بوشكين والقرآن الكريم*

بوشكين والقرآن الكريم*

عـرض : حواس محمود**

عرض: حواس محمود

يُعد كتاب "بوشكين والقرآن" حدثاً ثقافياً متميزاً، وإضافة هامة إلى رصيد الاهتمامات الغربية بالثقافة والتراث الإسلامي والعربي، ويقول مؤلف هذا الكتاب الأستاذ مالك صقور: قلة هم الذين يعرفون بوشكين في وطننا والأقل يعرف أن الشاعر الروسي الكبير هذا قد كتب قصيدة بعنوان"محاكاة القرآن"، أهتم بوشكين بالقرآن وأعجب به بل شغف به شغفاً عظيماً، ومن فرط إعجابه تأثر بآياته وبسيرة وشخصية النبي العربي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكتب قصيدة من تسعة مقاطع مختلفة هي بحد ذاتها قصيدة "محاكاة القرآن" موضوع الكتاب.

الهدف من الكتاب: يرى المؤلف أن الهدف من هذا الكتاب هو تسليط الضوء على تأثير الثقافة العربية الإسلامية في الثقافة الروسية بشكل عام، وتأثير القرآن الكريم في بوشكين بشكل خاص، وتأثر بوشكين بشخصية النبي العربي -صلى الله عليه وسلم-، من خلال إبداعاته التي استلهم موضوعاتها وأفكارها من الثقافة العربية ومن القرآن ومن السنة النبوية.

روسيا والعرب: تعود علاقة روسيا بالعرب إلى عصور قديمة، عصور الفتوحات الإسلامية وعصر الخلافة العربية التي يسرت وصول التجار العرب المسلمين إلى الشمال الروسي (يؤكد على ذلك المؤرخ ول ديورانت صاحب العمل الضخم قصة الحضارة)، ويؤكد المستعرب الكبير اغناطيوس كراتشكوفسكي أن اسم العرب قد ورد في مخطوط قديم جداً، يعود إلى القرن الحادي عشر الميلاد هو "حكايا السنين الغابرة" ويقول بأنه نتيجة وصول التجار العرب والمسلمين إلى المدن الروسية، ونتيجة الاحتكاك مع الشعوب المجاورة التي تعتنق الإسلام، وكذلك ذهاب الحجاج الروس المسيحيين إلى فلسطين دخلت اللغة الروسية الكثير من الكلمات العربية التي ما زال بعضها يستخدم حتى الآن، هذا وتجدر الإشارة إلى أنه من الذين لعبوا دوراً هاماً في نقل الثقافة العربية إلى روسيا كان الشيخ محمد عياد الطنطاوي – الأستاذ بجامعة سانت بطرسبورغ، والمستشار "برتبة عقيد" ففي عام 1919م تم الاحتفال بالذكرى المئوية لجامعة سانت بطرسبورغ، وقد بُدئ بالاستعداد لهذا الاحتفال قبل الثورة، ويمكننا الاستنتاج – في نهاية هذه الفقرة – أنه منذ مطلع القرن التاسع عشر بدأ تأثير الأدب العربي في روسيا واضحاً جداً فقد كتب سينوفسكي "قصص شرقية" وترجمها إلى الروسية بولدوف، وقد أعجب بوشكين بها، وخاصة قصّة "فارس الحصان الأشقر" ص42.

الموضوعة العربية في إبداع بوشكين: يرى المؤلف أنه من الطبيعي جداً لشاعر مرهف جداً أن يعكس الجمال والغرائبية، وسحر الطبيعة التي رآها وعاش في أحضانها ويتأثر بالأعراف والعادات والتقاليد للشعوب الإسلامية التي عاش بينها فترة نفيه في الجنوب، لكن سرعان ما انعكست حياة الشعوب الإسلامية وتأثرها بالثقافة العربية في أشعار بوشكين وقد تجلى ذلك في قصائد كثيرة نذكر منها "إلى نتاليا" و "إلى أختي" و "أيتها الفتاة" و "الوردة، مكبل أنا بالأصفاد".

ويعتمد بوشكين على "ألف ليلة وليلة" في ملحمته الشعرية الأسطورية "رسلان ولودميلا" والتي كانت سبب شهرته الواسعة وهو في مقتبل العمر إذ يأخذ بوشكين الفكرة الرئيسة التي بني ملحمته عليها من هذه الحكايات (المقصود حكايات ألف ليلة وليلة) والفكرة هي خطف العروس في ليلة زفافها من بين المحتفلين بالعرس..

لقد تأثر بوشكين بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكتب قصيدة بعنوان: "المغارة" يقول فيها:

"وفي المغارة السرية

في يوم الهروب

قرأت آيات القرآن الشاعرية

فجأة هدأت روعي الملائكة

وحملت لي التعاويذ والأدعية"

هذه الأبيات تؤكد مرة أخرى أن بوشكين اطلع على سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويعرف تفاصيل الهجرة، وقصة لجوء الرسول وصاحبه أبي بكر الصديق إلى غار حراء، وملاحقة المشركين لهما، ونزول آية 40 من سورة التوبة. ص83.

محاكاة القرآن الكريم:

تتألف قصيدة "محاكاة القرآن" من تسع مقطوعات مختلفة الـطـول والـبـحـر وتتنـاسـب مع الآيات القرآنية التي اقتبس منها بوشكين وأسـس عليها أشعاره، وقد وضع أرقاماً باللاتينية لهذه المقطوعات من واحد إلى تسعة، ويسمى المؤلف مقطوعة أو منظومة بدلاً من القول "قصيدة" لأن العنوان العام هو "المحاكاة".

المحاكاة الأولى: يستهل الشاعر قصيدته بالقسم مقتبساً شكل القسم الوارد في القرآن الكريم مستخدماً كلمة "أقسم" بدلاً من (واو) القسم، لأن اللغة الروسية لا يوجد فيها حروف القسم، وتأكيداً على جواب القسم يتابع الشاعر في الرباعية الثالثة من المحاكاة قائلاً:

"ألست أنا الذي سقيتك

يوم العطش بماء الصحراء؟..

أما وهبتك لساناً فصيحاً

وعقلا راجحا فوق كل العقول؟

أما في الرباعية الأخيرة عند بوشكين فيأمره: كن رجلاً شجاعاً، ولا يكتف بهذا، بل احتقر الغش والخداع، واجعل الحقيقة هدفك، اتبعها وبشر بها. والرباعية الأخيرة هي صوت الشاعر، إذ جعل هذا النداء بروح القرآن، مخاطباً الثوري في أيامه ليشحذ الهمم ويحرض على الانتفاضة.

المحاكاة الثانية: يقتبس الشاعر أبيات المحاكاة الثانية من سورة الأحزاب الآيات: 32، 33، 54 متنقلاً إلى موضوع آخر، وهو موضوع العظمة والحشمة والخطيئة متخذاً من هذه الآيات مثالاً يُقتدى به، من حيث تعلم الآداب العامة، وحسن السلوك، سواء في موعظة النساء أو في آداب الضيافة وحسن التصرف في حضرة الرسول الكريم، الذي يكره الثرثارين، والكلام الفارغ، وضياع الوقت في التوافه، فيما يستحي الرسول أن يطلب إلى الضيوف التخفيف من الزيارة أو عدم الإطالة بالأحاديث عديمة الجدوى (ولكن الله لا يستحيي من الحق) ويمكن إيجاز مدلول هذه المحاكاة بأن بوشكين قد حاول أن يدخل إلى الحياة الاجتماعية من خلال تلك الآيات.

المحاكاة الثالثة: يتناول الشاعر في هذه المحاكاة موضوعين رئيسيين وهما:

1 – يتناول موضوع التكبر والغرور، يقول: "لماذا يتكبر الإنسان

ألأنه جاء عارياً إلى هذه الدنيا

أم لأنه يعيش عمراً قصيراً

أو لأنه يموت ضعيفاً كما ولد ضعيفاً".

2 – يتناول في الرباعيتين الأخيرتين من هذه المحاكاة وصف يوم

القيامة، وقد استلهم أفكاره من الآيات 18 و 40 من سورة النبأ،

والآيات 33 إلى 42 من سورة عبس مستخدماً الصورة ذاتها، وحتى

الكلمات دون تعديل تقريباً:

"فيهرب الأخ من أخيه

ويفر الابن من أمه"

المحاكاة الرابعة: يستلهم بوشكين هذه المحاكاة المؤلفـة من مقطع واحـد وأربعة عشر بيتاً من الآية الكريمة 258 من سورة البقرة، وتختلف المحاكاة الرابعـة عن غيرها – برأي المؤلف – لأن بوشكين اكتفى بمضمون النص القرآني عدا الأبيات الثلاثة التي يستهل بها هذه المحاكاة التي تدين التكبر والغطرسة، وجنون العظمة، والتي كان يكرهها بوشكين، وربما لهذا اكتفى بمضمون الآية الواضح وعقاب الله لهؤلاء وإذلاله لهم.

المحاكاة الخامسة: يتابع بوشكين في المحاكاة الخامسة استلهامه لآيات القرآن التي تشير إلى قدرة الله تعالى مثل الآية العاشرة من سورة لقمان ﴿خلق السموات بغير عمد﴾ وبوشكين يقول: هامدة هي الأرض، أو ساكنة في حركتها الظاهرية، مستمداً من قوله تعالى: ﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون﴾ (الأنبياء 31-32)، ثم ينتقل إلى آية النور بالمعني الديني المباشر، وبالمعني المجازي، ثم ينتقل إلى قدرة الله الخالق القادر الذي ينعم على الأرض بالماء والفيء وينتهي في الرباعية الأخيرة:

"هو الرحيم على محمد

أنزل القرآن المقدس

بتنزيله: نقلنا إلى النور

وانقشعت الغشاوة عن العيون"

المحاكاة السادسة: يؤسس بوشكين المحاكاة السادسة على آيات من سورة الفتح وعلى آية من سورة آل عمران، مستلهماً آيات الجهاد، من أجل نضاله ونضال رفاقه الذين كانوا يستعدون لانتفاضة شهر كانون الأول التي أطلق عليها "ثورة الديسمبريين".

المحاكاة السابعة: تختلف المحاكاة السابعة عن غيرها، إذ لا يستخدم الشاعر التربيع، ويكتفي بمقطع واحد من اثني عشر بيتاً وشطراً، وتأتى بعد النصر والفتح، فيقدم الشاعر صورة الرسول المنتصر، مفرقاً بين (صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق) أي مبشّراً بالنصر، وبدخول المسجد الحرام، وبين الرؤيا المخادعة والمخاتلة، والأفكار الحزينة، وتأتي مرحلة الاستقرار النفسي، وعلى الرسول المجاهد والمحارب والمنتصر، أن يقوم للصلاة، ويتفرغ لقراءة القرآن الذي يطلق عليه الشاعر (الكتاب السماوي)، وتارة أخرى يطلق عليه: القرآن.

المحاكاة الثامنة: يؤسس بوشكين هذه المحاكاة على الآيات التي تركز على العطاء وعلى الصدقات والزكاة وعلى فعل الخير، كما ويركز على يوم الحساب الرهيب، يوم يتساوى الجميع أمام الحق وعلى الصراط، ولا يشفع عند الله إلا عمل الخير، من هنا جاء شعر بوشكين وقد فهم يوم الحساب، يوم القيامة حيث يقول:

"وفي يوم الحساب الرهيب يتساوى الحقل والغيم

إيه يا ناشر الخير

نتائج أعمالك ستعود إليك"

المحاكاة التاسعة: هذه المحاكاة الأخيرة جاءت في ستة مقاطع، كل مقطع من ستة أبيات، على خلاف سابقاتها، وقد أخذ الفكرة من سورة البقرة والكهف... وفي هذه المحاكاة حاول بوشكين أن يصور عابر السبيل في الصحراء تصويراً واقعياً حيث يلقى كل عابر سبيل في الصحراء المصير ذاته، فالقيظ الشديد، والعطش، وفقدان الماء، وكثافة الغبار..

دوافع اهتمام بوشكين بالقرآن

يعيد المؤلف أسباب اهتمام بوشكين بالقرآن الكريم إلى أربعة أسباب هي:

السبب الأول: يعود إلى اهتمام أوروبا بشكل عام، واهتمام روسيا بشكل خاص بالمشرق العربي وثقافته، وبوشكين بالذات كان على دراية تامة باهتمام أوروبا ومنها روسيا بالثقافة الشرقية والإسلامية والعربية.

السبب الثاني: يعود إلى دوافع ذاتية تتعلق بأصول بوشكين الشرقية – الأفريقية الإسلامية وجذوره، ونسبه، إذ ينحدر بوشكين من جهة أمه من أصول أفريقية – إسلامية، فجّد أمه هو الزنجي إبراهيم هانيبال الذي خلده بوشكين بأشعاره، وكتب عنه رواية قصيرة بعنوان "عبد بطرس العظيم"

السبب الثالث: يتعلق بموهبته وقدراته العقلية التي كانت بلا حدود من حيث استيعاب ثقافات أخرى تغني الثقافة الروسية، وتفاعلها في ذهنه ليغني من ثم الشعر القومي الروسي بخلاصة هذه الثقافات والحضارات الأخرى التي اطلع عليها ومنها الثقافة العربية الإسلامية الغنية إذ كانت أوروبا ومنها روسيا تفتقر لهذه الثقافة الواسعة بنماذجها الخيرة، وصورها الإبداعية الرائعة.

السبب الرابع: وهذا السبب يتعلق بالزمان والمكان، ويعني ذلك المناخ السياسي والوضع الاجتماعي، والحالة النفسية للشاعر ص142.

*********************

*) تأليف: مــالك صقــور ، دمشق ، دار الحارث ، ط1، 2000م

**) باحث من الجمهورية العربية السورية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=81

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك