ثقافة الإسلام، ثقافة البناء

ثقافة الإسلام، ثقافة البناء

عبدالمجيد بن مسعود*

أولا: إن القول بالثقافة البانية يقتضي أمرين اثنين:

أولهما: أن الثقافة المنعوتة بكونها بانية تضطلع بمهمة البناء، منذ البدء وعلى وجه التدرج، وفق سنن البناء وقواعده وأدواته للوصول إلى غايات محددة سلفا.

وثانيهما: أن تحمل هذه الثقافة على عاتقها أمانة البناء في المجال الذي هي منوطة بالبناء فيه، بعد حصول الهدم والتخريب الذي يطول الإنسان الذي هو من صنع الله. وفي هذه الحالة نكون أمام إعادة البناء، وهي في نهاية الأمر بناء على كل حال.

والثقافة البانية التي نحن بصدد الحديث عن عوائقها مؤهلة لكلتا العمليتين، وتاريخ هذه الثقافة الزاخر بالإنجازات الرفيعة يؤكد هذه الحقيقة الناصة.

ومصطلح الثقافة البانية ظهر أول ما ظهر، وراج استعماله على يد الشاعر والناقد الدكتور حسن الأمراني خلال مقالاته التي أصدرها تباعا بمجلة المشكاة(1) تحت شعار كبير يحمل الاسم نفسه: "نحو ثقافة بانية: بل هي فتنة"، يقوم الدكتور حسن الأمراني بتشخيص للثقافة السائدة من خلال تحديده للآليات المحركة لها، والعلل المستحكمة فيها، ويميز في هذه الثقافة بين "ثقافة جامدة"، و"ثقافة منبتة" وقد آلى الأستاذ الأمراني على نفسه - في سياق الإسهام في إعادة تجنيد الثقافة البانية - أن يكشف مثالب وعورات الثقافة المنبتة التي كانت تعيش أوج صولتها الإيديولوجية في ذلك الزمان، وذلك من خلال عرضه لنماذج منها عرضا نقديا فاحصا واستخراج المنطلقات الإيديولوجية الكامنة وراءها.

ثانيا: تحديد مفاهيم الموضوع:

1) المعوقات جمع معوِّق، وهو ما يحول دون تحقيق شيء ما، والمقصود بالمعوقات - فيما نحن بصدده - هو كل ما يعرقل مهمة الثقافة البانية، ويحاول سد المنافذ أمامها، بوصفها رؤية عقدية ونسقا من القيم ذا صبغة خاصة، يؤدي تمثلها إلى صياغة نموذج حضاري متفرد.

2) الثقافة: يذهب الدكتور الشاهد البوشيخي إلى أن مفهوم "الثقافة" مُحْدَثٌ ووافد كذلك لأن هذا التصور –بصفة عامة- للمعاني التي تؤخذ من تفاعل الإنسان مع الأرض- مفهوم غريب على الأمة الإسلامية؛ لأن أصل التلقي في هذه الأمة من الوحي (العلم) وليس من الأرض. يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم﴾(2) (النجم/30).

وقصارى ما يمكن فعله في تأصيل لفظ "ثقافة" لا يعدو(3) أن يتم على نطاق اللغة العربية، بحيث نجد أن من بين معانيه معنى التقويم (أي تقويم الاعوجاج). ويرى الدكتور الشاهد البوشيخي أن "الوضع الأصلي هو أن تنبت الأمور من جذورها، وهذه هي المواليد الشرعية للمواريث الحضارية"(4).

وإذا نحن أخذنا بهذا المفهوم (الثقافة) فبناء على كون أحد معانيه في اللغة العربية التقويم فإنه يشكل الحصيلة المتوخاة من التفاعل مع العلم الذي يعطيه الوحي، ويمكن أن نعتبر أن المشكل قد حُلً بصورة غير مباشرة، بقولنا: إن "التقويم" الذي تتضمنه مادة "ث ق ف" لا يتم حقا إلا عبر الأخذ بمنهج الإسلام، ومنظومته القيمة. غير أن مشكلا آخر يواجهنا في هذه الحالة، وهو أن هذا التخريج سيجعل من وصف الثقافة بـ "البانية" مجرد تحصيل لحاصل؛ لأن التقويم هو بناء بمعنى من المعاني. والذي يخرجنا من هذا الإشكال –في اعتقادي- هو الانطلاق من كون الثقافة مجموعة من القيم والمعايير وأنماط التصرف والسلوك السائدة في مجتمع ما أو أمة من الأمم، تختلف أشكالها وتجلياتها وطبيعتها باختلاف منطلقاتها وأصولها الفلسفية(5) غير أن الذي يميز هذه في الإسلام أنها بانية، على العكس مما هي عليه في غير ظل الإسلام.

3) بانية: والمقصود بها ما هو في مقابل "الهادمة" أو "الهدامة".

4) الثقافة البانية: وهي تلك التي تمارس عملية البناء وفق النموذج الإسلامي وبناء على التصميم والمواصفات التي يقدمها الإسلام، وتتخذ لذلك مجمل الوسائل والقنوات المتاحة والمتجددة باستمرار.

4-1: من خصائص الثقافة البانية:

من خصائص الثقافة البانية أنها تستهدف مجمل بناء الإنسان، على أساس من الواقعية والتوازن والشمول فلا تبني عقله دون روحه، ولا تصوره دون سلوكه أو ذوقه، ولا تُعِدُّه لدنياه دون أخراه، بل تجعل الأولى مزرعة للثانية.

غير أن السمة الفارقة التي تتميز بها البانية – دون منازع- هو تقديرها للفطرة وتجاوبها العميق معها، على اعتبار اشتراكهما في الأصل الواحد، إنْ على مستوى الصياغة والوجود، أو على مستوى الهدف والغاية، يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (الروم/30).

ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها"(6).

وبناء على دلالات هذا الحديث، وألفاظه يمكننا أن نصف الثقافة البانية بأنها "ثقافة الجمع"، وما سواها بـ "ثقافة الجدع".

ومما تورثه ثقافة الجمع إذا توفرت لها الشروط، وتوفر لها المناخ والاستواء النفسي الناتج عن الاطمئنان القلبي مصداقا لقول الله –تعالى-: ﴿الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾(الرعد/28)، وبناء الإنسان الرَّسَاليَّ الذي يشرئب بكيانه نحو الآخرة ويقيم حياته وفق ذلك النزوع، مترسماً في ذلك قوله –تعالى-: ﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ (العنكبوت/64) غير أن ذلك لا يعني البتة الإعراض الكلي عن الدنيا، فالثقافة البانية أو ثقافة الجمع لا تمانع في أن يأخذ ابن آدم نصيبه من الدنيا، ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ (القصص/77) لأن ذلك الأخذ مما تتحقق به مقصدية الإنجاز الرسالي؛ لأن بنيان الفطرة يقتضيه، وطبيعة الإنسان النقية تتطلبه.

ومن الأحاديث الشريفة التي تعكس خاصية "ثقافة الجمع" في مقابل "ثقافة الجدع"، الحديث الذي رواه أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له"(7).

إن الخروج من مجال الثقافة البانية، أو "ثقافة الجمع"، يفضي بصاحبه حتماً إلى بوتقة "ثقافة الجدع" التي من مظاهرها وثمارها تفريق شملِ مَنْ خَضَعَ لسلطان تلك الثقافة، أو ملازمة شبح الفقر له ملازمة قهرية.

إن الثقافة البانية تشق طريقها وسط أمواج عاتية من المكر والفساد، الأمر الذي قد يهدد مسيرها بالتعثر، وربما بقدر غير قليل من الخسائر، هذا إذا لم تحكم دفاعاتها، وتحصيناتها، وتطمح إلى الانتقال إلى عملية الهجوم والاقتحام. والحقيقة التي لا مراء فيها، والتي تمثل سنة من سنن الله-تعالى- في كونه وخلقه، هي أن عاقبة الصراع بين هذين النوعين من الثقافة إنما هي للثقافة البانية. يقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾(العنكبوت/69).

إن معوقات عنيدة تقف في وجه الثقافة البانية، وهي تحتاج إلى إصرار عنيد، وخطة محكمة لزحزحتها وإبطال سمومها. وأول سلاح في هذا السياق يجب امتلاكه هو المعرفة الواعية والدقيقة بتلك المعوقات من حيث أسسها ومكوناتها ومظاهرها وتجلياتها.

وفيما يلي سأحاول الوقوف عند طائفة من تلك المعوقات والتحديات: التي يمكن تصنيفها إلى معوقات مفاهيمية، ومعوقات اجتماعية بنائية ومعوقات نفسية تربوية ومعوقات ثقافية سلوكية.

أولا: المعوِّق المفاهيمي:

ويتمثل في المفهوم المنحرف للثقافة، الذي يًرَوَّجُ ويراد له أن يَقَرَّ في الأذهان، إن المفهوم الأنثروبولوجي أو المعرفي للثقافة الذي ينظر إليها على أنها حشد من المعارف تحشد في الرؤوس، أو مجموعة من العادات والاعتقادات وأنماط الحياة، والممارسات التي تطبع مجتمعا بعينه، هذا المفهوم التايلوري للثقافة، هو "الذي على أساسه تؤسس الوزارات والمؤسسات الجِهَوِيَّة والقطرية والدولية، من مثل اليونسكو، إن هذا المفهوم الشائع للثقافة الذي كاد يصبح من المُسَلَّمات التي لا تحتاج إلى رد أو برهان، يشكل –بحق- حجابا سميكا في أذهان من يعتنقونه من المسؤولين عن الأجهزة والمؤسسات التي يناط بها أمر الثقافة، يحول دون الإدراك الصحيح للثقافة في معناها الحق، بوصفها مستبطنة لمعانِ من قبيل الصقل والتهذيب والتقويم، وهذه الحيلولة من شأنها أن تديم واقعا منحرفا يتمثل في تهجين الناس.

ثانيا: المعوقات الاجتماعية البنائية:

والمقصود بها جملة المكايد والمحاولات المحمومة والمؤامرات الدؤوبة الرامية إلى إنهاء دور الأسرة بوصفها نواة المجتمع الصلبة التي يناط بها أمر تنشئة الأجيال وضمان سريان القيم واستمرارها عبرها. إن أعظم معقل وأخصب مناخ تزرع من خلاله عناصر وبذور الثقافة البانية إنما هو الأسرة، فأي توهين لنسيجها يلحق أضرارا بليغة بإمكانية توسيع نطاق الثقافة البانية، بل إنه ليهددها في وجودها.

وهناك مُعَوِّق آخر ضمن هذا النوع وهو ذلك المتصل بالنسيج القانوني أو التشريعي السائد في المجتمع. فغياب تطبيق الشريعة الإسلامية، وإحلال القوانين الوضعية محلها -يؤثر سلبا على التزام أفراد المجتمع بالعقيدة الإسلامية، وعلى استعدادهم للخضوع لمقتضياتها على مستوى العمل والممارسة.

إن عملية نشر الثقافة البانية في بيئة تكتنفها القوانين الوضعية- عملية محفوفة بالمشاقّ والصعاب، مشحونة بالمعاناة، ومع ذلك فهي لا تعدم نتاجها أو ثمراتها على مستوى الإعداد النفسي وإعداد الخمائر لمستقبل مرتقب لا ريب فيه، وإن يكن ذلك محصوراً في الأغلب الأعم داخل نخبة ممَّنْ أوتوا جِدَّةً في الوعي، ورهافة في الحس، وحرارة في الغيرة، بسبب مستواهم العلَمي ورصيدهم الخلقي التربوي، ومواقعهم التي يحتلونها، أو التي هم مرشحون لاحتلالها.

ثالثا: المعوقات النفسية التربوية:

وأعني بهذه المعوقات ما تمثله المؤسسة التعليمية من جهة، والمؤسسة الإعلامية من جهة أخرى من أدوار خطيرة على مستوى إفساد العقول والنفسيات، وإلحاق تشوهات مريعة بالفطرة، هي بتعبير الحديث الشريف جدع للشخصية البشرية وإتلاف لجوهرها الحق.

فالمؤسسة التعليمية تحتوي على عوائق معرفية وتقنية ويكون علينا أن نعمل على تجاوز قضايا ومسائل الهدم من أجل البناء الشامل.

أما عن المؤسسة الإعلامية فحدِّثْ ولا حرج، إنها تعمل بإصرار، وبشكل رهيب، من خلال أذرعها الأخطبوطية على امتصاص عناصر الثقافة البانية، السابحة في سديم المجتمع، وإضعاف مقاومتها وصمودها.

إن جملة من الآليات التي ارتبطت بممارسة الإعلام بشكل عام، والمرئي منه بشكل خاص تمثل معوقا حقيقيا في وجه الثقافة البانية، يتطلب من هذه أن تقوِّيَ قواعدها وتطور وسائلها، من أجل البقاء ثم التجاوز.

وسأورد بعض تلك الآليات المؤسسة على خبرات ومعطيات ذات صلة بـ"علم تحريف النفس"، فيما يلي:

* إن أول آلية في هذا السياق تتمثل فيما يسميه الدكتور عبد الرحمن عزي، الأستاذ بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود بالرياض، بجمهرة الثقافة (أو تبسيطها وتشويهها): "وتعني الثقافة الجماهيرية تلك الثقافة التي تنتجها وسائل الاتصال (كالمسلسلات والأفلام والإعلان... إلخ)، والساعية إلى التأثير الدعائي وإحداث احتياجات وهمية أو حقيقية لدى الجمهور الواسع"(8).

إن هذه الآلية من شـأنها أن تخلف آثارا بليغة على مستوى عقلية المشاهدين، تتمثل في بلادة الحس، وإضعاف القدرة على التمييز، والحكم، وأكثر من هذا وذاك توهين جهاز المناعة الثقافية، الذي يتجلى في سرعة الانسياق والتصديق، والقابلية للانسحاق والرضوخ لآلية الإقران الشرطي الذي يصبح الناس بموجبه أقرب في عقلياتهم وسلوكهم إلى نظرية بافلوف منهم إلى الآدميين الذين يملكون زمام نفوسهم، ويستعلون على غرائزهم.

· وتتمثل الآلية الثانية في خلق الإعلام لرموز وأبطال ذوي مواصفات خاصة كبديل لرموز الثقافة البانية، إن تسليط الأضواء الكاشفة على نجوم السينما والرياضة والغناء، وتركيز الاهتمام عليهم -يرفعهم في عيون الناس وخاصة الشباب إلى أعلى مقام، إن ترسيخ هذه الرمزية الزائفة من خلال وسائل الإعلام يشكل بدوره عقبة كؤودا أمام الثقافة البانية، ويتطلب منها جهودا جادة ومضاعفة لزحزحة تلك الرموز الكاذبة عن عروشها الوهمية، واستبدال الرموز الحقيقية مكانها. ومن الجدير ذكره في هذا المقام أن هذا الأمر يتسم بخطورة أشد بالنسبة لشريحة الأطفال الذين يعبث الإعلام ببراءتهم كيفما شاء، ويبث في نفوسهم الصغيرة ما يريد. وترتب هذه الوضعية مسؤوليات ضخمة على أصحاب الثقافة البانية لمواجهتها بما يحمي الطفولة ويحفظ لها فطرتها من كل عوامل التلوث.

· وتتمثل الآلية الثالثة في "إضعاف الحساسية تجاه الممنوعات الثقافية" يقول د. عبد الرحمن عزي مبرزا معطيات بعض الأبحاث: "إن بعض محتويات وسائل الاتصال كأفلام العنف والجنس واللغة التي تخل بالقيم تعمل مع الزمن على إضعاف درجة الانفعال أو المقاومة التي تصاحب هذه المحتويات في بداية أمرها، ويرى الباحثون في المجال أن التلفظ بالعنف يعد إلى حد ما مشاركة فيه، فذلك يعد مقدمة لما قد ينجر عن ذلك من سلوكيات، وعلى هذا الأساس عمدت العديد من الثقافات إلى وضع حدود لما لا يمكن التلفظ به، خشية تحول ذلك إلى فعل. وبَيَّنَ هؤلاءِ الباحثون أن تكرار الرسالة التي تخرج عن سياق الثقافة قد يؤدي إلى إضعاف الحساسية desensibilization، ومن ثم لا يقدر المتلقي على نقد الرسالة أو الشك فيها، ويدخل في إطار ذلك تأثيرات أفلام العنف والجنس، إذ أظهرت الدراسات هذه التأثيرات السلبية العديدة التي تبرز في أشكال التقمص (تقليد الصفات السلبية) والتعلم (مثل تعلم مهارات السرقة مثلا) والتحفيز والتعزيز (بإثارة النزعات العدوانية التي قد تكمن في الفرد)(9).

رابعا: معوِّق العولمة:

إن معوق العولمة يمثل بحق أعظم التحديات للثقافة البانية، ويطمح إلى استئصالها أو تجفيف منابعها، مستغلا في ذلك جميع القنوات والمواقع التي تعرضت لها آنفاً، وغيرها من المواقع، وأبرز ملمح يتمثل فيه سلطان العولمة الآن، في عتوها وطغيانها، هو اصطناعها للشرعية المسماة بـ "الشرعية الدولية" التي يسلط سيفها على رؤوس خلق الله جميعا، ويهدد كل من يأبى الرضوخ والامتثال بالعقوبة الصارمة التي تتراوح بين الرشق بقاموس من النعوت، كالإرهاب والأصولية والعنف، وبين شن الحروب التي تأتي على الأخضر واليابس، وتتحلل من أدنى شرط من شروط "الاتفاقيات الدولية"، التي حظيت بمصادقة دهاقنة العولمة أنفسهم،. إن هذه العولمة لها كتابها المقدس الذي يحدد منظومة القيم المرضية ومنظومة القيم المرفوضة والمحرمة، ولها أنبياؤها وكهانها وسدنتها ولها معابدها، ومؤسساتها ونظامها الجنائي، ولها قضاتها الذين لا يُعْصَى لهم أمر/ أو يرد لهم قرار. إن مكمن الخطر في هذه العولمة أنها تسعى جاهدة وبالقوة والإكراه من أجل تنميط العالم وصبه في قالب ثقافي واحد ووحيد، وتدخل المؤتمرات المنعقدة حول الطفل والمرأة، وما إليهما في سياق هذا التنميط. ويذهب المفكر منير شفيق(10) إلى أن العولمة ربما احتملت نوعا من المناورة والمناقشة والمساومة لتعديل بعض بنودها أو التخفيف من قبضتها الخانقة. أما بعد 11سبتمبر فنحن في مواجهة القطبية، التي تملي أوامرها، وتمتد يدها إلى كل شيء، تحت ذريعة محاربة الإرهاب.

خامسا: معوق ثقافة اللغو والتسكع:

إذا كانت قيمة الزمن والحفاظ عليه قيمة حضارية كبرى يحرص عليها الإسلام أشد الحرص لأنه وعاء البناء الحضاري -فإن اتساع هامش اللغو في حياة الأمة المسلمة يعد بحق خرقا مَهُولاً في صميم ذلك البناء، ولذلك فإن الإسلام يعلن عليه الحرب بشكل واضح، إن القرآن الكريم يورد الإعراض عن اللغو ضمن صفات المفلحين المستحقين للفردوس الأعلى، يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿والذين هم عن اللغو معرضون﴾ (المؤمنون/3). ومع ذلك فإن الأمة –مع الأسف الشديد- قد غرقت حتى الأذقان في لجج اللغو الذي جرد حياتها من المعنى، إنه في غمرة هذا الضياع تنشأ الأجيال القادمة على حب اللغو بمختلف مظاهره وجعله ركيزة أساسية من ركائز الحياة، فيأخذ مركزا أصليا ومحورا حيويا في حياة الناس، يدور في فلكه كثير من شؤون حياتهم، ويتشكل حسب الاتجاه اللغوي الاتجاه العقلي والثقافي عند غير قليل منهم، فيظن كثير من الناس أن اللغو أو ما يعبرون به عنه- حاجة أساسية في حياة الناس ولا يستغني عنه أبدا"(11).

إن ثقافة اللغو لم تترك منطقة من مناطق الحياة لدى مجتمعات المسلمين، إلا واكتسحتها وعششت فيها وفرخت وباضت. وهكذا نجد أنفسنا محاصرين داخل أشكال من اللغو بكل لون من ألوان النشاط والتصرف في الحياة: "لغو في القول، لغو في العمل، لغو في الفعل، لغو في النظر، لغو في السماع، لغو في التفرج، لغو في الدعابة، لغو في القراءة، لغو في الرياضة، لغو في السوق، لغو في المنزل، لغو في المدرسة، لغو في التجارة، لغو في الإعلام، لغو في التعليم والتعلم، لغو في الإدارة، لغو في السياسة، لغو في الحب، لغو في الكراهية، لغو في المنشط، لغو في المكره.

سادسا: معوق التلوث البيئي:

وأقصد به هنا التلوث في بعده الأخلاقي، الذي يؤدي الإمعان فيه إلى ما هو أشد خطرا على الإنسانية من خرق طبقة الأوزون، ويتمثل هذا التلوث في مجمل العناصر المرضية والمظاهر المشينة التي تلحق الأذى بالناس الأسوياء، وتشكل بذلك اعتداء على عقيدتهم وقيمهم وأذواقهم، وتحرمهم من العيش وفق النموذج الحضاري الذي يؤمنون به ويسعدون بمعانقته. ويعد التلوث البيئي اعتداء على حق الإنسان في العيش في بيئة سليمة، وهو أحد الحقوق التي تنادي بكفالتها حتى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولكن وفق مفهوم مبتور لذلك الحق؛ لأن المقصود بالتلوث في ذلك المفهوم أبعاده الطبعية المادية، دون أبعاده الأخلاقية الروحية.

إن الذي يلقي نظرة على بيئتنا الاجتماعية وهو سليم الرؤية، مرهف الذوق تتبدى له لوحة مزعجة لا تسر.

خاتمة:

تلك بعض المعوقات والتحديات التي تواجه الثقافة البانية متذرعة في ذلك بمختلف الوسائل والأساليب، التي تتفتق جعبة هذا العالم المنفلت عنها في كل مرة لتعزيز القدرة على الغواية وإسقاط المزيد من الضحايا في مصايد الشر ومراتع الرذيلة والفساد.

وإن هذه الوضعية المؤلمة المأساوية والكئيبة لمما يستدعي استنفار أنصار الثقافة البانية "ثقافة الجمع" لجميع طاقتها، ورص صفوفها، والعمل على استرجاع المواقع والمساحات التي اكتسحتها ثقافة الجدع بنوعيها: "الجامدة" و"المنبتة". وإن لها في مخزون الفطرة خير معين، وكذا في حكمة الله وقوته ومدده، فهو القائل -سبحانه وتعالى-: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون﴾ (الأنبياء/18)، وهو القائل -عز من قائل-: ﴿ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار﴾ (إبراهيم24/26).

**************

الحواشي

*) كاتب مغربي مختص بالدراسات الإسلامية.

(1) صدر العدد الأول منها في شهر رجب من سنة 1403هـ، إبريل 1983م.

(2) "المضامين التنموية للثقافة الإسلامية" عرض مقدم في ندوة: الثقافة والمجتمع تنظيم جمعية النبراس الثقافية، وجدة.

(3) نفسه بتصرف.

(4) المرجع السابق.

(5) أقترح للثقافة التعريف التالي: "الثقافة – من حيث هي كيان تجريدي – هي نسق من القيم ذات الصلة بموقف الإنسان من الأولوية والكون والحياة والإنسان، ومن حيث هي نشاط سلوكي هي تعبير عن تفاعل عقلي ووجداني وحركي، جزئياً وكلياً مع ذلك النسق ويجد مستواه الأرقي في التمثيل العميق لقيمة من القيم والتحرك بموجبها في الواقع.

(6) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، 92، وورد عند مسلم بلفظ "كل إنسان تلده أمه على الفطرة" كتاب القدر.

(7) رواه الترمذي وابن ماجه (بلفظ متقارب).

(8) عبد الرحمن عزي "الثقافة وحتمية الاتصال – نظرة قيمية" مجلة المنهل، شوال – ذو القعدة 1422هـ، ديسمبر 2001 يناير 2002م (ص26).

(9) المرجع السابق (ص29-30).

(10) محمد خليل جيجك "اللغو ومظاهره في حياة الناس" مجلة البنيان (تصدر عن المنتدى الإسلامي) العدد 171، ذو القعدة 1422هـ، يناير – فبراير 2002م (ص43).

(11) المصدر السابق.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=100

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك