل المسلم، ولكنه ليس هو فقط من يعيق التنمية والحداثة.. وليس هو ما يفسر تأخر بنيات مجتمعاتنا الحديثة، أو الطابع السوقي والآلي اللإإنساني للحداثة؛ وإنما الحداثة السالبة هي التي تفسر تعطيل الفكر الإسلامي، وانعدام فرص تجديده في الاتجاه الصحيح.

[4] تركيزنا هنا على أهمية الحداثة العقلية والتقنية التي بهرت الناس والعوالم والمجتمعات، لا يعني أننا نعيش عقدة هذه الحداثة، خاصة مع غياب حالة "التأسيس الفكري والأخلاقي القيمي" لها.. ولا يعني أن ننغمس فيها بصورة ميكانيكية آلية جامدة، أفرغت تلك الحداثة من مبادئها وقيمها الإنسانية المفترض أنها مقاصدها العليا، وقلّتصها إلى مجرد ربح نفعي، و"مكتسب تكنولوجي" على حساب الحريات الأخلاقية والمدنية والسياسية التي نسعى إلى تمثلها هنا في عالمنا العربي الإسلامي. أي السعي لتحرير هذا الفرد بدلاً من استمرارية عبوديته لأنماط وأشكال "حداثية" استلابية جديدة.

[5] فقدان المجتمعات العربية الإسلامية للحريات الأساسية، وعدم إيجاد واكتشاف مواطن قدم معرفية دينية عملية لها في المجالات العملية الاجتماعية، كي تكون مقبولة داخلياً، ساهم وربما منع بقوة في إعاقة تطور ونمو تلك المجتمعات.. باعتبارها (أي الحريات العامة) مكوناً أساسياً وناظماً محورياً في مسألة التنمية البشرية التي نعني بها هنا حصراً (كما جاءت في تقارير التنمية العربية) عملية التوسع في حجم ونوع الحريات الحقيقية التي يجب أن تتوافر للمجتمعات العربية الإسلامية كقاعدة لنموها الاقتصادي والاجتماعي بما يفضي إلى بناء القدرات البشرية التي تمكن من التوصل إلى مستوى راق في الرفاه الإنساني، كالعيش حياة طويلة وصحية واكتساب المعرفة والحرية. وهذا يعني مركزية الحرية في التنمية الإنسانية، حتى إن بعض الكتابات النظرية تساوي بين التنمية والحرية. لأن العلاقة بين الحرية الفردية من جهة، وبين إنجاز السبل العملية الصحيحة للتنمية الاجتماعية من جهة ثانية، تتأثر بما يمكن للناس (وهم قاعدة وغاية أي نشاط أو جهد، باعتبارهم الثروة الحقيقية للأمم) أن يحققوه.. وهؤلاء لا شك يتأثرون بدورهم بالفرص الاقتصادية وبالحريات السياسية، وبالقوى المجتمعية وبطبيعة المناخات والشروط الممكنة والمتوافرة والميسرة لضمان صحة جيدة، وبالتعليم الأساسي، وبتشجيع المبادرات العملية وغرسها (حيث إن الحرية ليست فقط أساساً لتقييم أي عمل من حيث كونه ناجحاً أو فاشلاً، وإنما هي المحدد الرئيس والناظم المركزي لتلك المبادرات فردياً وجماعياً، فمنح الناس مزيداً من الحرية يعزز قدرتهم على تحسين خياراتهم، ويدعم مساعدتهم لأنفسهم وكذا في التأثير على العالم)..

[6] نذكر أن انفتاح الناس على الأفكار الحديثة، لا يجب أن يأتي متناقضاً بصورة صارخة مع معتقداتها ونسيجها التاريخي، فمجتمعاتنا سبق لها أن جرّبت كثيراً من الأفكار ومشاريع التحديث القسرية المفروضة من فوق، ولم تنفتح عليها.. أدارت لها ظهرها، ولم تدعمها، لأنها كانت أيديولوجيات خارجة، مفروضة بقوة القمع والعسف، وبعيدة عن وعيها التاريخي بقيمها، ومجمل مخزونها التراثي الذي تكن له كل تقدير وولاء.

[7] راجع: غليون، د. برهان.. "الحداثة المغدورة"، ددار لاديكوفيرت، باريس، طبعة أيار: 1997م، حيث يوضح غليون هنا بأن ما تعيشه المجتمعات العربية الإسلامية من فوضى وخراب اليوم، هو تعبير عن انفجار أزمة هذا النموذج الفاسد والفج، غير القابل للحياة، للحداثة. والنتيجة أن المسؤول عن هذا الخراب وتلك الفوضى ليست الحداثة، كما يعتقد الكثير من الاسلاميين، كما أنه ليس التراث كما يعتقد معظم العلمانيين. ولكن غياب (تغييب) الفكر النقدي عن الممارسة التاريخية الحديثة العربية الإسلامية، سواء أكان ذلك في ميدان الحداثة، أو في ميدان التراث. وبالتالي تشيؤ الحداثة والتراث معاً. فمن دون مرافقة الحداثة والتحديث بالفكر النقدي المستقل والحر، ما كان من الممكن أن يكون الدخول فيهما إلا على سبيل الاقتداء الأعمى والانخراط القطيعي. ومن دون مواكبة الخروج من سلطة التراث بالروح النقدية المماثلة جاء التجديد الفكري قطيعة مع التاريخ. وبالتالي استلاهاً محضاً وتمثلاً لمذاهب وأيديولوجيات جاهزة من دون تمحيص ولا تقويم. بسبب ذلك جاءت الحداثة تحديثاً رثاً، ومراكمة لمنتجات وبضائع جديدة أجنبية مقطوعة عن مساراتها وقيمها. أي استهلاكاً لإبداعات الآخرين، لا بناء لهياكل إنتاجية وسيرورات إبداعية.. كما جاءت القطيعة مع التراث في صورة تمزيق للروابط مع الماضي وقتلاً لروح التواصل الجماعية، التاريخية والجغرافية.. أي تحطيماً للمرجعيات الثقافية العميقة وتهديماً للهوية، بدل أن تكون إعادة استثمار للتراث، ولما يمثله من رأسمال تاريخي في عملية تجديد التواصل داخل المجتمعات، وترميم الجسور المفتوحة نحو كل الحضارات.

[8] طبعاً، نحن عندما نتحدث عن قضية الاجتهاد الديني وأهمية الإصلاح في الفكر الإسلامي من أجل تهيئة الأجواء للدخول الآمن والمستقر إلى الحداثة، فإن ذلك يعني من جهة أولى، رفض مراوحة هذه الثقافة التاريخية الإسلامية في مكانها، ليجتر أصحابها مقولات ومفاهيم خارج نطاق الحياة والعصر... ومن جهة ثانية، يعني عدم الاكتفاء بترديد أغاني الماضي التليد وإنجازات العصور القديمة، بل عليها (على ثقافتنا الإسلامية) أن تواكب حركات التقدم الذي وصلت إليه الثقافات الأخرى، وأن تتفاعل بشكل خلاق ومبدع مع كل الإنجازات العلمية والفكرية التي ساهم بها مثقفو الأمم والحضارات الأخرى.

[9] راجع، غليون، د. برهان. "الحداثة وتجديد الفكر الديني". الحوار المتمدن، العدد: 1598، تاريخ: 1/7/2006م

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك