المعرفة حصيلة الشراكة بين "الأنا" و"الآخر"

المعرفة حصيلة الشراكة بين "الأنا" و"الآخر"

عبد النبي اصطيف*

"الناس أعداء ما جهلوا" كما يقول المثل العربي، والجهل يولد العداوة، وحتى يزيل المرء هذه العداوة بينه وبين محيطه الطبيعي والإنساني فإن عليه أن يلجأ إلى المعرفة الحقيقية: معرفة نفسه، ومعرفة العالم من حوله، ومعرفة من يَعمر هذا العالم أيضاً.

ولكن كيف يعرف المرء نفسه، وكيف يعرف العالم من حوله؟

من البيّن أن كلتا المعرفتين بحاجة إلى "الآخر" "The Other"، فدون هذا الآخر لا يمكن أن يعرف المرء نفسه، حتى أن ثمة أجزاء من جسمه كرأسه، ووجهه وتعبيره وغيرها لا يراها دون الاستعانة بالآخر، أو بمجموعة من "المرايا" تقوم مقامه، أي أنه لا يستطيع أن يكوّن صورة متكاملة عن نفسه دون المشاركة الفاعلة من جانب "الآخر" في استكمال هذه الصورة. والأمر نفسه ينطبق على "الآخر" الذي يحتاج إلى "آخر" يستعين به ليعرف نفسه معرفة متكاملة. وبدل أن يوظف كل من "الأنا" و"الآخر" معرفته التي تيسّرها له خارجيّته(1) outsidedness إذا ما رغبنا في استخدام مصطلح ميخائيل باختين- في النيل من الآخر، واستغلاله، واحتوائه، والهيمنة على مقدارته والتحكم به وبها، ويعرّض نفسه بالتالي لردة فعل مماثلة من الآخر، فإنه يستطيع أن يتبادل هذه المعرفة مع الآخر، فتكون بذلك هدايا توطّد الأواصر الإنسانية وتعمقها لأنها تؤسسها على الثقة المتبادلة القائمة على المصالح المتبادلة في المعرفة الذاتية التي تهب المرء الأمان والطمأنينة والسلام الداخلي.

والفارق كبير بالتأكيد بين معرفة تكون مصدراً للصداقة والود والاحترام المتبادلين، وبين معرفة تكون مصدر خوف وقلق وبالتالي عداوة بين " الأنا " و" الآخر ".

والحقيقة إن حاجة المرء إلى آخر يستكمل بمشاركته الفعالة معرفته لنفسه معرفة متكاملة لا تقتصر على هذا الجانب، فتحديد هوية "الأنا" تقتضي وجود "الآخر" المختلف والمباين، و"نحن" مَن "نحن" نتيجة اختلافنا عن "الآخرين"، ولا ننسى أن الأمور تعرف بأضدادها، أكثر مما تعرف بصفات خاصة بها.

وفضلاً عما تقدم فالوعي بالهوية، والإفصاح عن هذا الوعي، لا يتمان إلا من خلال اكتساب أداة مهمة جداً هي اللغة الطبيعية التي هي مؤسسة اجتماعية تقتضي وجود الآخر، فدونه ليس ثمة من حاجة إلى هذه اللغة أصلاً. ذلك أن اللغة الطبيعية لا توجد إلاّ عندما يجتمع "الأنا" و"الآخر" ويشرعان في تبادل المعرفة والتعاون على إنتاجها. لقد أمضى حي بن يقظان سنوات طويلة من عمره في تلك الجزيرة النائية دون أن يحس بالحاجة إلى هذه المؤسسة الاجتماعية التي هي اللغة الطبيعية، وكان يتواصل مع مخلوقات الله الأخرى بوسائل شتى، ولكن كل ذلك تبدل بعد قدوم أبسال الذي كان التواصل معه مستحيلاً دون تعلم اللغة الطبيعية-هذه الأداة التي كان أبسال قد اكتسبها من قبل، والتي أحس حي بن يقظان بالحاجة الماسة إلى اكتسابها بعد لقائه أبسال أي بعد قيام "مجتمع إنساني" مؤلف من حي وأبسال، من "الأنا" و "الآخر":

"فكان ]حيّ بن يقظان[ يؤنسه]أي أبسال[ بأصوات كان قد تعلمها من بعض الحيوانات ويجر يده على رأسه، ويمسح أعطافه ويتملق إليه ويظهر البشر والفرح به حتى سكن جأش أبسال وعلم أنه لا يريد به سوءاً. وكان أبسال قديماً لمحبته في علم التأويل قد تعلم أكثر الألسن ومهر فيها فجعل يكلم حيّ بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج إفهامه فلا يستطيع، وحيّ بن يقظان كله يتعجب مما يسمع ولا يدري ما هو عليه غير أنه يظهر له البشر والقبول"(2).

ومثلما شعر حيّ بن يقظان بالحاجة الملحّة إلى اكتساب اللغة الطبيعية ليتواصل بها مع أبسال، أحس هذا الأخير أن عليه أن يعلّم حيّ بن يقظان:

"الكلام والعلم والدين فسيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند الله. فشرع أبسال في تعليمه الكلام أولاً بأن كان يشير إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه، ويحمله على النطق بها مقترناً بالإشارة، حتى علمه الأسماء كلها، ودرجه عليها قليلاً حتى تكلم في أقرب مدة"(3).

وبعبارة أخرى لقد كان الاجتماع الإنساني (بين حي بن يقظان وأبسال) وراء ضرورة تفعيل هذه المؤسسة الاجتماعية في الجزيرة، حتى يتمكن كل من حي بن يقظان وأبسال من معرفة الآخر. وهكذا كانت اللغة الطبيعية أداة التواصل والمعرفة التي غدا كل من حي بن يقظان وأبسال شريكين في إنتاجها.

لقد اكتفى حيّ بن يقظان بسبل التفاهم المختلفة مع الطبيعة والحيوان، ولكنه وجد نفسه عاجزاً عن التواصل مع أبسال عندما نزل إلى الجزيرة، واضطر هذا الأخير إلى تعليم حيّ اللغة الطبيعية ليتمكن من التواصل معه تواصلاً مجدياً، وهكذا كان.

وعلى الرغم من أن المرء يسعد بوهم ما يرى أنه وحدة في نفسه، فإن هذه النفس تنطوي على أكثر من نفس. وإذا ما تم النظر إليها من منظور تاريخي فإنها مرت بمراحل مختلفة من الطفولة والحداثة والشباب والكهولة والعجز يشكّل كل منها نفساً خاصة بها ولا يجمعها بالنفوس الأخرى غير كونها تحمل الاسم نفسه، وتسكن الجسد ذاته، أما ما خلا ذلك فإن كلاً منها متميز ومختلف عن الآخر.

وعندما ننظر إلى هويتنا الفردية آنياً فإننا نجد أنها في حقيقة الأمر مزيج معقد من الهويات الجمعية التي تأتلف في النفس الإنسانية على نحو عجيب يمكنها من أن تسمح لواحدة منها بالسيادة على سائر الهويات الأخرى في ظرف زماني ومكاني محدد. فالرجل منا يجمع بين جوانحه الأب والزوج ورب الأسرة (وربما الابن، أوالصهر وغيرهما) في البيت، وهو المدير أو المستخدم، أو ما يسنده له المجتمع من وظيفة في شبكة العلاقات الوظيفية والاجتماعية التي يتحرك فيها. وهو السياسي، وهو الرياضي، وهو الكاتب، وهو المتسوق، وهو المحاضر، وهو المستمع، وهو... وهو كل ذلك حتى عندما لا يفكر به إلا عندما تتنازع على هواه هويتان تقفان على طرفي نقيض. والمفارقة أن الإنسان لطالما حسب أنه جرم صغير، وفيه انطوى عالم واسع وغني ومتنوع. وفيما ينسب للإمام علي كرم الله وجهه:

وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.

ومعنى هذا أن المعرفة الإنسانية: معرفة الذات ومعرفة الآخر، والوعي بالهوية والإفصاح عنها، ومعرفة النفس الإنسانية تاريخياً وآنياً، لا تتم جميعها إلا من خلال شراكة في إنتاج المعرفة بين "الأنا" و" الآخر"، فليس ثمة ذات يمكن أن تعرف نفسها دون إقامة شراكة معرفية مع الآخر الذي تحتاجه ليكون لها مرآة تعي بها هذه النفس وتفصح عنها، مثلما تحتاجه لتميز نفسها إزاءه، إنها لتنطوي على هذا الآخر، بل على كثرة منه. ولعل في صيغة إنسان العربية المشتقة من الأنس ما يشير على نحو خفي إلى هذه الصلة مع الآخر. فالصيغة بانتهائها بالألف والنون تحمل علامة التثنية وإن كانت تدل على المفرد.

ولكن الشراكة المعرفية بين "الأنا" و "الآخر" لا تقتصر على المستوى الفردي من العلاقات الإنسانية في هذا العالم. وثمة مستوى جمعي لها تشهد عليه الإنجازات الإنسانية التي تحققت للبشرية حتى يومنا هذا. والمتأمل في تاريخ الحضارات الإنسانية يتبين أنها، وإن حملت أسماء وصفات مستمدة من لغة ما، أو أمة ما، أو قارة ما، أودين ما، حضارات موّلدة (بالمعنى الذي تداوله العرب بالعصر العباسي) تدين بوجودها ونشأتها ونموها وتطورها لإسهام الأمم الأخرى، وأنها في الحقيقة مؤسسة على شراكة معرفية تتجاوز حدود الزمان والمكان واللغة والجنس والعرق والدين واللون. وهذا صحيح بالنسبة للحضارات العريقة القديمة صحته بالنسبة للحضارات الحديثة، والحضارة العربية الإسلامية أكبر شاهد على ذلك فقد أسهمت فيها شعوب وقبائل انتشرت في مختلف بقاع العالم القديم وامتد إسهامها قروناً ولم تحل الحدود والحواجز دون المسعى الإنساني للارتقاء بالمعرفة البشرية التي قطف القدماء ثمارها في القديم كما نقطف نحن وغيرنا ثمارها اليوم.

وما يعرف بـ"الحضارة الغربية" التي ينسب لها عادة فضل العناية الخاصة بمعرفة الآخر ثقافة وتاريخاً ومجتمعاً، مدينة في ماضيها البعيد، وعصورها القديمة والوسيطة، وحاضرها الراهن للحضارات الأخرى، ولا سيما للحضارات الشرقية التي منحتها الكثير مما تكتمت على أصوله، بل سعت إلى إخفائه، حتى عهد قريب.

وما يشار إليه بالمكونات الأساسية للحضارة الغربية وهي:

* المكّون الكلاسي، أو الموروث اليوناني_الروماني؛

* والمكوّن الديني، أو الموروث اليهودي المسيحي؛

* والمكوّن التاريخي، والمتمثل بتجارب الأمم والشعوب الأوربية التي مرّت بها في أيام السلم والحرب، ليس في الحقيقة بمنأى عن تأثيرات الحضارات الأخرى. وأكثر من هذا فإن حضور الشرق، ولا سيما الشرق الأدنى قديماً، والشرق العربي لاحقاً، فيها حضورصارخ يصعب تجاهله، أو إنكاره، أو التكتم عليه. بل إن المرء يجد أن الباحثين الغربيين أنفسهم باتوا يقرون بدين حضارتهم لهذا الشرق. وحسب المرء أن يشير في هذا السياق إلى كتب فالتر بيركيرت "الأثر الشرق – أدنوي في الثقافة اليونانية في العصر البدائي الأول"(4) (1991-1992), ومارتن برنال "أثينا السوداء: الجذور الأفرو-آسيوية للحضارة الكلاسية"(5) (1991), وتشارلز بينغليس "الأساطير اليونانية و بلاد الرافدين: توازيات وتأثير في التراتيل الهومرية وهسيود"(6) (1994)، التي صدرت في العقد الأخير من قرننا هذا. وبينما يبين الأول منهما بطلان ما يسمى عادة بالمعجزة اليونانية الناجمة عن العبقرية الخاصة باليونانيين، وأن الثقافة اليونانية قد بدأت ازدهارها الفريد في ظل التأثير السامي (نسبة إلى الساميين) وأنها مدينة بموقعها الذي تسنمته لاحقاً في شرقي المتوسط للثقافات الشرقية المجاورة لها، يسعى الثاني منهما إلى الكشف عن جذور الحضارة الكلاسية، ويردها إلى الأصول الأفرو-آسيوية ويعني بها على وجه التحديد حضارات بلاد النيل والشام والرافدين التي حجبت وبشكل منظم منذ القرن الثامن عشر بدواع عرقية عنصرية. في حين يناقش الثالث منها مايعثر عل من مشابهات وتأثيرات لأدب بلاد الرافدين غفي الأساطير اليونانية ولاسيما في ملحمتي هوميروس وشعر هسيود، متفحصاً طبيعة التأثير الرافدي في الأعمال الدينية الأسطورية اليونانية، ومبيناً أن معرفتنا الأفكار والمتخللات الرافدية يمكن أن تنمّي فهمنا لتراتيل هوميروس لأبولو وأفرودايت وأثينا، ولأعمال هسيود.

والدين الغربي للحضارات الشرقية لا يقتصر على العصرين البدائي والقديم، بل يشمل كذلك العصور الوسطى (أو عصور الظلمات) التي لا يماري أحد اليوم في الدين الأوربي فيها للحضارة العربية الإسلامية التي كانت الحضارة المهيمنة في شرق العالم القديم وغربه. وهاهو إ، ل، رانيلا يكتب في مؤلفه ذي العنوان الموحي "الماضي المشترك: أصول الآداب الشعبية الغربية":

"إن الجانب الأكبر من المعارف الإغريقية التي تضمنت العلم والفلسفة، وصلنا عن طريق البيزنطيين من خلال الترجمة العربية عن الإغريقية. وقد نمّى العرب هذه المعارف، وانتقلت عنهم في العصور الوسطى إلى اللغة اللاتينية. لقد كانت إسبانيا وصقلية جسرين للمشروعات الضخمة للترجمة في القرن الثاني عشر التي انتقلت عبرها المعارف العلمية من العرب إلى غرب أوربة، التي كانت آنذاك في مرحلة بدائية"(7).

أما الدين الأوربي للآخر في عصر النهضة، فالكل مقّر به، ذلك أنه لولا الإسهام العربي-الإسلامي فيه، لما رأى هذا العصر النور، لأنه قام على أساس من الحضارة العربية-الإسلامية التي أسهمت فيها جميع الأمم والشعوب التي انضوت تحت راية الإسلام واتخذت من العربية لغةً لها تفكر، وتعبّر، وتتواصل فيما بينها بها، ثم تدون فيها معارفها وعلومها. وعندما ينتقل المرء إلى العصر الحديث الذي شهد تسنم الغرب ذروة سنام التقدم الصناعي والفني مثلما شهد تمتعه بأعلى مستويات الرخاء والرفاهية (وكان ذلك بالطبع على حساب الأمم والشعوب الأخرى ولا سيما عالم الجنوب أو العالم الثالث خلال فترة الهيمنة الاستعمارية المباشرة أو خلال مرحلة ما بعد الاستعمار التي أفضت في نهاية المطاف إلى العولمة المعاصرة في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد) فإنه ربما يتوقع اكتفاءه بنفسه معرفياً، وتوقفه عن الاستعانة بالآخر كما كان شأنه حتى عصر النهضة. ولكن الواقع يشير إلى غير ذلك، وهذا ما يؤكده بعض الباحثين الغربيين أنفسهم الذين استفزهم فيما يبدو التمركز المسرف حول الذات الذي طبع الفكر الغربي حتى عهد قريب جداً فانطلقوا يوثقون الدين المعرفي الذي يطوّق عنق الغرب والذي يخفيه البعض محفوزاً بعقدة التفوق الغربي على سائر العالم. وإذا ما أراد المرء أن يكتفي بإشارات برقية إلى مسعى هؤلاء الباحثين فإنه يمكن أن يذكر مؤلفات كل من رينهارت ماي الألماني الذي يؤلف في "مصادر هيدغر المخبوءة: التأثيرات الآسيوية الشرقية في أعماله"(8) (عام 1989)؛ وهارولد كاورد الأمريكي الذي يكتب عن "جاك ديريدا والفلسفة الهندية"(9) (1990) ويكشف فيه عن الدين الذي أخفاه ديريدا (ولا سيما فيما يتصل بآرائه في اللغة) عن قرائه ومريديه؛ وغراهام باركس الذي يحرر كتاباً يجمع فيه جملة أبحاث تناقش علاقة نيتشه بالفكر الآسيوي ويحمل عنوان "نيتشه والفكر الآسيوي"(10) (1991). ويمكنه كذلك أن يذكر مؤلفات أخرى من مثل كتاب جاك غودي ذي العنوان الموحي "الشرق في الغرب"(11) (1996)، الذي يكشف فيه زيف دعوى فرادة الغرب وتفوقه حتى في الأمور التي يرى فيها سر تقدمه، عندما يبيّن أنه مدين فيها للشرق؛ وكتاب فريد داليمير "ما وراء الاستشراق: مقالات في الحوار عبر الثقافات"(12) (1996)؛ وكتاب ج، ج، كلارك "تنوير شرقي: الحوار ما بين الفكرين الآسيوي والغربي"(13) وغيرها من الكتب التي تؤكد أن ليس ثمة من ثقافة صرفة، وأن جميع الثقافات موّلدة Hybrid، وأن "عبقرية الغرب" المزعومة مجرد سراب.

ذلك أن الحضارات الإنسانية (التي هي جملة المعارف والعلوم والفنون الجميلة والتطبيقية والصناعات وغيرها من ناتج النشاط البشري)، ومهما أغرقت في "تفردها" و"أصالتها" هي حضارات مولّدة، وأنها، ولو نسبت إلى أمة محددة، أو شعب محدد، أو قارة محددة، أو جهة من جهات العالم القديم، أو عقيدة من العقائد السماوية أو الأرضية، ليست في نهاية المطاف غير حصيلة التفاعل والتلاقح بين الذات والآخر أكثر مما هي ناجمة عن عبقرية خالصة صافية لم يداخلها عنصر خارجي أجنبي عنها(14).

ومعنى هذا أن أحداً لا يستطيع أن يزعم اليوم أن حضارة ما، مهما كانت منزلتها في نظر أصحابها، أو في نظر الآخرين، تستطيع أن تدعي لنفسها مكانة متميزة تستأثر بها دون سائر الحضارات، أو أن تنظر إلى نفسها نظرة السيد السامي وتنظر إلى غيرها نظرة العبد؛ ومعنى هذا أيضاً أن المعرفة الإنسانية جهد إنساني مشترك تعاقبت عليه الأمم والشعوب، كل في مرحلة ما من مراحل نموها وتطورها، وأنها لذلك بحيرة مشتركة يغرف منها من يشاء، ويستقي منها من يريد، بوصفها الموروث الإنساني المشترك.

لقد كانت الحضارة الإنسانية عبر العصور، وباختلاف الأمكنة والبقاع، وعلى تنوع صنّاعـها، نتاج "شراكة إنسانية غير مباشرة "، أسهمت كل أمة أو شعب فيها بمقدار إلى أن بلغت ما بلغته في عصرنا الحاضر الذي يشهد لوناً أنانياً من الشراكة التي يفيد منها العالم المتقدم وحده.

والحقيقة أن الناظر إلى المشاريع البحثية في مختلف المؤسسات الجامعية والعلمية والبحثية المتقدمة ولاسيما في دول الشمال، يمكن أن يدرك بسهولة أنها قائمة على شراكة فعلية بين مختلف الأمم والشعوب. فالعنصر البشري- وهو العامل الأكثر خطورة في مشاريع البحث العلمي- في هذه المؤسسات ينتمي أفراده إلى أقطار مختلفة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولطالما شكت دول العالم الثالث، ودول الجنوب، من هجرة الأدمغة والعقول من ديارها إلى دول العالم الأول، أو دول الشمال، مثلما شكت من احتفاظ هذه الدول بموفديها إلى الدول المتقدمة علمياً وتقنياً للدراسة والتأهيل تغويهم بشتى السبل المادية والمعنوية للبقاء فيها والإسهام في تنمية المعرفة في حقول تخصصهم. هذه التنمية التي تقوم على شراكة بين منتجي المعرفة بصرف النظر عن جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو وطنهم، وإن كانت على حساب دول الجنوب التي تنفق فيها وبعبارة أكثر دقة تخسر فيها خير ما خبأته لمستقبلها من أموال وعقول توظف في نهاية المطاف في إنتاج المعرفة التي توضع بداية في خدمة الدول المتقدمة، وبعدها تباع ويتَّجر بها تطبيقات ومخترعات وتجهيزات وآلات تحقق رخاءً خرافياً للمجتمعات التي تنتجها وتحتكر للأسف مرتكزاتها المعرفية والعلمية وتصنفها على أنها معلومات استراتيجية لا تنقل إلا إلى الدول الحليفة أو الصديقة أو التي تدور في فلك الدول المنتجة للمعرفة.

ولذا فإن من الطبيعي أن نعزز هذه الشراكة بأن نجعلها "شراكة مباشرة" واضحة نخطط لها ونعدّ وننفذ كما نفعل في أنواع الشراكات الأخرى التي نروّج لها اليوم من مثل "الشراكة الأوربية المتوسطية" وغيرها. وبالتالي فإن علينا:

- أن ندعو إلى شراكة معرفية بين منتجي المعرفة والعلم في الشرق والغرب معاً، في الجنوب والشمال معاً، وفي كل أرجاء العالم.

- وأن ندعو بالمقدار نفسه إلى توظيف حصيلة هذه الشراكة وما تنتجه من معرفة في خدمة الإنسان بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته ودينه وسنه.

- وأن نحارب مبدأ احتكار المعرفة تحت أية مظلة يحتمي.

وبعبارة مختصرة لنصدع بدعوة جديدة هي الشراكة المعرفية.

صفوة القول

ويبقى في نهاية المطاف السؤال الأكثر أهمية وهو: على أي أساس نودّ لهذه الشراكة أن تقوم بين منتجي المعرفة من مختلف الأمم والشعوب؟

لقد تبين لنا بكل وضوح أن الشراكة المعرفية حقيقة من حقائق حياتنا الإنسانية في الماضي والحاضر، وأنها تكاد تكون الأمل الأكثر وعداً بمستقبل أفضل للبشرية. ولهذا فإن علينا أن نفكر في هذه الشراكة تفكيراً جادّاً ونرتقي بها تخطيطاً وتنظيماً وتنفيذاً وفاعلية بغرض خدمة مصالح جميع الأطراف التي تجمع هذه الشراكة فيما بينها. كما أن هذه الشراكة ينبغي أن تؤسس على قاعدة من الثقة المتبادلة التي لا تتأتّى إلاّ من خلال تمسّك جميع الأطراف بالمبادئ والقيم والمعايير الإنسانية، أو بعبارة أخرى، من خلال إقامة هذه الشراكة على أساس أخلاقي يجسّد حصيلة ما أجمعت عليه البشرية من قيم عبر الزمان والمكان، وبعبارة أخرى إن كل ما تسعى إليه هذه الشراكة ينبغي أن يكون للجميع: تقدماً ورفاهية وخيراً وديمقراطية وأمناً وسلاماً، وعندها يكون كل منا بخير مادام جاره ينعم بالخير نفسه.

*****************

الحواشي

*- باحث وأكاديمي من الجمهورية العربية السورية.

1- من أجل تفصيلات أوسع حول مفهوم "الخارجية" انظر:

Ann Jefferson,

“ Bodymatters: Self and Other in Bakhtin, Sarter and Barthes”, in

Bakhtin and Cultural Theory,

edited by Ken Hirschop and David Shepeherd

(Manchester University Press, Manchester, 1989), pp.154-55.

2- حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق وتعليق أحمد أمين (دار المدى، دمشق، 2001)، ص(124).

3- المرجع نفسه، ص(125).

4- Walter Burkert,

The Orientalising Revolution: Near Eastern Influence on Greek Culture in the Early Archaic Age, translated by Margaret E. Binder and Walter Burkert(Harvard University Press, Cambridge, Ma., 1992)

5- Martin Bernal,

Black Athena: the Afro-Asiatic Roots of Classical Civilization.

Volume I, The Fabrication of Ancient Greece 1785-1985

(Vintage Books, London, 1991)

6- Charles Penglase,

Greek Myths and Mesopotamia: Parallels and Influence in the Homeric Hymns and Hesiod

(Routledge, London,199

7- أ.ل.رانيلا، الماضي المشترك بين العرب والغرب: أصول الآداب الشعبية الغربية، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، مراجعة د. فاطمة موسى (عالم المعرفة، 241، يناير/ كانون الثاني 1999)، ص(11).

8- Reinhard MAY,

Heidegger’s Hidden Sources: East Asian Influences on his words,

translated, with a complementary essay, by Graham Parkes

(Routledge, London, 1996).

9- Harold COWARD,

Derrida and Indian Philosophy

(State University of New York Press, New York, Albany, 1990).

10- Graham PARKES (ed.),

Nietzsche and Asian Thought

(the University of Chicago Press, Chicago and London, 1991).

11- Jack GOODY,

The East in the West (Cambridge University Press, Cambridge, 1996).

12- Fred DALLMAYR,

Beyond Orientalism: Essays on Cross-cultural Encounter

(State University of New York Press, New York, Albany, 1996).

13- J. J, CLARK ,

Oriental Enlightenment: The Encounter Between Asian and Western Thought (Routledge, London, 1997).

14- من أجل مزيد من التفصيلات حول فكرة الشراكة المعرفية يحسن بالقارئ العودة إلى:

Abdul-Nabi Isstaif ,“ Partnership in the Realm of Knowledge”, in Cultures in Colours: The Heritage of the Ottoman Empire and

the Austro- Hungarian Monarchy in the Orient and the Occident,

edited by Valeria Heuberger, Genevieve Humbert-Knitel and

Elisabeth Vyslonzil (Peter Lang, Frankfurt am Main, 2001), pp.39-48.

وله أيضاً بالعربية: "نحن والغرب: من "صدام الحضارات" إلى " الشراكة المعرفية"، الآداب (بيروت)، السنة 48، العدد 3/4، آذار(مارس)- نيسان (أبريل) 2000، ص(4-8).
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=67

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك