السليقة اللغوية بين ابن جني وتشومسكي

السليقة اللغوية بين ابن جني وتشومسكي

عبدالله الجهاد*

(إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله).

ابن خلدون المقدمة ص: 430.

السليقة:

للسليقة في حساب التفكير اللغوي العربي القديم أهمية كبيرة، فهي آلة الإنتاج اللغوي الفصيح. وما بحث النحاة عن قوانين اللغة العربية- في نظرهم- إلا لضعف هذه السليقة.

ويرد مصطلح "السليقة" على ألسنة علماء العربية بألفاظ متعددة فهي سجية وطبـع(1) وملكة(2)، ويستعمل ابن جني لفظ "السليقة"(3).

وقد نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية:

1) ما مفهوم السليقة؟

2) ما طبيعتها؟

3) ما مصدرها؟

إن اللغويين العرب القدماء أجابوا عن هذه الأسئلة فيما أَلَّفُوهُ من كتب، ولم تكن أجوبتهم متجانسةً لأنّ كلاًّ منهم ينطلق من عقيدته وثقافته، وسأُصنّف هذه الأجوبة وفق تصور منهجي خاص.

في مفهوم السليقة:

أورد ابن منظور في (لسان العرب 10/161) مجموعة أقوال عن السليقة نلخصها في:

- السليقة تساوي الطبع والسجية.

- السليقة لا تساوي التعلم.

- والسليقة(4) منسوبة إلى السليقة التي تعني الفصاحة والطبع واللغة، فالسليقة هي:

- الإنتاج اللغوي طبعاً وسجيةً دون تلقينِ أو تعليم.

- السليقة مرتبطةُ بالبدوي في عصور الاحتجاج لا بغيره، وإن القراءة سنة مأثورة، ولكن يسمح للأعرابي أن يتجاوز هذه القراءة بحجة أنه يسير مع طبعه وسليقته التي لا يستطيع التخلي عنها(5).

ويقول أحد الشعراء:

ولست بنحوي يلوك لسانه ولكن سَلِيِقيٌّ أقول فأُعربُ

فالشاعر يصنف المتكلمين صنفين:

- صاحب سليقة يسترسل في كلامه على سجيته، دون تعثر أو تعمد مطبقاً قواعدَ لغته.

- نحوي يتعمد الإعراب، وتجنُّبَ اللحن باحثاً بكل تكُّلفٍ عن قواعد اللغة، ليظهر بمظهر المتكلم الفصيح.

ولا شك أن صاحب هذا البيت يمثل عصراً متأخراً، فيه أخذ الانحراف اللغوي يتسع، وأصبحت اللغة الفصيحة منالاً صعباً على متكلم تطورت لغته، أو اكتسب لهجة جديدة، متأثرا بالعناصر الدخيلة من العجم، أو هو من الأعاجم لا يستطيع أن يكون شبيها بالفصحاء من المتكلمين العرب، ويعكس البيت الشعري الصراع الدائر آنذاك بين الشعراء والنحاة، إذ كان هؤلاء يتحرون الشعراء ويبينون أخطاءهم، فيمتعض الشعراء من متابعاتهم(6).

طبيعة السليقة:

لم يتحدث ابن جني واللغويون صراحةً عن طبيعة السليقة ومكوناتها، ولكن تحدثوا عنها ضِمْناً من خلال الحوار الذي كان يجري بين اللغوي والمتكلم صاحب السليقة، وفي كتاب الخصائص مجموعة من الروايات تجسد هذا الحوار وتنير لنا الطريق لفهم طبيعة السليقة.

1) المستوى الصوتي:

سئل أعرابي أن يقرأ الآية الكريمة ﴿طوبى لهم وحسن مآب﴾ (الرعد آية/29). فقرأها ﴿طيبى لهم وحسن مآب﴾ وألح السائل على الأعرابي أن يقرأها "طوبى"، فما استطاع إلى ذلك سبيلا، فأعادها السائل وقرأها في شكل مقطعين صوتيين: ﴿طو، طو" فقال الأعرابي: "طي، طي" ثم تردد مثل هذا الكلام دون جدوى، فالمتكلم متشبث بلغته، لا يمكنه مطاوعة العوامل الخارجية، ويعلق ابن جني على هذه الرواية قائلا:

"أفلا ترى إلى هذا الأعرابي، وأنت تعتقده جافيا كزا، لا دمثا ولا طيعا، كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه على التماس الخفة هَزٌّ ولا تمرين".(7)

وإن ما سئل فيه الأعرابي يعد قضية صوتية، والوقائع الصوتية لا يمكن أن تستمد قواعدها من جهاز صوتي آخر خارج جهازها الصوتي؛ لأن هذا الجهاز قد ينتابه بعض الضعف منذ النشأة الأولى، أو قد يتعود عادات صوتية خاصة، فيصعب عليه تلافي بعض خصائص أصواته اللغوية مسايرة لجهاز صوتي آخر ينتمي لأفراد آخرين، لهم مميزات صوتية لغوية مخالفة.

ويقول الجاحظ:

إن السِّنْدِيَّ إذا جاب كبيراً لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا، والنبطي القح يجعل دوماً الزاي سينا.(8)

ويلاحظ ابن قتيبة أن الهذلي يِقرأ (عتى حين) وهو يريد (حتى حين)، والأسدي يقرأ (تعلم) بكسر التاء- وهو يريد (تعلم) بفتح التاء-.

يقول ابن قتيبة:

ولو أن كل فريق من هؤلاء أُمِرَ أن يزول عن لغته، وما جرى عليها اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفوس طويلـة.(9)

وقد تكون هذه المظاهرُ الصوتيةُ الخاصةُ ناتجةً عن عيوب كلامية بسبب عوامل عضوية، كأن يصاب الجهاز المصوت بالتلف أو التشوه أو سوء التركيب في أعضاء الجهاز أو النقص في القدرة الفطرية العامة (مصطفى فهمي، أمراض الكلام: 31).

وقد تحدث الجاحظ عن مجموعةٍ من هذه الأمراض في مؤلفه(10).

2- المستوى الصرفي:

ولقد سأل ابن جني أحد الأعراب قائـلا: كيف تجمع (دكانا). فقال: دكاكين، و(سرحانا)(11)؟ فقال: سراحين و(قرطانا)(12)؟ فقال: قراطين و(عثمان)؟ فقال له الأعرابي: (عثمانون) فقال له ابن جني هلا قلت: عثامين؟ فأجاب الأعرابي: "إيش عثامين!! أرأيت إنسانا يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدا"(13).

فأي حافز دفع الأعرابي إلى تغيير الصيغة الصرفية من جمع التكسير إلى جمع المذكر السالم؟ وما منعه من التغيير في الصيغ الأوائل؟ إنها السليقة التي تملي عليه ذلك، وإنها هي التي تفرض عليه القيم ألا يقول خلاف ذلك، لكن هل يظل هذا الأعرابي وَفِيًّا لقسمه دائما، ألا تنتابه هفوات وزلات لسان يخرج فيها عن قواعد لغته أحيانا؟؟ يكون الجواب عند من تتبع هذا الأعرابي في مراحل حياته اللغوية.

3- المستوى التركيبي:

يقول ابن جني:

وسألت يوما أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي، التميمي –تميم جوثة- فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال أقول: ضربت أخاك، فأدرته على الرفع، فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبدا. قلت: كيف تقول: ضربني أخوك، فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدا؟ فقال: إيش هذا!! اختلفت جهتا الكلام(14)(15).

فالواحدة اللغوية تأخذ علاقتها الإعرابية حسب وظيفتها التركيبية في الجملة، وتغير هذه الوظيفة قد يؤدي إلى تغير العلامة الإعرابية ويؤدي إلى تغير في الدلالة، وما هذه التغيرات التركيبية التي تحدث سريعا عند المتكلم إلا نتيجة للسليقة التي توجهه توجها سديدا إذا ما توفرت الظروف النفسية، والاجتماعية للإنتاج اللغوي.

4- المستوى المعجمي:

يروي ابن جني عن الأصمعي أن رجلا من العرب دخل على ملك (ظفار) فقال له الملك: "ثِبْ"، "وثِبْ" بالحميرية، معناها "اقفزْ"، فوثب الرجل أي قفز فاندقَّتْ رجلاه، فضحك الملك، وقال: ليست عندنا عربية، من دخل ظفار حمَّر، أي تكلم بكلام حميـر(16).

ويبدو لنا أن هذه الرواية تحوي شيئا من المبالغة، إذ لا يمكن في نظرنا أن يقفز الأعرابي دون تبصر لغوي، والمقام لا يسمح بذلك، إلى أن اندقت رجلاه. وإذا وضعنا مضمون الرواية جانبا فإننا نرى أن سليقة الأعرابي في هذه الحال قادته إلى الهلاك، إذ يطبق الأعرابي معجمه اللغوي في عشيرة لغوية أخرى، ولهذا المدخل المعجمي الظفاري سمات دلالية أخرى مختلفة(17).

فالعربي الفصيح اللغة يأبى كل الإباء أن ينطق بما يخالف قواعد لغته (صوتيا، وصرفيا، وتركيبياًّ، ومعجميا) وما تشبُّثُه بمواقفه اللغوية إلا لِقُوَّةِ سليقته، فهي إذن طبع لا تطبع، والأعرابي يعرف حدسيا مواقع كلامه، وقوانينه؛ لأن له حساً قوياً بلغته(18)(19).

ويبدو لنا أن السليقة اللغوية في المفهوم العربي ما هي إلا مجموعة من قواعد العربية التي تربط الأصوات بالمعاني ليس في جانبها النفسي فقط، بل في مظهرها الفيزيائي كذلك.

وصاحب السليقة هو المتكلم الذي يستطيع أن يطبق كل قواعد لغته –بشكل صارم- على ما يتلفظ به، وكل انحراف عن هذه القواعد في الممارسة الكلامية يعد ضعفا في السليقة، إن لم نقل: لا سليقة له.

فللسليقة مظهران: مظهر بالقوة، ومظهر بالفعل، ويجب أن يكون التطابق بينهما تاما، وليست السليقة حسب الفكر اللغوي العربي هي الانطباع النفسي الذي يشترك فيه كافة المجتمع اللغوي، وإنما لها مظهر ثان هو الجانب التنفيذي، ولا سليقة، إذا لم يكن الجانب الثاني مطابقا كل المطابقة للقواعد المختزنة في ذهن المتكلم، ومن زال لسانه عن قواعد لغته لم يعد سليقيا، ويبدو لنا أخيرا أن السليقة هي آلة المتكلم في الإنتاج أي مجموعة من القواعد الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية.

ولقد قسم المتوكل السليقة إلى ثلاثة مستويات20)):

1) السليقة اللغوية La competence langagiere

2) السليقة اللسانية La competence linguistique

3) السليقة الخطابية La competence discursive

وهذه المستويات لا انفصال بينها، وإنما الواحد منها يقتضي الآخر بشكل تراتبي، فالسليقة الخطابية تقتضي السليقة اللسانية، وهذه الأخيرة تقتضي السليقة اللغوية.

1) السليقة اللغوية:

إن السليقة اللغوية أو "ملكة اللغة" هي معرفة مسبقة فطرية لمجموعة من المقولات اللسانية، وهذه المقولات ذات طبيعة دلالية، وما تعلم اللسان الخاص الذي يتولد داخل عشيرة لغوية إلا عملية إعطاء أسماء (كلمات، صيغ) لمفاهيم وعلاقات دلالية موجودة مسبقا عند المتكلم، ومن هذا المنظور يمكن أن تؤول أطروحة الإلهام في نشأة اللغة.

فالإنسان يولد مزودا بمجموعة من المقولات والعلاقات الدلالية، التي لقنها له الله -عز وجل- عن طريق الإلهام، ومن هنا كانت المقولات الدلالية متشابهة عند جميع الأجناس وتختلف الألفاظ الدالة عليها.

2) السليقة اللسانية:

إن السليقة اللسانية هي معرفة المتكلم بالقواعد الخاصة للسان خاص، هذه القواعد هي ثمرة الاصطلاحات اللسانية المؤسسة داخل عشيرة لسانية ما، وهي بتعبير آخر معرفة نظام لسان خاص.

3) السليقة الخطابية:

وهذه السليقة تقتضي بشكل أساس السليقة اللسانية أي معرفة النسق اللغوي لأنه لا يمكن إنتاج خطاب دون أن يمتلك الفرد المنتج قواعد هذا النظام، والمفهوم الذي يميز بين السليقة اللسانية والخطابية هو الفصاحة(21) والبلاغة، ويعني هذا المفهوم عموما القدرة على إنتاج خطاب انطلاقا من أدوات يقدمها النسق اللساني، ولكي يكون المتكلم بليغا لابد له أن يمتلك هذه القدرة الخطابية.

ونحن نرى أن اللغويين العرب القدماء عندما كانوا يتحدثون عن السليقة، كانوا يقصدون هذه الأنواع متلاحمة في آن واحد، فصاحب (السليقة) هو المنتج للفصيح من اللغة، ولقد نزل القرآن ببلاغته وفصاحته ليتحدى بلاغة العرب وفصاحتهم، ولهذا لم يعد المتكلمون المتأخرون –في نظر اللغويين- أصحاب سليقة، رغم فصاحتهم وبلاغتهم، وليسوا أهلا للاحتجاج.

مصادر السليقة:

إن السؤال عن مصدر السليقة هو نفسه السؤال عن مصدر اللغة العربية الفصيحة، وقيدنا اللغة بالعربية؛ لأن اللغويين العرب القدماء كانوا يدرسون "اللغة العربية" فقط، لغة القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فآياته وسوره هي لغة الوحي، وهي لغة التشريع الإسلامي، فهي لغة شريفة كريمة يصعب الاعتقاد بأنها لغة البشر بل هي لغة ملهمة، وهبة من الله –تعالى-(22):

ولقد طرح ابن جني السؤال التالي: هل اللغة مواضعة أو إلهام.

ثم أورد مجموعة من الأجوبة في عصره مؤيدا بعضها ومؤوِّلاً بعضها الآخر.

صاحب السليقة اللغوية لا يخطئ؟

ويرفض بعض المعاصرين قول اللغويين العرب القدماء بأن صاحب السليقة لا يخطئ، ومن انحرف عن قواعد لغته في ظروف خاصة لم يعد أهلا للثقة اللغوية، واللغويون العرب القدماء حين ينطقون بهذا الحكم فلأنهم يعدون هؤلاء العرب أصحاب السليقة أنبياء اللغة العربية، في مقابل نبي الدين الإسلامي المعصوم عن الخطأ(23).

ومع اعتقاد ابن جني أن صاحب السليقة لا يخطئ يرى أن أهل الفصاحة درجات:

1) منهم من يتمكن من استضمار كل قواعد لغته، فيجردها في شكل صور في الذهن، ومنهم من لا يستطيع أن يبلغ هذه الدرجة، فيظل مرتبطا بالانتحاء الشكلي.

يقول ابن جني:

سألت مرة الشجري أبا عبد الله ومعه ابن عم له دونه في فصاحته، وكان اسمه غصنا، فقلت لهما: كيف تحقران (حمراء)؟ فقالا: حميراء، قلت: فسوداء. قالا: سويداء وواليت من ذلك أحرفا، وهما يجيئان بالصواب، ثم دسست في ذلك (علباء) فقال غصن: (عليباء) وتبعه الشجري، فلما هم بفتح الباء تراجع كالمذعور، ثم قال: آه عليبي ورام الضمة في الياء(24).

2) صاحب الدرجة الأولى في السليقة يمكن أن يبدع في المعجم جريا على القواعد الصرفية الكامنة في اللغة.

يقول ابن جني: "إن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق"(25).

3) وقد لا يلتزم صاحب السليقة بلغة واحدة، بل يتغير لسانه نتيجة لعوامل خارجية، ولقد عقد ابن جني بابا سماه "باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه"(26).

وبين اللغويين العرب المعاصرين خلاف في خطـأ صاحب السليقة، فيرى إبراهيم أنيس أن الطفل عندما يتمكن من لغته لا يستطيع أن يخطئ فيها أو ينحرف عنها (إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة: 19). بينما يرى تمام حسان أن صاحب السليقة يخطئ وينحرف عن لغته إذا كانت هناك عوامل خارجية تتطلب ذلك، كالهجرة إلى مكان آخر تختلف فيه لغة القوم(27). ويرى علي أبو المكارم أن وجود أجنبي داخل مجتمع ما معناه وجود خطأ، ويقول متحدثا عن المجتمع الجاهلي:

"ولقد كان في المجتمع الجاهلي أجانب يعيشون فيه، ويحاولون لغته، ولم يكن وجود هؤلاء مقصورا على مناطق الاحتكاك بين العرب وغيرهم من الشعوب المجاورة في أطراف شبه الجزيرة كما يشيع بين الدارسين، وإنما بلغ ذلك قلب الجزيرة نفسها(28)".

ويبدو – في نظرنا- أن كل متكلم معرض للخطـأ صوتيا أو صرفيا أو تركيبيا أو معجميا، وكيفما كانت مستويات اللغة سواء أكانت لغة رسمية أم لهجة عادية للتعامل اليومي، لَكِنْ هناك نوعان من الخطأ:

أولا: خطأ ظرفي يحصل نتيجة لبعض العوامل النفسية يستطيع المتكلم أن يتدراكه، وعليه قول السيوطي: "والإنسان تختلف أحواله فتسعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه وتتعذر عليه عند الانقباض"(29).

ثانيا: خطأ استمراري متأصل، وفي هذه الحال يصبح قاعدة خاصة بالفرد المتكلم يصعب أن يدركه، وإذا نبهه الوسط الاجتماعي اللغوي إلى هذا الخطأ يمكن – مع مرور الزمن- بالممارسة والمران أن يصلح خطأه، والخطأ لا ينسب إلى النسق اللغوي الذي يمتلكه الفرد كحصيلة لعشيرة لغوية أو قدرة لغوية زُوِّدَ بها منذ خلقه، وإنما يعود إلى نشاط المتكلم الفردي الذي يحاول تطبيق قواعد لغته، بشكل عَفْوِيّ، وفي اعتقادنا أن هذا الخطأ من المتكلم في وسط اجتماعي لغوي ينتمي إليه الفرد المتكلم لا يؤثر كثيرا في الغرض الذي يستهدفه المتكلم من الكلام؛ لأن هنالك مجموعة من العوامل والقرائن التي تتضافر لبلوغ الغاية التي يرمي إليها المتكلم، فللظاهرة اللغوية نسق ثابت، ونشاط متحول، أطلق عليه دوسوير (اللسان- الكلام)(30)، وأطلق عليه تشومسكي (القدرة- الإنجاز).

تشومسكي والظاهرة اللغوية
إن النشاط التجريبي الذي وجه اللسانيات في النصف الأول من القرن العشرين يرى أن الطفل يولد وسط مجتمع ما، وذهنه صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تطبع على ذهنه مجموعة من المفاهيم والأفكار (أو المعرفة بصفة عامة) بواسطة الحواس، ويرى تشومسكي أن هذه الآراء يجب أن يعاد فيها النظر انطلاقا من معطيات أخرى؛ لذا درس فلاسفة ونحاة القرن السابع عشر، ليستلهم منهم الأسس والمبادئ التي يمكن أن يطور بها اللسانيات وأن يوجهها وجهة أخرى.

أولا: من المبادئ الأساسية عند تشومسكي مقولة ديكارت: إن الفرق الجوهري الذي يميز الإنسان عن الحيوان هو اللغة البشرية(31).

فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يستطيع أن يتكلم، وكل المظاهر التي تظهر عند بعض الحيوانات لا يمكن أن نعدها لغة، فهناك عوامل بيولوجية تجعل الإنسان منفردا في هذا المجال، والعقل البشري هو أداة كلية يستخدم في كل المناسبات، في حين أن الأعضاء الحيوانية والآلية تحتاج إلى أوضاع خاصة لكل حركة خاصة(32).

والغريب في الأمر – في نظر تشومسكي- أن أحد ممثلي الديكارتية في إنجلترا في القرن الثامن عشر وهو Antoine يتحدث عن بعض الشعوب الهندية التي تعتقد أن القردة التي تكثر حولهم وهبت ملكة مولدة l’entendement (33) وقادرة على الكلام، ولكنها لا تريد فعل ذلك، مخافة أن تُسْتَغَلَّ وتُقَيَّدَ بالعمل، ويعتبر تشومسكي معجزة بيولوجية مدهشة أن تكون للقردة قدرة لغوية ولا تستعملها فهي كالطائر الذي له القدرة على الطيران ولا يطير(34).

ثانيا: يتساءل تشومسكي عن الدوافع التي تدفعه لدراسة اللغة. فيجيب أنه يريد دراستها لأنها "مرآة للفكر" ولا يعني أن التصورات المعبر عنها، والتميزات المؤسسة داخل الاستعمال العادي للغة، تهدينا إلى مخططات الفكر الإنساني و"المعنى المشترك" الذي بناه هذا الفكر، ولكن يريد تشومسكي من خلال دراسة اللغة، اكتشاف المبادئ التجريدية التي تحكم بنيته وعمله، وهذه المبادئ كلية وفق ضرورة بيولوجية(35).

وإن السمات العامة للبنية النحوية مشتركة بين جميع الألسنة، وتعكس الخصائص الأساسية للفكر، وهذه الفرضية قادت النحاة الفلاسفة إلى التركيز على النحو الكلي أكثر من التركيز على النحو الخاص(36)، وأن المفاهيم المشتركة بين الجنس البشري تشبه ملكة الرؤية والاستماع والحب والتمني(37).

ثالثا: وإذا كان الإنسان يولد وذهنه صفحة بيضاء كما يرى التجريبيون، فكيف نعلل تعلم الطفل لغة الوسط الذي يعيش فيه خلال سنواته الأولى، بل يستطيع أن يتكلم جملا لم يسبق أن تكلم بها، ويفهم جملا جديدة، لا شك أن هذا الطفل يمتلك قدرة خاصة تمكنه من هذا الكلام، وأن أي طفل عادي يمتلك معرفة لغوية يستطيع أن يستعمل -دون بذل أدنى جهد- نسقا معقدا من القواعد الخاصة، والمبادئ العامة ليفهم الآخر أفكاره وإحساساته(38).

رابعا: إن الإنسان لا ينطق جملا متشابهة، وإنما يستعمل مجموعة من الجمل الجديدة غير المتناهية خاضعة لمجموعة من القواعد المتناهية، وهذا ما يطلق عليه المظهر المبدع l’aspect createur إذ هو الملكة الخاصة بالإنسان للتعبير عن الأفكار الجديدة وفهم التعابير الجديدة في إطار لغة مؤسسة، ونتاج خاضع لقوانين ومبادئ خاصة بالإنسان، وتعكس الخصائص العامة للفكر(39).

خامسا: الموضوع الأول للنظرية اللسانية، هو المتكلم المستمع المثالي الذي ينتمي إلى عشيرة لغوية متجانسة تماما، والذي يعرف لغته جيدا(40).

هذه المبادئ التي استلهمها تشومسكي من فلاسفة ونحاة القرن السابع عشر جعلته يفرق بين مستويين في الظاهرة اللغوية:

مستوى القدرة La competence ومستوى الإنجازla performance، ولهذا التمييز بين المستويين علاقة بثنائية دوسوسير (اللسان والكلام).

إلا أن تشومسكي يرفض اللسان بالمفهوم السوسيري، ويعوضه بمفهوم آخر له خصائص توليدية(41).

القدرة:

هي المعرفة التي يمتلكها المتكلم – المستمع عن لغته(42)، وهي أيضا الملكة التي يمتلكها المتكلم المستمع المثالي للربط بين الجانبين الصوتي والمعنوي في تطابق تام مع قواعد لغته(43). ومن البدهي – كما يقول تشومسكي- أن للجمل معنى ضمنيا محددا بالقواعد اللغوية، وكل شخص يمتلك لغة ما فإنه يستضمر نسقا من القواعد التي تحدد الصورة الصوتية للجملة ومحتواها الدلالي الضمني، نقول عن هذا الشخص: إنه نمى ما يمكن تسميته (قدرة) لغوية خاصة(44).

الإنجاز:

وهذه القدرة اللغوية لا يمكن أن تظل في مجال تجريدي بل يجب أن تنفذ في الواقع، ويجب أن تجسد حتى يحدث التواصل، ويعد الإنجاز المظهر الثاني من الظاهرة اللغوية الذي يحقق هذا النظام التجريدي من القواعد التي يمتلكها المتكلم/ المستمـع، فهو الاستعمال الفعلي للغة في مقامات مجسدة(45).

ولكنْ لأَيٍّ ننسب المظهر المبدع في اللغة؟

هل نسنده للقدرة؟ أو للإنجاز؟

هناك نوعان من الإبداعية:

· إبداعية تحكمها القواعد وتنتمي إلى القدرة.

· إبداعية تنحرف عن هذه القواعد وتنتمي إلى الإنجاز(46).

والإنجاز لا يمكن أن يعكس تماما القدرة؛ لأن هناك عدة عوامل تؤثر في الشخص في أثناء عملية الكلام كالنسيان، وعدم الانتباه، والتعب، مما يجعل المتكلم يزيغ أحيانا عن قواعد لغته.

وغاية تشومسكي القول بأن للغات البشرية خصائص كلية مشتركة، ولهذا بنى نظريته التوليدية التحويلية بمنهج رياضي تجريدي لتتناسب والنحو الكلي.

----------------

المصادر والمراجع:

- أنيس إبـراهيم: في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصريـة، القاهرة، 1965م، ط3.

- أنيس إبراهيم: من أسرار اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1966م، ط3.

- الجاحظ أبو عثمان: البيان والتبيين، تحقيق حسن الندوبي، المكتبة التجارية الكبرى، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.

- الجرجاني، عبد القاهر: دلائل الإعجاز في علم المعاني، تصحيح محمد رشيد رضا دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1403هـ، 1983م، ط1.

- ابن جني، أبو الفتح: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار المهدي للطباعة والنشر، لبنان، بيروت، 1952م، ط2.

- حسان تمام: اللغة بين المعيارية والوصفية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1958م.

- ابن خلدون، عبد الرحمن: المقدمة، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، بدون تاريخ.

- الزجاجي أبو القاسم: الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك، دار النفائس، 1979م، ط3.

- سيبويه، أبو بشر: الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، عالم الكتب بيروت، 1966م، ط6.

- السيوطي، جلال الدين: معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، مكتبة الدراسات القرآنية دار الفكر العربي.

- العلوي، أحمد: أسس البحث في اللغويات العربية، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد بن عبد الله فاس، عدد 1، سنة 1978م.

- أبو المكارم علي: الظواهر اللغوية في التراث النحوي، ج1، الظواهر التركيبية، الدار الحديثة للطباعة، القاهرة، 1387، 1968م، ط1.

- Chomsky. N, 1965, Aspects de la theorie syntaxiue, seuil, Paris, 1971.

- Chomsky. N, 1966, La linguistique cartesienne, seuil, Paris, 1969.

- Chomsky. N, 1968, le langage et la pensee, Payot, Paris, 1980.

- Chomsky. N, 1975, Reflexions sur la theorie de la signication dans la pensee liguistique arabe, Publications de la faculte des lettres, Rabat.

- Ruwet. N, 1967, Introduction a la grammaire generative, Plon, Paris, 1967.

*************
الهوامـش
*) أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني، عين الشق، الدار البيضاء، المملكة المغربية.

1- (الزجاجي، الإيضاح: 66).

2- (ابن خلدون، المقدمة: 554).

3- (ابن جني الخصائص 1/76).

4- يقول سيبويه عن هذه النسبة: إنها شاذة. (سيبويه، الكتاب، 3/339).

5- هناك أحاديث مروية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تسمح للأعرابي أن يقرأ القرآن وفق ما تمليه عليه لغته. انظر (إبراهيم أنيس، في اللهجات العربية: 53) وما بعدها.

6- انظر أبيات عمار الكلبي المتضمنة لعلاقة الشعراء بالنحاة (ابن جني، الخصائص 1/329).

7- (الخصائص 1/7).

8- (الجاحظ، البيان والتبيين/ 1/93).

9- (تأويل شكل القرآن: 39-40).

10- (البيان والتبيين 1/7-97).

11- السِّرْحان: الذئب.

12- القرطان كالبردعة لذوات الحوافر.

13- (ابن جني- الخصائص 1/242)

14- روايات بصيغة أخرى في (ابن جني، الخصائص 1- 250).

15- (الخصائص 1/76).

16- (ابن جني- الخصائص 2/82).

17- ليس هذا غريبا، فاللهجتان المغربية والتونسية مثلا تتفقان في بعض المداخل المعجمية على مستوى الدال وتختلفان على مستوى المدلول، ف(العظم) في اللهجة التونسية هو (البيض) في اللهجة المغربية، ولو رغب التونسي في البيض داخل المغرب وقال (العظم) لأُعْطِيَ شيئا آخر لا يمت إلى البيض بصلة.

18- يشير ابن خلدون إلى الفكرة نفسها إلا أنه لا يربطها بالبدوي وإنما يعممها على كل شخص مارس كلام العرب فترسخ فيه حتى صار لديه ملكة يقول: ولو رام صاحب هذه الملكة جيدا عن هذه السبل المعنية والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده، ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده، وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما يصنع أهل القوانين النحوية.(ابن خلدون، المقدمة: 562).

19- (ابن جني- الخصائص: 3/275).

20- لقد انطلق المتوكل في تقسيمه من الأثر الذي أحدثه أبو الحسن الأشعري في البلاغيين والأصوليين يقسم الأشعري الكلام نوعين:

أ) كلام نفسي ليس بصوت ولا حرف وهو عبارة عن المعاني القائمة بالذات.

ب) كلام لفظي معبر عن هذه المعاني النفسية بالألفاظ، انظر (أحمد أمين، 1936: 30-40). وكذلك (الرازي، التفسير الكبير 1/26).

وفي ضوء كلام أبي الحسن الأشعري يقول الجرجاني: وإنك إذا فرغت ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها تخدم المعاني وتابعة لها، ولاحقة بها وأن العلم بمواقع المعاني في النفوس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق. (الجرجاني، دلائل الإعجاز: 44).

21- ينطلق المتوكل من مفهوم عبد القاهر الجرجاني للفصاحة إذ إن فصاحة الكلمة لا معنى لها خارج التأليف والنظم، يقول الجرجاني: "وهل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها". (الجرجاني، دلائل الإعجاز: 36).

22- (ابن جني، الخصائص 1/47).

23- (العلوي/ 1978: 44).

24- (الخصائص 2/25).

25- (الخصائص 2/25).

26- (ابن جني، الخصائص 2/18).

27- (تمام حسان، 1958: 76).

28- (أبو المكارم 1968: 1/47) .

29- (معترك الأقران 1/10).

30- اللسان عند دوسوير هو:

- الرصيد من الصور الكلامية المختزنة عند الأفراد.

- كنز مستودع في الأفراد المتكلمين المنتمين إلى عشيرة واحدة.

- النظام الموجود بالقوة في دماغ كل فرد بل يوجد في أدمغة مجموعة من الأفراد.

- نتاج الفرد الذي يسجله بشكل سلبي.

والكلام عند دوسوير هو: حدث فردي إرادي يميِّز فيه شيئين.

- التأليفات التي يستعمل المتكلم بواسطتها قانون اللسان للتعبير عن أفكاره الشخصية.

الآلية النفسية – الفيزيائية التي تسمح له بإخراج هذه التأليفات. (دوسوير 1916: 30/31).

31- (تشومسكي، 16: 1966).

32- (تشومسكي، 1966: 21).

33- تعريبي l’entendement بالملكة المولدة اعتمدت فيه ما جاء في (تشومسكي، 1968: 22) تبعا لما قاله خوان هوارت الطبيب الإسباني في القرن السادس عشر.

34- (تشومسكي، 1975: 45)

35- (تشومسكي، 1975: 12)

36- (تشومسكي 1966: 95)

37- (تشومسكي، 1966: 98)

38- (تشومسكي 1975: 12)

39- (تشومسكي، 19: 1968)

40- (تشومسكي، 1965: 16)

41- (تشومسكي، 1965: 14)

42- (تشومسكي، 1965: 14)

43- (تشومسكي، 1966: 13)

44- (تشومسكي، 1966: 125)

45- (تشومسكي، 1965: 13).

46- (روفي، 1967: 51).

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=95

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك