اللغة والهوية: إشكاليات المفاهيم وجدل العلاقات

اللغة والهوية: إشكاليات المفاهيم وجدل العلاقات

فيصل الحفيان*

في زمن العولمة الذي اختزل كوكبنا إلى قرية صغيرة (بالمفهوم الجغرافي – المكاني، لا الإنساني – القيمي) لم يعد يُسمع إلا صوت القوي، الذي يحاول – غير آبه بشيء – أن يجعل من وجوه الآخرين نسخاً مكررة من وجهه، وأن يصبغ بفكره فكر الآخرين، ويفرض قيمه ونمط حياته على من حوله وما حوله، متخفياً خلف أقنعة ظاهرها الديمقراطية والعدالة والمساواة والإصلاح، وباطنها الاستبداد والظلم والتفرقة والإفساد، وقد أغرته قوته (بالمفهوم المطلق للقوة) فظن أنه لا بديل عن "الصراع" و"الصدام"(1) بل حسب أن المعركة انتهت لصالحه، وأن "التاريخ" وصل إلى محطته الأخيرة(2)، ملقياً بالأزمّة كلها بين يديه، تاركاً الآخرين للتبعية والضياع.

في هذا الزمن غير المسبوق تنشط – في ردة فعل عكسية – حركة الراغبين في الحياة، في التمسك بما يملكون من مقومات، تحفظ عليهم ملامحهم وفكرهم وشخصيتهم، ومن ثم مصالحهم ودورهم المؤثر في ما حولهم. فإن لم يملكوا بحثوا أو اخترعوا مقومات، قد تكون فكراً، أو رؤية، أو مصلحة، حتى يتمكنوا من المواجهة والاستمرار في الحياة.

ثمة مقومات، هي – في حد ذاتها – من النوع الذي يتميز بقدرة كبيرة على القيام بالمهمة المنوطة به، وتكون – أحياناً – محملة بزخم عقدي أو فكري أو تاريخي.. أو ذلك كله مجتمعاً، مما يجعل منها مقوماتٍ نابعةً من الجماعات البشرية نفسها، بعيداً عن الهشاشة من ناحية، والتلفيق والافتعال والتصنع من ناحية أخرى.

من هذه المقومات "اللغة"، من حيث هي لغة، فهي لسان الجماعة، ومرآة فكرها، ومنجم عطائها، والملمح الرئيس لخصوصيتها. "والقوي" واع تماماً لهذه الأبعاد. ولهذا فإنه في تنظيراته الحاضرة والمستقبلية يركز في هدم خصوصيات الآخرين على حصنين قويين: اللغة، والدين، إذ يرى فيهما عنصرين مركزيين لأية ثقافة أو حضارة.

كان مخططاً لهذا البحث أن ينفذ من باب " اللغة والهوية " إلى " العربية" بوصفها مقوماً من مقومات هويتنا، عرباً ومسلمين، ثم رأيت أن أكتفي بالمسألة في إطارها العام، لأفرغ إلى نقاط ثلاث: مفهوم اللغة، ومفهوم الهوية، ثم جدل العلاقات بين اللغة والهوية. وهكذا تعدلت غاية البحث ليصبح تأسيسياً، يكتفي بإشكاليات المفاهيم وجدل العلاقات. ولعلني ألحقه ببحث إجرائي خالص يكون عنوانه " العربية هوية".

- 1 -
مفـهـوم اللـغـة

اللغة خاصية إنسانية لا يشركه فيها غيره من الكائنات التي نعرفها، كما أثبتت الدراسات، وهي أيضاً بوصفها كلمة تتمتع بخصوصية ضمن أسرتها اللغوية. وسنبدأ من هذه النقطة الأخيرة.

تذكر المعجمات اللغوية أن كلمة "لغة" مأخوذة من الجذر اللغوي (لغو) أو (لغي) الذي تدور معانيه حول الرمي أو الطرح أو اللفظ، تقول: لغوت بكذا، إذا لفظت به وتكلمت، وإذا أردت أن تسمع من الأعراب فاستلغهم: فاستنطقهم(4). فالدلالة الأصلية للمادة هي الرمي أو الطرح، ثم تطورت لتدل على الكلام الذي تتفوه به ألسنة البشر، أو أفواه غيرهم من الكائنات الحية، ثم أُخْلِصَتْ كلمة "لغة" بعينها لما ينطق به الإنسان محققاً التعبير عن نفسه، والتواصل مع غيره.

والقرآن الكريم لم يستخدم مادة "لغو" بالمعنى الذي أخذنا منه كلمة "لغة"، وأورد ما أورد من المادة مرتبطاً بمعاني العيب، والفحش، وقبيح القول والفعل، واليمين غير المقصودة.

واستخدم للدلالة على "لغة" مادة "لسن" ومشتقاتها، فورد فيه "لسان" مفرداً وجمعاً. أما المفرد ففي ﴿لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين﴾ (النحل 103)، وفي ﴿بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء 195)، وفي ﴿وأخي هارون هو أفصح مني لساناً﴾ (القصص 34)، وفي ﴿وهذا كتاب مصدق لساناً عربيّاً﴾ (الأحقاف 12)، وفي ﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم﴾ (المائدة 78)، وفي ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ (إبراهيم 4).

وأما الجمع ففي ﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾ (الروم 22).

ولو نظرنا في هذه السياقات القرآنية التي وردت فيها هذه الألفاظ فإننا سنلحظ أنها إما أن تكون قد جاءت خالصة للدلالة على لغة ما، أو لغات (آيات النحل والقصص والمائدة وإبراهيم) وإما أنها تمحّضت للعربية عن طريق النعت. والسياقات تغيَّت مديح هذه اللغة وبيانها وقدرتها على الإقناع آيات النحل (أيضاً) والشعراء والأحقاف، أو أنها وردت للإشارة إلى أن اختلاف لغات الناس إنما هو من آيات الله (الروم).

ولا تبعد مادة "لسن" هذه عن "لغو " أو "لغي" يقول الزمخشري: "لكل قوم لِسْن: لغة. ولسان العرب أفصح لسان"(5).

وأعود إلى العلاقة بين "اللغة" أي الكلام، والمادة التي أخذت منها فأقول: لقد استخدم القرآن الكريم المادة بالمعاني القريبة من المعنى الأصلي الذي هو –كما أسلفت– الطّرح. فالعيب والفحش.. إلخ مما يُطرح أو ينبغي أن يطرح. واللغة بمعنى الكلام ترتبط أيضاً بالطرح من باب أن الكلام شيء تشتدُّ الحاجة إليه، ومن ثم فإنه ينبغي أن يلقى ليتحقق التواصل بين أفراد الجماعة اللغوية(6). وقد ظلت المراوحة قائمة بين الدلالتين: الطرح، والكلام، في "لغا" وما أُخذ منها، في حين تكرّست دلالة "الكلام" في كلمة "لغة" التي تم فيها قلب لام الكلمة (الواو أو الياء) تاء مربوطة، كأن الشكل الجديد للكلمة أخلصها لتلك الدلالة التي يكون الطرح فيها بغرض التواصل والاتصال. وبذلك تحققت خصوصية الكلمة داخل أسرتها، وستتحقق لها خصوصية أخرى في دلالتها الاجتماعية بوصفها عنصراً أو مقوماً من مقومات الهوية، وهو ما سنفصله لاحقاً.

كان ذلك عن الدلالة اللغوية، فماذا عن الدلالة الاصطلاحية عند اللغويين الذين هم المعنيون بدراسة "اللغة" بوصفها أصواتاً وكلمات وتراكيب؟ وكيف ينظر إليها علماء الاجتماع بوصفها ظاهرة اجتماعية؟

قالوا: هي ما جرى على لسان كل قوم، أو: الكلام المصطلح عليه بين كل قبيل(7). وعرفها ابن جني (ت 390 هـ) بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم (8).

وتحليل هذا التعريف (الأخير) المركَّز يؤدي بنا إلى الكشف عن ثلاثة عناصر (منطوق بها) فيما يمكن أن نسميه "المنظومة اللغوية"، هي: الأصوات، والقوم أو الناس، والأغراض. والربط بين الأصوات والأغراض يشير إلى مسألة معروفة، هي أن اللغة في حقيقتها انعكاس للفكر، فما نسمعه من أصوات ليس في الحقيقة سوى مرآة للفكر. وعليه فإن تعريف المناطقة الإنسان بأنه حيوان ناطق، ليس معناه أنه يمكن أن يصدر أصواتاً، ولكن معناه أنه إنسان مفكر، فالتعبير عن الفكر هو أحد أهم وظائف اللغة كما يرى علماء الاجتماع اللغوي (سوسيولوجيا اللغة)(9)، وإذا كان هؤلاء يذكرون في هذا السياق أن للغة أيضاً وظيفة مناقضة، هي إخفاء الفكر أو إخفاء فقر الأفكار، مشيرين إلى لغة بعض العاملين في الشأن العام والخارجين عن القانون.. إلخ- فإن هذه الوظيفة العكسية ليست – في رأيي – سوى وجه آخر من وجوه انعكاس الفكر، فكر فئة من الناس، ترمي إلى تحقيق أغراض لها. ولعل هذا هو الذي جعل "اللغة" من المنظور الاجتماعي مُدخلاً رئيساً لدراسة تطور تفكير الجنس البشري، كما جعل منها نسقاً مهماً لا يمكن التخلي عنه أو فصله عن الأنساق الأخرى داخل المجتمع. وأكثر من ذلك فإن بنيامين لي وورف -أحد أعلام الفكر اللغوي الأمريكي- يقول بأن اللغة تتحكم في الفكر، وتوجهه وجهة معينة، ليس بسبب مفرداتها فحسب، بل بسبب شكل البنية الداخلية أيضاً؛ وعودةً إلى ابن جني، فإن فقدان عنصر من عناصر "المنظومة اللغوية" يعني انتفاء كون ما تبقى "لغة"، فأصوات صادرة عن غير البشر ليست لغة، وبشر يفعلون أفعالاً أو يقومون بأعمال لتحقيق أغراض لهم، وتخدم حاجاتهم، ولكنها ليست أصواتاً، لا يؤدون فعلاً لغويّاً، فمن المعلوم أن الإنسان تصدر عنه تعبيرات وحركات وإشارات عبر بها عن نفسه أو اتصل عن طريقها مع غيره، ولا يمكن أن نعد شيئاً من ذلك "لغة" إلا على سبيل المجاز أو التوسع. فليس احمرار الوجه تعبيراً عن الخجل، أو العبوس دلالة على الغضب، أو الوقوف إشعاراً بالاحترام "لغة"، كما أن الإشارات الصوتية أو الضوئية وضربات الطبول وأصوات الأجهزة الموسيقية ليست "لغة"، بل إن الطريقة التي يتفاهم بها الصم والبكم ليست لغة حقيقة وإن سميت لغة.

وأصوات تصدر عن بشر، لكنها لا ترمي إلى توصيل رسائل أو أغراض هي أصوات غير لغوية.

واللغة وسيلة "يعبِّر بها كل قوم"، لكن كونها وسيلة –على أهمية ذلك- لا ينفي أن تَضْحَى غايةً، عندما تتجاوز في مرحلة لاحقة وظيفتها في "التواصل " بين الجماعة إلى تكوين خصوصية الجماعة والحفاظ عليها، في علاقة جدلية معقدة بين أصحاب اللغة ولغتهم. هي إذن أربعة عناصر، مجموعها حصيلته ما تعارفنا عليه بأنه "لغة" أو "لسان".

وثمة عنصر خامس في تعريف ابن جني، صحيح أنه ليس منطوقاً به، لكنه مفهوم من لفظة "قوم"، فاللغة ليست فردية أو "فردانية"، إنها ظاهرة – كما يصفها علماء الاجتماع – أعلى من الفرد، فالإنسان (الفرد) لا يبتكر لغة، فإذا ما حاول ذلك "فإن عمله هذا يصبح ضرباً من ضروب العبث العقيم، إذ لن يجد من يفهم حديثه، ولن يستطيع إلى نشر مخترعه هذا سبيلاً"(10).

وعنصر سادس يستفاد من "كل قوم "، فاللغة كما أنها ليست ظاهرةً فرديةً، هي أيضاً ليست ظاهرةً إنسانية بالمعنى العام، أي أنها ليست لغة واحدة، فكل قوم أو مجموعة بشرية لها "لغة" تتشكل معهم، وترتبط بهم، تنتج عنهم، وتؤثر فيهم، في إطار العلاقة الجدلية المعقدة التي سبقت الإشارة إليها.

وإذا كان ابن جني قد عرَّف اللغة التعريف آنف الذكر، فإن أرسطو قبل ذلك بكثير عرفها بأنها "نتاج صوتي مصحوب بعمل الخيال من أجل أن يكون التعبير صوتاً له معنى"(11)، كما أن أوتويسبرسن بعد ابن جني بمئات السنين يرى أن "جوهر اللغة نشاط إنساني، نشاط من قبل الفرد ليجعل نفسه مفهوماً من الآخرين، ونشاط من قبل الآخرين ليفهموا ما يدور في عقل الفرد"(12). وثمة تعريف آخر يرى في اللغة "صورة العالم في رأسك".

وهذا الأخير يبعد قليلاً عن المباشرة، ويطوي داخله بعض العناصر في تعريف ابن جني، لكنه يبدأ بداية معاكسة، ففي حين يبدأ ابن جني باللسان الذي يصدر الصوت المسموع ينطلق هو من الفكر، إذ يبدأ من الرأس قافزاً على اللسان، ومركزاً على كون اللغة مرآة لعقل الإنسان وفكره ورؤيته لما حوله.

وقد شغله هذا التركيز عن الإشارة إلى العناصر الأخرى، ومنها الخاصية الجمعية، أو بعبارة ابن جني (القوم)، إلا إذا شطحنا قليلاً وتخيلنا أن علاقة الفرد بلغته هي أيضاً علاقة الجماعة بلغتها، وعليه فاللغة هي صورة العالم في رأس الجماعة، أو في عقلها الجمعي بلغة علم الاجتماع.

واللغة عند المتصوفة أو أهل الله "ما يخاطبك به الحق من عبارات"(13). وهؤلاء –كما يبدو– أخرجوا اللفظة من دلالتها المرتبطة بالأصوات والقوم وأغراضهم إلى عبارات (دوالّ) لا ندري كنهها تصدر عن الله –سبحانه– للاتصال بعباده المقربين منه.

بهذا يتضح أن "اللغة" هي أقرب الأشياء إلى الإنسان، ومن ثم إلى الجماعة التي تتحكم فيها. إنها –إن شئنا- أشبه ما تكون بالروح، أو هي الروح، وما الفرق بين هذه وتلك سوى أن ما نطلق عليه "روح" تكون به حياة فرد، وما نطلق عليه "لغة" تكون به حياة جماعة، والروح تبعث الحياة في جسد واحد، واللغة روح جماعية تملك طاقة كبيرة تبعث الحياة في أجساد كثيرة. والشواهد على ذلك كثيرة، فباللغة نعيش، نصحو بها، وننام عليها، في مرآتها تنعكس دواخلنا، وبوساطتها نتصل بالآخرين من أبناء جلدتنا، ونتواصل معهم، لكننا غافلون عن هذه العلاقة لشدة قربها منا، وقوة التصاقها بحياتنا.

لقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الطرق التي تستخدمها الكائنات الحية الأخرى التي تعيش على هذه الأرض من حيوان وطير وحشرات أن "اللغة" بالدلالة السابقة " تحتفظ على تتابع العصور، وتنوع الحضارات، بقيمتها ومكانتها، فهي المظهر المادي للوجود الحقيقي للإنسان، فحين يفنى الأفراد، وتندثر الجماعات، لا يبقى منها ذو قيمة إلا ما حفظته اللغة، وهي –أي اللغة- القوة الخفية التي تحرك الأفراد، وتوجه المجتمعات.. وبكلمة يسعد الإنسان أو يشقى، ويؤمن أو يكفر، ويلقى الثواب أو العقاب، وبالكلمات تقوم الأحكام، ويموج العالم، أو يطمئن"(14).

خلاصة القول أن اللغة التي نريدها هنا هي اللغة بوصفها أداةً للتفكير للإنسان، تؤثر فيه وتتأثر به، فهذه هي حقيقة اللغة وجوهرها، أما أصواتها وكلماتها وتركيبها فهي لبوس هذه الحقيقة، وهو لبوس –على الرغم من شكليته– علامة خصوصية، ومصدر اعتزاز.

- 2 -
مفهوم الهوية

الهُوِيَّةُ Identity –بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء المفتوحة– كلمة قادمة من عالم الفلسفة والتصوف، وقد ولّدها العرب والمسلمون قديماً من النسبة إلى "هو" أو "الهو" لتؤدي معنى فعل الكينونة في اللغات الهندو أوروبية الذي يربط بين الموضوع والمحمول، ثم عدلوا ووضعوا بدلاً من هو "الموجود" ومن الهوية "الوجود"، ومع ذلك فقد فرضت الكلمة نفسها كمصطلح فلسفي يستدل به على كون الشيء هو نفسه. الكلمة إذن لا علاقة لها بالمادة اللغوية "هوى" فهي ليست مشـتقة. إن دلالـة الكلمـة ليست سوى وجه آخر لما يعبر عنه بـ "الحقيقة" أو "الذات" أو "الماهية" ولذلك فإنهم كثيراً ما يعرفون أحد هذه الألفاظ بالآخر.

وقد عرفوا "الهو" بأنه "الغيب الذي لا يصح شهوده للغير، كغيب الهوية المعبَّر عنه كنهاً باللاتعين، وهو أبطن البواطن"(15). كما عرفوا "هو" بأنها: كلمة مدلولها العليُّ غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء، فذاته غيب أبداً، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله إلى تنزُّل اسم الملك فما بينهما(16)".

هو أو الهو إذن هي الحقيقة المطلقة، غيب الإلهية، أبطن البواطن، حتى "الهوية" نفسها قالوا إن "الأحق بهذا اللفظ من كان وجود ذاته من نفسها، وهو المسمى بواجب الوجود المستلزم للقدم والبقاء(17)". ثم حدث تطور دلالي، فأصبحت "الهوية" هي الحقيقة أو الماهية أو الذات للشيء، أي شيء. وقد عبروا عنها بأنها "ما به الشيء هو هو"(18) يريدون أنها ذلك الأمر الذي يجعل شيئاً ما هو لا غيره، ولكن في حال تشخصه. أما في حال تحققه فهو حقيقة وذات. وأما إذا كان أعم من التشخص والتحقق فهو ماهية.

هذه الفروق بين الألفاظ الثلاثة تحدثـوا عنها أيضاً على وفق اعتبار الكلية والجزئية فقالوا: الكلي ماهية، والجزئي هوية. وبعيداً عن هذين الاعتبارين هو حقيقة.

كما قالوا: إن الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب "ما هو": ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج: حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار: هوية، ومن حيث حمل اللوازم عليه: ذات(19).

ولو تتبعنا ما قيل فسنجد أن الهوية – من المنظور الفلسفي – هي – مع بعض التجاوز - حقيقة الشيء أو ماهيته أو ذاته في حال تشخصها، أو تحددها، أو تميزها من غيرها.

ويعرف المتصوفة الهوية بأنها "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق(20)". أما عند علماء النفس فهي "وحدة ذات الشخص في مراحله المختلفة، طفلاً وشابّاً وكهلاً وشيخاً(21)". وعلماء الاجتماع يرون في "الهوية" ذلك "الشيء الذي يُشعر الشخص بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، والانتماء إليه(22)". أما علماء الميتافيزيقا (الغيبيات) فالهوية عندهم "جوهر العقل وماهيته".(23) أو أنها والعقل شيء واحد، فهي ماهيته وصورته وقانونه. إنها الضروري مطلقاً في مقابلة المستحيل مطلقاً. ويقترب علماء المنطق والرياضيات من الأفهام أكثر عندما ينظرون إلى "الهوية".على أنها "علاقة بين شيئين تجعل منهما متساويين، فهي ما يجعل شيئاً ما متشابهاً تماماً مع شيء آخر"(24).

إن ما استعرضناه من إشارات سريعة إلى مفهوم الهوية من وجهات نظر مختلفة، وعبر رؤى متباينة، يدل على أن الهوية مفهوم مطلق يعني الحقيقة والماهية والذات والوحدة والاندماج والانتماء والتساوي والتشابه. وكلها دلالات تصبُّ فيما نحن بصدده من قضية اللغة في علاقتها بأصحابها.

ولكن كيف تتشكل الهوية، وما هي العوامل التي تسهم في هذا التشكل؟

قبل الإجابة نذكر أن الهوية تكون هوية فرد، كما تكون هوية جماعة. وهوية الفرد تكون هوية بسيطة، تلك التي هي الأقرب إلى الذهن، والأكثر انتشاراً، نعني ما يُعْرَفُ اليوم بـ "البطاقة الشخصية" التي تتضمن مفردات الاسم والعمر والمواصفات الشكلية والجنسية.. إلخ مما يميزه عن غيره الأفراد، ويعرف الآخرين به. وهوية مركبة، تلك التي تحدد اتجاهه ومسار فكره وعقيدته وانتماءاته، ومثل هذه الهوية هي التي تجمعه بغيره من الذين يشتركون معه في الاتجاه والفكر والعقيدة والانتماءات، وتميزه في الوقت نفسه بتلك الفروق أو التضاريس التي لا يشترك معه فيها غيره.

ومجموع الهويات الفردية والمركبة يساوي هوية الجماعة (الهوية العليا) التي تجمع أفرادها من ناحية، وتميزهم من ناحية أخرى أيضاً.

إن الهوية العليا – كما أسميناها – تتشكل تلقائيّاً أو عفويّاً دون تدخل مباشر من قبل الإنسان، وقد تكون نتيجة لفعل إنساني واعٍ، وربما تخرج عن هذا وذاك، ويكون الفاعل فيها هو "الله" الذي يرسل رسلاً، يدعون إلى أديان تصبح في وقت لاحق "هوية" للمؤمنين بها.

وقد عرض المنظّرون لمسألة الهوية لتلك الحالات، وحصروا العوامل التي تشكل الهويات فيما يلي: الجنس أو الأصل أو العرق، الدين، التاريخ، الجغرافيا (المكان)، التكوين النفسي – الثقافي، الإرادة أو المشيئة، الاقتصاد، بالإضافة – بالطبع- عاملا كذلك إلى اللغة. ويمكن أن نزيد: الدولة، وهو عامل فاعل رآه بعض الماركسيين –غير ستالين-.

- 3 -

جـدل اللغـة والهـويـة
3-1: أقدم تجليات الهوية:
بعد أن توقفنا بعض الشيء عند اللغة، والهوية، كلٍّ على حدة - أصبح من الضروري أن نجمعهما في هذه الفقرة الأساسية، ونجمع إليهما العناصر الأخرى للهوية، وذلك للكشف عن العلاقات بين اللغة والهوية، ومكانة اللغة ضمن منظومة عناصر الهوية، ثم موقع اللغة أيضاً ضمن نظريات الهوية.

إذا كانت اللغة هي تلك الخاصية الإنسانية التي تعكس العقل الجمعي لفئة من البشر، وتعبر عن رؤيتهم للعالم من حولهم، وإذا كانت الهوية هي الحقيقة والذات والماهية.. فإنه يمكن القول دون أن يكون ثمة افتعال: إن اللغة تعد صورة حية لحقيقة أصحابها وذاتهم وماهيتهم.

ويلاحظ أننا عبرنا بـ "حقيقة" و"ذات" و "ماهية" مفردة؛ لأن اللغة شيء مشترك للمتحدثين بها.

واللغة – كما نراها – هي أقدم تجليات الهوية لدى الجماعات البشرية، إذ لا شك أن تَشَكُّلَ هذه الجماعات قد ارتبط ببحثها عن وسيلة للتفاهم. وإذا كنا لا نعرف – على وجه الدقة – طبيعة هذه الوسيلة الآن -فإن المؤكد أنها مع بعض التجاوز "لغة"، وأنها هي التي مكنتها من أن تُكَوِّن مجتمعاً أحس أفراده بأن شيئاً مشتركاً يجمعه مع من يتفاهم معهم من ناحية، ويميزه أو يميزهم عن غيرهم من ناحية أخرى.

واللغة تبدأ هويةً بسيطةً، ثم تَغْنَى وتتعمق مع مرور الزمن، فهي أشبه بالوعاء الذي تثريه الأيام، ذلك أن العلاقات الإنسانية المتشابكة داخل الأسرة اللغوية، والعلاقات مع الأسر الأخرى - والأحداث والآمال والآلام، كل ذلك يصب في اللغة، حتى يصبح الصوت اللغوي مَنْجَماً شعوريّاً واجتماعيّاً يربط بين الناس، ويوثق علاقاتهم، ويحدد ملامحهم، ويوحد نظرتهم إلى أنفسهم، والآخرين، والعالم والكون من حولهم.

إن العلاقة بين اللغة وأصحابها علاقة تفاعلية، يصعب معها الفصل بين الطرفين، فهي هم، وهم هي، وبعبارة أخرى هي (اللغة) الهوية، وهي (الهوية) اللغة.

وعلماء الاجتماع ينظرون إلى اللغة على أنها حقيقة وظاهرة اجتماعية، وتعبير عن تنظيم اجتماعي لمجتمع معين. ومن هنا نفهم تعلق كل شعب بلغته؛ لأن الأفراد دائماً يرتبطون بأبنيتهم الاجتماعية(25). كأن هؤلاء يرون في اللغة أيضاً مظهراً من مظاهر الهوية، أو الوجود.

ويربط أحد الباحثيـن بين مستقبل اللغة ومستقبل الهوية على أساس أن اللغة إحدى قسماتها(26)، ولا شك أن ربطه هذا صحيح، وبخاص في حال لغة كالعربية، ترتبط بالدين، وتكتسب قداسة حتى عند غير الناطقين بها، فضياعها يعني ضياع أحد المقدسات. لكن الله – سبحانه – قد حفظها من التفكك والموت.

وعلى الرغم من ذلك فإن اللغة هوية، وليست "الهوية" لغةً، بمعنى أن اللغة ليست المقوم الوحيد للهوية، وإن كانت من أهم هذه المقومات، وأشدها خصباً وعمقاً وتركيباً. إن العلاقة بين اللغة والهوية هي علاقة الخاص بالعام، فالهوية أعم من اللغة؛ لأن الهوية لها تجليات عديدة غير "اللغة" إذ إنها (الهوية) ببساطة متناهية ليست سوى تلك القواسم المشتركة أو القدر المتفق عليه بين مجموعة من الناس، ذلك الذي يميزهم ويوحدهم، وليست اللغة وحدها التي تقوم بهذه المهمة، وهذا يعيدنا إلى المقومات الأخرى للهوية.

3-2: اللغة.. وعناصر الهوية الأخرى:

الهوية نسيج يتكون من عدة خيوط (سبقت الإشارة إليها)، كل خيط منها يمكن أن يكون نسيجاً، ويتحول إلى هوية، كما أن كل خيط يمكن أن يتآخى مع خيط أو أكثر لتشكل هوية واحدة، وقد يحظى خيط ما بدرجة أكبر من القوة، ويطغى على ما عداه، ويكون أفصح حضوراً لدى الجماعة نفسها، وفي عقول الجماعات الأخرى عنهم. ومن هنا نقول: إن "هوية" هذه الجماعة لغوية، أو تاريخية، أو دينية، أو جغرافية.. إلخ، مما يعني أن العنصر الطاغي هو هذا أو ذاك، دون أن يلغي ذلك دور العنصر الآخر، أو العناصر الأخرى بالمرة.

على أن بعض المنظّرين يلغون دور بعض الخيوط في نسيج الهوية، فالماركسيون مثلاً يرون أن الهوية هي حصيلة خمسة خيوط فقط هي: اللغة، والتاريخ، والتكوين النفسي والثقافي، والاقتصاد، والجغرافيا. والألمان لا يضعون في حسبانهم سوى العِرق أو الجنس، واللغة، والفرنسيون يعتمدون خيط الإرادة أو المشيئة الذي يقوم بدوره على الجغرافيا والاقتصاد. والقوميون العرب يركزون على اللغة والتاريخ. والقوميون السوريون على الجغرافيا (الأرض). والإسلاميون على الدين.

التساؤل الذي يمكن أن يثار: هل يمكن ترتيب هذه العناصر على وفق أوليتها ودرجة أهميتها في صياغة الهوية.

هذا التساؤل استدعى من الذاكرة ما يسمى لدى علماء الشريعة بـ "المقاصد الخمسة" التي رتبها الشاطبي على النحو التالي: الدين، فالنفس، فالعقل، فالعرض، فالمال، ورأيتني أحاول أن أنظر في أمر ترتيب عناصر منظومة الهوية.

على أن ثمة فرقاً بين المنظومة والمقاصد، يتمثل في السياق الذي يجمع عناصر كل، فعناصر المقاصد ليست هي الشرع، بل غايات لـه، أما عناصر المنظومة فهي "الهوية" أو مفرداتها.

وبداية فإن الدين – في رأيي – يأتي في طليعة هذه العناصر، ذلك أنه يرتبط بالبنية العميقة للإنسان، والتكوين الداخلي لهذا الكائن، والمؤمن به يعتقد اعتقاداً يقينيّاً أنه صادر عن الله خالق الكون وخالق الإنسان، ومن ثم فهو – أي الخالق – أدرى وأعلم وأقدر على ترتيب مصالحه، ورسم خريطة حياته، ووضع خطة سعادته ومستقبله. وهذا ما يفسر لنا استمرار الأديان السماوية واستقطابها لمجموعات هائلة من البشر، سواء استمرت على نقائها، أو شابتها شوائب كثيرة أخرجتها عن حقيقتها. ومن الدين تنبثق مجموعة من القيم التي ترتبط بهذا الدين، وتحدد ملامح أتباعه.

والدين ليس سوى مستوى واحد، فمن المعلوم أن الأديان ارتبطت بالظروف التاريخية، ومستوى العقل البشري فيها، و"الإسلام" هو آخر هذه الأديان، بلغ العقل البشري عند نزوله مرحلة متقدمة من النضج، وجاء ليستمر ويتوافق مع الزمن الآتي، فهو دين ودنيا، عبادات وفكر، علاقة مع الخالق ومع الكون ومع الإنسان.

وقد ظل الإسلام هو "الهوية" لشعوب كثيرة، في مناطق عديدة، متقاربة، ومتباعدة، ولا يزال، وإن كان قد تراجع امتداداً وتأثيراً إلى حد كبير نتيجة لظروف وعوامل عديدة.

وعلى الرغم من أهمية الدين فإنهم في الغرب قد أقصوه منذ مطالع عصر النهضة، وحصروه في زوايا محددة لا تتجاوز الطقوس. لقد سقط "الدين" بوصفه أساساً من أسس الهوية عندهم، كما توارى بسقوط الخلافة العثمانية، وضعف صوته، على الأقل على المستوى الرسمي والسياسي. إن "ساطع الحصري" أبرز المنظرين العرب في القرن الفائت لفكرة الهوية "القومية" نفى دور الدين، وجعل منه أمراً ثانويّاً، يقول: "فسياسة الدول لم تقم على أساس العلائق الدينية أبداً... العلائق السياسية لا تتبع العلاقة الدينية"(27)، على الرغم من أنه حاول محاولات أولية التوفيق بين الدين واللغة، أو بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية.

يلي الدين – في رأيي – اللغة. وسأتوقف عندها في الفقرة التالية.

بعد الدين واللغة يأتي التاريخ، فالتاريخ يصنع هوية؛ لأنه مجموعة كبيرة من المشتركات للجماعة البشرية، تتكون عبر الزمن، وتنضج على ناره، وهي تشمل مواقف انفراج وتأزم، أفراحاً وأتراحاً، وبالإجمال هي ذكريات تستقر في أعماق النفس الجمعية، وتربط المصائر، وتصهر الناس داخل إطار واحد.

وكلما كان التاريخ ممتداً وحافلاً وأكثر تشابكاً كان أقدر على التأثير وصياغة الهوية. ولكن ما مفهوم التاريخ؟ يرى الحصري أنه "بمثابة شعور الأمة وذاكرتها"(28) كأنه يرى فيه نزعة نفسية (شعوراً) وأحداثاً ومواقف مضت ذاكرة.

ولذلك فإن "الأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها". بينما لا يرى أحد الباحثين في "التاريخ" عامل هوية، فالتاريخ بمعنى "الزمان" لا يعمل وحده، لكنه يعمل في الإطار الاجتماعي المركب؛ ولذلك فهو يقترح استبدال الحضارة بالتاريخ، أو على الأقل "التاريخ الحضاري" لأن مجرد التتابع الزمني لا يكون أمة، وكم من مجتمعات استمرت قائمة و"حَيَّةً ترزق" لفترات متطاولة من الزمان، ولكنها لم تتحول إلى أمم؛ لأنها لم تضع حضارة مشتركة قومية وعميقة(31).

والخلاف - كما رآه – خلاف لفظي، فما يقصده الحصري قطعاً هو المفهوم من كلمة حضارة. ومعلوم أننا قد نعبر عن الشيء بأهم عناصره أو لوازمه، بمعنى هل نستطيع أن نتصور حضارة دون زمن أو تاريخ؟

العوالم الثلاثة السابقة هي العوامل الرئيسة. وقد تبقت ستة عوامل، تكاد تقف على خط واحد من الأهمية، وإن كان بعيداً عن سابقاتها.

لا شك أن الجغرافيا (الأرض الواحدة) تقرب الجماعة البشرية، وتصبغها بصبغة خاصة، ويتجلى ذلك على المستوى اللغوي في ظهور اللهجات، وتقارب الأصوات، وعلى المستويات الأخرى: الاجتماعي (العادات والتقاليد) والخلقي (الشكلي)، الخلقي.. (القيمي)... إلخ.

ومن المعلوم أن الانفصال الجغرافي قد يقسم الجماعة إلى جماعات، خاصة إذا لم توجد العوامل الأساسية التي تقف في وجه هذا التقسيم. والاقتصاد أيضاً يقوم بدور في حياة الجماعات، كما هو حاله في حياة الفرد. لكنه الدور الذي يمكن أن ينقلب إلى النقيض، لهذا فقد يفرِّق ولا يجمع، كما أنه عرضة لتلاعب الحكومات وتسخيره لمصالحهم.

الإرادة أو المشيئة، والدولة، والتكوين النفسي والثقافي، كلها –في تقديري– محصلة للعوامل السابقة، لها دور في تعزيز الهوية، لكنها لا تصوغها، أو لا تقوم بذلك منفردة.

أخيراً ثمة عامل الأصل أو العرق أو الجنس، وقد أَخَّرْتُهُ لأن الكثيرين يرون أنه لا توجد اليوم "سلالة متميزة"، ولهذا فإن الحصري عبَّر عنه بـ "الاعتقاد بوحدة الأصل والمنشأ"(30).

3-3: اللغة.. ونظريات الهوية:

الهوية قديمة قدم الجماعات البشرية نفسها، والنظريات التي حاولت أن تقعِّد أو تضع الأسس اللازمة لتشكيل الهويات جاءت متأخرة كثيراً. ولن تتضح مكانة اللغة ضمن منظومة الهوية، دون الكشف عن موقعها على خريطة هذه النظريات.

لقد شهد أواخر القرن الثامن عشر والقرنان التاسع عشر والعشرون العديد من النظريات التي تؤسس لفكر الهوية: النظريات الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والماركسية والستالينية، ودعوات الرابطة الإسلامية، والرابطة العثمانية، والرابطة العثمانية الإسلامية، والشرق أوسطية، والشرق متوسطية، والنزعات العرقية في مصر وسورية ولبنان، والرابطة الإفريقية، والقومية العربية، والقومية السورية، وغيرها.

بعض هذه النظريات ارتكز على "اللغة"، فالنظرية الألمانية، التي تقوم على فلسفة هيغل (المثالية) تقول منذ أوائل القرن التاسع عشر: إن أساس القومية (الهوية) ومعيارها الصحيح هو اللغة، وفي هذا الإطار يرى هيردر (ت 1803) "أن قلب الشعب إنما ينبض في لغة الشعب، وروح الشعب تكمن في لغة أسلافه، وهي الوعاء الذي استودعه الشعب كل ما أنجزه من نفائس الفكر وذخائر الأعراف والفلسفات والعقائد". أما فخته (ت 1814) فيقول: "إن الذين يتكلمون بلغة واحدة يشكلون كياناً واحداً متكاملاً ربطته الطبيعة بوشائح متينة وإن تكن غير مرئية". وبعد أكثر من مائة عام جاء ماكس نورداو (ت 1923) الذي "بشّر بفكرة الربط بين اللغة أداةً للتواصل بين الفرد والجماعة، واللغة وسيلة للإبداع الثقافي والتحصيل المعرفي، ثم اللغة كوسط سياسي – اجتماعي، تتحقق في ظله الديمقراطية ويتحقق العدل(31).

صحيح أن النظرية الألمانية لا تكتفي باللغة، بل تضيف إليها الأصل أو العرق لكن اللغة تظل العامل الأساسي في تشكيل الهوية.

وجدير بالذكر أن التركيز على اللغة... حتى نظرّياً، وبالمعنى الذي يجعل منها أساس ربط أفراد الجماعة قديم، يرجع إلى ابن خلدون الذي رأى في العربية الرابطة التي تجمع العرب.

وكما حظيت "اللغة" بهذه المكانة عند الألمان، فإنها في فكر القومية العربية (ساطع الحصري) تجاوزت تلك المكانة، وتحولت إلى محور الفكر القومي العربي، فـ"اللغة" هي "روح الأمة وحياتها..." إنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري، وهي من أهم مقوماتها ومشخصاتها"، "أس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية، هو: وحدة اللغـة ووحدة التاريـخ"(32) و "نستطيع أن نقول: إن الأمم يتميز بعضها عن بعض – في الدرجة الأولى – بلغتها. وإن حياة الأمم تقوم – قبل كل شيء – على لغاتها"(33).

وكما كان ثمة عنصر آخر (الجنس أو الأصل) في النظرية الألمانية كان ثمة عنصر آخر في فكر الحصري هو "التاريخ" على أن هذا العنصر الأخير ليس سوى تابع لـ "اللغة"، ولذلك فإن "الأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها، وتستطيع هذه الأمة أن تستعيد وعيها وشعورها بالعودة إلى تاريخها القومي"، في حين أنها "إذا ما فقدت لغتها تكون عندئذ قد فقدت الحياة، ودخلت في عِدَادِ الأموات، فلا يبقى سبيل إلى عودتها إلى الحياة، فضلاً عن استعادتها الوعي والشعور". فقدان اللغة إذن موت، ونسيان التاريخ غياب مؤقت عن الشعور. وفرق كبير بين الحالين.

وهذا ما دفع أحد الباحثين إلى القول بأن ثلاثة أرباع نظرية الحصري في القومية تعتمد على اللغة، ولا يتعدى التاريخ أن يكون تابعاً لا نِدّاً لها(34).

النظريتان الماركسية والستالينية لم تَخْلُوَا أيضاً من "اللغة"، لكن الأولى أضافت إليها أربعة عوامل: التاريخ، والتكوين النفسي – الثقافي، والوحدة الاقتصادية، والأرض المشتركة، والثانية أضافت ثلاثة فقط بإسقاط التاريخ.

أما النظريتان الفرنسية والإيطالية فإن "اللغة" غائبة لديهما، الأولى التي تعرف بنظرية المشيئة والإرادة تكتفي بما أسموه وحدة العادات، ووحدة المطمح السياسي. والثانية تركز على وحدة التاريخ ووحدة العادات.

بقية النظريات تقوم على الدين، أو الجغرافيا، أو الأصل (العِرْق)، ولا مكان تقريباً لـ"اللغة" فيها. وإن كانت بعض النظريات الدينية قد حاولت التوفيق بين عنصري الدين والعروبة، سواء بمعناها اللغوي أو العِرْقي. ولا يخفى أن كل نظرية قامت على وفق الظروف التي كانت تمر بها الجماعة، سواء كانت ظروفاً داخلية، أو خارجية، وحاولت أن تخدم أغراض القائلين بها.

ختاماً فإن كل ما قيل عن مقومات الهوية، وعن تميزِ مقوِّمٍ ما ودوره وتأثيره- لا ينفي أن هذه المقومات تتناوب الظهور والحضور، فقد تدفع الظروف – على إطلاقها – هذا المقوم أو ذاك، وقد كان من قبلُ متوارياً، ومع الإلحاح عليه من داخل الجماعة اللغوية، أو من خارجها، يصبح الأبرز وإن لم يكن الأكثر تأثيراً في صياغة الهوية. والشواهد على ذلك تاريخاً وحاضرا كثيرة.

*****************

الهوامش

*) باحث في قضايا التراث واللغة، ومدير برامج معهد المخطوطات العربية بالقاهرة.

(1) إشارة إلى أطروحة صمويل هنتنغتون.

(2) إشارة إلى أطروحة فوكوياما.

(3) صمويل هنتنغتون: صدام الحضارات (بالإنجليزية). نيويورك 1997. ص59.

(4) الزمخشري: أساس البلاغة (لغو).

(5) المصدر السابق (لسن).

(6) محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق محمد رضوان الداية. دمشق: دار الفكر، 1990 – ص622.

(7) المناوي: التوقيف، مصدر سابق، ص622، والكفوي: الكليات، قابله وأعده محمد عدنان درويش ومحمد المصري. دمشق: وزارة الثقافة، 1976، ق 4، ص170.

(8) ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، ط3. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1406 هـ / 1986 م. جـ 1 /33.

(9) محمد السيد علوان: المجتمع وقضايا اللغة. الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1995، ص119.

(10) المرجع السابق، ص126.

(11) علي عبد الواحد وافي: اللغة والمجتمع. ط4. جدة: شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، 1403 هـ - 1983 م، ص7.

(12) محمد حماسة عبد اللطيف: النحو والدلالة. القاهرة: 19836، ص31.

(13) المرجع السابق، ص31.

(14) المناوي: التوقيف، مصدر سابق، ص622.

(15) المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: الموسوعة الإسلامية العامة. القاهرة: المجلس: ص1222.

(16) محمد عابد الجابري وفي: الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الأول تحرير د.معن زيادة، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986، ص821.

(17) الشريف الجرجاني: التعريفات. بيروت: دار الكتب العلمية، 1988، ص257، والمناوي: التوقيف، مصدر سابق، ص744.

(18) المناوي: التوقيف، مصدر سابق، ص744.

(19) الكفوي: الكليات، مصدر سابق، ص961.

(20) عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة (الهوية).

(21) المصدر السابق (الهوية).

(22) الشريف الجرجاني: التعريفات، مصدر سابق، ص257.

(23) المصدر السابق.

(24) المصدر السابق.

(25) المصدر السابق.

(26) المصدر السابق.

(27) محمد السيد علوان، مرجع سابق، ص10.

(28) أحمد بن محمد الضبيب: العربية في عصر العولمة، ص133.

(29) الحصري: العروبة أولاً. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985، ص...

(30) الحصري: ما هي القومية؟ أبحاث ودراسات على ضوء الأحداث والنظريات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985. ص210.

(31) محمد عبد الشفيع عيسى: نظرية الحصري في القومية العربية: جدلية الإثبات والنفي. (بحث ضمن: ساطع الحصري: ثلاثون عاماً على الرحيل). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ومعهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، ص147، 148.

(32) مركز دراسات الوحدة العربية، ومعهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة: ساطع الحصري: ثلاثون عاماً على الرحيل، مرجع سابق، ص164.

(33) الحصري: أبحاث مختارة في القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1985. ص29.

(34) مركز دراسات الوحدة: ساطع الحصري: ثلاثون عاماً على الرحيل، مرجع سابق، ص164.

(35) الحصري: أبحاث ودراسات. مرجع سابق، ص210.

(36) الحصري: أبحاث مختارة.. مرجع سابق، ص48.

(37) عبادة كحيلة: هوامش على دفتر الزمان. القاهرة: المؤلف، 1422 هـ / 2001 م، ص62.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=89

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك