مفهوم الزمن وأثره على السلوك الديني؛ مقارنة بين اليهوديّة والمسيحيّة

ياسين اليحياوي

 

تتحدّد العديد من سلوكيات الإنسان المُتديّن [Homo Religiosus] بناء على مفهومه للزمن، الذي لا يتشكَّل كمجهود فردي، بقدر ما هو انعكاس لبنية ذهنية تُمارس تأثيرها على مُختلف الأفكار والمعتقدات الدينية التي يؤمن بها. ليس القصد من هذه المقالة المُقتضبة تعريف الزمن في كلّ من التراثين اليهودي والمسيحي، وإنَّما مُحاولة فهم السياق التاريخي الذي تبلورت معه نظرة الإنسان للزمن، وأثر هذه النظرة على السلوك الديني.

من خلال الرجوع إلى التوراة، يُمكن الوقوف على طابع السرد التاريخي الحاضر في أسفارها، وهو ما يُشير إلى أنَّ اليهود تبنوا مفهوم الزمن الخطي، الذي ينتقل من الماضي إلى المُستقبل وِفق خُطة إلهية، حيث توضع أحداث تدخّل الإله في التاريخ كمعلم يقودهم نحو خلاص الشعب المُختار. غير أنَّ الأحداث التاريخية التي قامتْ عليها عملية تدوين أسفار التوراة خلال القرن السادس قبل الميلاد، ليستْ هي الأساس في عملية السرد؛ فقد خضعتْ لضغط الذاكرة الإثنية للجماعة اليهودية، ورهانات "السبي البابلي (586 ق.م)"، وهو الحدث المُهم الذي عقبه تدوين التوراة.

إنَّ تجربة السبي والشتات الذي تعرضتْ له الجماعات اليهودية، جعلت لنظرتها إلى الزمن خصوصية تُميِّزها عن باقي الجماعات الدينية المُجاورة والمُعاصرة، إذ أصبحت الحاجة مُلحة إلى عملية تدوين الذاكرة الإثنية، وكتابة تاريخ اليهود في قالب ديني، بهدف الحفاظ على الهوية والانتماء إلى الجماعة؛ الأمر الذي يُفسر كون تدوين التوراة وتقنين أسفارها جاء في لحظة أزمة هوياتية مُتمثلة في حدث السبي.

وعلى الرغم من أنّ نظرة اليهودية إلى الزمن تُعدّ بمثابة تجديد مُهمّ، إذا ما قورِنتْ بالأفكار الدينية في الهند واليونان، بعد أن تجاوزتْ فكرة الزمن الدائري إلى زمن له بدء وستكون له نهاية[1]، إلاّ أنَّ الأحداث التي مرّتْ بها الجماعات اليهودية، جعلت الاهتمام بالماضي يُغطّي على المستقبل؛ الأمر الذي يكشف عن الحضور الهامشي لنهاية العالم والخلاص المُستقبلي في نصوص التوراة، إلاّ إذا ما استثنينا بعض الأسفار التي تعود لجماعات يهودية لا تنتمي إلى التيار الأرثوذكسي المُهمين.

يُناط لهذه الذاكرة وظيفة أساسية داخل الجماعة الإثنية، فرجوعها إلى زمن ماضٍ -قصص البدايات والأحداث البارزة للأسر والعائلات الكبيرة وأنبياء بني إسرائيل- وتذكيرها بتجلّيات الإله في التاريخ، لا يستتبعه تبني زمن خطي، أو حتّى وجود نظرة لاهوتية للتاريخ. إنَّ مُهمة العودة إلى الماضي تتجلّى في السعي إلى حماية هوية الجماعة، بعد أن تحوّلتْ الذاكرة إلى أيديولوجيا، تستند على الميثة (الأسطورة) وتعمد إلى التجذّر في التاريخ من خلال الترتيب الزمني للأحداث. غير أنَّ هذه العملية تحتاج إلى فاعلين، لهم من السلطة الدينية والاجتماعية ما يُمكنهم من توظيف الذاكرة الإثنية وجعلها محطّ إجماع من قِبل المؤمنين. الأمر الذي يُفسر المكانة التي حظيت بها مجموعة من الأفراد داخل الجماعة الإثنية –كما يؤكد ذلك لورا غورهان في دراسته التي أجراها على عدد من الذاكرات الجمعية لجماعات إثنية[2]-، إذ تُردّ مُهمّة حراسة الذاكرة الإثنية وحماية الاتساق الداخلي للجماعة إلى النسّابين وزعماء العائلة المُسنّين والكهنة؛ وليس غريباً أنْ توكل مُهمة تدوين أسفار التوراة لهؤلاء الأفراد، عندما دعتْ الحاجة إلى نقلها من الذاكرة إلى النصّ؛ وبقيت لهم من بعد مُهمّة الحفاظ على الذاكرة الإثنية من التحريف والنسيان، والحيلولة دون انصهار الهوية اليهودية مع باقي الجماعات الدينية في مناطق الشتات.

خلافاً لليهودية التي تستند في لحظتها التأسيسية على أحداث مشكوك في صحتها، فإنَّ المسيحية تُعدّ دينا تاريخياً بمعنيَيْن مُختلفين، بدءا بكونها تأسَّستْ في لحظة تاريخية مُرتبطة بشخص يسوع الذي يظهر في مُتخيّل الجماعات المسيحية المُبكّرة كمؤسس للدين الجديد؛ إضافة إلى إعطائها بُعداً جديداً للزمن مُرتبطة بتطوّر الدين نفسه، يسير في اتجاه واحد لا رجعة فيه. لقد أدّى هذا الوعي المُبكّر بتاريخ النشأة، إلى إعطاء مكانة مركزية للزمن الخطّي، الأمر الذي مهَّد إلى ظهور بوادر لفلسفة التاريخ، أو بمعناه الديني "لاهوت التاريخ"، الذي ارتبط في المسيحية بتاريخ الخلاص[3]، وسيبرز بشكل واضح مع كتابات القدّيس أوغسطين في القرن الرابع الميلادي.

لقد كان مفهوم الزمن الدائري سائداً في مناطق المتوسطي التي انتشرتْ فيها المسيحية. ومن خلال الرجوع إلى مصادر تعود لفترة ممتدّة من القرن السابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، يُمكن الوقوف على أثر فكرة الزمن الدائري التي آمن بها اليونان والرومان على رؤيتهم للعلاقة بين الإنسان والمُقدّس. إنّ الغاية من الوجود تتجلّى في البحث عن الكمال والخلود، ومطابقة الأزلي والساكن[4]. والزمن بكونه حركة دائرية هو انعكاس للمقدّس وللآلهة، كما عبّر عن ذلك أفلاطون[5]، وتؤدّي هذه الحركة الدائرية إلى بقاء نفس الأشياء وتكرارها، مما يجعل تحقيق الكمال رهين إعادة خلال إعادة تجربة الحياة في كلّ دائرة زمنية[6]. تتجلّى انعكاسات فكرة الزمن الدائري على التاريخ، في غياب نُقطتي البداية والنهاية، أو حتّى التوسّط بين الماضي والحاضر، ومن ثمّ فإنّ تقييم الأحداث يبقى نسبياً[7]؛ فإن كان التاريخ هو أحوال البشر في الزمن[8]، فإنّ تبنّي اليونان للزمن الدائري، حال دون أي تأسيس لفلسفة التاريخ أو لاهوتها، [9] ما دام الحدث ليس محورا وفاصلا بين الماضي والمستقبل، وهو ما يُفسّر ندرة التأليف التاريخي في هذه الحقبة، رغم شيوع الفلسفة والتأمّل العقلي.

إنَّ هذه الاستطراد حول مفهوم الزمن في العالم الروماني ما قبل المسيحي، يبدو مُهمّاً من أجل الوقوف على الأثر الذي أحدثته المسيحية بعد إدخالها لفكرة الزمن الخطّي، بما تجاوز ما جاءت به اليهودية. فقُدرة المسيحية على إظهار وعي بالتاريخ، من خلال وضع محور [Repère] فريد ولا يتكرّر، سيتحوّل فيما بعد إلى تقويم، تُرتّب فيه الأحداث الزمنية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو ما يبرز في المسيحية بحدث ميلاد المسيح.

تتنوّع العوامل التي ساهمتْ في تحديد مفهوم تاريخي خطّي في المسيحية، ويُمكن تقسيمها إلى أربعة عوامل رئيسة:

الأوّل: كون المسيحية نشأت في مُحيط ظهرتْ فيه بوادر التديّن الكوني الشمولي، ورغم أصولها اليهودية، إلاّ أنّها استطاعت تخطّي المسألة الإثنية ومركزية الشعب المُختار، لتُبشّر بدعوتها بين غير اليهود، ممّا ساهم في ظهور الانتماء إلى المصير البشري المُشترك، من خلال جعل خُطّة الخلاص تشمل الناس كافّة بمُختلف إثنيّاتهم ودياناتهم، دون أن نغفل أيضا عن أهمّية العامل السياسي بعد أن صارت المسيحيّة الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانيّة.

الثاني: أنّ المسيحية تأسّست على وحي تاريخي [Révélation Historique] من طرف شخص تاريخي يُمثل التجسّد الإلهي، ورافقت ذلك أحداث تاريخية نقلتها النصوص الدينيّة الأولى، الأمر الذي مهَّد إلى جعل حدث ميلاد يسوع، معلما ومركزاً يتمّ من خلاله ترتيب الأحداث الماضية والمُستقبلية.

الثالث: لقد ساهم احتفاظ المسيحية بقصّة بداية الخلق كما جاءتْ في سفر التكوين، واختلاقها لقصة رؤيوية تتحدَّث عن نهاية العالم، في وضع بداية ونهاية للتاريخ. ويُعدّ إيمان المسيحية بالحدث الرؤيوي أبرز مُحدّد لتبنّيها فكرة الزمن الخطي، والتي تم على إثرها بلورة تاريخ الخلاص، أو لاهوت التاريخ.

الرابع: كما ساهمت أيضا عقيدة التوحيد في تشكّل وعي بتاريخ خطّي؛ إذ يغيب في المسيحية، كما هو الشأن بالنسبة إلى اليهودية، الوسطاء المتألّهون بين الإله والناس، خصوصا الأجرام السماوية والكواكب والنجوم التي آمن اليونان بألوهيتها وقدرتها على تغيير مُجريات التاريخ ومصائر الناس. إنَّ التوحيد بهذا المعنى، هو تقييد لأحداث التجلّي ولتدخل المُقدّس في حياة الناس؛ الأمر الذي يجعل كلّ تجليات الإله الواحد أحداثاً بالغة الأهمية، سواء بالنسبة إلى اليهودية أو المسيحية. وتكون الغاية من هذه التجليات، توجيه الناس إلى الغاية والخطّة الإلهية[10]؛ لقد عبّر العديد من آباء الكنيسة واللاهوتيين في أدبيّاتهم عن فكرة كون الإنسان عاجزا عن فهم الإله ما لم يتجلّ له في التاريخ، ومن أبرزهم إيريناوس الذي يرفض المُثل الأفلاطونية، معتبراً السؤال عن ماذا كان يفعل الله أو عن طبيعة العالم السماوي قبل بداية الخلق، سؤال خارج حدود الإيمان[11]؛ إذ بالنسبة إليه، لا يمكن معرفة الله إلاّ من خلال تجلّيات إرادته وخطّته داخل التاريخ[12]، والتي استطاع المسيحيّ أن يدركها من خلال النص التوراتي الذي يتحدّث عن بداية الخلق وسقوط الإنسان، ثم من خلال تجلّي كلمة الله في يسوع والكشف عن خطّة الخلاص والفداء. الأمر الذي يتشَّكل عنه نهاية المطاف "فهم لاهوتيّ للتاريخ"، من خلال وضع الإنسان في مركز العناية الإلهية.

ما يُمكن استخلاصه في خاتمة هذا المقال، هو أنَّ لمفهوم الزمن أثر على الأفكار الدينية للإنسان المُتديّن وعلى سلوكياته، مُقتصرين في هذه النتيجة على تأمّلات مُقتضبة في حالة اليهودية والمسيحية. ففي اليهودية، وعلى الرغم من تبنّيها للزمن الخطّي الذي يحضر فيه المُستقبل كمانح للمعنى الخلاصي، إلاّ أنَّ الأزمة الناتجة عن الشتات جعلتها حبيسة الذاكرة الإثنية، ومُتمسّكة برهانات الحفاظ على الهويّة وعلى لُحْمة الجماعة من الاندثار، وذلك من خلال اختلاق نظام عقائدي وطقوسي يضمن تحقيق هذه الغاية. في حين، كان تبنّي المسيحية للزمن الخطّي، بمثابة تجاوز للأفكار الدينيّة اليونانيّة والرومانية التي تؤمن بالزمن الدائري، في الوقت نفسه الذي عدلتْ فيه عن الرؤية اليهودية للزمن. ومع أنَّ المسيحية واليهودية تتشاركان نفس تاريخ الأصول، إلاّ أنَّ المسيحية استطاعت إنتاج فكر خَلاصي، يربط الماضي بالمُستقبل، جاعلة من ميلاد يسوع محوراً رئيساً في التفريق بين العهد القديم والعهد الجديد، بكونه أهمّ تجلّيات المقدّس.


[1] ميرسيا إلياد، المقدّس والعادي، ترجمة عادل العوا (بيروت: دار التنوير، 2009)، ص 143

[2] André Leroi-Gourhan, Le geste et la parole. [II], La mémoire et les rythmes (Paris: Albin Michel, 1965), p. 66; cited in Jacques Le Goff, Histoire et mémoire (Paris: Gallimard,1988), p. 113

[3] إلياد، ص 144

[4] Henri-Charles Puech, En quête de la gnose la Gnose et le temps (Paris: Gallimard, 1987), p. 218

[5] Friedrich SchellingLe Timée de Platon (Villeneuve d'Ascq: Presses universitaires du septentrion, 2005), p. 26

[6] Puech, p. 218

[7] Ibid, p. 219

[8] مع الإشارة إلى التمييز الثاني للتاريخ كحقل معرفي

[9] Puech, p. 4

[10] Ibid, p. 226

[11] Ibid. p. 14

[12] Ibidem

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك