اللغة والهوية وآفاق التنمية

اللغة والهوية وآفاق التنمية

يحيى بن البراء*

1 – استهلال تأطيري

يعيش العالم في الحقبة الراهنة مرحلة متميزة من تاريخه بفعل الدمج القسري الذي تم للأمم المختلفة والثقافات المتباينة في بوتقة النموذج الغربي الوافد والمتفوق. ولقد كان لآليات العولمة دور كبير في التأرجح الجبري الذي تعرفه الشعوب المغلوبة اليوم بين عالميـن مختلفين: عالم ترى فيه نفسها وهويتها، وآخر يغزوها ولا تجد عنه محيداً ممثَّلاً في وسائل الاتصال العاتية التي تمثل اللغُة أُسَّها الركين.

وفي هذا السياق تعرف اللغة العربية في وضعها الراهن حالةً مقلقة من الضعف والقصور عن الوفاء بمتطلبات العصر واحتياجات متكلميها التصويرية والتعبيرية لم تعرف له نظيرا في سابق عهدها إن على مستوى نظامها البنيوي أو على مستوى مهادها الثقافي والاجتماعي، كما تعرف بلبلةً وخلطاً في حقولها الدلالية، وعدم انتظام في معجمها، وقصورا عن الأداء على مستوى أبنيتها التركيبية وطاقتها الاستيعابية والإبلاغية.

ولا غرابة أن تكون اللغة على ما هي نظراً لطبيعة البيئة الاجتماعية والعلمية والاقتصادية التي تُتداول فيها. فالمجتمع العربي يعرف هو الآخر اليوم حالة شاذة من تاريخه على مختلف الأصعدة وفي شتى الميادين. تعود هذه الحالة في جزء منها كبير إلى منزلته في العالم الذي يعيش فيه، ومدى استيعاب أبنائه للسيل المعلوماتي الحديث وما يحمله في طياته من معارف ونظم وتقنيات. فالتخبط أو الوجوم الذي يعرفه متكلمو العربية في وجه هجمة حضارية تأتي على الأخضر واليابس لا بد أن يمثل عقبة كؤوداً أمام مشروع الانطلاقة الحضارية الذي تطمح له اللغة العربية وأبناؤها.

من أجل ذلك تحتاج هذه اللغة الآن إلى مزيد من العناية من حيث درس ووصف أنساقها الداخلية لا لعرض نحوها بشكل أكثر كفاية، بل -وهو الأشد إلحاحاً– من أجل تفجير طاقاتها التعبيرية والتواصلية لتواكب حركة المصطلح العلمي، وتصبح أداة في المسيرة التنموية التي أصبحت اليوم أهم تحدًّ فعليًّ للغات البشرية عموماً بل للشعوب التي تريد لهويتها أن تبقى، ولمجتمعاتها أن ترقى في عالم أصبح متشابكاً قريةً واحدة أو يكاد.

أن نتجذر في العصر، ذلك ما يأمرنا به واقعنا العسير. وإننا ما لم نتشبع بروح الحاضر لمشلولون سياسياً وحضارياً أمام التحديات العاتية. وليس لنا إلا أن نكون مطمعاً للاستعمار الجديد يفترسنا بضراوته التكنولوجية، أو متحفاً إثنولوجيا لإمتاع متذوِّقي العتيق، أو لوحة فولكلورية لتسلية السياح، فلا بد أن نضبط حياتنا على ساعة العصر حتى نخرج من سلبية المفعول به تاريخياً إلى إيجابية الفاعل، ونثبت حضورنا دولياً في مراكز النفوذ ومواطن الخَلْق: خلق الأشياء والقيم والفنون والعلوم. وذلك شرط وجودنا الأكمل في هذا العالم الذي نحن منه ولا نملك اليوم أن نؤثر في سيره بملء وزننا. فلنكشف أنفسنا من جديد وإن اقتضى ذلك منا أن نخلع الثوب القديم ولكن دون أن ننسلخ من هويتنا لنغرب في الآخرين. فالحداثة أن نستوعب أسباب التقدم في كافة المجالات حتى ننمي مجتمعاتنا تنميةً شاملة ونفجر فيها طاقات الخلق المدفونة لنصبح قادرين على الإسهام النشط في صياغة مصير العالم.

ولقد كان من المفترض للغة العربية بما لها من ميراث ثقافي ضخم أن تكون بمنأى عن سيرورة الامحاء أو التبعية التي شهدتها أغلب لغات وثقافات الشعوب المغلوبة حالياً. غير أن الواقع لم يكن كذلك. فبرامج التعريب في أغلبها تعثرت ولم تعط ما كان منها متوقعاً، وتدريس اللغة نفسها مادة في البرامج التعليمية يكاد يكون مهملاً، وتعليمات وقرارات المجامع اللغوية لا تؤخذ بعين الاعتبار في التعليم والتداول، وعمليات الاقتراض من اللغات الأخرى تتم بفوضنة مطلقة ولا تنسجم وآليات اللغة نفسها في التوليد والتوسع.

ومن المتداول بين المختصين في علم اللغة الاجتماعي أن الأمم ذات الثقافات المترسخة لا تستطيع النهوض دون الاعتماد على لغاتها، وأن للغة دوراً بارزاً في عملية النهوض وأثراً بالغ الوقع في التنمية بمفهومها الشامل. فكلما اتسعت قاعدة استعمال لغة ما، وتداولها بين صفوف متكلميها كانوا أقدر على الفهم والإفهام، وأكثر وَعْياً بالأشياء والأفكار، وأسرع إلى الاختراع والابتكار. ويتأيد هذا الزعم بتجارب بعض الأمم الحاضرة التي سلكت هذا السبيل في النهوض ولذا يظهر أن بين اللغة والمجتمع رحماً موصولاً وتعاضداً لا غنى لأيٍ منهما عنه.

وهكذا سنحاول في هذا البحث أن نعالج كيفية النهوض باللغة العربية وسيلةً للتنمية والانطلاق، وضماناً للحفاظ على الهوية دون أن ندعي مشروعاً متكاملاً، وإنما هي إشارات وتأملات فلننظر في وضعها الراهن لنشخص بعض الأمراض التي تعتريها، وتبطئ بها عن مسايرة الأمم الراقية علنا نستجلي بعض الحلول للقضايا المطروحة قضايا الأصالة والمعاصرة والتجديد والتقليد والتقدم والتخلف...الخ.

2 – اللغة الطبيعية: البنية والوظيفة

من المتداول بين عموم الناس أن اللغة أداة للتواصل. ولا شك أن الباعث على مثل هذا القصور يبدو جدَّ وجيه لما يتقوى به من الحس المشترك العام. ولو افترضنا جدلاً صحة هذا القول وتعاملنا مع اللغة على أساسه وأدى ذلك بنا إلى تصور واضح لغائيتها - فإن وضوحها من حيث وظائفها وأدوارها ومن حيث كونها أداة للتواصل رئيسية لا يؤدي بالضرورة إلى وضوح طبيعتها، والغالب أن المتكلم لا يفكر في اللغة التي يستعمل في ذاتها، وإنما يقتصر على استخدامها ليتوصل إلى أغراض لا تتعلق بها في الغالب.

وهكذا يثير البحث في اللغة عدة إشكالات عند المختصين؛ منها هل اللغة ظاهرة تخص الإنسان؟ وما العلاقة بينها وبين الدماغ؟ وكيف يتم اكتسابها لدى الأطفال؟ وما العلاقة بينها وبين الفكر؟ وما مدى تحديدها لنمط التفكير؟ وما العلاقة بينها وبين المجتمع؟

وسعياً للإجابة عن هذه التساؤلات يتطلب المقام الإشارة إلى جملة من الأوليات المعروفة في اللسانيات الحديثة، فقد أصبح جوهر الدراسة اللسانية المعاصرة هو كيف يتم توليد اللغة؟ ولم يعد المهم هو ما يقال كما عند البنيويين – بل العملية الذهنية التي سبقت القول لما تساعد فيه من قدرة على صياغة بعض الفرضيات القريبة من الحقيقة البالغة التحديد حول الطبيعة الجوهرية للعقل البشري.

ولذا فهناك ارتباط حميم بين اللسانيات والبيولوجيا والرياضيات وعلم النفس. خاصة أن بنية معرفة اللغة وبنية معرفة المجال الطبيعي ربما كانتا خاصتين من خصائص الجهاز العضوي، وإذا كان الجهاز العضوي يستوعب بسهولة أنساقاً بمثل هذا التعقيد فيترجح أنه كان يعرفها مسبقاً في الواقع.

إن من الفرضيات المؤسسة (founded) والمسلمة اليوم عند الدارسين في حقل العلم المهتم بنشأة المعارف (episthemology) من حيث بناءاتها وصياغاتها ومجالات انطباقها أن اللغة إحدى أهم الخصائص التي تقيم تمييزاً نوعياً بين الكائن البشري والكائنات الأخرى(1).

فاعتبار الإنسان مزوداً دون غيره من الكائنات الحية بجهاز طبيعي معقد يسمح له باكتساب أنظمة تواصلية تحكمها ضوابط عامة ومبادئ - كلية لم يكن من قبيل الصدفة، بل إن طبيعة الجنس البشري أنها تقتضيه وتستلزمه (2). ( تشومسكي 1975).

فاللغة كما يرى العلماء التوليديون هي الخاصية النوعية المورثة بيولوجياً والتي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى وحتى تلك الخاصية يعدها بعض مؤاخيةً له في ذات السلمية الحيوانية.

وعلى هذا الأساس فاللغة ليست للخطاب والتواصل فحسب بل هي حالة ذهنية لدى الإنسان يولدها من دماغه. إنها جزء من المقدرة البيولوجية الخاصة التي يتصف بها الإنسان وهي صفة تخصه وتخصصه. وهكذا إذا كانت بنية اللغة تعكس الخصائص الأساسية لطبيعة الذكاء البشري فينبغي أن نخلص إلى ضرورة وجود نحو كلي مبرمج قبلياً في دماغ الإنسان.

وإذا كانت عملية اكتساب اللغة تتم بفعل التوريث البيولوجي الفطري فإن كل مولود يأتي إلى الوجود وهو يحمل برنامجاً كلياً يعرف باللغة الكلية (language acquisition device) ولكنه لا يستطيع ممارسة اللغة إلا بعد احتكاكه بالمحيط الاجتماعي الذي يعمل من خلاله على تثبيت مجموعة من الوسائط (parameters) هي التي تخوله بالفعل إتقان وممارسة لغته الأم.

وبالرغم من كل هذا تبقى اللغة السبيل الأول لنقل الفكر والتجربة عند الإنسان بل للتعامل مع المعطى الخارجي سواء بأخذ صورة عنه وفهمه أو بإعطائه تنظيماً ومعقولية(3) ومن المعلوم في هذا الإطار أن هذه المؤهلات التي لا تسمح للإنسان أن يفكر ويعقل الأشياء إلا انطلاقاً من اللغة ترجع في أساسها إلى طبيعة تكوين عقولنا(4).

إن النسبة التركيبية والدلالية أي تلك المعلومات المحملة عن طريق اللغة تبدو مصوغة بالطريقة التي ينظم الذهن بها التجربة(5) لذا فإن التنظيم الذي يقيمه الإنسان للعالم الخارجي أو يسقطه عليه والذي يتلخص في تقطيع الخرج (output) المحيطي وجمع الأجزاء المتمزقة والمبعثرة في خانات وتصنيفات متسقة هذا الأمر الذي نراه بشكل بالغ التنظيم هو في الواقع علم مسقط يمكن إلى حد كبير أن نقول فيه: إنه من محض صنع خيالنا. إنه ينحصر في تلك المعلومات التي تنقلها اللغة التي تمثل والفكر وجهين لورقة واحدة، لذا فلا إمكان للفكر بدون لغة وليست هذه الأخيرة لباساً للفكر، وإنما هي الجسد نفسه إذ إنّ وجود الفكرة المجردة مرهون بتسميتها لأنّ اللغة بديل مقنَّن للتجربة ذاتها.

غير أن هذه الإكراهات الذهنية التي درج اللسانيون على تسميتها "النحو الكلي" تجعل احتمالات اللغو (language ability) محدودة. فالإنسان ليس حرًّا في أن يقول ما شاء، ولا أن يفكر في كل ما أراد. قيمة ضوابط صارمة تجعل المتكلم بحكم طبيعته البشرية مكرهاً على أن يسير في اتجاه معين ويسلك سبيلاً مرسوماً سلفاً. من أجل ذلك نستطيع أن نحكم أن مبدأ الإبداعية (creativity) الذي يعد إحدى الخصائص النسقية السبع(6) المميزة للغات الطبيعية (natural languages) يظل محكوماً بمجموعة من الضوابط تصرفه إلى أَمَمٍ لا يحيد عنه.

وفضلاً عن هذه الإكراهات الذهنية تقوم إلزامات أخرى ذات طبيعة اجتماعية وثقافية تجعل من اللغة سلطة تشريعية يحكمها مبدأ العرف والتواضع وتنطوي على نوع من القهر هو توجيه وإخضاع معممان كما يقول رولان بارت(7) فكل لغة تتعين أكثر ما تتعين لا بما تخول قوله بل بما ترغم على قوله، كما يقول ياكوبسون(8).

وتشكل اللغة الأداة الرئيسية التي تمكن الكائن البشري من تنظيم تواصله بل إنتاجه، كما تشكل أيضا قناة مقتصدة لنقل المعارف والأفكار والمشاعر ووسيلة مثلى لحفظها ونقلها جيلاً بعد جيل. زد على ذلك أنها تعد معياراً للتنمية الاجتماعية والعلمية، ولحاماً لوحدة الأمة ووقوداً لشعلة يقظتها الفكرية، وبصمة لهويتها الحضارية.

ويقوم هذا التواصل على افتراض عمليتين متقابلتين إحداهما الترميز (codage) ويسير من الأشياء والوقائع إلى الكلمات والجمل، والثانية التفكيك (decodage) وهو يسير من الكلمات والجمل إلى الأشياء والوقائع. إن فهم نص من النصوص هو فهم ما يختفي وراء الكلمات والجمل، أي السير منها نحو الأشياء والوقائع.

3 – العرب واللغة العربية: أحلام السبات وأوجاع الإفاقة

تأسر الإنسان العربي اليوم - ككثير من شعوب الأرض - مفاتن كثيرة يراها بالصورة ويسمعها بالصوت تتراءى في التقدم العلمي والاكتشافات بالغة الروعة، والوفرة في مصادر العيش ووسائل الترف والرخاء في عالم تضاءل وصغر حتى صار كالقرية فيندفع في حلم يتخيل أثناءه أنه قادر على تعويض ما فات، واللحاق بالأمم المتقدمة بما لديه من كسب التاريخ ووسائل المرحلة.

إنه يندفع في هذا الاتجاه لما يتذكر من مواطن النصر وآماد التفوق والعطاء التي عرفها في الماضي، كما يندفع بإغراء من الثروات الطبيعية التي لها هي الأخرى كلمتها الفصل في القرار الاقتصادي للبشرية وأهمية استراتيجية يختص بها. وأخيراً يندفع لما يعرفه عن دينامية أبناء جلدته التي لا تنطفئ جذوتها وإن كانت تأتي عليها فترات من الخمود من حين لآخر.

غير أنه كلما صحا من هذا الحلم صدمته وقائع الحياة فنكأت الجرح وردت العزم حسيراً، فالمسألة السياسية ومشاكل الأقليات وثقل البنيات الاجتماعية العتيقة والمتحجرة وسوء التسيير وانتشار الأمية والبطالة والقمع السياسي المزمن - كلها تعشش في مجتمعه وتحمله عبئاً ينوء به. من هنا تكون أوجاع الإفاقة، ومن ميراث الجمود الطويل كذلك وكبوات النهضة وقوة الخصم وتحكمه في مقاليد العالم ومراقبته البالغة اليقظة لكل أمة تتوق إلى الاستقلال والتميز. أضف إلى ذلك قيود العولمة بكل ما تعنيه من غزو ثقافي ولغوي ومسخ حضاري وتمييع لخصوصيات المجتمعات وتحويلها أسواقاً لاستهلاك بضائع القوي واشتداد حدة الصراع بين الحضارات والأديان والأعراق.

وبما أن اللغة والمجتمع توأمان لا ينفصلان فإن واقع اللغة العربية يعكس هو الآخر بجلاء هذه المحفزات جميعها التي تدعو الإنسان العربي إلى الأمل، وتلك المثبطات التي تفل أيضا من إرادته وطموحاته. ولا شك أن اللغة العربية تجابه اليوم تحديات كبيرة تقلل من مفعولها في الحياة الفكرية والعلمية والثقافية وتحد من أثرها في المجتمع والحياة العامة. وإن كانت ثمة آفاق واعدة لتطويرها وتبويئها المنزلة اللائقة بها في مصارف اللغات الحية فطاقاتها لم تستغل بعد بما فيه الكفاية وآليات توليدها ما زالت بعيدة من الاستنفاد.

3- 1 – العوائق

يمكن أن نختصر أهم العقبات التي تقوم في وجه النهوض باللغة العربية اليوم في مستويات أربعة:

1 – مستوى حضاري يتجلى في شيوع الأمية وميراث فترات العقم والانحطاط وغياب العرب عن الكثير من مراكز القرار والمنابر الدولية وضآلة حجم وسائل التأثير على المستوى الدولي. فمجموع تجارة البلدان العربية يساوي نحو 3 بالمائة من مجمل التجارة العالمية فقط، هذا بالإضافة إلى عدم نجاح المشروع النهضوي، ويقظة الغرب ووعيه بأسباب تفوقه وحماية ذلك التفوق بسيطرته على مقدرات العالم وناصية العلم.

2 – مستوى علمي وثقافي يتجلى في غياب حركة الإبداع العلمي والثقافي نتيجة لعدم نفاق سوق العلم وغياب مراكز بحث في المجالات العلمية والتقنية على غرار المراكز الموجودة في الغرب. فما نشر من الكتب والمجلات المتخصصة في دولة واحدة من دول الغرب مثل إسبانيا عام 1991م يزيد بالنصف على كل ما ينشر في عموم البلاد العربية(9). ولا شك أن زهادة الإنفاق على التعليم والبحث العلمي إذا ما قورن بقطاعات أخرى من الحياة العامة كالسياحة والتسلح - قد لا يشجع على تطوير البرامج التربوية والبحثية. كما أن عدم الاهتمام الكافي كما هو الشأن عند أغلب الأمم الأخرى بدراسة اللغة القومية ومحاولة تطويرها وتوسيع دائرة تداولها أفقيا وعمودياً - قد يضعف من أدائها ويقلص من تجربتها الحضارية. فما ينفق على اللغة العربية في الولايات المتحدة الأمريكية يزيد على كل ما يرصد لها في جميع العالم العربي(10). وما تنفقه منظمة الفرانكفونية والكومنولث على اللغتين الفرنسية والإنكليزية من أجل تطويرهما والسعي للحفاظ عليهما أداة للتعبير والتواصل والتعرف على العالم وإليه - يوضح أهمية اللغة في بناء صرح الحضارة والتطوير من عقليات المجتمعات. وقد عبر الرئيس الفرنسي "شارل ديغول" عن هذا المعنى حين قال: "إن ما حققته اللغة الفرنسية لفرنسا من مطامح لم تستطع جيوش فرنسا عبر التاريخ أن تحققه".

3 – مستوى سياسي يتحدد في اعتماد كل دولة لمشروع تعريبي خاص بها تسير فيه كل جولة مفردة بوسائلها المحدودة وتجربتها الخاصة مما قلص من نمو اللغة العربية وتفتحها، وحَدَّ(11) من وظيفتها فجعلها عربيات مختلفة تشوش الفكر وتستعصي على التعليم. فعندما تنظر على مصطلح مثل (management) نجده يعرب في دول أربع بمصطلحات مختلفة ففي تونس يقابل بلفظة التصرف، وفي الجزائر يقابل بلفظة التسيير، وفي المغرب يقابل بلفظة التدبير. وفي موريتانيا يقابل بلفظة الإدارة. وهكذا يضيع القارئ العربي بين المصطلحات المتضاربة التي قد تعيق من استيعابه للمعارف والعلوم. وكما أن عدم اعتماد سياسة صارمة تحد من هجرة الأدمغة بتوفير المناخ السياسي والاقتصادي والعلمي المناسب - كان له هو الآخر أثره في هذه الخلل المشهود، هذا إضافةً إلى غياب رقيب لغوي يسهر على العناية بسلامة اللغة ويحارب انتشار اللحن، وينشر المعيار اللغوي الذي يجب أن يسود في الاستعمال. فاللحن المستشري عند القدوة من أمثال الساسة والصحفيين يجعل الإنسان العادي في حلَّ من الخطأ والتلاعب بقواعد اللغة نطقاً وكتابة.

4 – مستوى اجتماعي يتمثل في وجود مزاحمة قوية تشهدها العربية وتأتي من قبل اللغات الحية حاملة الحضارة الحديثة كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية التي تمثل النافذة المتاحة عند أبناء العربية للانفتاح الحضاري والتشبع بروح العصر. وتقوم هذه المزاحمة عقبة أمام توسع اللغة على مستوى الخطاب العام كما أن مزاحمة اللهجات العربية القطرية للفصحى في الحياة اليومية بل بعض اللغات الأخرى (الأردية، الفارسية، الكردية، البربرية، اللغات الإفريقية إلخ) مما يعوق من نموها على مستوى الخطاب الشعبي اليومي.

فهل يا ترى ستصمد العربية في وجه التحديات الداخلية والخارجية الكبيرة التي تواجهها حاليا ومستقبلا؟ وهل تخرج العربية منتصرة في معركة الازدواجية والانقسام إلى عامية يتكلمها أغلب الناس، وفصحى يكتبها بعض منهم قليل.

3- 2– الآفاق

رغم هذه العوائق التي أسلفنا ذكرها فإن اللغة العربية تمتلك قدرات واسعة يمكن إذا حسن استغلالها أن تسهم في انتشالها من الوهدة التي تتردى فيها، وأن ترفعها سريعاً إلى مختلف اللغات الحية التي تتجه نحو العالمية.

ويمكن أن نقسم هذه الآفاق إلى مجموعتين:

1 – آفاق بنيوية تأتي من داخل اللغة من مثل الاشتقاق والقياس وإعمال المهمل والنحت والاقتراض والمجازات والاستعارات بشتى أنواعها مما سنزيده فضل إيضاح في مكانه. وقد عبر عن هذه القوة الكامنة في اللغة العربية الشاعر المصري حافظ إبراهيم فقال على لسان اللغة العربية:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

وسعت كتاب الله لفظاً وغايـة وما ضقت عن آي به وعـظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسـيق أسماء لـمختـرعات

ومن نافلة القول التذكير بنجاعة الأداة النظرية والاصطلاحية اللسانية اليوم، وخاصة ذات الطابع الصوري المتقدم في دراسة خصائص وبنيات اللغات الطبيعية وكذا أنظمتها واستعمالاتها وفي تطويرها وإعادة تنظيمها. إن من شأن هذا العلم أن يخول المشتغل على الأبنية اللغوية – في الحقبة الراهنة – إمكانية ذات فسحة لفحص الأنظمة اللغوية بشكل أبلغ في التأسيس النظري وأوفى من ناحية الكفاية سواء على مستوى الملاحظة أو الوصف أو التفسير. ومن هنا فإن أي دراسة للغة العربية لا تتوصل بالآلة والوصفية اللسانية تبدو من باب العبث إلا أن أي مقاربة لا تأخذ من هذا العلم منطلقاً ومهاداً تظل قاصرة وذات سمة انطباعية لا علمية.

وبالإضافة إلى العلم الإنساني فإن للأجهزة والتقنيات الحديثة دوراً بالغاً في التمكين من فهم قضايا لغوية ظل علاجها قائما على أساس الحس والانطباع. وبحضور هذه الأجهزة التقنية في وصف الأنساق اللغوية تولدت معطيات جديدة تعمق من درك غور اللغة وخباياها. فالآلة اليوم لم تعد وسيلة فحسب بل أصبحت بعداً مهماً من أبعاد المعرفة نفسها، وهذا ما أحدث ثورة في علوم المنطق الحديث الذي انطلق من هذه المعطيات الجديدة لسبر حقائق الأشياء وصياغة وسائل التعبير عنها.

2 – آفاق خارجية تأتي من تضافر مختلف جوانب حياة الأمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية في رفد اللغة بالمفاهيم والتصورات كما تأتي من استلهام وتثمير التراث الغني الذي حملته هذه اللغة عبر ما يزيد على خمسة عشر قرناً، والذي أثر في ثقافات وحضارات العالم بعطائه الممدود فمن بدهيات العلم أن ما يميز لغة من أخرى لا يكمن في الطاقة التعبيرية فقط وإنما يتعلق أساساً بسعة تجربة أصحابها البشرية ومدى شموليتها.

4 – اللغة العربية ووسائل التطوير

يتنازع أبناء العربية اليوم -وهم يسعون إلى تنمية الطاقة التعبيرية والاستيعابية للغة العربية ثلاثة مواقف. يتعصب أصحاب الموقف الأول لهذه اللغة في نموذجها المعياري ويرون أنها قادرة على الوفاء باحتياجات أبنائها في جميع قطاعات الحياة وأنّ لديها من الخصائص ما يجعلها طيعة مرنة معطاء، وهكذا في ظل الشعور المتزايد عن أصحاب هذا الموقف بشدة الهجمة وشراستها وتسارع عملية المسخ، تزداد نظرتهم هذه تطرفاً بمر الأيام وتطالب بالتشبث باللغة العربية بنحوها القديم. إذ هي الضمان الأوحد للحفاظ على الهوية لأن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

أما أصحاب الموقف الثاني فيعتبرون أن العربية لغة ينبغي أن يقتصر دورها على الدين والأمور الاجتماعية المراسيمية فقط، فبحكم طبيعتها لن تفي باحتياجات العصر العلمية التكنولوجية؛ خاصة أن المصطلح العلمي لا يعرف لغة معينة ومن ثم لا يهم مصدره ولا أصله. كما أن استخدامها في التعليم قد يؤدي إلى منع الطلاب من إتقان لغة أجنبية مما يقيم بينهم وبين العلم والحضارة الحديثين حاجزاً قويّاً. زد على ذلك أن حركة التطور السريع للعلوم وللمعارف المصحوبة، وبطء حركة التعريب تجعل الوفاء بكل ما يحتاجه الطالب والمدرس من مصطلحات أمراً غير ميسور، ويزداد الأمر سوءاً إذا ما انضافت إلى ذلك فوضوية وضع المصطلح وتباينه من قطر إلى آخر ومن باحث لآخر، وما يؤدي إليه ذلك من بلبلة وتشويش ذهن المعلم والمتعلم.

أما أصحاب الموقف الثالث فيرون أن العربية لو أتيحت لها فرصة حسن التنظيم والتخطيط لوَفَّتْ بمتطلبات العصر. ولا شك أن هذا الموقف يبدو للمشتغلين في مجال الدراسات اللغوية أكثر حصافة ووروداً، ولذا فسنعرض في الفقرات التالية جملة من الآليات نتصور أنها قادرة على الاضطلاع بأعباء التطوير والإحياء التي قد تسهم في جعل العربية لغة حية تفي باحتياجات متكلميها مصطلحاً ومفهوماً.

4- 1 – إعادة الوصف والتفسير

ليس بدعاً أن تكون اللغة العربية بحكم انتمائها إلى زمرة اللغات الطبيعية تشترك معها في عدد من الخصائص الصوتية والتركيبية والدلالية، وأن تكون القيود والمبادئ التي تضبط تلك اللغات تنطبق عليها وكونها على ما هي عليه فلأنها تنتمي إلى زمرة صغرى من اللغات لا أنها تنفرد بخصائص لا توجد في غيرها(12). ومن ثم فإنه من الوهم الخادع ترديد القول باستحالة وصف العربية اعتماداً على النظريات الغربية المستوردة التي بنيت أساساً لوصف اللغات الهندو أوروبية. فالمفاهيم النظرية العامة تنطبق بكامل اليسر على هذه اللغة تماماً كما انطبقت على غيرها. ولا ينقص استيرادها شيئاً من مصداقيتها، إذ إن كفايتها في وصف اللغة العربية أوضح من أن يُجَادَلَ في مشروعية جلبها.

وبما أن اللغة ليست كما يتبدى لذي النظرة العجلى مجموعة من العناصر المتنافرة والمبعثرة بل هي بنية بالغة التنظيم، تبدو عند تحليل مستوياتها المتعددة على درجة عالية من الانسجام والاتساق؛ فإن الوصف اللساني لا يمكن أن يتم خارج إطار نظري ومنهجي واضح يحكم التفاعل بين الفرضية والتجربة فيقيس قيمة الفرضية بمدى قدرتها على التنبؤ بالمعطيات وتقيس قيمة المعطيات بمدى ورودها في الاستدلال على الفرضية.

ولما كانت معرفتنا لذواتنا وللأشياء المحيطة بنا بل البعيدة عنا معرفة نسبية للغاية في كل مرة تنفتح آفاق معرفية جديدة فالأوصاف التي تقدم بها النحاة التقليديون لا تفي بحاجتنا إلى إثارة وحل المسائل النظرية التي تسهم معالجتها إسهاماً فعالاً في تقدم الدرس اللغوي العربي من جهة، وإغناء النقاش اللغوي العام من جهة أخرى.

إن إعادة النظر في وصف القدماء من اللغويين لبنى وعلائق اللغة العربية قد تبدي لنا نواقص كبيرة في فهم طبيعة الخصائص الصرف: الصوتية والتركيبية والدلالية لبنيات اللغة العربية نتيجة لطبيعة جرد المعطيات ووصفها وتفسيرها.

ومما لا شك فيه أن دراسة المعجم العربي دراسة فاحصة ومتأنية قد تكشف عن انتظامات تربط قائمة الكلمات التي تتراءى وكأنها ذات شكل فوضوي تماما كما تراءت لجل اللغويين القدماء فأطلقوا عليها حكمهم بالسماع والاضطراب(13). كما أنها سوف تفتح بلا شك آفاقاً واعدةً لزيادة كم الاستيعاب وقدرة التوليد في طاقة هذه اللغة التي تعيش في الوقت الراهن حالة مرضية نرى من أسبابها الجوهرية ارتباطها بوصف واحد ظل يلازمها منذ القرن الهجري الثاني إلى يومنا هذا.

زد على ذلك أن الجديد من التراكيب والأبنية الذي عرفته اللغة العربية أخيراً لم يدمج لحد الساعة في نظرية تفسيرية متكاملة تجعله جزءًا من مدونة اللغة العربية العامة. ويتبدى ذلك أكثر في الأشكال الجيدة من التوليد الدلالي التي لم تك مألوفة عند متكلمي العربية من قبل وهي معطيات يستعصي تأويلها التأويل اللازم باعتماد النحو التقليدي نظراً لأنها تبدو مفارقة نوعاً ما لتلك المعطيات التي تمهدت نماذجها في دروس البلاغة التقليدية.

4- 2 – تنظيم المعطيات

يمثل تنظيم المعطيات خطوة لا بد منها لتمام الوصف وكفايته. وتظهر في اللغة العربية مناطق تعرف عدم انتظام خاصة في المعجم والصرف والدلالة. وترجع هذه الاضطرابات في المعطيات إلى غياب نظرية عامة لبنية اللغة ومستوياتها المختلفة. فالنظرية الكافية لا بد أن تكون قائمة على الاستقراء الممعن للمعطيات والواقعات. ولذا لا يوجد هنالك فرق بين النظرية والواقع إذ هي اجتهاد لحصر الواقع في جوهره بالاعتماد على معطياته الجديرة بالاعتبار.

فعلى مستوى التركيب تبدو تعدية الأفعال بالحروف مشكلة كبرى في نظام اللغة العربية خاصة على مستوى التقعيد. ويبدو أن هذه المشكلة ترجع في جزء كبير منها إلى وجود معطيات مغلوطة أدمجت في نسق المعجم ودرج على إثباتها القاموسيون والنحاة دون تمحيص وفحص دقيق.

فعند العودة إلى القاموس مثلا لا يجد القارئ تفريقا بين "ذهب عن"، و"ذهب إلى" و"ذهب في" و"ذهب من" والظاهر أنها مختلفة المعاني.

كما على المستوى الصوتي فإن طبيعة التأليف بين الأصوات وبين المقاطع ما تزال تعرف الكثير من الغموض فلماذا لا يجوز اللغويون ائتلاف الجيم والكاف، أو الكاف والجيم، أو العين والغين أو الحاء والهاء؟ ولماذا لم يرد – كما قالوا عن العرب(14) – ائتلاف بعض الأصوات بالرغم من جواز تجاورها في الكلمة الواحدة؟ ولماذا يستحيل – كما نقلوا – وجود جذر ثلاثي في العربية من نمط عينه ولامه همزتان؟ ولماذا أقل الأصوات تآلفا هي أصوات الحلق فلا تتجاور إلا قليلاً؟ ولماذا كثر التآلف ين الأصوات المتباعدة في الكلمة؟ ولماذا إذا تجاورت الأصوات المتجانسة في الكلمة يكون السبق للأقوى؟

كيف نفسر الاختلاف المعنوي الناتج عن الاختلاف في صيغة المصدر للفعل الواحد مثل:

وُجْدا (للمال)

وِجدانا (الضالة)

وجد مَوجِدة (الغضب)

وَجْدا (الحزن)

وجودا (الكيان)(15).

أما على المستوى الدلالي فما تفسير كون جميع اللغات الطبيعية تشترك في تقسيم مجالاتها التصورية / المعجمية إلى حقول مثل الحركة والزمن والإدراك والملكية والتعيين..الخ. كيف يمكن أن تستفيد اللغة العربية من تصور الحقول الدلالية وانتظامها داخل اللغات الطبيعية انطلاقا من المبدأين: الداخلي الذي يهتم ببنية الحقل الداخلي والخارجي الذي يهتم بالعلاقات بين الحقول. ومقتضى هذين المبدأين أن اللغات تبني حقولها داخليا من جهة وتقدم علاقات بين هذه الحقول من جهة ثانية تبعاً لضوابط وليس بكيفية اعتباطية(16).

فاللغات الطبيعية برمتها تتكون من مجموعة من الحقول الدلالية كل حقل هو قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبر عن مجال معين من الخبرة، ويتجلى في واجهتين: حق تصوري يستوعب المعلومات الواردة عن طريق غير اللغة، وحقل معجمي تكون المعلومات فيه محمولة بواسطة المفردات. وتكون فيه اللفظة مرتبطة بكلمات أخرى تحدد أو تغطي سويا الحقل المعجمي، فيكون مدلولها مرتبطا بالكيفية التي تعمل بها مع أخواتها في الحقل المعجمي نفسه لتغطية أو تمثيل الحقل الدلالي.

وباعتبار معنى الكلمة محصلة علاقاتها بالكلمات الأخرى داخل الحقل المعجمي فإن أنواع العلاقات التي تربطها بالكلمات الأخرى إما أن تكون:

1- الترادف: فنقول إن (أ) أو (ب) مترادفتان إذا كانت (أ) تتضمن (ب) و (ب) تتضمن (أ)، وذلك مثل الفعلين: ذهب ومضى.

2- الاشتمال: فنقول إن( أ) مشتملة على (ب) حين تكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي والتعريفي، وذلك مثل فرس الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى هي الحيوان.

3- علاقة الجزء بالكل: وهي مثل علاقة اليد بالجسم. والفرق بين هذه العلاقة وعلاقة التضمن أو الاشتعال هي أن اليد ليست نوعاً من الجسم ولكنها جزء منه.

4- التضاد وينقسم إلى ثلاثة أقسام:

- التضاد الحاد: وهو الذي يكون فيه نفي أحد طرفي التقابل يعني الاعتراف بالآخر مثل لفظتي: ميت وحي.

- التضاد المتدرج: وهو الذي يكون فيه إنكار أحد حدي التقابل لا يعني الاعتراف بالآخر أي أن الحدين لا يستنفدان كل عالم المقال مثل: حار وبارد.

- التضاد المتضايف: وهو الذي يعني عدم تصور أحد الحدين دون تصور الآخر مثل زوجة وزوج.

6- التنافر: ويكون في الحقل المعجمي إذا كان (أ) لا يشتمل على (ب) و (ب) لا يشتمل على( أ)، ومثاله طاولة ومحمد.

إن التصنيف الآنف يبرز أن اللغات متباينة في عبقريتها وخصوصياتها لذا فالقول بالنسبية اللغوية يعني فقط أن لغة معينة تستطيع حسب آلياتها استحضار بعض طبقات الأحداث أو الذوات بصفة أسهل من لغة أخرى، وانطلاقاً من نظرية الحقول يبدو أن اللغة العربية تحتوي حقولاً دلالية مرتبكة. ويعد الحقل الدلالي مرتبكاً إذا كان يجمع مصطلحات أجنبية ذات مفاهيم متقاربة نجد لها في الاستعمال ومعاجم الترجمة المقابل نفسه.

بيد أن تزايد فرص الاتصال بين أفراد المجموعات اللغوية ووقع وسائل الإعلام وتعاون العلماء والخبراء، كل هذا قد قلل من شأن الفوارق بين اللغات وعمل على مماثلة المنظار الذي تتخذه كل لغة لمواجهة الواقع وتقييمه.

4-3. إعادة الاعتبار لخصوصية اللغة وعبقريتها:

لكل لغة من اللغات الطبيعية عبقريتها الخاصة في اختيار الأصوات الوظيفية (phonemes) وطريقة تأليفها لبناء الجمل وفي نمط رص الكلمات لإنشاء الجمل وفي كيفية اقتطاع المعاني والدلالات وشكل التعبير عنها. لذا فإن أكثر مميزات اللغة لفتاً للنظر هو ما يطلق عليه أحياناً جانبها الإبداعي أي كون نسق صلب ومقلص من القواعد والمبادئ يؤسس إمكانية سلوك حر ومبدع. فالإنسان يلغو فيجدد في الصوت واللفظ والتركيب والدلالة والمقام اللغوي.

إن امتلاكنا للغة معينة يعني أنه بإمكاننا أن ننتج ونفهم ملفوظاتها الصحيحة التركيب، بل بإمكاننا أن نفهم جملاً لم نسمعها من قبل، وأن ننتج ملفوظات جيدة التركيب يستطيع أي متقبل لتلك اللغة أن يؤولها ببساطة، وبعبارة أخرى فإننا نمتلك ما يعرف بالقدرة اللغوية.

ومن أهم خصائص القدرة اللغوية خاصية الإنتاجية، وهي استعداد طبقة من المفردات أن تكون ذات طبيعة مفتوحة. والطبقة المفتوحة هي تلك التي لا يتسنى عد عناصرها عنصراً عنصراً، وإنما تتسم عناصرها بخاصة عامة أو مجموعة من الخصائص العامة يمكن بالتالي استخدامها لاشتقاق مفردات أخرى غير المفردات الموجودة في تلك المجموعة. فزمرة الأفعال العليّة مثلاً تشكل طبقة مفتوحة.

وتنمو اللغة العربية وتزداد قدرتها الاستيعابية ككل لغة انطلاقاً من آليات التوسع الذاتي الذي يعرف اصطلاحاً بـ"التوليد الصوري" ويرتبط هذا النمط من التوليد عموماً بظهور متوالية صوتية جديدة بمعنى معجمي جديد كما يحصل في المولدات الناتجة عن عمليات الاشتقاق أو التعريب أو الاقتراض أو النحت...الخ.

فقد لحظ النحاة العرب - وهم يعالجون بنيات المفردات الشكلية - مجموعة من البناءات النمطية صيغت داخلها فعبروا عنها في أدبياتهم بمصطلح الصيغ والأوزان، ولقد استطاعوا حصر هذه الصيغ في مجموعة تناهز 1210 صيغة أو وزن، بعضها طبعوه بالقياس والاطراد، وبعضها الآخر سموه بالسماع والشذوذ (17).

وتمثل هذه الأوزان أو الصيغ أهم مظهر من مظاهر التعالق الصرفي/ الدلالي القائم بين وحدات المعجم الذي يجعل اللغة العربية من زمرة اللغات المتصرفة أو الاشتقاقية تصوغ للمعاني المختلفة أبنية متعددة من المادة الواحدة(18).

فالأفعال غير الثلاثية تشتق في اللغة العربية من مصدري اشتقاق اثنين:

1- من فعل ثلاثي.

2- من فعل غير ثلاثي مشتق من فعل ثلاثي.

ونصطلح على تسمية هذين الضربين بالاشتقاق المباشر والاشتقاق غير المباشر. فالأول يحدث على النحو التالي:

فاعل

فعل

فعل أفعل

فعَل افتعل

فعُل انفعل

استفعل

والثاني يحدث على النمط التالي:

فاعل ← تفاعل

فعَّل ← تفعَّل

ويمكن تنميط القواعد التي يتم بواسطتها اشتقاق المفردات من حيث التغيير الحاصل بالنسبة للمفردات الأصول كما يلي:

1- القواعد التي تغير عدد الموضوعات التركيبية والدلالية للمفردات/ الدخل.

2- القواعد التي تحدث تغييراً في البنية الصرفية للمفردة/ الدخل.

3- القواعد التي تغير مقولة المفردة/ الدخل التركيبية.

فقاعدة اشتقاق الأفعال العلية تنقل الصيغة مثل:

فعل أفعل

فعل فعل

فعُل

وقاعدة اشتقاق الأفعال الطلبية تنقل الصيغة مثل:

فعل استفعل

فعِل

ولتبسيط الوصف النحوي يمكن تبعاً لـ "لاكروبر" أن نقسم الأفعال مثلاً إلى طبقتين: طبقة الأفعال الدالة على الحركة، وطبقة الأفعال الدالة على الحلول في المكان. وتتضمن البنية الموضوعية لكل طبقة دوراً أساسياً وضرورياً هو المحور أي موضوع الحركة أو الحلول. وتتطلب الطبقة الأولى أدواراً دلالية أخرى مثل دور المصدر والهدف، وتتطلب الطبقة الثانية دور المكان (المحل)(19).

نمثل للطبقة الأولى بـ (1) وللثانية بـ(2):

1- ذهب محمد من الريف إلى المدينة.

2- يوجد الرجل بالدار.

وإذا كان التحليل الدلالي للحركة والحلول في (1) و (2) تحليلاً يتناول الملموس فإنه يمكن تعميم هذا التحليل ليطال الأفعال المجردة فينظر إليها بوصفها دالة على الحركة أو الحلول قياساً على أفعالها في الملموس وذلك مثل (3) و (4).

3- انتقل زيد من المحاماة إلى القضاء.

4- يعيش زيد في ظروف صعبة.

ولا شك أن للبيئة والمحيط الثقافيين اللذين يؤطران اللغة دوراً جد مهم في جولان المعجم وتبدله من حال إلى حال. فبمرور الزمن تموت بعض الوحدات وتضمحل أو تستحيل من معنى إلى معنى جديد. فاللغة في مظهرها المعجمي تقوم أول ما تقوم على أساس المواضعة والتعارف. كما تتسع قدرات اللغة الاستيعابية والتعبيرية بفضل التوليد الدلالي الذي هو إبداع لمعان معجمية وتراكيب دلالية جديدة. وذلك بظهور معنى جديد أو قيمة دلالية حادثة لكلمة موجودة أصلاً في معجم اللغة مما يسمح لها بالظهور في سياقات أخرى لم تتحقق فيها من قبل.

ولأن استعمال اللغة نشاط إبداعي بالأساس مثلما هو الحال بالنسبة لفهمها. فالمعنى يُبنى عوض أن يكتشف، والاستعارات والكنايات لها القدرة على خلق واقع جديد. فالجديد من الاستعارات والكنايات عندما يدخل النسق التصويري الذي تقوم عليه تصوراتنا يُلحق تغيراً بهذا النسق وبالأفعال والإدراكات التي يؤطرها. فكثير من التغيرات الثقافية إنما تنشأ عن تدخل تصورات استعارية وكنائية جديدة واختفاء أخرى قديمة.

فالاستعارة التي تملأ التوليد الدلالي لا تعد في الحقيقة خاصية للغة فحسب بل هي حاضرة معنا باستمرار في حياتنا اليومية ليس فقط على مستوى اللغة بل أيضاً على مستوى الفكر والفعل. فللجسور المجازية ما يقابلها في مجالات سلوكية أخرى غير الكلام. وهذا ما يفسر لنا دور المحيط الطبيعي والثقافي للإنسان في تحديد نمطية الاستعارات(20).

ولذا فإن الكثير من تجاربنا ونشاطاتنا استعاري كنائي في طبيعته، وهذا يعني أن كثيراً من المجاورات والمشابهات التي ندركها قائم على التصورات الكنائية والتصورات الاستعارية على التوالي(21). مجاورات تنتجها تصورات كنائية بين الجزء والكل أو بين السبب والمسبب.. الخ ومشابهات تنتجها تصورات استعارية اتجاهية أو انطولوجية بين الزمن والمادة فتتمكن من تسوير الزمن وجعله وعاءً، وتجزئته إلى وحدات لها قيم معينة أو بنيوية(22).

4-4. الصرامة في وضع المصطلح واتساق الترجمة

يمكن أن نعرف المصطلحية بأنها حقل المعرفة الذي يعالج تكوين المفاهيم وتسميتها سواء أكانت في قطاع خاص من الحياة أم كانت في مجمل القطاعات. وخطوات تكوين المفاهيم تستند إلى أنشطة ذهنية ثلاثة هي: مقارنة الأشياء لإدراك أوجه التشابه والتباين بينها، ثم التأمل لإدراك الخصائص المسؤولة عن ذلك التشابه والتباين، ثم التجويد لتحديد الخصائص الجوهرية التي تشكل المفهوم قبل البحث.

وباعتبار المصطلح لغة خاصة (pidgin) أو معجماً قطاعياً فإن أهم إسهام في إنشائه يأتي أولاً من أهل الاختصاص في قطاع معرفي معين. فهم الذين يسهرون على ضبط النواحي الدلالية والمفهومية المطلوبة في المصطلحات، وهم الذين يتحققون من انسجامها مع النسق في مجال الوضع إلا أن هذه القطاعية تبقى ملغاة ما لم تنضبط بضوابط اللغة العامة المشتركة وتتقيد بذات القيود التي تحكم المعجم سواء منها الصرفية أو التركيبية أو الدلالية.

إن المصطلح متعلق من جهة بالنسق التصوري للغة باعتبار أن كل لغة تلتقط المعطيات بوسائطها الخاصة، وتبني نظامها التصوري الذي يربط بين علائق مفهومية معينة وبين المفردات الموجودة في معجمها بشكل خاص. ولقد أصبح وارداً القول بأن العلم كقطاعات معرفية مختصة لا يتقدم بدون جهاز مصطلحي دقيق ومنضبط يعبر عن مفاهيمه، كما أن اللغة بوصفها ذخيرة معجمية من الإشارات اللغوية لا يمكنها أيضاً أن تحيى وتتطور دون أن تضطلع بمهمة التعبير عن العلم.

وتعد الحصيلة المصطلحية العربية كبيرة من حيث الكم، ولكنها هزيلة من حيث الاستعمال لهذا السبب كان أكثر من داع للتفكير في مسألة وضع المصطلح بحيث يلبى الحاجات النفسية لمستعمله، ويوصل إلى الأهداف المتوخاة من ورائه.

ويقتضي التطور السريع والمذهل في مجال العلوم والتكنولوجيا من واضعي المصطلح باللغة العربية قَصْدَ سبيل الترجمة العلمية لنقل التيار المعلوماتي المتدفق بمعدل مائة مصطلح في اليوم(23) تزداد تأبيا وغموضا بمرور الزمن. إلا أن هناك عدة صعوبات تواجه مشاريع الترجمة العربية. ولأن البنية الدلالية هي ذلك الشكل العام لنظام العوالم في لغة معينة الذي يتأسس في الغالب على الثقافة والعرف، فإن عملية الترجمة تظل متعسرة طالما أن اللغات الطبيعية تختلف إلى حد ما في شكل تمثيلها للمعطيات واقتطاعها للواقع وصياغتها إياه لذا يكون نقل الصور من لغة إلى لغة أمرا متعذرا في بعض الأحايين.

ويأتي العائق الأساسي في هذه الحالة من أن القاموسي عند عمله على وضع المصطلح وإنشاء المعاجم ينشد تطابقاً تاماً بين اللغات في ذخيرتها المعجمية ولا شك أن هذا التصور يفترض اتحاد اللغتين في تصنيف وتنظيم الوقائع ومفصلة العالم الخارجي بل في الخلفيات الثقافية وكذا تطابقهما في آليات التوليد الصوري والدلالي. وخلافا لهذا التصور فإن التماثل بين اللغات يبدو أمراً غير بديهي؛ وذلك لتعلق المستوى المعجمي في أغلب جوانبه بالتركيز الإشاري القائم على مبدأ التواضع والاتفاق.

إن الاختلاف بين اللغات في تمثيلها للمعلومات التي تحمل عن العالم - هو الذي ينتج مشاكل يجب أن يعيها المترجم وواضع المصطلح. ويبدو من أهم هذه المشاكل:

1- اختلاف المجال الدلالي للفظتين تبدو إحداهما مقابلا للأخرى في اللغتين، وذلك بواسطة اتساع معنى الكلمة في لغة وضيقه في لغة أخرى، ويمكن أن نمثل لذلك بحقل الألوان الذي يلعب فيه عامل التحكم دوراً أساسياً من حيث التسمية.

2- اختلاف التوزيع اللغوي لكلمتين تبدوان مترادفتين، ويختلف هذا النمط عن سابقه بكون اللفظتين تعدان مترادفتين في معناهما العام، ولكنهما مختلفتان في تطبيقاتهما في الاستعمال أو في السياقات اللغوية التي تردان فيها.

3- اختلاف معاني اللفظة الواحدة (polysemie) الذي قد يجر إلى عدم فهم المصطلح نظرا لحمل اللفظة على أحد معانيها، ويعرف هذا النوع بالاشتراك (homonymie) وهو على نوعين: لفظي وهو كون المفرد موضوعا لمعان مختلفة، ومعنـوي وهو كون اللفظ المفرد موضوعا لمفهوم عام مشترك بين الأفراد وهو ينقسم إلى: المتواطـئ (univoque) وهو الموضوع لأمر عام على السواء، كالإنسان فهو يصدق على جميع أفراد الإنسان بالسوية، وإلى المشكك (equivoque) وهو اللفظ الموضوع لأمر عام مشترك بين الأفراد لا على السواء بل على التفاوت، كالموجود فإنه في الواجب أولى وأشد وأقدم مما هو في الممكن(24).

4- تباين الاستخدامات المجازية بتباين اللغات فلا يمكن أن نترجم التعابير المجازية في لغة بشكل حرفي ذلك أن أغلب هذا النوع من التعابير يعكس خبرة مجتمعية وثقافية معينة، ولذا لا يفي بالمقصود منها إذا ترجم إلى لغة أخرى بشكل حرفي.

5- اختلاف التصنيفات الجزئية بين اللغات. فاختلاف التصنيف الجزئي وطرق الاختيار والاقتطاع بين اللغات تنتج عنه ظاهرتان:

أ) التزيد أو الحشو: وهي ظاهرة تعني وجود ألفاظ لا تدعو إليها حاجة لاشتمال اللغة على ما يغني عنها فتكون هذه الألفاظ بالتالي صعبة الترجمة لاستحالة تطابق لفظتين تماما في لغة ما.

ب) الثغرات المعجمية: وهي نقص في التعبير عن فكرة أو معنى تعبر عنهما إحدى اللغتين بلفظ وتخلو اللغة الأخرى من مقابله.

6) التلطف في التعبير: حيث توجد في كل لغة ألفاظ تحيل على معانٍ مستهجنة لا يستحب التعبير عنها مباشرة فتتجنب وتستبدل بألفاظ أخرى.

7- التفطن إلى شحنة اللفظة العاطفية في اللغة المعينة. لذا ينبغي التحقق من المعاني المتعددة للفظة حال ترجمتها وهذه المعاني هي:

أ- المعنى النووي أو القضوي.

ب- المعنى السياقي.

ج- المعنى الإيحائي.

د- المعنى الثقافي وهو معنى يرتبط بطبقة اجتماعية معينة(25).

8- عدم التفريق بين المفهوم (intension) والماصدق (extension) بحيث يحاول البعض ترجمة المفهوم أي مجموعة المقومات الدلالية التي تخص لفظاً معيناً أحياناً وترجمة الماصدق وهو مجموعة متناهية أو غير متناهية من الأفراد الذين يحمل عليهم المدلول أحياناً أخرى. ذلك أن لكل مدلول شقين: أحدهما شموله للأفراد الذين يصدق عليهم (البعد الكمي) وثانيهما تضمنه للصفات الجوهرية أو النسقية المميزة في الذهن (البعد الكيفي)(26)، والتناسب بين بعدي المدلول تناسبُ عكسيُ، فكلما ازداد الماصدق نقص المفهوم، وكلما ازداد المفهوم نقص الماصدق. والتردد بين استعمال الماصدق والمفهوم يؤدي إلى تعدد المقابلات العربية للمصطلح الأجنبي الواحد، وذلك مثل مجففة، ومطهرة، ومعقمة، ومقابل etuve.

9- اختلاف المألوفات الثقافية والاجتماعية لكل من اللغتين المصدر والهدف. فهناك من المعاني ما يعكس عادات ومألوفات اجتماعية في بيئة ما قد لا يعكسها في بيئة أخرى. ويتجلى ذلك في تفاوت اللغات في اهتمامها بمجال دلالي دون آخر وذلك تبعاً لارتباطها بهذا المجال أو لإحساسها بأهميته(27).

10- اختلاف اللغات الروافد للترجمة. فرجوع المترجمين العرب إلى لغتين أجنبيتين كالإنكليزية والفرنسية مثلا - يؤدي إلى عدم انتظام التعريب لاختلاف هاتين اللغتين في آليات التوليد والاستخدام والتمثيل.

من أجل ذلك يتأكد أن يخضع وضع المصطلح لمجموعة من المعايير أهمها:

1- النسقية وهي تعني التعامل مع النسق برمته بدل التعامل مع الكلمة المفردة فلا نترجم مصطلحا بلفظة، ونترجم مصطلحا آخر من مشتقاته بلفظة مغايرة للأولى. فإذا ترجمناcomputer (بحاسوب) يجب أن نترجم كل ما يشتق من هذا الجذر بنفس الجذر. وإذا ترجمنا lexeme (بمعجمية) يجب أن نترجم morpheme (بصوتية). وهكذا حينما نترجم صيغة صرفية معينة بصيغة صرفية مقابلة لها - يجب أن نحتفظ بهذه الصيغة لجميع الصيغ المماثلة. وتصدق هذه النسقية على المستوى الدلالي كما تصدق على مستوى اللغة الدخلي.

2- استخدام الوسائل اللغوية التي يتيحها النسق في التوليد وذلك باتباع السلمية التالية:

- الأخذ من التراث (المعمل والمهمل).

- التوليف وذلك باعتماد الاشتقاق ثم القياس ثم النحت ثم التعريب ثم الاقتراض ثم الارتجال(28).

3- مراعاة اتفاق المصطلح العربي مع المدلول العلمي للمصطلح الأجنبي دون تقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأجنبي. فكل لغة تمثل المعطى الخارجي الذي هو واحد بالنسبة للبشر جميعا تمثيلاً خاصاً، ولذا فالتصور لا يمكن أن ينقل من لغة إلى أخرى وإنما الذي ينقل هو المقابل المدلولي.

4- التعامل مع الاكتشاف الحضاري مباشرة ومحاولة التعبير عنه بدل تسميته انطلاقاً من لغة أخرى، فلو أن اللغويين العرب أعطوا أسماء للمولود الحضاري ذي المرجع الخارجي مباشرة لحلت مشكلة الطاقة الاستيعابية للغة العربية في بعض جوانبها واستغنى أهلها عن اللجوء إلى لغة أو لغات أجنبية للتعبير والتمثيل. فالتعامل مع حضارة أو ثقافة أو معلومات لا يعني بالضرورة التعامل مع لغة هذه الحضارة أو المعلومات(29).

5- منع التعدد في المقابلات العربية للمصطلح الواحد فينبغي ألا نجد مثلا لفظة نهر في مقابل كل من fleurve و rivière

ويرجع ذلك التعدد إلى عدة أسباب منها:

- عدم توحيد المصطلح بين الدول العربية حيث نجد مثلا لفظة plan تقابل بكل من مخطط أو مستوى أو شكل، وكلمة gestion تقابل بـ: التدبير أو التصرف أو التسيير.

- عدم إدراك المفهوم كما هو.

- تباين مرجع المقابل العربي لمرجع المقابل الأجنبي: أكل، بلع، مقابل phage.

6- الحذر من الفراغات المصطلحية. وذلك بأن يكون مصطلح معروف في لغة ولا مقابل له في اللغة الهدف، وذلك مثل المصطلحات: fouille و creusage و creusement.

7- تفادي وجود نفس اللفظ العربي أمام مصطلحات أجنبية متباينة المعنى مثل محيط في مقابل entourage و milieu و environnement

8- الحذر من الخطأ في المقابلة وذلك مثل كلمة معدن التي تعني minerai. فلا يمكن أن تقابل بصورة سليمة gisement و metal و mine.

9- الحذر من سوء توزيع الألفاظ العربية حيث لا يمكن أن يقابل مثلا ابن عرس بـ (rat) وفأر بـ (belette) بل يجب تبديل المقابلات فيكون العكس.

10- وجود مصطلح واحد عربي يقابل مصطلحين فأكثر بينهما فوارق دلالية مثل: (سلالة) لمقابلة raee و variété.

4-6. تبني خطة تربوية شمولية ناجحة في تعلم اللغة وتعليمها:

أثبتت الدراسات التربوية أن الطالب يكون أكثر وأسرع فهماً واستيعاباً للمادة لو أتيحت له دراستها بلغتها الأم(30) فالمعرفة تتراكم تجانساً مع معطيات المجتمع، وتقل حيث تتناقض معه أو تفترق عنه. ذلك أن العرف والمعرفة بعدان متلازمان عند الإنسان إذ إن هناك علاقات وثيقة بين استعمال اللغة وشكلها من جهة، وبين سير المجتمع وبنياته(31) من جهة ثانية. وتبدو مثل هذه العلاقات بينةً في مستوى المعجم مثلاً فالكلمات والأساليب التي تستعملها أمة معينة تعكس بما لا يقبل الشك بنيات اجتماعية محددة.

ولما كان وجود الفكر يتوقف على وجود اللغة ولا يمكن أن يكون بدونها، إذ اللغة هي التي تقطع وتفصل الواقع الخارجي للإنسان، فإن ضرورة تنشئة الأطفال بواسطة لغتهم الأم يبدو ضرورةً كبرى فقد تدنى اليوم بشكل ملحوظ مستوى التعليم في البلاد العربية نظراً لهذا التردد بين لغتين فأكثر. فحسب الإحصائيات التي قيم بها تبين أنّ الدارسين بالعربية يتحصلون على 800 مدرك مقابل 1500 مدرك يحصل عليه أطفال البلاد المتقدمة في نفس المرحلة التعليمية(32). ولقد أرجع جل الباحثين هذا النقص إلى سوء وعدم صلاحية عملية التعريب.

إن الرهان الأساسي في التعريب هو أن تتحول طاقة لغة المواطن العربي إلى التعبير عن حاجاته ومشاكله وهمومه وضمنها المفاهيم العلمية والحضارية والفنية التي تنشأ أو تظهر في اللغات الأخرى. إن التعريب هو القدرة على التفكير بالعربية والتعبير بها عن المفاهيم الموجودة وقدرتها هي على استيعاب الحضارات والثقافات الموجودة بآلياتها الخاصة، بيد أن معركة التعريب تظل ضيقة بأطر خارجية اقتصادية واجتماعية وسياسية تجعل الشروع فيها يقتضي إصلاحات وتغييرات كبرى على مستوى الشأن العمومي.

وتقتضي عملية التعريب من جهة أخرى تبني خطة تربوية ناجعة يتم فيها التركيز على إبداء مواطن الاختلاف مع اللغات الأخرى سواء على مستوى الأصوات والبنية المقطعية والإعراب والإحالات التضميرية أو على مستوى الخصوصية الثقافية وكيفية تقطيع المعطى الخارجي.

إن اكتساب لغة معينة لا يتم بإلصاق دوال جديدة على مفاهيم نعرفها مع نظام جديد من المدلولات والمعاني نفترض فيما نفترض أنها مناظرة لها بشكل آلي بل إنما هو عملية اكتساب طريق ربما جديد في النطق والتفكير والشعور.

إن قدرة العرب على تعلم وتعليم لغتهم سواء لأبنائها أم لغير الناطقين بها - هي السبيل الأفضل لكسب الرهان الحضاري، وتعليم العربية بصورة ناجعة وفعالة يتطلب قبل كل شيء تطوير طرائق وأساليب تدريسها باستمرار لكي تتماشى ومقتضيات العصر الحاضر عصر العلم والتقنية وانفجار المعلومات، عصر التحولات والتطورات السريعة، وهذا التطوير لا بد أن يعتمد على فروش نظرية مؤسسة عن اللغة أولاً وعن نظريات اكتسابها.

5- الخاتمة:

يدعم ما عرضناه في هذا البحث من آراء الموقف القائل بضرورة التشبث باللغة العربية وإن كان لا يخفي أن بها خللاً بينا سواه تعلق الأمر بأنظمتها البنيوية الفرعية أو بوظائفها التوصيلية والتمثيلية والتعبيرية يمنعها أن تضطلع بمهمتها في نهوض الأمة في الوقت الراهن. ولعل صعوبة رفع هذا التحدي هو ما جعل القائمين عليها يتوزعون بين موقفين: موقف من ينتظر أن تنهض الأمة بعصا سحرية فترجع اللغة إلى سابق عهدها لتلعب دورها كاملاً، وموقف من لا ينتظر لأنه يؤمن أن ما لا يدرك جله لا يترك كله، ومن ثم فلا بد من العمل الجاد بالوسائل المتاحة لإعادة النظر في أسباب عجز اللغة العربية عن الوفاء بما تخوله اللغات الحية لمتكلميها.

وعلى الرغم من أن أصحاب هذين الموقفين يعيان -كل على طريقته- ما للغة من دور في التنمية، فإن الموقف الأخير يبدو أكثر شجاعة وإيجابية لأنه يسعى إلى تدارك فترات الغياب الطويل والتهميش المقصود التي عرفتها هذه اللغة من أجل إعادة فاعليتها في نقل التيار المعلوماتي المتدفق عبر وسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة والمنظورة، ويستلزم مثل هذا الموقف الساعي إلى إحياء اللغة العربية من أهله العمل على تسهيل تعليمها والسهر على ناشرها وتطيرها وفرض احترامها. وهي أمور لا تتأتى إلا بإعادة وصفها وصفاً كافياً من الناحية النظرية والمنهجية.

ولما بان أن اللغة القومية وسيلة مهمة في التنمية الشاملة لما لها من ترسخ في عقليات الناس ومن علاقة وشيجة بفكر المجتمع وخصوصياته، إذ هي دعامة هوية الأمة ووعاء تجربتها الحضارية تأكد أن ثمة اعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية لا بد أن تؤخذ في الحسبان في كل مشروع نهوضي مدروس ومحكم التخطيط.

ومعركة التعريب فاشلة لا محالة ما لم تعتمد على آليات لغوية داخلية حاولنا إبرازها عند كلامنا عن السُبُل البنيوية الكامنة التي تسمح بتوسع ونماء هذه اللغة، وعلى آليات خارجية تعرضنا لها هي الأخرى في حينها – تكون سنداً للمشروع التعريبي مثل ضمان الحريات الأساسية وإرساء الديموقراطية وتفتيت الثروة والسلطة.

****************

الحواشي

(*) أستاذ العلوم الاجتماعية واللسانيات في جامعة نواكشوط، موريتانيا.

(1) محمد عاليم: التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم (المعرفة اللسانية، أبحاث ونماذج)، دار توبقال للنشر، الدار البيضـاء، الطبعة الأولى، 1987، ص25.

(2) Galmiche Michel: semantique generative, collection “ Langue et language”, Libraire Larousse, Paris, 1975,P.96.

(3) Fauconnier, Gilles. La coreference. Syntaxe ou semantique? Editions du Seuil, Paris, 1971, P. 45.

(4) Galmiche, Michel. Semantique generative. Collection 1975, P.9.

(5) Chomsky, Noam. Reflexions sur le language. Flammarion. 1981, P.52.

(6) Barthes, Roland, Le degre zero de l’ecriture suivi de Nouveaus, essais critiques, Editions du Seuil, Paris1972, P.21.

(7) رولان بارت، دروس السميولوجيا ( المعرفة الأدبية )، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، ص54.

(8) ن.م، ن.ص.

(9) Defarges, Philippe Moreau. Relations Internationales 2 Questions mondiales, ed. du Seuil, 1993, P.52.

(10) مجلة اللسان العربي، منشورات مكتب تنسيق التعريب، الرباط، العدد 23، ص85.

(11) نفس المرجع، ص80.

(12) عبد القادر الفاسي الفهري، المعجم العربي، نماذج تحليلية جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986، ص36.

(13) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، منشورات عالم الكتب، القاهرة، الطبعة 2، 1988، ص89.

(14) ابن جني، الخصائص، دار الفكر، بيروت 1984، 2/6.

(15) السيوطي: المزهر في علوم اللغة، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة (بدون تاريخ)، 1/330.

(16) آن إمنو، مراهنات دراسة الدلالات اللغوية، دار السؤال، دمشق، الطبعة الأولى، 1980، ص21.

(17) ابن عصفور الإشبيلي، الممتع في التصريف. تحقيق الدكتور فخر الدين قباوه، الجزء الأول، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط.3، ص92-94.

(18) Pressler. On the Productiveness of Natural Morphology. 1985. P.36.

(19) Mathews. PH. Morphology. Cambridge University Press. 1974, P. 61.

(20) محمد عاليم، التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، ص31.

(21) عبد القادر الفاسي الفهري، المعجمة والتوسيط، نظرات جديدة في قضايا اللغة العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1997، ص69.

(22) عبد القادر الفاسي الفهري، المعجم العربي، ص52.

(23) Guilbert, Louis. La creativite lexicale. Librairie Larousse. Paris, 1975, P41.

(24) عادل فاخوري: علم الدلالة عند العرب. دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة. دار الطليعة. الطبعة الأولى. بيروت 1985. ص51.

(25) رولان بارت: مبادئ علـم الدلالة. ترجمة أنطوان أبو زيد. منشورات عويدات. سلسلة "زدني علماً". الطبعة الأولى. بيروت 1986، ص61.

(26) Lyon,John. Semantique Linguistique, Librairie Larousse. Paris, 1980, P. 315.

(27) Guilbert, Louis. La creativite lexicale. P.49.

(28) عبد القادر الفاسي الفهري: المعجم العربي، 1986، ص26.

(29) Eco, Umberto. Les limites de l’interpretation. Bernard Grasset. 1992. P.48.

(30) Harbernas,Jurgen, Logique des sciences socials et autres essays, PUF. Paris, 1983, P. 251.

(31) حنون مبارك، دروس في السينميائيات ( توصيل المعرفة )، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987، ص44.

(32) مكتب تنسيق التعريب، مجلة اللسان العربي، الرباط، العدد 22، ص65.

- المراجع العربية:

1- ابن جني: الخصائص، دار الفكر، بيروت 1984.

2- ابن عصفور الإشبيلي: الممتع في التصريف، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، الجزء الأول. منشورات دار الآفاق الجديدة. ط. 3.

3- أحمد مختار عمر: علم الدلالة، منشورات عالم الكتب، القاهرة، الطبعة 2، 1988.

4- لي إبنو: مراهنات دراسة الدلالات اللغوية، دار السؤال، دمشق، الطبعة الأولى 1980.

5- حنون مبارك: دروس في السينميائيات (توصيل المعرفة)، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987.

6- رولاند بارت: مبادئ علم الدلالة، ترجمة أنطوان أبو زيد. منشورات عويدات، سلسلة "زدني علما" الطبعة الأولى بيروت، 1986.

7- السيوطي جلال الدين: المزهر في علوم اللغة، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة (بدون تاريخ).

8- عادل فاخوري: علم الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت 1985.

9- عدنان بن ذريل: اللغة والدلالة آراء ونظريات، دمشق، الطبعة الأولى 1981.

10- عبد القادر الفاسي الفهري: المعجم العربي نماذج تحليلية جديدة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1986. المعجمة والتوسيط. نظرات جديدة في قضايا اللغة العربية. الدار البيضاء. الطبعة الأولى 1997.

11- عبد الله العروي وجماعة: المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية (معالم)، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987.

12 - عبد المجيد جعفة: مدخل إلى الدلالة الحديثة, دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000.

- المراجع الأجنبية:

1- Barthes, Roland. Le degré zéro de l'écriture de Nouveaux essais critiques. Editions du Seuil, Pari. 1972.

2- Chomsky, Noam. Réflexions sur le langage, Flammarion, 1981.

3- Défarges, Philippe Moreau. Relations internationales, 2 Questions mondiales, ed, du Seuil, 1993.

4- Eco, Umberto. Les limites de l'interprétions, Bernard Grasset, 1992.

5- Fauconnier, Gilles. Sémantique générative, collection "langue et langage", Librairie la Rousse, Paris, 1975.

7- Guilbert, Louis. La créativité Lexicale, librairie larousse, Paris, 1975.

8- Habermas Jürgen. Logique des sciences sociales et autres essais, PUF, Paris, 1983.

9- Lyon, John.Sémantique linguistique, Librairie Larousse, Paris, 1980.

10- Mathews. PH. Morphology, Cambridge University Press, 1974.

11- Pressler. On the productiveness of Natural Morphology, 1985.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=88

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك