الطاقة التحويلية من السلب إلى الإيجاب عند الإنسان

هارون أوجي

 

يمكن تحويل جل الوقائع ذات الصور السلبية إلى وضع إيجابي، أي إلى منافع لنا وللإنسانية عبر تأْطِيرها من جديد. وجل الذين تركوا بصمات هامة في الفكر والحياة، وكانوا روّاد الإنسانية في العالم، همْ أُناس تعرضوا للمحن والابتلاءات طوال حياتهم أو في حقبة منها. ولم تكن تلك المحن والابتلاءات تحمل في طياتها سوى مزيد من معاني. هل من نَبيّ لم يتذوق الأذى ولم يتعرض للمحن؟! وهل ثمة من استطاع الإطلال على آفاق عالم جديد دون التعرض للسجن والتهجير؟ لقد اعتبر هؤلاء الناس تلك المعوقات، كالمرض والقهر والتهجير وما شابهها سُلّمًا يرفع من شأنهم ويقربهم من النجاح، كما أنهم لم يتخلوا عن العزم وكانوا على ما أصابهم صابرين.

ونحن كبشَر، نواجه في الحياة أحداثا عديدة لا نريدها ولا نستسيغها، مثل التعرض للانتقادات والمرض والظلم والتنحية والسجن وخسارة الأموال. فكثير من الناس ينفعلون إزاء هذه الأحداث وتحبط معنويّاتهم ويتمرّدون ويغضبون ويحزنون ويتخبطون ويستولي عليهم القلَق، أمّا الذين استطاعوا أن ينظروا إلى الحياة والوقائع من زوايا مختلفة فهم يواجهون تلك الأحداث بأخذ العبرة والصبر والتجلّد والشجاعة، ويرون فيها تحذيرا لهم أو يعتبرونها وسائلَ ترفعُ من شأنهم. وفي الواقع، ترتبط فحوى هذه الأحداث والمعاني بما رسَمنا لها نحن من حدود ووضعنا لها من أطر.

كل شيء في الكون جميل

هناك جمال حقيقي في كل شيء حتى في الأشياء التي تبدو قبيحة؛ وكل شيء وكل حدث في الكون جميل بذاته أو باعتبار نتائجه. ولئن كانت بعض الأحداث تبدو قبيحة ومعقدة في الظاهر فإنها تضمر وراء ذلك حِكمًا عجيبة وجمالاً رائعا. ومَن منا يستطيع أن يذكر لنا مخلوقا وُجد مصادفةً، خاليا من أيّ معنى ولا هدفَ له؟ انظروا إلى الذرة، وتمعّنوا في الخلية، وتحرّوا عن الإنسان في جميع أعضائه، وتدبّروا في النظام الحيوي الذي نحن فيه، وفي منظومة الشمس والفضاء اللامتناهي. في أيّ منها توجد المصادفة والعبثية واللاغاية؟ كلّنا يدرك أن موسم الشتاء ذا العواصف والثلوج يخلّف ربيعا جميلا، ولذلك نحاول أن نستشف الجمال الجوهري الذي يكمن في هذا الموسم دون الوقوف عند الوجه العابس له. وإذا لم نستطع أن نفعل ذلك، فإن الشتاء يكون فترة مؤلمة بالنسبة إلينا. هل سبق لكم أن رأيتم أناسا يسبّون الرياح والأمطار؟ هؤلاء يستاؤون من الرياح التي تسوق السحب وتنـزل المطر وتشيع كل هذا الجمال.. ويمتعضون بسبب قصر أنظارهم وبسبب ما يلحق بمصالحهم الضيقة من ضرر طفيف دون التفكير في أنهم سيفتقرون إلى الماء لولا تلك الأمطار. وهؤلاء الناس لهم وجهة نظر ضيقة وسلبية، ينظرون إلى الأحداث من منظار أنانيّ حاصرين ذلك بمصلحتهم الضئيلة.

وقد تؤدي الأحداث التي تبدو حسنة إلى نتائج سيئة، وكذلك الأحداث التي تبدو سيئة قد تؤدي إلى نتائج خيّرة. وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:216). قد نتحسر على فوات أمرٍ لهثْنا وراءه ولكن بعد مضيّ مدة تستجد أحداث وتنكشف لنا أن الخير كان في عدم تحقق ما نريد؛ بينما هناك أمور نكره وقوعها في أول وهلة ولكن نحمد الله على وقوعها، لما تنطوي عليه من الخير.

الطفل الذي يُبصر خارج المعتاد

إن أحد طرق التأطير والنظر إلى الوقائع من زوايا مختلفة، يكمن في إمكانية الكشف عن المعاني الخفية في أعماق الأحداث. قامت مجلة “Baltimora Sun” الأمريكية بنشر مقال كان لافِتًا للانتباه، ولذا أعادت مجلة “Reader’s Digest” نشره في ما بعد، تحت عنوان “الطفل الذي يبصر خارج المعتاد”. والطفل المذكور في النص هو “كالفين ستانلي” (Calvin Stanley). وكان كالفين طفلا كسائر الأطفال يقوم بكل شيء ما عدا الإبصار، فهو يقود الدرّاجة ويلعب البيسْبول ويذهب إلى المدرسة. والسؤال المطروح هنا: “كيف يستطيع القيام بكل ذلك؟”.

تقول المجلة إن سر النجاح في ذلك هو التوجيه الذي تلقاه من الأمّ، ونظرة الطفل إلى الأحداث وفق هذا الإطار الذي تعلمه؛ إذ لما سأل كالفين أمه عن سبب العمى، أجابته بأنه ولد هكذا، ولا ذنب لأحد في ذلك. ولما سأل: “لماذا أنا بالذات؟” قالت: “لا أعلم لماذا يا كالفين، ولعل هناك خُطّةً خاصةً بك”. ثم أخذت ابنها وأجلسته أمامها وأردفت قائلة: “يا كالفين أنت لا تبصر، وتستعمل يديك بدل عينيك، ولا تنسَ أنْ ليس هناك شيء تعجز القيام به”. وحزن الابن لمّا شعر بأنه سوف لن يرى أمه. فقالت له الأم: “يا كالفين إنك تستطيع رؤية وجهي بيدَيك ومن خلال سماع صوتي. وبذلك تستطيع أن تحدّث الناس عني أكثر من بعض الذين يستعملون عيونهم”. ونجح كالفين في مباشرة العالَم المرئي بفضل الإيمان والثقة. وبدأ يخطّط في العاشرة من عمره ليكون مبرْمجا إعلاميا في المستقبل ويبتكر برنامجا للعميان في يوم من الأيام.

والنجاح من هذا القبيل ليس حكرا على كالفين، إذ كل من له مبادئ أساسية ودعائم إسناد صلبة يستطيع تحويل وجهة نظره للأحداث إلى أمور إيجابية، ويمكنه الوصول إلى مثل هذه النتائج في كل وقت. وهكذا تتوفر للناس بدائل وخيارات أخرى وسبل حلّ جديدة في أحلك الظروف. ومهما تكن السحب كثيفة في السماء فإن من ورائها شمسًا طالعة. وأهم شيء هنا هو التطلع لرؤية تلك الفوائد العظيمة من وراء الأحداث التي تبدو سيّئة وكريهة ومعكِّرة للحياة. ورغم وجود سبل عديدة لفهم الأحداث وتقييمها، إلا أننا نميل دائما إلى تأطيرها وفق فهمنا المسبق لها. وإذا استطعنا تغيير طريقة فهمنا للأحداث فإننا سوف نجد بدائل أكثر في حياتنا.

النظرة الأولى قد تكون مضلِّلة

التاريخ مليء بنَجاحات كبيرة أعقبت أحداثا كانت تبدو سيئة في أول الأمر. ومن بينها معاهدة الحديبية التي كانت مسرحا لصرخة أبي جندل رضي الله عنه الحزينة. وقد عذّبه أبوه أسوأ تعذيب بسبب إسلامه، مما جعله يهرب في أول فرصة من المكان الذي سجن فيه ويرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في وقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد صياغة اتفاقية صلح مع ممثل المشركين سهيل بن عمرو والد أبي جندل.

وكانت الاتفاقية تنص على أن اللاجئ من المدينة إلى مكة لا يُسلم للمسلين، وفي المقابل فاللاجئ من مكة إلى المدينة يُسلم لمشركي مكة ولو كان مسلمًا. وكانت الاتفاقية قد اكتملت صياغتها ولم يتم التوقيع عليها بعد. “فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتُب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه دخل الناسَ من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه ثم قال: يا محمد قد لُجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فقام إليه فأخذ بتلبيبه. فصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين! أتردّونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟ فزاد الناسُ شرا إلى ما بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصْبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم” (رواه الإمام أحمد في المسند).

لقد وقع هذا الحدث بعد مضي ست سنوات على هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة؛ حيث توجّه المسلمون إلى مكة في شوق لرؤيتها وللطواف بالكعبة، ونزلوا بمكان يطلق عليه اسم “الحديبية”. وكان المشركون لا يريدون مجيء المسلمين إلى مكة، وتم الاتصال بينهما عبر إرسال الرسل حتى وقعت اتفاقية صلح الحديبية، فعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة.

وبدأ المسلمون عقب صلح الحديبية مباشرة وعلى رأسهم أبو بصير رضي الله عنه يفرون من مكة طالبين اللجوء إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم. فقدم المدينةَ أبو بصير (رجل من قريش) وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجليْن فقالوا: “العهد الذي جعلت لنا!” فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين. فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنـزلوا يأكلون من تمر لهم، فتمكن أبو بصير من أحدهم فضربه حتى برد، وفرّ الآخر. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويْلُمّه مسعر حرب لو كان له أحد! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى “سيف البحر”. وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فوالله ما يسمعون بِعِير خرجت لقريش إلى الشام إلا عرضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلتْ قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لمّا أرسل من أتاه فهو آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾(الفتح:24)

وكانت تبدو معاهدة الحديبية في أول وهلة وكأنها في غير صالح المسلمين، ولكن بمقتضى الاتفاقية التي ألزمت الطرفين بعدم المحاربة طوال عشر سنوات، أرجعت السيوف إلى أغمادها، فتوفرت فرص الاتصال والاحتكاك بين المسلمين والمشركين. وكانت مناسبة سانحة للانطلاق في فتح القلوب والعقول، حيث تعرّف خلالها مشركو قريش على المسلمين عن قرب، ورأوا صدقهم واستقامتهم وعرفوا جمال الإسلام. كما أن شخصيات كبيرة مثل “خالد بن الوليد” الذي أبى أن يُهزم بالسيف و”عمرو بن العاص” الداهية السياسي دخلوا في صف القرآن الجذّاب طوع أنفسهم. وخلال سَنَتين فقط من إبرام الاتفاقية، بلغ معتنقو الإسلام أعدادا أكبر ممن أسلم خلال ما يقارب عشرين سنة، أي منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وقت إبرام هذه الاتفاقية. ونلاحظ هنا فطنة نبوية تتجاوز وجهات النظر البشرية. كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى فوائد مستقبلية عند إبرام هذه الاتفاقية، وانتهز جميع الفرص خطوة تلو أخرى ليبلّغ رسالته إلى أكبر عدد من الناس.

وجهة النظر في الحياة اليومية

إن من يمعن النظر فيما تعرض له من الأحداث في الماضي ويسعى إلى الكشف عن أسبابها الحقيقية يعثر على نتائج مذهلة، حيث يكتشف أنّ مِن وراء تلك الأحداث تنبيها أو إنذارا أو تحذيرا له. وإذا واجهنا صعوبات تحول بيننا وبين ما نرغب فيه ونصرّ عليه، فإن علينا التريّث آنذاك للكشف عن نوايانا الحقيقية؛ هل سنظلم الآخرين إذا حصلنا على ذلك الشيء؟ وهل نلتزم العدل في استعمال قدراتنا وإمكانياتنا؟ وهل لنا آمال سيئة؟ هل نحتاج إلى كفاءة أكبر لوظائف أهمّ؟ وهل هناك نقص في شخصيّاتنا؟… بهذه الأسئلة وغيرها نستطيع حل المعاني الكامنة في أعماق الأحداث.

ولنؤطر هذا الحدث الذي قد يصادفنا في حياتنا اليومية؛ غضب منكم صاحب العمل فعاتبكم. ماذا ستفعلون؟ إذ بإمكانكم حمل ذلك على وجه إيجابي أو سلبي. وإذا نظرتم إلى هذا الحدث من زاوية سلبية، فإنكم ستشعرون بالحزن والغضب من صاحب العمل وربما يطير نومكم. وتفكيركم السلبي هذا سيولد نتائج سلبية. أما إذا كانت نظرتكم إيجابية فإنكم ستسعون إلى مراجعة وضعكم بالقول: “كان بالإمكان أن يطردني صاحب العمل فورا، وأكون عاطلا عن العمل.. وهذا الأمر أحسن من ذاك. وهو يهتم بي. وكل بني آدم خطّاء”. وبذلك نتعلم كيفية الحوار النفسي وأسلوب الخطاب مع الآخرين، وكيفية النظرة إلى الأحداث، وهذا مهم جدا.

وإذا كنا لا نملك فنّ تأطير الأحداث والنظرة إليها من زوايا مختلفة، فإننا سوف نراها من حيث يراها الآخرون. وهل قِطاعُ الإشهار سوى تأطير لمدى فهم الجمهور للأحداث وإعادة صياغتها من جديد؟ وإذا لم نقم نحن بتأطير تلك الأحداث بأنفسنا فهل سنرى غير ما يُقدَّم إلينا؟! يستخدم العاملون في مجال وسائل الإعلام قوة التأطير بشكل جيد. ولنفكر في الوقائع الاجتماعية التي نلتقط معانيها كما تقدمها إلينا وسائل الإعلام دون أن ندرك الصورة الحقيقية في جلّها. ومن سيتفطن إلى وجود خداع أو خطة مغرضة عندما يوضع الحدث البريء في إطار بشع؟ اللهم إلا إذا كانت لدينا ركائز قوية نستند إليها عند تأطير الأحداث وعند النظر إليها من زوايا مختلفة، وذلك عبر التساؤل مع أنفسنا وعبر التفكير السليم. وآنذاك يمكننا التفطن إلى الوجه الحقيقي لتلك الأحداث.

___________

(*) الترجمة عن التركية: مصطفى ستيتي.

المصدر: https://hiragate.com/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك