الفاتيكان والعالم الإسلامي.. الحوار هو الحل

إميل أمين

 

مرة جديدة يتكشف للبشرية أن الحوار والجوار والتعايش المشترك هو أفضل طريق لبناء إنسانية توحد ولا تفرق، تجمع ولا تشتت، تشرح ولا تجرح، إنسانية تمثل مظلة لشعوب الأرض التي تبدو وكأنها سائرة على دروب التيه، عوضاً عن الانتظام في حبل التعاضد والتعاون الخلاق. يستلفت النظر أنه في الوقت الذي يعيش العالم لاسيما الغربي منه حالة من حالات العودة إلى الرحم الأصولي، تعبر عنه الجماعات القومية واليمينية، وبقية التيارات ذات الملامح الدينية المكذوبة، يعود الشرق مرة جديدة ليضحى «الشرق الفنان» الذي حدثنا عنه الفيلسوف المصري الراحل د. زكي نجيب محمود، في كتابه الذي يحمل الاسم عنيه.

«الشرق الفنان» بمسلميه ومسيحييه قد عاش خلال العقود الأربعة المنصرمة خبرات رهيبة ومؤلمة مع جماعات الظلام وأعداء التنوير، أولئك الذين اعتبروا الآخر بالضرورة عدواً، لا يمكن التعايش معه، وأن أفضل الطرق للتعاطي معه هي عزله وإقصاؤه، فيما ذهبت بعض الفرق الأكثر دموية وتوحشاً من عينة «داعش» ومن لف لفها إلى قتله والخلاص منه مرة وإلى الأبد. ينتفض «الشرق الفنان» اليوم، من أجل الصالح العام للإنسان، أيا ما يكن دينه أو مذهبه، جنسه أو عرقه، والحوار والجوار هما السبيل الأول، الأنفع والأرفع للجميع، وإذا كان الناس أعداء ما يجهلون، فإن الحوار الإيجابي، الموضوعي والخلاق، يرفع جداريات الجهل، ويفسح المجال لأضواء المعرفة التي تطرد العتمة خارجاً.

قبل أسبوع كانت العاصمة السعودية الرياض، تشهد زيارة غير مسبوقة، زيارة الكاردينال «جان لويس توران» رئيس المجلس الحبري البابوي للحوار بين أتباع الأديان، ولقاءه خادم الحرمين الملك سلمان، وليقيم من جديد الجسور الطبيعية، التي كان ولا بد لها من أن تكون قائمة وقادمة بين أبناء «إبراهيم» عليهم السلام. رحلة «الكاردينال» التي هي أقرب إلى زيارة بهدف محدد، كانت مفعمة باللقاءات والاجتماعات والمواعيد المهمة، وتمحورت حول موضوع الحوار ما بين أتباع الأديان والثقافات، مع التركيز على الدور الواجب أن يلعبة المؤمنون من أجل نبذ العنف والتطرف والإرهاب، والتوصل إلى الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم كله. ويسلتفت النظر في مشهد الزيارة أمران:

الأول: هو حالة الانفتاح الإيجابي والخلاق التي باتت تملأ أجواء المملكة العربية السعودية، في ظل التوجهات الجديدة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفيها يؤكد انفتاح المملكة على الأديان، ويكشف من جديد عن وجه الإسلام السمح المتلاقي مع الآخر، المتعايش مع المغايرين له، ضمن فلسفة ورؤية قرآنية «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير». سورة الججرات الآية 13.

الثاني: هو أن الفاتيكان قد نجح في مد جسور التواصل مع العالم الإسلامي بعد أكثر من خمسين عاماً على صدور القراءة الشهيرة «في حاضرات أيامنا»، والتي انبثقت عن المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) وقد شرعت الأبواب بنوع خاص أمام العالم الإسلامي. اللقاءات التي شهدتها الزيارة، وبحسب الكاردينال «توران»، أعطت انطباعاً للمؤمنين من المسيحيين والمسلمين في الخليج العربي والشرق الأوسط بأن العيش معاً هو أمر ممكن، بل مطلوب ومرغوب... إنها عائلة واحدة، وطوال قرون تمكنا من التعايش معاً«. يمكن القطع بأن «رابطة العالم الإسلامي» برئاسة الشيخ الدكتور محمد عبد الكريم العيسي قد لعبت دوراً مهماً جداً في تجسير الفجوات مع العالم الغربي عامة، ومع حاضرة الفاتيكان بنوع خاص الأيام الماضية، سيما بعد زيارته التاريخية للبابا فرنسيس.

ولعل الاتفاقية التي تم توقيعها في الرياض بين المجلس الحبري للحوار بين الأديان وبين رابطة العالم الاسلامي تدلل على أن هناك مسارب أمل حقيقية للتلاقي في عالم أصبح أكثر تعدداً للأعراق والديانات والثقافات. توجه مثل هذه الزيارة، وما تمخض عنها من اتفاقيات في الحال والاستقبال طعنة أو لطمة قوية للمتشددين والمتطرفين الذين حادوا عن جادة الفهم السليم والحكيم لأديانهم، وتعزز من قوى وحضور الحكماء والمعتدلين، بل أكثر من ذلك أنها تقطع الطريق على أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة، أولئك الذين لا يعرفون الطريق إلى «الديالوج»، ويتعبدون ليل نهار في محراب «المونولوج» الأحادي الذهن، ولهذا يلغون كل من لا يشاركهم رؤاهم، ويتحولون بسهولة إلى العنف والإرهاب باسم الدين، فيسيئون لأنفسهم، ويدمرون الآخرين، ويشوهون صورة دينهم وأخوانهم.

حين يلتقي الكاردينال توران ممثلاً عن البابا الكاثوليكي فرنسيس مع الملك سلمان خادم الحرمين الشريفين، فإننا أمام معادلة عددية وروحية مثيرة للتأمل، ذلك أن المؤمنين الذين يدورون في الفلك الروحي للرمزين الكبيرين حول العالم يتجاوزون الملياري ونصف مليار نسمة، ما يعزز السلام والاستقرار العالمي، ويؤكد ريادة مفهوم الحوار والجوار والتعايش المشترك في شتى بقاع المعمورة، ما يجعل طروحات صراع الحضارات لصموئيل هنتنجتون وأشياعه نسياً منسياً.

التهديد الذي يحيق بنا ليس صدام الحضارات، وإنما هو مواجهة الجهل والراديكالية، هكذا يقرر الكاردينال الفرنسي الأصل، والذي يتحامل على نفسه خدمة للإنسانية الملتاعة، رغم ظروفه الصحية، ولهذا يبقى القول إن ما يهدد الحياة كلياً هو الجهل بالآخر، وحال اللقاء والحديث والحوار بعضنا إلى بعض، ومعرفة بعضنا بعضاً، والبناء معاً نحو «الأهداف المشتركة» يضحي الطريق إلى «المدينة الفاضلة» حلماً قابلاً للتحقق.

المصدر: http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=98587

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك