التسامح والثقافات

التسامح والثقافات

عاطف علبي*

يقال: إن الشعوب المتمدنة والمتحضرة والمثقفة هي أقرب (دون حتمية ذلك) إلى أن تكون متسامحة ويقوم فيها المجتمع المدني، وبالتالي العلمنة التي بإمكانها القضاء على اللاتسامح أو التعصب. بناء عليه هناك علاقة بين التسامح والثقافة. فالمساحة الثقافية (الدين، الفلسفة، علم الاجتماع، السياسة، القانون، الأدب، الفن.. إلخ...) تشكل مضمون الإطار التاريخي الذي ولد ويولد فيه من اللاتسامح التسامح.

لذلك لتوضيح لوحة الموضوع لا بد في البدء من تعريف التسامح وكذلك الثقافة. التسامح هو موضوع كبير، لذلك نحيل من يرغب فيه، لا سيما بالعمق والتفصيل إلى الفصل الثاني من كتابنا "أضواء على التسامح والتعصب"(1). أما هنا فنكتفي ببعض التعريفات بالنسبة له- التسامح-، ومن ثم ننتقل إلى تعريف الثقافة، وبعدها نتناول العلاقة بينهما- التسامح والثقافة، أو بالأحرى الثقافات كونها متعددة.

ما هو التسامح؟

إن كلمة تسامح باللاتينية Tolerantia وبالفرنسية tolerance وبالإنجليزية toleration وهي تعني لغويا" التساهل وعند علماء اللاهوت الصفح عن مخالفة المرء لتعليم الدين(2).

ومن معاني التساهل (وهو التسامح بتعبيرنا): "أنه سلوك شخص يتحمل دون اعتراض أي هجوم على حقوقه في الوقت الذي يمكنه فيه تجنب هذه الإساءة. ويعني استعداد المرء لان يترك للآخر حرية التعبير عن رأيه ولو مخالفا ولو خطأ"(3).

أما أديب إسحاق فيرى فيما نسميه التساهل وهو التسامح: "رضا المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه واحترامه لرأي الغير كائنا ما كان، رجوعا إلى معاملة الناس بما يريد أن يعاملوه به. فهو على يقينه لما يراه لا يقطع بلزوم الخطأ في رأي سواه، وعلى رغبته في تطرق رأيه إلى الأذهان، لا يمنع الناس من إظهار ما يعتقدون(4).

فهذا التعريف لأديب إسحاق أكثر تفصيلا من تعريف حسن حنفي الآنف الذكر، وبالتالي فالتعريفان متممان لبعضهما بعضا.

وبهذه المناسبة فالإمام الشافعي -رضي الله عنه- يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وهذا منتهى التسامح ورفض مطلق للتعصب. ومعلوم أن الشافعي عاش في القرن الثاني للهجرة أي قبل 1300 سنة. وبذلك يتجلى التسامح في الفقه الإسلامي قبل الأخذ به دينيّاً ومدنيّاً في القرن السادس عشر على أثر الحروب الدينية المسيحية.

أما قاموس لاروس الموسوعي فيرى أن التسامح هو موقف من يقبل لدى الآخرين وجود طرق تفكير وطرق حياة مختلفة عما لديه هو. وبالتالي فهو موقف من يتحمل نتائج العوامل الخارجية عليه، لا سيما العدائي والمضر به منهما. وبذلك يصبح مبدأ التسامح مبدأ توافقياًّ ويكون الغرض منه ليس الأخذ بالممنوعات ولكن الوصول إلى التوافقـات. هذا والتسامح في الدين هو احترام حرية التعبير والانفتـاح الفكري تجاه الذين يمارسون ديانات وعقائد دينية مختلفة عمـا نمارس(5).

وهنا بالنسبة لما سلف من تعريفات فالجديد هو فكرة التوافق.

وفي هذا المجال لا بد من الأخذ بهذه الكلمة- التسامح- في الإطار الفلسفي وكذلك التاريخي- الجغرافي للإجابة على: متى ظهر التسامح؟ ولماذا وأين وكيف؟ حيث تبرز تعريفات تتماشى والتطور الذي انتاب الدين والفلسفة على مر العصور نتيجة التحولات الحضارية المختلفة.

فهناك تعريف للتسامح في التاريخ أقدم من تعريف لاروس الذي عرضنا (مقروناً بتعريفي حسن حنفي وأديب إسحاق أيضاً) يتماشى مع ظهور الكلمة في القرن السادس عشر إثر الحروب الدينية حتى الأخذ بها في القرن التاسع عشر مع الفكر الحر وبالمعنى المعاصر (التسامح مع الزواج الحر والبورنوغرافيا والمخدرات... إلخ...). ذلك أن الدعوة إلى التسامح تأتت عن أزمة الإصلاح وفي غمرة الحروب الدينية. وبالتالي" فالتمسك بالمعتقدات بالموقف الديني"(6).

هذا التعريف الذي بدأ دينيّاً وانتهى -إن جاز التعبير- مدنيا "يتلخص بالنسبة للدين" في كون الدولة هي صاحبة السلطة في المجال الديني، إنما النظام العام يفيد من السماح لكل المعتقدات بالتعبير الحر عن ذاتها(7).

بناءً عليه فالمناداة بالتسامح هي لمصلحة الدولة والمجتمع المدني، ومن ثم فنحن هنا تجاه ما يمكن تسميته بالتسامح السياسي.

هذا بالإضافة إلى ما ورد في هذا المجال فإن الأخذ بالدين مرتبط بالدولة وحيث إنه ليس النفع للنظام العام المنبثق عن الدولة من ذلك، بل هو الواجب على الدولة القيام به، نتيجة لما ورد لدى حسن حنفي: "إن سلطان الحكومة لا يستطيع أن يؤثر في معتقدات الإنسان الدينية، وإن الرضوخ للحكومة في هذا الأمر لا يُنْتِجُ إلا اعترافات يحدوها الرياء والكذب. إنه لينبغي إفساح المجال لكل مذهب وإن من واجب الحكومة المدنية أن تحقق سعادة الأفراد جميعاً، سواءٌ من كانت معتقداته صحيحة ومن كانت معتقداته سقيمة. إن الله نفسه ليبين لنا رغبته في أن يعبده الناس بوسائل شتى وإننا نستطيع الوصول إليه من ألف سبيل"(8) (منها عبادة الله في الطبيعة، في الحقيقة، كما لدى طاغور في مجموعته الشعرية الجنينة) وفي ذلك توسع بالنسبة لما ورد لدى"لالند" مع ربط للمدني بالديني معمق في جذوره الدينية والمدنية. وذلك باعتبار أن جهودا عديدة قد بذلت من أجل إرساء مبدأ التسامح، وذلك منذ صدور مراسيم التسامح الرومانية للمسيحيين سنة 311-313م، ثم التسامح بين المسيحيين وفرقهم المختلفة. ومن الصدف الغربية أن يكون رجل غير مسيحي هو الذي علم الطوائف المسيحية كيف تتسامح بعضها مع بعض. إن ذلك الرجل هو تمستيوس(9) الذي وجه خطاباً إلى الإمبراطور"فالنس" حضه فيه على إلغاء المراسيم التي أصدرها لاضطهاد مخالفيه من المسيحيين(10). وقد شرح له ما أوردنا من تعريف يدل على واجب الحكومة في الموضوع مبيناً تخطي الرياء والكذب وطارحاً شفافية دينية في علاقتنا مع الله.

يبدو لنا أن هذا يعود إلى المستوى الرفيع الذي وصلت إليه الوثنية وحضارتها والى الحس المدني لدى"تمستيوس" ورؤيته السياسية وقبوله بالدولة الديمقراطية. وذلك لأنه أيام"كونستنتان"(11) Constantin الذي اعتنق المسيحية سيفرض الدين المسيحي ويعود عدم التسامح تجاه من ليس بمسيحي. ذلك أن كونستنتان كان قد رأى الضعف الذي دب في الإمبراطورية ورأى تفاني هؤلاء المسيحيين في معتقدهم، رغم رميهم إلى السباع، تراءى في توحيد الإمبراطورية تحت راية الدين المسيحي وسيلة لتماسكها وشد لحمتها. فكما نرى فالتسامح وعدمه رهن بالظروف التاريخية وليس هو مجرد مبدأ أخلاقي فقط.

بعد ذلك نعود لتعريف "لالند" حيث "إن التسامح عنده هو موقف فكري، أو قاعدة سلوك لشخص ما، تتلخص في أن يترك لكل إنسان حرية التعبير عن آرائه، في الوقت الذي لا يوافق عليها ولا يشارك فيها. لذلك فحرية الفكر هي واجب للتسامح"(12).

هذا بالإضافة للتحديد العصري للتسامح القائل: بعدم التخلي عن القناعات الذاتية، أو الامتناع عن الجهر بها، والدفاع عنها، أو نشرها، إنما الامتناع في ذلك عن كل الوسائل العنفية والتعسفية والمضرة. بكلمة طرح الآراء دون العمل على فرضهـا"(13) هذا بالإضافة أحيانـا إلى "الاحترام اللطيف لمعتقدات الآخرين، كونها تعد إغناءً للحقيقة الكاملة"(14).

فكما نرى فهذا التعريف الديني والمدني والعلماني إلى حد ما، والأخلاقي للالند، والذي عرضنا، يعد أكثر تفصيلاً "أفقياً وعموديّاً، إن جاز التعبير، بالنسبة للتعريف السابق للقاموس الموسوعي لاروس (وغيره) الأكثر تكتيفا في مرماه. كما أنه يذكرنا بفكرة بوسيه"(15) Bossuet في كون التسامح المدني مرتبطاً بذهن من يتمسك به بالتسامح الديني، وحيث نتذكر أيضاً كتاب "ف. بويسون"F.Buisson المرتكز الديني للأخلاق العلمانية" (Fshbachen,1917)(16).

ونضيف إلى ذلك أن التسامح هو من أهم القيم التي يتطلبها التاريخ الحديث، ففي عالم يتجه إلى الوحدة فإن تلاقي المتنوعات يمكن أن يكون قتالا إذا لم تتألف بغرض الاغتناء المتبادل للخلافات فيما بينها، فالتسامح هو بالتالي وبمنتهى الإيجاز: الاعتراف بالآخر والتعايش معه والتقدير له والقبول به ومحاولة التبادل الخلاق معه(17).

وهذا يذكرنا بطرح حوار الثقافات الذي تنادي به الفرانكوفونية وبنداء البابا يوحنا بولس الثاني أيضا والقائل بحوار الثقافات من أجل حضارة السلام، كما أن التسامح متجذر في التاريخ بعمق تجذره في ضمير الإنسانية، وقد عرف الانتكاسات والتراجعات (من جراء اللاتسامح) التي لم تُعِيقْهُ عن شق طريقة عبر العصور. إنما في إطار النسبية، حسبما نرى، وذلك لأن جدلية العلاقة بين التسامح واللاتسامح تاريخياً تدعو إلى الانطلاق من اللاتسامح للوصول إلى التسامح. وكذلك من التسامح نصل إلى نسبية الأخذ به من جراء التوق المزدوج للبشرية إلى الأمان والحرية، الأمر الذي يعيدنا إلى اللاتسامح ولو النسبي، وربما حسب الظروف التاريخية إلى اللاتسامح، ولنتذكر هنا قول "ديدور" بالنسبة لذلك "وميرابو" أيضا: المتسامح طالما هو ضعيف من المحتمل جداً أن يصبح غير متسامح إذا ما تزايدت قوته (ميرابو)(18)، التسامح هو نظام المقهور الذي يتركه عندما يغدو قويّاً، لدرجة أن يصبح لا متسامحاً "ديدرو"(19).

فكل شيء في الوجود هو خاضع لقانون النسبية، سواء أكان ذلك في الطبيعة أم في المجتمع، وسواء أكان الأمر يتعلق بالتركيب التحتي أو التركيب الفوقي للمجتمع.

ما هي الثقافة؟

الثقافة هي مجموع المعارف المكتسبة والتي تسمح بتطور النقدية والذوق المحاكمة. كما يعتبرها "هريوت" "herriot" ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء، ويقال في وصف إنسان مثقف إنه ذو ثقافة عالية أو قوية أو متينة، أو حتى بعضاً من ذلك الوصف أو كله. وفي مجال الاختصاص يقال عن شخص ما: إنه ذو ثقافة فلسفية أو أدبية أو علمية أو فنية أو كلاسيكية... الخ.. أما صاحب الثقافة العامة فهو الإنسان الذي هو متمكن من حقول الثقافة التي تعد ضرورية للجميع. والثقافة هي مجموعة المظاهر الثقافية لحضارة ما. يقال: الثقافة الفرنسية، والثقافة العربية، الثقافة اليونانية – اللاتينية، والثقافة الغربية... الخ(20).

لافت للنظر هنا كون الثقافة مجموعة المظاهر الثقافية لحضارة ما، بمعنى أن الثقافة ليست بالحضارة. وهذه هي النظرة المثالية في الموضوع والتي تعدّ الثقافة شيئا منفصلاً عن الحضارة، لكن النظرة الماركسية لا تقبل بهذا الفصل.

بالنسبة للماركسية: "الثقافة هي كل القيم المادية والروحية – ووسائل خلقها واستخدامها ونقلها – التي يخلقها المجتمع من خلال سير التاريخ". وبمعنى أكثر تحديدا، فإنه من المعتاد التمييز بين الثقافة المادية (الآلات والخبرة في ميدان الإنتاج وغير ذلك من الثروة المادية) والثقافة الروحية (أي المنجزات في مجال العلم والفن والأدب والفلسفة والأخلاق والتربية..إلخ) والثقافة ظاهرة تاريخية ويتحدد تطورها بتتابع النظم الاقتصادية – الاجتماعية. وترى الماركسية اللينينية على خلاف النظريات المثالية التي تنكر الأسس المادية للثقافة وتعدها النتاج الروحي "للصفوة"، إن إنتاج السلع المادية هو أساس ومصدر الثقافة الروحية. ومن هنا فإن الحضارة هي نتاج أنظمة الجماهير والثقافة الروحية – رغم أنها أساسا تحدد بالظروف المادية – وإلا تتبع تلقائيا التغيرات التي تغذي الثقافة المادية، التي تتميز عنها باستقلال نسبي واستمرار في التطور والتي تخضع لتأثيرات الشعوب الأخرى. وتتخذ الثقافة – في أي مجتمع طبقي – طابعاً طبقيّاً، سواء فيما يتعلق بمضمونها الإيديولوجي أو أهدافها العميقة. فتنقسم كل ثقافة وطنية في ظل الرأسمالية إلى ثقافتين تَضُمَّان الثقافة المسيطرة، وهي ثقافة البورجوازية، وعناصر متباينة في تطورها من الثقافة الديمقراطية والاشتراكية للجماهير المقهورة"(21).

وكما نرى بالماركسية أنها لا تقر بالفصل الذي تأخذ به المثالية، ومع ذلك فإنها ترى فصلاً نسبياً بين الثقافة والحضارة ليس إلا، فهناك علاقة جدلية بينهما في مسار تطور التاريخ، وذلك عبر التركيب التحتي والتركيب الفوقي للمجتمع.

بعد هذين التعريفين للثقافة: المثالي والماركسي، حيث في الأول نجد الفصل الكلي بين الثقافة والحضارة، وفي الثاني نرى الفصل النسبي بين الثقافة والحضارة، ونعود إلى موضوعنا "التسامح والثقافات" حيث ستنجلي العلاقة وبشكل موسع ومعمق بين التسامح والثقافة أو الثقافات كون الثقافات تتداخل فيما بينها بفعل حركة التاريخ.

يرى الكاتب سليمان بشير ديغان أستاذ الفلسفة في جامعة دكار (السنغال) أن هناك قيما نظن أنها من عصر آخر، يبدو أنها توجب اقتناعنا بعودة القبيلة، وذلك خلف عدم اليقين في تشكل الدولة – الأمة، حيث تبرز اللايقينية. وفي هذا الصدد هناك تشابه فيما يجري في أوروبا الشرقية وبينما يجري في أفريقيا، فقد تلا نشوة بدء عملية "الديمقراطية" بعض خيبة أمل اليوم، تجلب بعدها تعرية هذه العملية، وذلك في مختلف مظاهر تعدد الأحزاب، ومختلف أشكال انقضاض القبيلة على الدولة ونتائج الانتخابات التي تبدو بمثابة إحصاء اثني(22).

هذا الذي أوردنا يذكرنا بجرجرتنا للقبلية حتى اليوم في عالمنا العربي وكذلك الإسلامي.

إن هذه المظاهر السياسية الإثنية تتأكد لإنتاج الصورة التي يصفهـا "ايمانويل ليفيناس(23) بأنها: "ضجة الثقافات المتعددة والمتوازية، وكل منها يبرر في إطار ظرفه الخاص. وذلك في زمن لم يكن يتصور فيه بالطبع بَعْدُ أن الإمبراطورية الشيوعية سوف تتفكك. فذلك هو نتيجة "زوال الاستعمار الذي خلق بالتأكيد عالماً غير مستعمر، ولكن أيضا في الوقت نفسه أوجد عالماً تائهاً ضال الوجهة"(24). ويبدو لنا أن العالم غير المستعمر سياسيّاً بقي مستعمراً اقتصاديّاً (الاستعمار الجديد).

فإذا ما كان الأمر كذلك، وإذا ما تعايشت الثقافات في إطار انفصالها بعضها عن بعض فلن يبقى هناك من معنى لمسألة التسامح. ومن ثم نواجه "تسامحاً من دون عقبات" والذي هو لقاء الغيرية (ما يخص الآخر في مقابل الأنا) وليس الثقافات، إنما بما هو أبعد منها(25). فلنر إذن "ضجة الثقافات ومسألة غير المحتمل".

إن هذا الاصطفاف للثقافات الإنسانية يؤدي إلى اعتبارها كلها كتعبيرات عن العالمي وكلها متساوية أو بالأحرى متعادلة.. لكن هل من الضروري عدم التفكير في تعايشها بغير عبارات السيطرة وعلاقات القوى التي تحدد الإمبرياليات أو الانفصالات(26)؟

يتبادر إلى الذهن في هذا المقام قول جاك بيرك – Jacques Bercque ما معناه أن الخطر قد ظهر إلى الوجود حالياً من تجاوزات القومية الخارقة للدينامية، نحو انتقامات متهورة، والتي من المفترض أن تدفع الجميع نحو الأكثر من الإنسانية والتصرف الأكثر انفتاحاً نحـو العولمة(27).

لكن يبدو لنا أن ما أشرنا إليه آنفاً من بقاء الاستعمار الاقتصادي والاستثمار الجديد قد لعب دوره السلبي هنا في تأجيج القوميات القبلية، لاحتواء ما في أراضيها من خيرات اقتصادية مستغلاً في ذلك تركيبها المتعدد الديانات والمذاهب والاثنيات واللغات. الأمر الذي أدى إلى الصراعات العرقية غير المتسامحة والتأخر عن مواكبة البعد الإنساني في ثقافة وحضارة هده البلدان الحديثة الاستقلال وتلكنها عن مواكبة العولمة لما تتوجس فيها، وهي على حق في ذلك من شر اقتصادي قبل أن يكون ثقافياً – حضارياً، يضمر لها في هذه العولمة. وفي ذلك تعليق على ما يقول جاك بيرك وعلى كل اللوحة السالفة الوصف هنا.

لذلك فالتسامح (بالمعنى الأول وهو هنا القبول بالاختلاف الثقافي)، يجد نوعا ما حدوده في الحالة المعتبرة غير محتملة، وذلك أبعد من كل شرعية ثقافية للنساء يعمل على بترها مثلاً، وبذلك تتجسد على ما يبدو اللزومية التي عبر عنها "ايمانويل ليفينا" بالنظر إلى الحضارات والحكم عليها انطلاقاً من الأخلاقي فيها(28).

الواقع أن عصرنتنا وممارستنا لها يعملان على إرساء شرعية نوع من الصراع حول حقوق الإنسان وحول ما يدعى بواجب التدخل، فهذا المفهوم مهما كان احتمالياً وأياًّ كان الخطر الذي يتضمنه في الممارسة، لإعطاء لباس أخلاقي للقوة التي تعمل على إظهار المصلحة، ويبقى خطراً رئيسياً عندما يتعلق الأمر بالتفكير في التسامح الحقيقي والإيجابي(29).

نقول تسامحاً حقيقياً وإيجابيا، على اعتبار أنه يوجد تسامح سلبي -كما نعرف- وهو الذي يقوم على قبول الاختلافات بمعنى القبول بها طالما لا تزعجنا كثيراً أو لا تمسنا مباشرة. وهذا التسامح هنا يمكن أحيانا أن يقبل بغير المحتمل، مع رفض محاكمة الآخر من جراء الكره الثقافي(30) وفي ذلك على ما يبدو لنا الوصول إلى اللامبالاة والتي تبدو بمثابة التسامح السلبي في حين نحن بحاجة إلى التسامح الإيجابي، لذلك يبدو لنا أن هذا المعنى الإيجابي والسلبي للتسامح يتميّز هنا بربطه بالثقافة، حيث يحدث التسامح الكبير مع ثقافة الآخر.

هذا ومن المحتمل أن يصل التسامح السلبي، حسب الظرف الثقافي المتطور إلى درجة اللامبالاة كما إلى درجة اللاتسامح. وفي ذلك عود على بدء لإشكالية الموضوع – التسامح (حيث للتفاصيل يراجع الفصل الثالث: إشكالية التسامح "من كتابنا المشار إليه آنفاً" أضواء على التسامح والتعصّب)، حيث إنه على ما يبدو لنا أن للثقافة دوراً في تحرك الإشكالية هنا، لكن مع تأكيدنا مجدداً في إطار الحضارة والثقافة على كبر دور العامل الاقتصادي (الذي نرى فيه المقرر الأكبر في نهاية المطاف) الذي يتأكد منه بمراجعة دراستنا العنصرية والحضارة الغربية، أو الجذور الاقتصادية للتمييز العنصري في مجلة العرفان(31).

لذلك بإمكاننا -ومن دون التركيز على هذا التناقض هنا-، القول بأن "الآبرتايد" (انظر دراستنا الجذور الاقتصادية للتمييز العنصري المشار إليها أعلاه) كان يمارس هذا التسامح الذي أشرنا إليه الآن تسامح كلٍّ في بيته (والذي يذكرنا بتعبير بول كالوديل(32) "التسامح هناك بيوت له") إن جاز التعبير. إن هذه النظرية "للتطور المنفصل" تفكر بالثقافات التي هي مختلفة بشكل أساسي والمنغلقة في مبادئها وتقاليدها الخاصة. إن الإرادة التي دمغت هذا النظام (الآبرتايد) قامت على خلق ومنح الاستقلال الأكبر ما يكون "للبوتوستونات" (المعازل) (نظر دراستنا الجذور الاقتصادية للتمييز العنصري في مجلة العرفان المشار إليها) والتي تتوافق والثقافات الأخلاقية المحصاة. وهذا يبدو بالتالي بمثابة الترجمة السياسية للفلسفة التي حتى قبل أن تكون غير متساوية في الواقع، كانت غير إنسانية بمعنى أنها تختزل مفهوم الإنسانية بمجرد خلاصة علم الحيوان "لإنسانيات منفصلة بعضها عن بعض"(33).

إن إعطاء البعد الفلسفي الأخلاقي للآبرتايد يبدو لنا أنه في غير محله، وذلك لأنه نظام عنصري في منتهى اللاإنسانية، ويقوم على المصالح الاقتصادية للأقلية البيضاء في جنوبي أفريقيا ليس إلا، ويعمل على بنائه اليوم في إسرائيل حيث الحائط المكهرب العازل بين إسرائيل والفلسطينيين. إن ما أقدم عليه الكاتب سليمان بشير ديغان من التفسير الفلسفي السياسي الأخلاقي للثقافة لا نقبل به لمثل هذا النظام. وللتدليل على ذلك نحيل من يرغب في التفصيل إلى الجذور الاقتصادية للتمييز العنصري "دراستنا المنشورة في مجلة العرفان المشار إليها آنفاً".

وقد تسرّبت عدوى الآبرتايد إلى بعض الأيديولوجيات القومية التي نادت بالتطور المنفصل من أجل الخير الأكبر لكل الثقافات. وفي هذا المقام فإن "الآن دي بينوا"Alain de Benoist - في كتابه المعنون "أوروبا العالم الثالث"، نفس الصراع "يأخذ هذه الطريقة نفسها في التفكير. ولذلك نراه يقول في كتابه: " لكل الثقافات في العالم الحق في الوجود، وهذا أمر ضروري من أجل الحفاظ على الخصوصيات الثقافية – الاجتماعية الجماعية. ليس هناك من ثقافة بعد تعدد الثقافات، فالإنسانية هي مفهوم يعود لعلم الحيوان، سهولة لغوية أو مفهوم خال من المعنى"(34).

وهنا يسوق الكاتب سليمان بشير ديغان ملاحظتين بالنسبة لقول "بينوا" هذا -اللاإنساني بالطبع-:

الملاحظة الأولى تتعلق "باللعب" في حق الشعوب ضد المرتكز الإنساني: مفهوم "الإنسانية"، وذلك بالعودة إلى الأنثروبولوجيا النسبية، التي وضعتها المدرسة الأمريكية، والتي تدعو إلى عدم الحكم القيمي لثقافة ما تجاه ثقافة أخرى. وقد تماشى هذا الأمر مع الحركة النظرية والسياسية لزوال الاستعمار. وقد أنتجت هذه النسبية الثقافية المعادية للاستعمار للأنتروبولوجيا الأمريكية للسنوات 1930-1950م ما يسميه الآن دي بينوا التوصية الرائعة المقدمة إلى الأمم المتحدة في عام 1947، من قبل المكتب التنفيذي للجمعية الأنتروبولوجية الأمريكية، والتي تعلن ما يلي: "إن المستويات والقيم تتوقف على الثقافات التي تتأتى عنها بحيث إن كل المحاولات لصياغة المسلمات (جمع مسلمة: قضية هل يجهل قراء المجلة معنى المسلمة غير بدهية ولا مبرهن عليها، ومع ذلك يسلم بها كأسس للاستدلال في المسائل النظرية والعملية – المؤلف) التي تتأتى عن المعتقدات أو القوانين الأخلاقية لثقافة ما يجب أن تسحب من كل تطبيق لإعلان حقوق الإنسان على البشرية جمعاء"(35).

أولاً: الحمد لله أنه لم يؤخذ بهذا الرأي في صياغة حقوق الإنسان، ثم مع موافقتنا على ما ساقه الكاتب سليمان بشير ديغان من وصف لهذه الحالة نضيف أن في ذلك امتداداً للتمييز العنصري القائم آنذاك في الولايات المتحدة نفسها فيما يشمل العالم الذي تنظر إليه، ولا تزال، من خلال مصالحها الاقتصادية الرامية إلى الهيمنة العالمية، والتي تجلت مؤخراً بحركة العولمة (الاقتصادية المغلفة بالفكر الأحادي كثقافة).

الملاحظة الثانية: مرتبطة بالأولى وتفسّر قول "دي بينوا" "نفس المعركة"، على اعتبار أن أنظمة القمع في بلدان العالم الثالث هي نصيرة لنظرية النسبية هذه بالنسبة لحقوق الإنسان وذلك باسم الأصل والهوية الخاصة الثقافية(36).

ونضيف إلى ذلك ارتباط قيادات هذه الأنظمة في العالم الثالث بالدول الرأسمالية المتقدمة لتأمين مصالحها، ومن ثم فهناك تماثل بين متوازيين ليس إلا بحكم المصلحة الاقتصادية من طرف مقابل المصلحة السياسية من الطرف الآخر، مع العلاقة الجدلية بين الطريفين والمصلحتين، فحقوق الإنسان تشكّل المبدأ الذي يوجّه كل ثقافة، من دون الاختلاط بين الثقافات بشكل خاص، ويوجهها نحو التجسيد الكامل للشخصية الإنسانية. من دون هذا الهدف المشترك نحو اللابعد من بعد الثقافات، فإن حوار الثقافات لن يكون له معنى، وكذلك التسامح الحقيقي الذي يرمي الحوار إلى إقامته(37).

نشعر هنا بالأخذ بالعقل في مبدأ حقوق الإنسان والحوار الذي هو غير ممكن من دون العقل من أجل التسامح الحقيقي.

وهنا فإن المفكر "آمادو همباتي" –Amadou Hampate – المالي من أفريقيا وضع مقابل التسامح الذي يتأتى عن مجرد اصطفاف الثقافات المنعزلة ما سماه "احترام الآخر". وهو قد استعمل كلمة التسامح في الإطار الذي يفصح عن أنه يريد أن يقول في الواقع "احترام" و "تقدي" الآخر، وهنا فإذا كان مفهوم "الاحترام" و "التقدير" للآخر، يتوجب عليهما أن يعطيا لمفهوم التسامح مضمونه الحقيقي فإن ذلك لن يكون باستبعاد، بل على العكس -الضرورة الأخلاقية، والتأكد أن في ثقافة الآخر: الإنسان الذي يتلقى ما يستحق "لقيمة شخصه". ومن دون هذا الهدف الموجّه لا مجال للالتقاء والحوار(38).

إن الأخذ بكلمتي "احترام وتقدير" ليس بالجديد في موضوع التسامح علينا (انظر كتابنا أضواء على التسامح والتعصّب لاسيما الفصل الثاني المخصص للتسامح)، إنما الجديد هنا هو ربطهما المتين بالثقافة، بثقافة الشخص الآخر الذي نكن له الاحترام والتقدير مع بقاء الضرورة الأخلاقية في الموضوع بالطبع. وهذا أيضاً من الجديد لأجل الحوار، حيث يكون العقل. فالأخذ بالثقافة هنا يغني الموضوع –التسامح– ويعمقه ويوضحه.

فهذه المقدرة لاستقبال الغيرية هل هي دليل ثقافة ومؤشر لبعض المجتمعات البشرية التي يمكن اعتبارها أكثر تسامحاً من غيرها وأكثر انفتاحاً على الغريب.

صحيح أن في ذلك خاصية ثقافية بارزة في بعض المجتمعات بحيث إنها تعمل كآلات حقيقية لصنع التضامن والتماسك في استقبال الآخر. فهذه الخاصية الثقافية تعمل بشكل واضح للغاية كوسيلة للاستقبال وتناغم الخلافات، وهنا يؤخذ باللاتينية وبالقرابة ولو بشكل غير جديّ وتُعَدُّ بمثابة هبة من السماء(39).

هنا يرد إلى الذهن مباشرة القرابة القبلية لدينا في البلدان العربية والإسلامية. على أنه ليس بالأمر المسرّ اقتصار التسامح على فن توافق الخلافات لصنع التماسك بين الاثنيات وحتى لو أن في ذلك الحيلولة دون خطر الغيرية التي تدجن عندها، على اعتبار أنه لابد من بقاء الاختلاف الحقيقي والإصغاء إليه(40).

بالإضافة إلى ذلك يسوق الكاتب سليمان بشير ديغان هنا المرآة التي تعكس كل معتقداتنا وانتماءاتنا في إطار الاختلاف الذي يكون في الامتحان من أجل التسامح. وبذلك وبعد التفكير المَلِيّ نصل إلى مسلمة حوار الثقافات أو حوار الديانات، والذي هو في الحقيقة "حوار داخلي" حيث الهوية تعمل مع ذاتها عبر خدعة الاختلاف. ويقدم بذلك الحوار واجباً فردياً وليس واقعاً ثقافياً. ومع ذلك فالعرقية (نزعة في الإنسان لرفع شأن قومه وبلده هي القاسم المشترك الأكبر، في نهاية المطاف، على اعتبار أن جوهر كل ثقافة هو التفكير في أنها بمثابة "العالم" بمثابة "الإنسان". فهذا التسامح يختلط في البحث على ما يساعد الغيرية للقيام بخطوة خارج الذات، ويسمح بالتساؤل عن هويتنا وقناعتنا. لكن في الميدان الديني فالتسامح هو مؤشر خلق حقيقي تجاه الله والحقيقة. وهذا التسامح هنا كالقلق الذي يُعَبَّر عنه بأنه ليس له من حدود(41).

نشعر هنا ببقاء الثنائية في التسامح والتي لا تزول، رغم نوعية الثقافة التي تمكّن من التماسك عبر التوافق، مع إبقاء الحوار المنبئ عن بقاء العقل. وفي ذلك شيء في منتهى الأهمية.

فالتسامح الحقيقي والإيجابي يقوم إذاً على العقل، وتفوح منه رائحة عطر الحرية والديمقراطية، وتغوص جذوره في التسامح المطلق (بمعنى العالمي) اليوناني القائم على روحية الحوارات السقراطية. كما أن العالمي هو مؤشر للعقل، وبالتالي فالمجتمعات العالمية هي مجتمعات عقلانية.

هذا كما أنه عن يقظة العقل يتأتى التسامح وتبريره بحيث إن "بايلي" يبرر التسامح كقائم بشكل مطلق وبسيط على السبب الأخلاقي، السبب العلمي العالمي(42).

لكن في ذلك لا يجوز -على ما يبدو لنا- التسامح مع اللاتسامح. لذلك يتطلب التسامح الأساس الإيجابي في الاعتراف بالمساواة كحق لك للناس بحيث يغدو الشك الأساس الوحيد العالمي "كون الحقيقة تصبح لا متسامحة عندما" تقنّع لحظة عدم الشك(43). ومع ذلك نختتم الدراسة بقول الشاعر العربي الكبير الفيلسوف أبي العلاء المعرّي:

كذب الظن لا إمام سوى العقل

مشيراً في صبحه والمساء.

******************
الحواشـي
*) أستاذ سابق بكلية الحقوق بالجامعة اللبنانية.

(1) د.عاطف علبي: أضواء على التسامح والتعصب، دار الفكر اللبناني ط 1، بيروت 2003م.

(2) مجموعة من المؤلفين من أديب إسحاق والأفغاني إلى ناصيف نصار، أضواء على التعصب، حسن حنفي تعصب/تسامح (1986) ص178، دار أمواج، ط1، بيروت آذار 1993م.

(3) المرجع السابق نفسه ص178.

(4) أديب إسحاق، نقلاً عن ناصيف نصار، نقد التعصب ص203.

(5) Grand dictionnaire encyclopedique Larousse (G.D.E.L) V.10, (فيما بعدlibrairie Larousse, 1985,p.10275 (Larousse, p.....

(6) J. Leclerc, histoire de la tolerance au siecle de la reforme, deux

Volumes, aulumir "theologie, n.3, 1955.”:

نقلاً عن: Roland Gray, la tolerance, robert joly, avant-propos, p.18.

(7) Lalande, vocabulaire et critique de la philosophie Librairie Felix (فيما بعد ... Alcan, Paris 1926, p.1133 (Lalande

(8) أضواء على التسامح – حسن حنفي – تعصّب/تسامح ص179.

(9) "تمستيوس" (بافلفونيا 317-القسطنطينية 388) Themstios. وهو فيلسوف يوناني ومدير جامعة القسطنطينية وصديق جوليان المرتد ومربي أركاديوس. لقد لعب دوراً سياسيّاً كبيراً. فكان على التوالي شيخاً ثم حاكماً. وهو مؤلف كتاب عن أرسطو.

(10) أضواء على التسامح، حسن حنفي، تعصب/تسامح، ص179.

(11) قسطنطين (274-337)، وهو قسطنتطين الأول الملقب بالكبير. ولد في نينسوس عام 274، أصبح إمبراطوراً في عام 306م وتوفي في عام 337 م، انتصاره على "مكسانس" عند أبواب روما في عام 312م حسم نهائياً الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية، وفي عام 313م فإن براءة ميلانو تعلن حرية الدين، اعتنق هو نفسه المسيحية في عام 323م، فنقل مركز الإمبراطورية إلى بيزنطية التي غدت القسطنطينة، (نقلاً عن البير بايه، تاريخ الفكر الحر، ترجمة د.عاطف علبي، معهد الإنماء العربي، بيروت 1996 الحواشي ص62.

(12) Lalande, p. 1133.

(13) Ibidem, p.1133.

(14) Ibidem, p.1133.

(15) بوسيه جاك بنين (ديجون 1627-باريس 1704) Bossuet Jacques Benigne. وهو رجل دين وكاتب فرنسي، سيم كاهنا في عام 1652م وأصبح مفوضاً كنسياً لمدينة "متز" Metz حتى عام 1658م، توجه نحو التبشير باهتمامات القديس سان فانسان دي بول الذي آزر بعثاته الشعبية، كان يرسل غالباً إلى باريس حيث اشتهر "بمواعظه" ومراثيه، عندما أصبح مطرانا لمدينة "كوندوم"Condom في عام 1669م أضاف إلى نشاطه الكنسي مهمة مربي ولي العهد الكبير (1670-1680) حيث غدا مؤرخاً وفيلسوفاً، لاسيّما في محاضراته حول التاريخ العالمي (1681) وحيث حاول القيام بخلاصة للنظام الإلهي والنشاط البشري، عندما عيّن مطرانا لمدينة "موو" Meaux (1681) قام بمهمة بمحاربة البروتستانت (هجاه غوديو وجان كلود)، هذا وكقائد حقيقي لكنيسة فرنسا دبج إعلان الاكليروس الفرنسي (1682) بناءً لطلب لويس الرابع عشر، حيث وفق بين السلطة البابوية والحريات الإنغليكانية. في المناظرات مع البروتستانت لم يكن حيادياً، فيما بعد كتب مراسلاته مع الفيلسوف "ليبنتز" حول توحيد الكنائس (1693-1696) معركته من أجل الطمأنينة (مذهب صوفي يرى أن الكمال يقوم على حب الله وسكون الروح) التي وضعته وجهاً لوجه مع فينيلون(Fenelon)، وفي وسط صراعه ضد "ريشارد سيمون"، فيما يتعلق بتفسير الكتابات الدينية.

كان صوفيا شغوفاً بالبحث عن نظام ذي معنى يسمح بالتوافق بين الضرورة الدينية والضرورة العقلانية. (وهذا يذكرنا بمحاولة الفلاسفة المسلمين التوفيق بين الشريعة والفلسفة).

(16) Zaghloul Morsy, la tolerance, essai d'anthologie, texte: reunis et Presente’par Zaghloul Moursy, agrege de l'universite a la faculte De lettres de Rabat, avant-propos, edition arabe 1975, Unesco 1974, imprimerie Catholique, Liban, Berirut.

(17) Lalande, p1134.

(18) ميرابو (1749-1791) Mirabeau (Honore Gabriel Riqueti, comte de): وهو سياسي فرنسي وخطيب مفوّه، لقد كان بشعاً ولكن كان ذكياً للغاية وذا طبع عنيف، كتب العديد من المقالات ليفضح الحكم المطلق والرسائل المختومة وسجون الدولة والامتيازات وسوء استعمال السلطة، شارك في الانتخابات الجمعية العمومية، فلفظه النبلاء بالرغم من كونه نبيلاً، لكن الطبقة الوسطى لمدينة "آراكس" تبنته، كان ألمع خطيب في الجمعية التأسيسية، فلعب لذلك دوراً مقرراً في أوائل الثورة، حيث أعلن في شهر أيار 1789 حرية الصحافة ودافع عن مبادئ الثورة وشارك في كتابة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، كما اقترح أن توضع أملاك الإكليروس تحت تصرف الأمة، طموحه وذكاؤه جعلاه يحاول أن يلعب دور الوسيط بين الملك والجمعية العمومية. مع الوقت تخلى شيئاً فشيئاً عن الوطنيين ليدافع عن المطالب والحقوق الملكية، إنما مع بقائه مدافعاً من وقت لآخر عن المبادئ الثورية. بالرغم من اتهامه بالخيانة من قبل بعض النواب تمكّن من الحفاظ على شعبية نظيفة لدرجة أن انتخب رئيساً للجمعية العمومية عندما وافته المنية فجأة: (Le petit Robert des noms Propres).

(19) Denis Diderot, 1717-1784, France, Memoire pour Catherine, la

نقلاً عن la tolerance p 76. ديدرو (Denis Diderot) (لانغر 1713 باريس 1784م)، وهو كاتب وفيلسوف فرنسي ينتمي إلى البورجوازية المنعمة، بعد حياة بوهيمية كرّس نفسه وحياته للانسيكلوبيديا، التي أشرف عليها وأدارها منذ عام 1747م حتى عام 1766م، كان يرغب حسب تعبير غوته في إثارة العقل، ومن التألهية(pensees philosophiques) انتقل إلى المادية الملحدة. (lettres sur les aveugles a l'usage de ceux qui ne voient 1749). إنما غير الميكانيكية لهلفتيوس، وكان من أنصار أخلاق الطبيعة وحرية الإنسان، وكانت الطبيعة بالنسبة إليه بمثابة قوة إلهية، ويعد من الممهدين للثورة الفرنسية (نقلا عن الفكر الحر والفكر الاقتصادي في الثورة الفرنسية الكبرى 1789م، البير بايه، ف.يا.باليانسكي، ترجمة د.عاطف علبي، من حواشي القسم الأول: الفكر الحر.

(20) Dictionnaire Robert Paris 1967.

(21) الموسوعة الفلسفية، بإشراف روز نتال دي يودين، ترجمة سمير كرم "ط5، دار الطليعة، بيروت 1985م.

(22) Tolerance j'ecris Ton nom, Souleimane Bachir Diagne, la tolerance Et les sultures, p (113) (Souleimane Bachir Diagne, la tolerance et cultures.p 176.

(23) إيمانويل ليفيناس: (توماس 1905-باريس 1975م) EMANUEL LEVINAS وهو فيلسوف فرنسي. فلسفته عن الوجود متأثرة كثيراً بفنومينولوجيا Phenomenologive هوسرل وفلسفة هيدغر Haideger التي أسهم في تعريفها في فرنسا: نظرية الإلهام في فينومينولوجيا هوسرل 1930م، من الوجود إلى الموجود 1947م، الزمن والآخر 1948م، في اكتشاف الوجود مع هوسرل وهيدغر 1949 م، المجموع واللانهاية 1961م، إن تفكيره حول الآخر، وخصوصاً حول أثر الله في وجه الآخر، كان له تأثير هام على الفلسفة الفرنسية (إنسانية الإنسان الآخر 1972م)، ومعرفته بالإنجيل مكنته من الحديث عن صعوبة الحريـة (1963م).

(24) Ibidem, p. 113

(25) Ibidem, p. 113

(26) Ibidem, p. 114

(27) Ibidem, p.115

(28) Ibidem, p.116

(29) Ibidem, p. 113

(30) Ibidem, p. 116

(31) العنصرية والحضارة الغربية "أو" الجذور الاقتصادية للتمييز العنصري، "مجلة العرفان"، العددان الخامس والسادس – تموز وآب 1996م وأيضاً العددان السابع والثامن أيلول وتشرين أول 1996م، هذا كما أعيد نشر هذه الدراسة تحت عنوان "تمارين اقتصادية في التمييز العنصري" في مجلة حريات العدد 6 شتاء 1997م والعدد 7 ربيع 1997 م، على أساس التوأمة.

(32) بول كلوديل (1868-1955) (Paul Claudel) وهو فيلسوف وشاعر وكاتب مسرحي فرنسي. يقول: إنه في كاتدرائية نوتر دام في باريس ظهر له الإيمان الكاثوليكي، معاشرته لجماعة الشاعر الفرنسي مالرميه "جعلت نشاطه الأدبي مبكراً": رأس من ذهب (1981م) والمدينة (الطبعة الأولى 1893 والثانية 1897م)، نجح بالرتبة الأولى في مباراة السلك الدبلوماسي، فأرسل فوراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية (1893م) حيث ألف التبادل (1894م)، من العام 1895 إلى عام (1909م) أصبح دبلوماسيا في الشرق الأقصى فاغتنت رؤياه الشعرية وغزرت مؤلفاته: ريبورتاج حول الفن الشعري الصيني، الفن الشعري (1907م) الخ... بعد تنقل في مختلف العواصم أصبح سفيراً في طوكيو (1921م) ثم واشنطن (1927م) وأخيراً بروكسيل (1933-1936م) خلال هذه الفترة الزمنية أنجز العديد من المؤلفات: الرهينة (1909 وصدرت في 1911م)، الإعلان إلى ماري (1912م)، الخبز القاسي (1914 وصدرت في 1918م)، الأب المهان (1916 وصدرت في 1920م)، الحذاء الحريري (1929م) ... الخ، أصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1946م، اهتم في أواخر أيام حياته، في الريف، بالكتابات الدينية وحيث تأثرت فلسفته، إلى جانب المسيحية، بفلسفة الشرق الأقصى، لقد ربط الفكر المسيحي بمعنى كوني وثني، طمح إلى العالمية في كتاباته وتفكيره ونجح إلى حد كبير.(Le Petit Robert des noms propres).

(33) Souleimane Bachir Diagne, la tolerance et les cultures, p.117.

(34) Ibidem, p. 117

(35) Ibidem, p. 118

(36) Ibidem, p. 118

(37) Ibidem, p. 118

(38) Ibidem, p. 119

(39) Ibidem, p. 120

(40) Ibidem, p. 120

(41) Ibidem, p. 120-121

(42) بالي بيير 1647- 1716 Pierre Bayle: وهو فيلسوف وناقد فرنسي شهير، لقد نذر نفسه كلها للبحث عن الحقيقة، عندما كان لا يزال طفلاً، ضعيف الصحة ومبكر النضوج والذكاء، كان معلمه الأوحد والده، وكان بروتستانتياً تعلم اليونانية واللاتينية في سن مبكرة، وأدخل معهد "بوبلوران" وهو في التاسعة من عمره، ثم نقل إلى معهد الآباء اليسوعيين في مدينة "تولوز" حيث درس الفلسفة، دفعه قلقه الديني إلى اعتناق الكاثوليكية، لكن مع همود حماسته عاد من جديد إلى البروتستانتية، وقصد عند ذلك "جنيف" حيث كلّف بتعليم أبناء عضو في المجلس الجمهوري؛ لدى عودته إلى فرنسا عمل مؤدباً في مدينة "روان"، وأقام فترة من الزمن في "باريس" قبل أن يستقر "في سودان" حيث عهد إليه بكرسي الفلسفة في الأكاديمية البروتستانتية، على أثر أقفال الأكاديمية استدعى على عجل إلى "روتردام" ليشغل بها كرسي الفلسفة، في العام التالي (1682) أصدر أول عمل هام له "خواطر حول المذنب" الذي هاجم فيه الخرافات والأباطيل، فاستهدف بالنقد خصوصاً بعد صدور كتابه "نقد الكالفينية للأب منبورغ"، الذي هاجم فيه حركة الإصلاح البروتستانتي، فيما بعد أصدر مجلة "أخبار جمهورية الآداب"، لقد كان بنبذ تعصب الكاثوليك ويحز في نفسه سلوك البروتستانت، شغفه الكبير كان بالمطالعة والمقابلة بين الآراء مما جعله يعد أنه من الحماقة بمكان ادعاء امتلاك الحقيقة برمتها والسعي إلى فرضها على الآخرين بالعنف والقوة، ولذلك بادر إلى صياغة المبادئ العامة للتسامح، وقد طالب بأن تترك للمرء حرية اعتناق الدين الذي يبدو في نظره هو الدين الحق، الأمر الذي أثار عليه نقمة الكل، بما فيهم البروتستانت وحرم من كرسي الفلسفة الذي كان يشغله، وبما أنه كان يعيش حياة تقشف لم يهمه الأمر وأخذ يعتاش مما يكتب بقلمه، فانكب على وضع القاموس التاريخي والنقـدي (1695 – 1697م) الذي أعيد طبعه عشر مرات قبل عام 1760م، لقد شك في كل شيء وأعاد النظر في كل شيء وثقافته الواسعة بل الخارقة أتاحت له أن يستعرض مشكلات الأخلاق واللاهوت والتبشير كافة، وأن يرصد مختلف أوجه الفكر الحر للقرون الوسطى السابقة، فمن هذه الناحية يعد قاموسه كنزاً لا ينضب من المعارف والمعلومات، كان عمله في هذا القاموس على طريقة "سانت بوف"، فغدا رائد النقد الحديث ووافته المنية والقلم في يده، لقد كان طوال حياته رسول التسامح وحرية الفكر.

(43) Tolerance j'ecris Ton nom, Marcel Conche, la tolerance francaise

Et sa signification universelle, p. 178-179

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=107

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك